سورة البقرة 002 - الدرس (44): تفسير الآيات (125 - 128) مقام إبراهيم عليه السلام

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (44): تفسير الآيات (125 - 128) مقام إبراهيم عليه السلام

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآيات:: (125 - 128) - مقام إبراهيم عليه السلام

20/03/2011 18:23:00

سورة البقرة (002)
الدرس (44)
تفسير الآيات: (125 ـ 128)
مقام إبراهيم عليه السلام
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الرابع والأربعين من دروس سورة البقرة .
ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها اتخذ بيتاً له هو البيت الحرام :
 
مع الآية الخامسة والعشرين بعد المئة وهي قوله تعالى  :
    
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ﴾ .
أيها الأخوة الكرام ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها اتخذ بيتاً له هو البيت الحرام ، ومن قصد هذا البيت ابتغاء وجه الله يلقى فيه شعوراً لا يعرفه إلا من ذاقه ، هذا الشعور المُسعد يجعله يتمنَّى أن يعود إليه ، ما معنى ثاب ؟ أي رجع ، ما من إنسانٍ زار بيت الله الحرام حاجاً أو معتمراً ، لأنه قصد وجه الله ، وزار بيت الله ، وأراد أن يلبِّي دعوة الله ، لأنه آثر أن يلبي دعوة الله على البقاء في بلده ، وعلى مصالحه ، وعلى بيته ، وعلى زوجته ، وعلى أولاده ، لأنه آثر أن يلبي دعوة الله على دنياه فقصد البيت الحرام حاجاً أو معتمراً ، لأنه تفرَّغ لهذه العبادة البدنية ، المالية ، الشعائرية التي لا تؤدَّى إلا في مكانٍ خاص ، وفي زمانٍ خاص ، وبمناسك خاصة ، لذلك ربنا عزَّ وجل بشكلٍ استثنائي يلقي في قلب الحاج أو المعتمر سعادةً وسكينةً وأمناً ورضاً لا يعرفه إلا من ذاقه ، وإلا من زار هذا البيت مخلصاً .
 معنى قول الحاج لبيك اللهم لبيك :
 
وإذا أراد الإنسان أن يحج بيت الله الحرام ولم يكن مستقيماً ، وكان ماله حراماً وقال : لبيك اللهم لبيك . يناديه منادٍ : أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردودٌ عليك . ولكن من يلبي هذه الدعوة مخلصاً لا يبتغي الرياء ولا السمعة ، يبتغي وجه الله الكريم ، يلقي الله في قلبه من السعادة ما يحمله على أن يعود إليه مرة ثانية .
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً (125) ﴾ .
إذا زار الإنسان مكاناً جميلاً جداً وسعد في هذا المكان أيَّما سعادة يقول : إن شاء الله نعيد الكرَّة في العام القادم . وهذه قاعدة ، فكلمة مثابةً أي أن هذا البيت لما يلقي الله في قلب حاجِّه ومعتمره من السعادة يتمنى أن يعود إليه دائماً ، والإنسان دائماً يصلي في بلده ويصوم ، وفي البلد متاعب وأعمال ومشاغل ومشكلات ، أما حينما يترك بيته ، ومكتبه ، وعمله ، وتجارته ، ويدفع الأموال ، ويمشي في الطرقات ، ويركب السيارات ، ويتحمل المشاق ، ووعثاء السفر ، يبتغي وجه الله ، فلا يعقل إلا أن يكرمه الله إكراماً لا يعرفه إلا من ذاقه :
(( إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زوارها هم عمارها فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني وحق على المزور أن يكرم الزائر )).
[أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود]
إذا زار الإنسان بيت الله في بلده يلقي الله في قلبه من الطمأنينة والسكينة والشعور بالأمن ما لا يعلمه إلا الله ، ولذلك التجلي الإلهي في بيت الله الحرام تجلٍ مركَّز جداً ، فعندما فرَّغ الإنسان نفسه لهذه العبادة يتولى الله تفريغ قلبه ـ نقطة دقيقة ـ هو فرَّغ قلبه مادياً ؛ ترك بيته ، ووطنه ، ومكتبه ، وتجارته ، وزوجته ، وأولاده . أنت حينما تفرِّغ جسمك ونفسك من متاعب الدنيا يتولى الله تفريغ قلبك من سواه ، واسأل أي حاجٍ أو معتمر كان مخلصاً في حجَّته أو عمرته يقول لك : والله وأنا هناك ما ذكرت شيئاً من هموم دنياي كلها لأنها نُزعت مني . أنت فرَّغت نفسك لطاعتنا ونحن نفرغ قلبك لمشاهدة كمالنا .
وهذا معنى قول الحاج : لبيك اللهم لبيك . كأن الله يقول له : تعال يا عبدي ، تعال كي تذوق طعم القُرب ، تعال كي تذوق طعم الأمن ، تعال كي تذوق جمال المُناجاة . فالإنسان ذاق الدنيا ، ذاق طعامها وشرابها ، ونساءها ، وعزَّها ، وسلطانها ، والمناظر الجميلة ، والحدائق الغناء ، والبيوت الفارهة ، والمركبات الأنيقة ، وكأنه يُقال له : تعالَ ذق شيئاً آخر ، تعالَ اتصل بأصل الجمال ، تعال اتصل بأصل الكمال ، تعال اتصل بأصل النوال في بيت الله الحرام ، وهذا الكلام الذي أقوله وأنا أعني ما أقول الذي سعد بحجةٍ مقبولةٍ أو عمرة مقبولةٍ يعرف معنى هذا الكلام ، أنت هناك في عالم آخر .
 الحج دعوة من الله وأنت تلبي هذه الدعوة والعمرة زيارة :
 
