سورة البقرة (002)
الدرس (33)
تفسير الآيات: (83 ـ 86)
معرفة المنهج الدقيق لله افعل و لا تفعل
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثالث والثلاثين من دروس سورة البقرة .
العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على عباده في عالِم الذر :
مع الآية الثالثة والثمانين وهي قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) ﴾ .
ذكرت في درسٍ سابقٍ أيها الأخوة أن كلمة ﴿ إذ ﴾ تعني اذكروا حين :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا (83) ﴾ .
أي اذكروا حين أخذنا منكم الميثاق الغليظ :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (83) ﴾ .
الميثاق هو العهد ، والبشريَّة جمعاء حينما خُلِقوا في عالَم الذَر قال لهم الله تعالى :
﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ .
(سورة الأعراف الآية : " 172")
أخذ الله على خلقه العهد أن يأتوا إلى الدنيا ليطيعوه ، وليتعرَّفوا إليه ، وليتعرَّفوا إلى منهجه ، وليعملوا الصالحات لتكون الصالحات ثمناً لجنَّةٍ أبديَّة ، هذا هو العهد ، نحن في الدنيا من أجل أن نعرفه ، ومن أجل أن نطيعه فنسلم ، ومن أجل أن نعمل الصالحات فنسعد ، ومن أجل أن تكون هذه المعرفة وتلك الطاعة وهذا العمل الصالح ثمن الجنَّة ، خُلِقْنا لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض :
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر )) .
[الجامع الصغير عن أبي هريرة رضي الله عنه ]
سبب مجيئنا إلى الدنيا :
العهد أن نأتي إلى الدنيا فنتعرف إلى الله من خلال الكون ، والكون كلُّهينطق بأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى ، أن نأتي إلى الدنيا وأن نستخدم العقل الذي أودعه الله فينا ، وأن نصغي إلى صوت الفطرة التي فُطرنا عليها ، وأن نستخدم حريَّة الاختيار في اختيار الخير ، وأن نستخدم الشهوات كقوَّى محرِّكة لا قوى مدمِّرة ، وأن نجعل من الشرع منهجاً لنا ، من أجل هذا جئنا إلى الدنيا ، وهذا هو العهد الذي عاهدنا ربنا عليه ، وهذا مضمون قوله تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ﴾ .
(سورة الأحزاب الآية : " 72")
وقال :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (83) ﴾ .
كلمةٌ جامعةٌ مانعةٌ هي الـدين كلُّه : لا تـعبدوا إلا الله ، يجب أن نؤمن به إلهاً واحداً موجوداً كاملاً وأن نعبده ، وأن نعبده وفق ما أمر لا وفق أمزجتنا ، تسألك إحداهن : هل من الممكن أن نعمل عقد زواج صوري ليكون هذا الزوجالصوري محرم لي في الحج ؟ عجيب ، تريدين أن تعبدي الله وفق مزاجك ، ليس هناك محرم فأنتِ لستِ مستطيعةً ، استطاعت المرأة أن يكون لها محرم تحجُّ معه ، طبعاً ضربت هذا المثل عَرَضَاً ، يريد أُناسٌ كثيرون أن يعبدوا الله وفق أمزجتهم ، لا يُعبد الله عزَّ وجل إلا بماشَرَّع :
﴿ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (83) ﴾ .
تعريف بالعبادة :
الطاعة لله وحده ، والعبادة ـ كما أقول دائماً وأعيد هذا كثيراً ـ طاعةٌ طوعيَّةٌ ممزوجةٌ بمحبَّةٍ قلبيَّةٍ أساسها معرفةٌ يقينيَّةٌ تفضي إلى سعادة أبديَّة ، معرفة ، طاعة ، سعادة :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾ .
(سورة الأنبياء)
فحوى دعوة الأنبياء جميعاً :
﴿ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .
(سورة المؤمنون الآية : " 32")
وردت هذه الآية عشرات المرَّات ﴿ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ .
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾ .
(سورة الذاريات)
قَرَنَ الله الإحسان إلى الوالدين بعبادته تعظيماً لقدر الوالدين :
لا يُعْبَد إلا الله ، وحينما تعبد الله تعبده وفق ما شرَّع :
﴿ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (83) ُ﴾ .
الوالدان هما سبب وجودك :
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) ُ﴾ .
قَرَنَ الله الإحسان إلى الوالدين بعبادته تعظيماً لقدر الوالدين ، ولو أن في اللغة كلمةً أقلَّ من (أفّ) لقالها الله عزَّ وجل :
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) ُ﴾ .
طبعاً هذه الآية افعل ، والآية التي بعدها لا تفعل :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ (83) ﴾ .
مضمون منهج الله عزَّ وجل :
لقد تضمّنت هذه الآية العديد من العبادات بالإضافة إلى العبادة الاعتقادية في مطلبها ، عبادات شعائريَّة :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ (83) ُ﴾ .
عبادات قوليَّة :
﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (83) ﴾ .
عبادات تعامليَّة :
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ (83) ُ﴾ .
عبادة اعتقاديَّة :
﴿ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (83) ُ﴾ .
هذا مضمون منهج الله عزَّ وجل : عبادة اعتقاديَّة ، وعبادة شعائريَّة ، وعبادة تعامليَّة ، وعبادة قوليَّة.
الفرق بين الأمر التكليفي والأمر التكويني :
قال تعالى :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ (83) ُ﴾ .
الذي حصل أن هناك تولِّي ، هناك تقصير ، هناك إعراض ، أنت مخيَّر ، كل الخَلق عدا الإنس والجن مسيَّرون ، الشر لا وجود له إلا في عالَم الإنس والجن لأنه مخيَّر ، الأمر التكليفي غير التكويني ، هناك أمرٌ تكليفيٌّ وهناك أمرٌ تكويني ، الأمر التكليفي طريق سالك ؛ لكن في أوله لوحةٌ كُتِبَ عليها ممنوع المرور ، فأنت إما أن تسير وتخالف وتدفع الثمن الباهظ ، وإما أن تأتمر فتسلم وتسعد ، فالأمر تكليفي لك أن تطيع ، ولك ألا تطيع ، أما الأمر التكويني ليس لك خيار ، الله عزَّ وجل له أمر تكليفي وله أمر تكويني ، خلقك من فلان وفلانة هذا تكويني ، خلقك بشكل معيَّن تكويني ، خلقك بعصر معيَّن تكويني ، بزمنٍ معيَّن ، بمكان معيَّن ، بقدراتٍ معيَّنة كلَّه تكويني ، قال لك : صلِّ ، هذا تكليفي ، اصدق تكليفي ، كن أميناً تكليفي ، اعدل تكليفي ، غضَّ البصر تكليفي ، هناك أمر تكويني هو فعل الله ، وهناك أمر تكليفي هو أمر الله ، فهذا أمرٌ تكليفي :
﴿ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (83) ُ﴾ .
أيمكن أن تعبد غير الله ؟ ممكن لأن الأمر تكليفي :
﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) ُ﴾ .
أيمكن أن يكون الإنسان ابناً عاقاً ؟ ممكن :
﴿ وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ (83) ُ﴾ .
أيمكن أن يبني مجده على نهب أموال هؤلاء ..؟ ممكن :
﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً (83) ﴾ .
أيمكن أن تقول سوءاً للناس ؟ أمر تكليفي تفعل أو لا تفعل :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ (83) ُ﴾ .
يمكن أن لا تصلي ، أنت مخيَّر ، فالتخيير يثمِّن العمل ، لولا الاختيار ما كانت هناك جنّة في الأساس .