قال تعالى :     
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا (125) ﴾ .
كيف أن الله عزَّ وجل جعل بين الزوجين المودة والرحمة ؟ وكيف أن الله عزَّ وجل جعل بين المؤمنين هذا الود :
﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ (63) ﴾
( سورة الأنفال )
هذا الود بين المؤمنين ، وتلك المودة بين الزوجين من خلق الله عزَّ وجل ، وهذه السعادة التي تعمر قلب الحاج والمعتمر من خلق الله عزَّ وجل ، أما حينما يحج الناس للسمعة والرياء والتجارة والمصالح والتباهي والتسوّق فقط ، فهذا لا يذوق طعم الحج ، لذلك الحج دعوة من الله وأنت تلبي هذه الدعوة ، والعمرة زيارة ، الله عزَّ وجل في الحج دعاك وأنت في العمرة زرته .
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً (125) ﴾ .
هذا الأمن أيها الأخوة قد يفقده أغنى الأغنياء ، وقد يفقده أقوى الأقوياء ، ولكنه عطاءٌ إلهي خاصٌ بالمؤمن  .
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾ .
( سورة الأنعام ) .
 
المشرك من شأنه الخوف والقلق والمؤمن من شأنه الأمن والاطمئنان :
 
بالمناسبة فالله عزَّ وجل قادر أن يخلق الأمن في أخطر الظروف ؛ وقادر أن يخلق الخوففي آمن الظروف ، فالأمن من خلق الله يلقيه في قلب المؤمن ، ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ ، وحدهم ، ﴿ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ .
ضربت مرة مثلاً للتوضيح : قد تسافر إلى بلد مضطراً في وقت مبكر ، والعجلة الاحتياطية معطوبة ، تسير ساعتين وأنت في أشد حالات القلق ، لأنه لو عطبت عجلة من إحدى العجلات الأربع لوقفت السيارة ، فلو أن ابنك أصلح هذه العجلة المعطوبة ولم تدرِ أنت لا يوجد حينئذ عندك مبرر للقلق ولكنك تقلق ، إذاً لا يوجد علاقة للقلق مع الوضع المادي ، العجلة جيدة وجاهزة ولكنك لم تعلم أنها جاهزة ، فكنت قلقاً جداً ، والعكس صحيح لو أن العجلة معطوبة وأنت لا تدري فأنت في راحة كبيرة ، فمن الممكن أن يخلق الله أمناً في ظرف يدعو للقلق ، ويمكن أن يخلق القلق في ظرف يدعو للأمن ، ومعنى هذا أن الأمن بيد الله عزَّ وجل ، إنك عندما تكون معه ، قد يكون هناك أخبار سيئة جداً ، وقد تكون كل الطرق مغلقة ، وأخطار تهدد الإنسان ، وتجد أحياناً خمسين سيفاً مسلَّطاً على رقبة الإنسان ، رغم هذه الظروف الصعبة جداً يخلق الله عزَّ وجل أمناً في قلبك تسعد به ، وأحياناً تكون قوياً جداً ومعك ملايين مملينة ، وقوياً جداً من نواحٍ أخرى وصحتك بأعلى درجة ، والقلب فارغ من الأمن .
﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ(43) ﴾.
(سورة إبراهيم)
فالله يخلق الأمن :
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ (154) ﴾.
( سورة  آل عمران  )
أحياناً يلقي الله في قلب الإنسان الخوف ، أما القانون : أنه لمجرد أن يشرك الإنسان بالله يلقي الله في قلبه الخوف ، يقذف الله الرعب في كل قلبٍ أشرك به . فالمشرك من شأنه الخوف والقلق ؛ والمؤمن من شأنه الأمن والاطمئنان .
 التوحيد هو الذي يحمل على الأمن والاستقرار والتوازن والسعادة :
 
في الجسم جهاز مناعة ـ أي جهاز المناعة المكتسب وهو أخطر جهاز في الجسم مع أنه ليس له مركز قيادي ـ فجهاز الدوران قائده القلب ، وجهاز الأعصاب قائده الدماغ ، وجهازالتصفية قائده الكلية ، بينما جهاز المناعة المكتسب ليس له قيادةٌ داخل الجسم ، له رعايا أي الكريات البيض ، فهذه الكريات بعضها استطلاعي ، وبعضها تصنيعي ، وبعضها قتالي ، وبعضها خدمي ، مهمة بعض هذه الكريات البيض أن تستطلع بنية الجرثومة الداخلة ، تأخذ شفرتها الكيماوية ، وتعود بها إلى مركز العُقَد الليمفاوية كي يصنع المصل المضاد لهذه الجرثومة ، وبعضها يحمل هذا السلاح ويقاتل ، وبعضها ينظِّف أرض العركة من الجثث .
إذاً هناك عنصر استطلاعي ، وعنصر تصنيعي ـ معامل الدفاع ـ وعنصر قتالي ، وعنصر خدمات ، وسلاح الهندسة ، الهندسة خدمات ، القيادة ليست في داخل الجسم، هذا كتاب أُلِّف عن هذا الجهاز الخطير ، وذكر المؤلف هذه الحقيقة لكن ماذا يقول المؤمن ؟ قيادة هذا الجهاز بيد الله . أي إذا  أراد الله أن يشفيك من مرضٍ ما ، قوَّى هذا الجهاز، وإذا أراد أن يصاب الإنسان بمرض ، ضعَّف هذا الجهاز ، ما الذي يقوي هذا الجهاز ؟ الأمن ، والطمأنينة ، والاستقرار ، والتوازن ، والسعادة . وما الذي يحمل على الأمن والاستقرار والتوازن والسعادة ؟ التوحيد .
﴿ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213) ﴾.
( سورة  الشعراء)
أتحب أن تكون معذباً ؟ أتحب أن يكون قلبك منخلعاً من الخوف ؟ وأن تكون متشائماً سوداوي المزاج ، تخاف من كل شيء ؟ سبيله الشرك ، أتحب أن تكون آمناً مطمئناً واثقاً بالمستقبل ، واثقاً من عطاء الله ؟ إذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك ؟
 حقيقة العبادة :
 
أخواننا الكرام ، كلمة لعلها خطيرة : هذا الذي تعبده إن لم تره قادراً على أن يحميك من كل شيء لا تعبده . يجب أن تعبد من يقدر أن يحميك من كل شيء ، وهذه حقيقة العبادة ، تعبد الله وتخاف غيره ؟! تعبد الله وينخلع قلبك لتهديد إنسانٍ لا يقوى على نصرة نفسه ، ولا على نفع نفسه ولا ضرها ؟! هذا الذي تعبده ينبغي أن تثق أنه يحميك ، الآمر ضامن .
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) ﴾ .
( سورة الأنعام )
أنت حينما تؤمن أن الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ، فما من شيء مخيف يتحرك إلا بأمر الله ، ولا يوجد شيء يخيفك وهو طليق ، ما معنى التوحيد ؟ ما معنى عندها لا بها ؟ كلمةٌ جامعةٌ مانعة قالها علماء التوحيد ، أي لا يقع شيء إلا عند إرادة الله لا عند الشيء الفعَّال في الشيء . فالنار لا تحرق بذاتها ، بل تحرق إذا أراد الله أن تحرق، والأفعى لا تلدغ بذاتها ، تلدغ إذا أراد الله لها أن تلدغ ، وكل شيءٍ ولو توهَّمت أن فيه قوةً فاعلة ، فهذه القوة الفاعلة لا تفعل شيئاً إلا إذا أراد الله عزَّ وجل ، أي لا يليق بالله عزَّ وجل أن يقع في ملكه ما لا يريد . والكافر يجب أن يعلم علم اليقين أنه لن يسبق الله ، فما معنى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(4)﴾.
( سورة  العنكبوت)
 لا يمكن أن يفعل الكافر شيئاً ما أراداه الله ولا أن يتفلَّت من عقاب الله :
 
وما معنى يسبقونا ؟ أي لا يمكن أن يفعل الكافر شيئاً ما أراداه الله ، ولا يمكن أن يتفلَّت الكافر من عقاب الله ، ولا يستطيع الكافر أن يسبق الله ، لا بفعل شيءٍ ما أراده ، ولا بالتفلَّت من عقاب الله ، فإذا وجدت كافراً يقصف ويدمِّر ، فكيف تفسِّر ذلك ؟ يجب أن تقول : إن خطة الله عزَّ وجل استوعبت خطة هذا الكافر ، أي أن الله عزَّ وجل سمح له أن يفعل شيئاً لحكمةٍ أرادها ، فقط ، إن رأيت كافراً يفعل كما يتوهِّم هو ما يريد ، هو يفعل ما يريد الله ، فالله عزَّ وجل وظف له جريمته ، ووظف له شره ، وقسوة قلبه في الخير المُطلق ، لذلك الآية الكريمة :
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ .
( سورة الأنعام )
(( الظالم عدل الله في الأرض ، ينتقم به ثم ينتقم منه )) .
[الطبراني في الأوسط عن  جابر رضي الله عنه ]
والإنسان مخيَّر أن يفعل ما يشاء لكن لا على من يشاء هو بل على منيشاؤه الله، فالإنسان حينما يريد أن يأخذ مالاً بغير حق ، يُسَلَّط على إنسانٍ يأخذ ماله لحكمةٍ أرادها الله  .
مثل يوضح ذلك : أرادت امرأة غير ملتزمة أن تتوظف ، فطُلِب منها شهادة صحية ، فذهبت كي تصور صدرها ، فإذا بالنتيجة أنها مصابةٌ بمرض السُل ، بكت وأبكت ، ويئست ، إلى أن تابت إلى الله وتحجَّبت وصلَّت ، ثم ذهب أخوها إلى المستشفى كي يتأكد من هذه النتيجة فإذا هي قد أعطيت خطأً لها ، فخطأ الموظف وظَّفه الله لتوبة هذه المرأة .
سمعت عن امرأة مختصة بالرياضيات ، ألزمتها مديرة مدرسةٍ في إحدى دول الخليج أن تدرِّس مادة التربية الإسلامية لعدم وجود شواغر وهي لا تفقه من الدين شيئاً ، وهذه المديرة ألزمتها إلزاماً فإن لم تستجب ألغت عقدها ، فاستجابت ، فتحت كتاب التربية الدينية أول صفحة آيات الحجاب ، فلما قرأتها بكت ، وكانت توبتها عن طريق هذه الآيات التي ألزمتها بها المديرة التي لا تعرف من أمر التربية شيئاً ، أيعقل أن تكلِّف مديرة امرأة تحمل ليسانس رياضيات لتدريس التربية الدينية ؟‍‍! هكذا كان .
 