مقوِّمات التكليف :
الجنة لأنَّك مخير ، يقدم الإنسان فحصاً فينجح ، يقام له احتفال تكريمي ، لماذا التكريم ؟ لأنه درس وطالب آخر ما درس ، الأول لأنه اجتهد والطالب الآخر ما اجتهد ، الأول لأنه نجح والآخر ما نجح ، هو مخيَّر يدرس أو لا يدرس ، فالذي درس واجتهد ونجح يُقام له حفل تكريمي ، والذي رسب يوبَّخ ، فأنت مخيَّر ، لا تنس أن مقوِّمات التكليف هي الكون ، والعقل ، والفطرة ، والشهوة ، والاختيار ، والشرع :
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) ﴾
هذه الآية افعل ، أما لا تفعل فإليك الآية :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ُ﴾ .
الله عز وجل يحبنا أن نكون منتظمين ومتعاونين كالجسد الواحد :
مما يلفت النظر في هذه الآية :
﴿ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ (84) ﴾ .
مجتمع المؤمنين مجتمع واحد ، وحدة ، مجتمع المؤمنين في الأصل كما أراد الله عزَّ وجل كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى ، أنت حينما تأخذ مال أخيك ضَعَّفته ، وإذا ضعَّفته ضعَّفت المؤمنين ، وإذا صُنْتَ مال أخيك قوَّيته ، وإذا قويته قويت المؤمنين ، وأنت من المؤمنين ، فأنت حينما تأكل مال أخيك ضعَّفت نفسك .
هذا مثلٌ أوضح : الآن لو أن أسرة مؤلَّفة من خمسة شباب ، أعانوا أخاهم حتى صار طبيباً ، وصار دخله كبيراً ، هذا الدخل عاد على أخوته ، أما لو جعلوا العصي في العجلات ، منعوه من الدراسة ، لبقي فقيراً ، وصار عبئاً عليهم ـ الفكرة واضحة ـ هذا الأخ له خمسة إخوة ، إذا دعموه وساعدوه وصار ذا مهنة دخلها كبير ، دخلها الكبير عاد إليهم ، أما إن أخذوا ماله ، ومنعوه من الدراسة ، بقي فقيراً ، وصار عبئاً عليهم ، فعلى مستوى خمسة إخوة أنت إن أخذت مال أخيك فقد أخذت من مالك وأنت لا تدري ، إن أضعفتَه أضعفت نفسك ، وإن قويَّته قوَّيت نفسك ، إذا دللته على القواعد الصحيَّة وعاش صحيح البدن فأنت ارتحت ، إذا كان أخوك بخير فأنت بخير ، أما إذا أهملت توجيهه الصحي فارتكب أخطاء صحيَّة كبيرة وأصابه مرض عضال فأنت المسؤول ، أنت مكلَّف بمعالجته ، هذا شيء واضح جداً في الأسرة .
إذا أهمل الإنسان صحة أولاده سيتكلَّف أموالاً طائلة في معالجتهم ، لأنه مسؤول عنهم ، لو انتبه لصحة أولاده لارتاح ، فكأن الله عزَّ وجل يقول لنا : أنتم بمثابة الجسد الواحد فإن أكلتم أموالكم ضعَّفتم أنفسكم ، إن سفكتم دماءكم ضَعَّفتم أنفسكم ، إن أخرجتم أخوانكم من بيوتهم ضعَّفتم أنفسكم ، أي أن الله عزَّ وجل أرادنا أن نكون جماعة ، وأرادنا أن نكون متعاونين ، متباذلين ، متناصرين ، متضامنين ، متناصحين ، ولا يحبُّنا الله عزَّ وجل إلا بهذا النظام والتعاون ، قال تعالى :
﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ .
(سورة المائدة الآية : " 2")
التناقض بين الطبع والتكليف هو ثمن الجنَّة :
أخواننا الكرام ، الإنسان له طبعٌ وله تكليف ، طبعه فردي ، والتكليف تعاوني ، أمرك الله أن تتعاون مع أخيك ، فأنت بقدر إيمانك بالله وبقدر طاعتك له تتعاون ، وبقدر ضعف إيمانك وبقدر تفلُّتك تتنافس ، فالمتعاون مؤمن والمتنافس عاصٍ ، لأن التعاون تكليف والفرديَّة طبع ، والتناقض بين الطبع والتكليف هو ثمن الجنَّة ، مثل هذهالآيات في القرآن :
﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ُ﴾ .
(سورة البقرة الآية : " 188")
طبعاً ليس معنى الآية أن تأخذ من جيبك الأيمن مبلغاً من المال تضعه في جيبك الأيسر ، لا ليس هذا هو المعنى ، هذا المال مال أخيك هو مالك من زاويةٍ واحدة ، من زاوية ضرورة الحفاظ عليه ، فلأن تمتنع من أكله من باب أولى ، إذا أعارك أخوك سيَّارته فهي سيارتك بمعنى أنه يجب أن تقودها بعنايةٍ فائقة ، وكأنها سيارتك ، هي ليست لك بل هي له ، ولكن سنقول مؤقتاً هي سيارتك ، أي عامِلْها كأنها سيارتك ، اعتنِ بها ، قُدها بلطف ، بعناية فائقة ، فإذا قلنا : هذه السيارة سيارتك ليس المعنى أنها سيارتك ، المعنى أنه ينبغي أن تقودها وكأنَّها سيارتك ، من زاوية العناية بها ، فإذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ُ﴾ .
(سورة البقرة الآية : " 188")
أي لا تأكلوا مال أخوانكم ، ولكن سُمِّيَ مال أخيك مالك من زاوية وجوب العناية به والحفاظ عليه وكأنَّه مالك ، هذه نقطة دقيقة جداً ، إذا كان الشيء ليس لك فقد تكسِّره ، تهمله ، تتلفه ، تحطِّمه ، هذا سلوك الكفَّار ؛ أما المؤمن مال أخيه هو ماله ، من زاوية الحفاظ عليه ، يعتني بحاجات أخوانه ، يعتني بآلاتهم ، ببيوتهم ، لو أسكَّنوك في بيت وكأنه بيتك ، ولو أعاروك مركبة وكأنَّها مركبتك ، أعطاك مالاً كي تستثمره وكأنَّه مالك ، لا تجعل مالك دون ماله ـ الفكرة دقيقة ـ فلو أن تاجراً أتاه مال للاستثمار ، وكان صنف البضاعة غير معروف ، فوضعه في هذا الصنف المجهول ، فهل يربح ؟ أم لا يربح ؟ يقول لك : إذا ربح أُدْخِل رأس مالي الشخصي ، أما إذا لم يربح فيمسك ماله لنفسه ، ويقول : ما في نصيب ، يقول لك : لم أشارك بمالي لأنه ما في نصيب ، وهذا ترتيب الله سبحانه ، أشار النبي إلى هذه الناحية فقال :" ولا تجعل مالك دون ماله ".
يجب أن تتعامل مع مال أخوانك وكأنه مالك وذلك من زاوية وجوب الحِفاظ عليه وصونه :
لا تجعل مال الإنسان اليتيم وسيلةً تجسُّ بها نبض السوق ، لا ، بل يجب أن تتعامل مع مال أخوانك وكأنه مالك ، وذلك من زاوية وجوب الحِفاظ عليه وصونه ، طبعاً فلأن تمتنع عن أكله من باب أولى ، من باب أولى ألف مرَّة ، فاحذر :
﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ُ﴾ .
(سورة البقرة الآية : " 188")
وقال :
﴿ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ .
(سورة الحجرات الآية : " 11" )
لن تجد إنساناً يحتقر نفسه لكنه يحتقر أخاه ، يطعن بأخيه ، فإن طعنت بأخيك طعنت بنفسك ، أنا أضرب أمثلة للتوضيح ـ لو أن إنساناً يجلس في لقاء يحوي خمسين أو ستين شخصاً ، وقال : أبي فعل كذا أمراً قبيحاً ، وأبي خالٍ من الأخلاق ، وأبي قليل الدين مثلاً ، فقد طعن بنفسه من دون أن يشعر ، إذا كان هذا حال أبيك فأنت على هذه الشاكلة ، فإذا ذمَّ الإنسان أقرب الناس له كأنه ذمَّ نفسه وهو لا يشعر .