آيات من القرآن تؤكد أن كل مخلوقٍ بيد الله :
 
أنت مخير أن تفعل ما تشاء لكن لا على من تشاء ، بل على من يشاؤه الله عزَّ وجل ، اطمئن فهذا أكبر باعث للطمأنينة والأمن ، لا يوجد أحد متفلت بل كل مخلوقٍ بيد الله.
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62) ﴾ .
(سورة الزمر)
وقال :
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ .
(سورة الأعراف الآية : 54 )
وقال :
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾ .
( سورة الكهف )
وقال :
﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2) ﴾ .
(سورة فاطر)
 حينما لا تملك علماً كعلم الله ينبغي أن تعلم أن الله عادل :
 
يجب أن ترى أن يد الله تعمل وحدها في الخفاء ، فحينما ترى أن كل شيءٍ تسمعه هو من فعل الله عزَّ وجل :
﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49)﴾ .
(سورة الكهف)
من الصعب أن تصل إلى إثبات عدالة الله بعقلك إلا في حالة واحدةً مستحيلة : أن يكون لك علمٌ كعلم الله ، وهذا مستحيل ، أما حينما لا تملك علماً كعلم الله ينبغي أن تعلم أن الله عادل . ففي قصة سيدنا موسى مع الخضر شواهد على ذلك ، فهذه السفينة التي خُرقت ظلماً ، خرقت لتنجو من المُصادرة ، وهذا الجدار الذي بُني مجاناً بما يبدو أنه حُمق ، لكنه بني ليحفظ ثروة طفل يتيمٍ كان أبوه صالحاً ، وهذا الطفل الذي قُتل مبكِّراً قتل ليرحم الله أبويه لأنه سيكون شقياً ، فالأب يشقى بشقاء ابنه ، الله عزَّ وجل علمك أن هناك شيئاً ظاهراً وشيئاً باطناً، نعم الله عزَّ وجل طائفتان ؛ طائفةٌ من النعم الظاهرة وطائفةٌ من النعم الباطنة وهي المصائب.
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125) ﴾ .
طبعاً هذه الآية تفهم فهماً بسيطاً أن سيدنا إبراهيم صلى في هذا المكان فصلوا أنتم في هذا المكان ، تجد في الحج ازدحاماً غير معقول ، أثناء الطواف المنسجم ، لأن أُناساً يصرون على أن يصلوا في مقام سيدنا إبراهيم ، مما يعرقل السير ، ويؤذي المسلمين إيذاءً شديداً ، مع أن كل مسلمٍ يحج بيت الله الحرام أو يعتمر في هذا البيت ، بإمكانه أن يصلي هاتين الركعتين في أي مكانٍ من الحرم ، ولكن عدم التفقُّه في الدين جعله يزعج هؤلاء المسلمين ، المعنى الأبعد :
 ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125)
بماذا قام إبراهيم ؟ قام بالإخلاص ، اجعل من الإخلاص سبباً لاتصالك بالله .
 الإخلاص هو أحد خصائص النبي إبراهيم عليه السلام :
 
ماذا فعل سيدنا إبراهيم ؟ بنى البيت ، اجعل من عملك ..
﴿ وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً (79)﴾ .
(سورة الأنعام)
وقال :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
(سورة الأنعام الآية : 162)
فهذا الإخلاص هو أحد خصائص هذا النبي الكريم ، تتخذ من الإخلاص سبب اتصالٍ لك بالله عزَّ وجل ، بنى البيت ، فبناؤه للبيت عمل شاق يبتغي به وجه الله ، فاجعل من عملك الصالح سبباً لاتصالك بالله عزَّ وجل ، سيدنا إبراهيم عبد الله عبادة مطلقة ، فأكثر الأوامر معقولة ، إذا قال لك الله عزَّ وجل : اصدق ، فالصدق لمصلحتك ، وكن أميناً وعفيفاً ومتقناً ، فكل أمر إلهي يعود نفعه عليك بشكلٍ واضح ، إلا أن يقول الله لإنسان : اذبح ابنك وابنه نبي . هذه غير واضحة ، وغير مقبولة ، ولا تنسجم لا مع الرحمة ، ولا مع العدل ، ولا مع المنطق ، لكن هذا النبي الكريم تلقى هذا الأمر بالانقياد لثقته المطلقة بحكمة الله .
﴿ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (102) ﴾.
( سورة الصافات )
مما يدعو إلى الإعجاب بهذا الأب العظيم ، النبي الكريم ، أبو الأنبياء ، المستسلم لأمر الله ، والذي لا يقل عن هذا إعجاباً قول ابنه :
﴿ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) ﴾.
(سورة الصافات )
الله عزَّ وجل يقول لك : اصدق ، فلا تصدق ، كن أميناً ، لا تكون كذلك ، صل . أمره بذبح ابنه وهذه أعلى درجة في العبودية  .
 لن يكون الإنسان عبداً لله عزَّ وجل إلا إذا رضي بقضاء الله وقدره  :
 