بعض مما يحبه الله عز وجل :
قال تعالى :
﴿ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ .
(سورة الحجرات الآية : " 11" )
لم يقل : ولا تلمزوا أخوانكم ، ولكنه قال : هذا أخوك سمعته من سمعتك لذلك :
(( من أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه )) .
[ كنز العمال عن عائشة ]
و :
((من أكرم أخاه المؤمن فإنما أكرم الله )) .
[رواه الأصبهاني عن جابر والعقيلي عن أبي بكرة]
الله عزَّ وجل يحب السَتر ، يحب التعاون ، يحب التضامن ، التكاتف ، التناصر ، التسامح ، يحب التزاور ، هذا الذي يحبُّه الله عزَّ وجل ، أنا آتيكم بأمثلة :
﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ ﴾ .
(سورة البقرة الآية : " 188")
وقال :
﴿ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ .
(سورة الحجرات الآية : " 11" )
وقال :
﴿ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ (84) ُ﴾ .
أربع آيات أو خمس آيات في القرآن الكريم فيها استفهام كبير ، بالظاهر لأنه لا يوجد إنسان يقتل نفسه ، أما إذا قتلت أخاك تُساق إلى المحكمة فيُحْكَم عليك بالإعدام ، معنى هذا أنت قتلت نفسك وأنت لا تدري ، وقد قيل : " القتل أنفى للقتل " .
ينطلق المؤمن من حقيقة كبرى أنّ كلّ الخلق عيال الله :
عندما نقتل القاتل فقد ردعنا ألف إنسان مجرم كان كل منهم ينوي أن يقتل ، فالمعاني دقيقة جداً ، أول آية افعلوا ، الآية الثانية لا تفعلوا :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ (84) ُ﴾ .
اذكروا أيضاً :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ (84) ُ﴾ .
إذاً يظل المسلم بخير ما لم يسفك دماً ، أي إذا عاش الإنسان حياة مديدة ولم يصدر عنه أذى لإنسان هذا وسام شرف كبير ، طبعاً القتل فما دون ، تجريح ، أو غيبة ، أو نميمة ، أو ابتزاز أموال ، أو طعن بالأعراض ، أو بالأنساب ، أي أن تكون بعيداً عن إيذاء الخلق ، وقد ورد في الحديث :
(( اثنان لا تقربهما ؛ الشرك بالله والإضرار بالناس )) .
[ سلسلة الأحاديث الضعيفة]
تصوَّر أباً له أولاد ، فالذي يعتدي على أحد أولاده كأنه اعتدى على الأب ، أن تعتدي على ابن هو عدوان على الأب ، لذلك ينطلق المؤمن من حقيقة كُبرى كل هؤلاء الخلق عيال الله ، فبقدر محبَّتك لله تنفع عياله ، بقدر محبَّتك لله تُحسن إليهم ، بقدر محبَّتك لله تلقي في قلوبهم الأمن والسكينة ، بقدر محبَّتك لله تسعدهم ، بقدر محبَّتك لله تعطيهم .
الإنسان الآخر ـ الطرف الآخر ـ بقدر بعده عن الله يبتزُّ أموالهم ، بقدر بعده عن الله يُرْعِبُهم ، بقدر بعده عن الله يخوِّفهم ، بقدر بعده عن الله يطعن بهم .