بالمناسبة أيها الأخوة كلما اتضح الأمر ضعفت فيه قيمة العبودية ، وكلما غمُض الأمر ارتقت فيه قيمة العبودية ، فإذا قال أب لابنه : نظف أسنانك ، إنها قوام وجهك وابتسامتك ، وأسنانك الطبيعية لا يعدلها شيء . فهذا الأمر واضح جداً ، يا بني لا تتأخر عن عملك يصغر حجمك ، تُلام وتوبخ ، أعطى الأب ابنه آلاف الأوامر كلها منطقية ومعقولة ، لكن قال أب لابنه مرة : لا تأكل معنا ، والابن جائع والطعام لذيذ ، وطعام والده طعام طيب ، والطعام لوالده والابن ابن ، وهو جائع ، فلثقة هذا الابن بأبيه المطلقة قال له : سمعاً وطاعةً يا أبي ، حاضر . هذا دليل الثقة .
ألا يحق لله عزَّ وجل ـ في التعبير الدارج ـ أن يسوق لك شيئاً أو أن يعطيك أمراً وأنت لا تفهم حكمته ؟ أنت مستقيم وطاهر ولكن حصلت مشكلة ، اقبلها من الله ، فهذه المصيبة مصيبة العبودية لله عزَّ وجل ، أيعقل أن يُعذب النبي في الطائف ، وأن يُسخر منه ، ويُكذَّب ؟ وقيل : إنه ضُرب ، قال :
(( أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك ، أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى )) .
[رواه ابن هشام في السيرة النبوية عن ابن إسحاق]
أنت لن تكون عبداً لله عزَّ وجل إلا إذا رضيت بقضاء الله وقدره ، وقد كان رجل يطوف حول الكعبة وهو يدعو : يا رب هل أنت راضٍ عني ؟ كان وراءه الإمام الشافعي فقال له : يا هذا هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال : يا سبحان الله كيف أرضى عن الله وأنا أتمنى رضاه ! قال : إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله .
أي أن بطولتك أن ترضى عن الله وأنت بالفقر أو بالمرض لا سمح الله ، وقد حدث مشكلة ، فهذه المشكلة هي امتحان ، فإنسان يحضر مجالس علم من عشرين سنة مات ابنه فترك الصلاة ، لم يرض عن الله ، لكن العظمة أن تكون في المصيبة وأنت راضٍعن الله: يا رب لك الحمد.
 
مرتبة الصبر هي أعلى المراتب :
 
لي صديق توفي رحمه الله ، أصيب بمرض عضال سنتين ، تقول زوجته : والله ما سمعت منه إلا يا رب لك الحمد على ما ابتليت . وتوفي على هذا الحال ، فمرتبة الصبر لا تعدِلها مرتبة  .
﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ .
( سورة الزمر ) .
هنا  :
 
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (125) ﴾ .
المعنى العميق اتخذ من هذا النبي قدوةً لك ، واجعله قدوةً لك بإخلاصه وتوحيده:
﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً (81)﴾
( سورة الأنعام ) .
هذا كلام سيدنا إبراهيم ، كان موحداً ، كان مخلصاً ، كان له عمل طيب وشاق ، بنى البيت الحرام وصبر على حكم الله :
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ (48) ﴾ .
( سورة الطور) .
 إن أردت أن تصل إلى الله فاجعل من خصائص النبي إبراهيم عليه السلام سبباً إلىالله :
 
توكل سيدنا إبراهيم توكلاً مطلقاً ، عندما يسافر الإنسان يهيئ في البيت كل شيء، وكل ما لذ وطاب موجود ، والهاتف موجود ، والأعوان موجودون ، ويقول : يا رب توكلت عليك . هذا جيِّد ، ولكن سيدنا إبراهيم أُمر أن يضع زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرع . قالت : يا إبراهيم إلى من تدعنا ؟ ألله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذاً فلن ينسانا . هل لديك إمكانية أن تضع زوجة وابناً في العراء لا ماء ولا طعام ولا شراب ولا نبات ولا ظل ، وتمشي ؟ إلى أين أنت ذاهب ، توكل إبراهيم عليه الصلاة والسلام التوكل المطلق ، وعبد الله العبادة المطلقة ، فإن أردت أن تصل إلى الله فاجعل من هذا النبي الكريم ، ومن إخلاصه ، وأعماله ، وتوكله ، وتعبُّده ، وصدقه طريقاً إليه .
فكر سيدنا إبراهيم في الكون ، فرأى النجم أولاً فلما أفل قال : لا أحب الآفلين . ورأى القمر بازغاً فقال : هذا ربي . ورأى الشمس ، ثم قال  :
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79) ﴾ .
( سورة الأنعام) .
مقام إبراهيم تعبُّده لله عزَّ وجل ، ومقام إبراهيم توكُّله ، وتفكُّره ، وعمله الصالح، فإن أردت أن تصل إلى الله فاجعل من خصائص هذا النبي سبباً إلىالله عزَّ وجل  .
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ﴾ .
الطائفين الإنسان يطوف ، فعندما يصل إلى بغيته يعكف ، فلما عرف عظمة الله عزَّ وجل ركع له وسجد ، فالطواف ثم العكوف ثم الركوع والسجود هذه أحوال السالكين إلى الله عزَّ وجل ، يطوف حول كماليات الله ، ثم يستقر على تعظيم الله وعبادته ، ثم يرى في النهاية أنه يجب أن يخضع وأن يستعين به ، إياك نعبد وإياك نستعين ، والقرآن كله جُمع في الفاتحة ، والفاتحة جُمعت في إياك نعبد وإياك نستعين ، بالنهاية يجب أن نعبده ، ويجب أن نستعين به على عبادته .
 فضل خدمة بيوت الله :
 
قصة جانبية عن أحد الأخوة الذين يخدمون بيوت الله ـ توفي رحمه الله من عشر سنوات ـ ما رأيت في الشام كلها مسجداً بنظافة المسجد الذي يقوم عليه ، أتحدَّى أن يكون في بيوت الشام كلها بيت أنظف من هذا المسجد ، شيء عجيب ؛ نظافة السجاد ، المرافق ، الرخام كأنه قد رُكِّبَ حديثاً ، قال لي هذا الإنسان الذي يخدم هذا البيت بيت الله عزَّ وجل : أنا شعاري هذه الآية :
﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ (125) ﴾ .
هؤلاء الذين يقومون على خدمة بيوت الله هذا عمل عظيم ، أنتم قد لا تنتبهون ترون السجاد نظيفاً ، الأرض نظيفة ، الجدران نظيفة ، البلور ممسوحاً ، المرافق العامة جميلة ، هناك جنود مجهولون يخدمون هذا البيت ، خدمة من أعلى مستوى لوجه الله تعالى ، هؤلاء من قدوتهم ؟ هذا النبي الكريم :
     
﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
إنسان قدم للمسجد شيئاً ، إنسان قدَّم مظلة ، إنسان قدم مرفقاً عاماً ، قدم برَّاد ماء، قدم تكبير صوت ، قدم مصلى مثلاً ، إذا جاء إنسان لبيت الله ورأى نفسه مرتاحاً ، والأمور جيدة ، والمسجد مريحاً ، والصوت واضحاً ، التدفئة جيِّدة ، التكييف جيداً ، وفيه تهوية أحياناً، هذه أشياء ـ وإن كنت قد دخلت في التفاصيل ـ لها عند الله أجر كبير جداً ، والدليل هذه الآية :
﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
 مراحل السلوك إلى الله عزَّ وجل :
 
هناك أُناسٌ لهم شأن عند الله كبير قد لا تعلمونهم أنتم ، يعملون ساعاتٍ طويلة فيخدمة بيوت الله ، في تنظيفها ، وفي ترتيبها ، وفي العناية بها ، فهؤلاء قدوتهم في هذا العمل هذا النبي الكريم  .
أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه تميم الداري كان في الشام فرأى قناديل جميلة جداً ، فاشتراها لمسجد رسول الله ، لم يعلم النبي بذلك ، ركب هذه القناديل في وقت بين الصلاتين ، ثم شدها بحبال وأشعلها ، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام فرأى المسجد متألقاً فقال : من فعل هذا ؟ قالوا : تميم الداري ، قال : نور الله قلبك يا تميم كما نوَّرت الإسلام ـ عَدَّ النبي الكريم بيت الله هو الإسلام ـ لو أن لي بنتاً لزوجتكما ، فقال أحد أصحابه : أنا عندي بنت . قال له : زوجها إياه ، ماذا فعل هذا الإنسان ؟ قام بخدمة لهذا المسجد ، فأنا أريد من هذا الكلام أن يتحمَّس كل الناس لخدمة بيوت الله ، جعلها في أعلى درجة من الراحة كي تجذب الناس إليها  .
كنت مرةعند طبيب فقال لي : والله أنا أحب سماع دروسك إلى أعلى درجة ، ولكنني مرة سجدت وراء إنسان له جوارب رائحتها لا تحتمل ، فتركت الدروس من أجل هذا. أنا تألمت أشد الألم ، إذا لم يكن الإنسان نظيفاً ، وكان معطراً ، أنت تقطع إنساناً عن الله عزَّ وجل ، فكل إنسان يأتي إلى بيتٍ من بيوت الله يجب أن يكون بأعلى درجة كي يجذب الناس إليه ، حتى الأطفال يجب أن يكونوا مكرَّمين في بيوت الله حتى ينشأ عنده محبة للمسجد ، هذا الكلام تعليق على قول الله عزَّ وجل :
     
﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ (125) ﴾ .
هذا البيت نُسب إلى الله عزَّ وجل ، إلى ذات الله :
 
﴿ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) ﴾ .
طاف ، وعكف ، وركع ، وسجد ، مراحل السلوك إلى الله عزَّ وجل .
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً (126) ﴾ .
 
إذا نقضنا عهدنا مع الله ورسوله سلط علينا عدواً يأخذ ما في أيدينا :
 
هنا يوجد نقطة دقيقة قال تعالى  :
﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (97)﴾ .
( سورة آل عمران) .
قال العلماء كلاماً رائعاً : هذه الآية ليست أمراً تكوينياً ، بل هي أمرٌ تكليفي ، أي أن الله عزَّ وجل أمرنا أن نجعله آمناً ، قال : ينبغي أن يكون آمناً . اجعلوه آمناً يا عبادي ، أوكل أمنه إلينا . فماذا يستنبط من هذا الحكم ؟ أي أن هذا بيتٌ من بيوت الله فإياك أن تفعل شيئاً تجر لهذا البيت شبهة ، أو استفهام ، أو مشكلة ، لأن هذا البيت :
﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً(18) ﴾ .
 ( سورة الجن )
لا تعمل عملاً تسبب إشكالاً لرواد المسجد ، لا تثر شبهة ، ولا تعمل فيه عملاً لا يرضي الله عزَّ وجل ، ادخله وأنت مخلص لربك ، لذلك  :
    
﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً (126) ﴾ .
أي مكة المكرَّمة :
﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ (126) ﴾ .
هذه دعوة سيدنا إبراهيم . إذا ذهب أحدنا إلى مكة لزيارة بيت الله الحرام ورأى ما يعرض في المحلات من أنواع الفواكه يصدِّق هذه الآية :
﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ (126) ﴾ .
هناك أنواع من الفواكه لا تعلم اسمها ، فواكه العالم كله تساق إلى بيت الله ، حتى أن هذه الثروات التي أوجدها الله في بلادهم هي من إكرام الله لحجاج بيت الله الحرام ، جعلهم أغنياء ليعتنوا بالحجاج ، هي مجيَّرة لصالح الحجاج ، أما إذا نقض المؤمنون عهد الله وعهد رسوله عندئذٍ يسلط الله عليهم عدواً يأخذ ما في أيديهم ، وهذا من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام ، إذا نقضنا عهدنا مع الله ورسوله سلط علينا عدواً يأخذ ما في أيدينا ، أما هذه الثروات التي أكرمنا الله بها فهي من أجل أن نعتني بالحجاج .
 وجود بلد آمن من نعم الله الكبرى :
 
قال تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً (126) ﴾ .
أعظم دعاء أن يكون البلد آمناً ، الحروب مدمرة ، والحروب الأهلية مُهلكة ، وجود بلد آمن من نعم الله الكبرى ، ولا يجوز أن تقيم في بلدٍ لا أمن فيه ، هذا حكم شرعي . وكلمة أقولها لكم والله لا أبتغي بها شيئاً : لي صديق جاء بطائرة إلى دمشق ، قال لي : سمعت رسالة في الطائرة باللغة الإنكليزية موجهة للركاب ، تقول : إنكم قدمتم إلى أأمن بلد في العالم ـ أي سوريا ـ بإمكانك أن تتجول أنت وزوجتك إلى ساعةٍ متأخرة من الليل دون أن تخشى شيئاً . هذه النعمة نعرفها جميعاً ، بلدنا آمن والحمد لله ، ونرجو الله أن يديم علينا هذا الأمن .
﴿ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ (126) ﴾ .
لكن سيدنا إبراهيم : يا رب هؤلاء عبادك المؤمنون ، هم يستحقون هذا الإكرام :
﴿ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ (126) ﴾ .
المؤمنون فقط .
 ليس الملك مقياساً ولا المال مقياساً المقياس أن تكون طائعاً لله :
 
قال الله عزَّ وجل  :
﴿ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) ﴾ .
أي أنك إذا وجدت كافراً غنياً جداً ، قوياً جداً ، ويتمتع بصحة من أعلى درجة وهو يعصي الله ، وينتهك حرمات الله ويؤذي الناس فلا يختل توازنك ، هذا هو الجواب :
﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) ﴾ .
أمتعه قليلاً ؛ ساعات ، سنوات ، بضع سنوات ، أمتَّعه بها ثم أقصمه ، فالله عزَّ وجل يعطي كل إنسان ، لكنه لا يُقبل على قلب كل إنسان ، يعطي كل إنسان ولكن الله يحب المؤمنين ، ويرزق كل إنسان لكنه يتجلى على الصادقين ، ويعطي المال لكل إنسان ولكنه يقرِّب الطائعين ، فالعطاء ليس مقياساً ، وأعطى الله المُلك لمن لا يحب أعطاه لفرعون ، أعطى المال لمن لا يحب أعطاه لقارون ، وحتى أكون دقيقاً : أعطاه لمن لا يحب ولمن يحب، سيدنا عثمان وسيدنا عبد الرحمن من أغنياء الصحابة ، يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، ويعطي الملك لمن يحب سيدنا سليمان ، ولمن لا يحب فرعون ، إذاً ليس الملك مقياساً ولا المال مقياساً ، المقياس أن تكون طائعاً لله ، وإن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين .
 متاع الدنيا قليل :
 
قال تعالى :
    
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً (126) ﴾ .
أمتِّعه أيضاً ، خالق الكون يقول : قليلاً :
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77) ﴾ .
(سورة النساء)
ألا يوجد ملوك مثل ملوك الحديد والصلب بأمريكا ، ملوك البترول ، ملوك ماتوا وتركوا كل شيء ، هذا المتاع القليل :
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(77) ﴾ .
(سورة النساء)
خالق الكون يقول لك : يا عبدي متاع الدنيا قليل  .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (38)﴾ .
(سورة التوبة)
 
الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له  :
 
دقق الآن :
﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38) ﴾ .
(سورة التوبة)
أتقبل ؟ أترضى أن تأخذ من ملك الملوك درهماً واحداً ؟
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77) ﴾ .
(سورة النساء)
لا تعبأ بالدنيا ، والله إن أسعد الناس بها أرغبهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، والله الذي لا إله إلا هو ، الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ، هي دار من لا دار له ، ولها يسعى من لا عقل له . وقفت دابة ـ حمار ـ في أيام الحر الشديد في مكان فجلس إنسان لم يحتمل الحر ولا أشعة الشمس المحرقة في ظل هذا الحمار يستمتع بظله ، قام ليشرب فجاء رجل فجلس مكانه ، فتنازع معه قال له : هذا محلي ، فأجابه الآخر : لا ليس محلك ، تلاسنا ، وبعد ذلك تشادّا ، ثم تضاربا ، ثم سار الحمار ، يختصمان على ظل الحمار !
اسأل أخواننا القضاة كم دعوى شطبت بموت أحد الطرفين ؟ استمرت الدعوى ثماني عشرة سنة ، ثم مات أحد الطرفين فانتهت الدعوى ، إذ لا أحد ينتبه للموت ، الموت ينهي كل شيء ؛ ينهي غنى الغني ، وقوة القوي ، ووسامة الوسيم ، وفقر الفقير ، وضعف الضعيف ، وقهر المقهور ، كله ينتهي بالموت ، ولذلك الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له ، قال :
     
﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) ﴾ .
 آيات من القرآن الكريم تظهر أن متاع الدنيا قليل :
 
انتبه أيها الأخ :
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ ﴾
(سورة آل عمران)
وقال :
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ .
( سورة إبراهيم )
وقال :
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) ﴾ .
( سورة إبراهيم )
وقال :
﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) ﴾
 ( سورة التوبة)
هذا كلام ربنا ، فلا يختل توازنك إذا وجدت شخصاً قوياً وكافراً ، فهؤلاء الذين يقصفون العالم وهم يأخذون بنواصي الشعوب ، يدمرون الشعوب ، ويسلبون ثروات الشعوب، ويفقرون العالم ، وهؤلاء لا يمكن أن تنجح خططهم إلى ما لا نهاية ، فنجاح خططهم إلى ما لا نهاية يتناقض مع وجود الله ، وما رفع الناس شيئاً إلا وضعه الله عزَّ وجل .
 خط المؤمن البياني صاعد صعوداً مستمراً إلى الأبد عكس خط الكافر البياني :
 