الإنسان يحجب عن رب العباد عندما يؤذي العباد وذلك أكبر عقاب من الله للإنسان :
خدمة الخلق قربى إلى الرب وإيذاء الخلق بعدٌ عن الله عزَّ وجل ، إنني أعتقد أن إنساناً يرى طفلاً في الطريق فيصفعه صفعاً شديداً ثمَّ يلتقي بأبيه في البيت التالي فإنه سينتابه خجلٌ شديدٌ ، وخاصة إذا كان الطفل لم يفعل شيئاً ، إنك لا تستطيع أن تتصل بالله إذا آذيت خلق الله عزَّ وجل ، والحقيقة الإنسان يحجب عن رب العباد عندما يؤذي العباد وذلك أكبر عقاب من الله يعاقب به الإنسان ، أكبر عقاب على الإطلاق :
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)﴾ .
( سورة المطففين )
أنت حينما تؤذي عباد الله ، حينما تبتزُّ أموالهم ، حينما تحتال عليهم ، حينما تنتهك أعراضهم ، حينما تلقي في قلوبهم الخوف ، حينما تحمِّر وجوههم ، حينما تسحقهم ، حينما تبني ثروتك على إفقارهم ، حينما تبني مجدك على أنقاضهم ، حينما تبني عزَّك على إذلالهم ، أنت عندئذٍ أخذت أكبر عقاب من الله وهو أن الله عزَّ وجل حجبك عنه وطردك من رحمته ، فكن عبد الله المظلوم إذا كان الطريق إلى الله سالكاً ولا تكن عبد الله الظالم إذا كان الطريق إلى الله مقطوعاً ، أيهما أفضل أن يكون الطريق إلى الله سالكاً ولك حقٌ عند أخيك ؛ أم أن تأخذ ما ليس لك والطريق إلى الله مسدود ؟ الإيمان يحل هذه المشكلة ، المؤمن يعد للمليون قبل أن يأخذ ما ليس له ، قبل أن يحتال على إنسان آخر ، قبل أن يخيف إنساناً ما ، قبل أن يسبِّب الأذى لإنسان ، قبل أن يُحرج إنساناً ، قبل أن يفضح إنساناً ، قبل أن يكون سبباً في هلاك إنسان .
هنيئاً لمن كان مفتاحاً للخير والبر والويل لمن كان مفتاحاً للشر :
قال تعالى :
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ُ﴾ .
أخذ ربنا عزَّ وجل العهد على بني إسرائيل أن يعبدوه ، وأن يحسنوا إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين ، وأن يقولوا للناس حسناً ، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأخذ عليهم العهد أيضاً ألا يسفك بعضهم دماء بعض ، ورد في بعض الأحاديث أنه من علامات قيام الساعة موتٌ كعقاص الغنم لا يدري القاتل لمَ يقتل ولا يدري المقتول فيما قُتِل .
ما معنى أن يخرج ربع مليون إنسان من بلدهم خوفاً على دمائهم ؟ هذا الذي يجري في العالم الآن :
(( تُمْلَأُ الْأَرْضُ جَوْراً وَظُلْماً ، فَيَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي يَمْلِكُ سَبْعاً أَوْ تِسْعاً فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً )) .
[ أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ]
تقوم القيامة ولا تقعد من أجل جندي أو جنديين ، ومن أجل مئات بل ألوف بل بضعة ملايين يُقْتلون ، يموتون جوعاً ، يُطردون من ديارهم لا يحرِّك أحد ساكناً أبداً :
قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر
***
هكذا تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ، هنيئاً أيها الأخوة ، هنيئاً لمن كان مفتاحاً للخير ، هنيئاً لمن كان مفتاحاً للبر ، والويل لمن كان مفتاحاً للشر ، هذا الذي ينام وفي رقبته جرائم القتل والتشريد والجوع كما يفعل أعداؤنا ، ينامون والشعوب تئنُّ من الجوع ، والشعوب تئنُّ من الظلم ، والشعوب تئنُّ من ضيق ذات اليد وهم ينفقون على كلابهم ألوف الملايين ، يطعمون كلابهم من اللحم ما لا تأكله شعوب بأكملها ، لذلك :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
( سورة إبراهيم )
سلاح من الله تعالى لمواجهة كيد الكافرين :
يجب أن أقول هذه الآية شفاءً للصدور :