هناك تجارب سابقة ؛ هناك قلاع للكفر تهاوت كبيت العنكبوت ، أليس كذلك ؟ فأنت كن مع الله :
   كن مع الله تر الله معك      واترك الكل وحاذر طمعك 
 وإذا أعطاك من يمنعـه      ثم من يعطي إذا ما منعك
*   *   * 
أنا أريد من أخواننا الكرام معنويات عالية :
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) ﴾ .
( سورة آل عمران)
أنت معخالق الكون فلا تخشَ أحداً ، ولا تخضع ، ولا تيئس ، ولا تخنع ، فاليأس كفر ، والقنوط من رحمة الله كفر ، قال :
     
﴿ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) ﴾ .
خط المؤمن البياني صاعد صعوداً مستمراً إلى الأبد ، والموت نقطة على هذا الخط ولا يزال صاعداً ؛ أما خط الكافر البياني فصعود حاد ثم سقوط مريع ، صعود وسقوط.
 العبرة لا بعظم العمل بل بقبوله عند الله :
 
قال تعالى :
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) ﴾ .
العبرة لا بعظم العمل بل بقبوله عند الله :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23) ﴾
( سورة الفرقان)
هناك إنجازات حضارية يشيب لهولها الولدان ، ومع ذلك لا قيمة لها عند الله ، لأنه ما ابتغي بها وجه الله عزَّ وجل . والله أيها الأخوة هناك حديثٌ شريف يقصم الظهور  :
(( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ أخوانكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا )) .
[ابن ماجة عن ثوبانرضي الله عنه ]
لا يوجد إخلاص ، إذ له موقف معلن وموقف خاص ، وله خلوة وله جلوة ، وله سريرة وعلانية ، وله باطن وظاهر  .
فيا أيها الأخوة : ربنا تقبل منا . العبرة بعملٍ يقبله الله ، والله عزَّ وجل يقبل من الأعمال ما كان خالصاً له ، أحد كبار العلماء يقول : " العمل لا يقبل إلا بشرطين ؛ إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة " . فإذا كان خالصاً ومخالفاً للسنة لا يقبل ، وإذا كان موافقاً للسنة وليس خالصاً لا يقبل ، ولا يقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، ربنا تقبل منا والعبرة بالقبول ، ورب درهمٍ سبق ألف درهم ، ودرهمٌ تنفقه في حياتك خيرٌ من مئة ألف درهم ينفق بعد مماتك ، والعبرة بالإخلاص ، ويا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل .
 
إنما الأعمال بالنيات :
 
زيد الخيل رجل من أجمل رجال الجاهلية ، كان إذا ركب الحصان اقتربت رجلاه من الأرض ، طويل ، صبوح الوجه ، مشرق ، جاء النبي عليه الصلاة والسلام مسلماً ، عندما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما اسمك ؟ فقال : أنا زيد الخيل ، قال: بل أنت زيد الخير )) .
[المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود ]
غيَّر له اسمه ، ثم دعاه إلى البيت ، وأعطاه متكأً فقال : "والله لا أتكئ في حضرتك يا رسول الله " . متى تعلم الأدب ؟ إنسان أحياناً يمد رجله يجلس مرتاحاً ، ويجلس جلسة فيها كبر ، ويباعد بين رجليه ، وله جلسات غير مقبولة إطلاقاً ، وليس فيها أدب . فهذا الإنسان متى تعلم الأدب ؟ قال له : " والله لا أتكئ في حضرتك " ، قال له النبي : " يا زيد ما وصف لي رجلٌ فرأيته إلا رأيته دون ما وصف إلا أنت يا زيد " ، قال له : " أعطني ثلاثمئة فارس لأغزو بها الروم " . فقال عليه الصلاة والسلام : " لله درُّك أي رجل أنت ؟ " كان النبي لا يضُنَّ بالمديح على أصحابه ، ثم ودع النبي ، وسافر إلى بلده ، وتوفي في الطريق ، قضية يومين ثلاثة فقط ، ما فعل شيئاً وأصبح من الصحابة الكبار ، نوى أن يغزو الروم :
(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى )) .
[البخاري عن عمر بن الخطابرضي الله عنه ]
وهناك رجل له مال ببلد بعيد ، والمال موضوع بطريقة غير شرعية ، فتناقش مع صهره مناقشة حادة استمرَّت حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً ، إلى أن قنع هذا الإنسان أن هذه الطريقة في كسب المال حرام ، فقال له : إن شاء الله غداً أتصل بأخي أطلب منه أن يسحب هذه الأموال من هذه الجهة ـ مؤسسة في بلاد الخليج ـ اتصل صباحاً فلم يُتح له والقصة قديمة ، اتصل مساءً فلم يتح له ، اتصل صباحاً لم يتح ، ست مرات ثم يئس ، فقال : أنا أعود إلى بلدي بعد شهر وأسحب الأموال . فسافر إلى بلده بعد شهر ، فاستقبله أخوه في المطار ، وقال له : هذه الشركة العملاقة قد فلَّست فوقع مغشياً عليه . كل أمواله فيها ، ملايين مملينة ، حصيلة عمره كله ـ بعد أن صحا من إغمائه قال له أخوه : والله ما نجا من هذا الإفلاس إلا أنت . قال له : كيف ؟ القصة يصعب تصديقها لكن الرجل الذي تكلم بها صادق عندي . قال له : والله رأيتك في المنام قبل شهر تقول لي بع كل الأسهم برأسمالها . فقلت لك في المنام : أيعقل أن أبيعها ؟ لم أصدق ، رأيتك في الليلة نفسها مرة ثانية ، رأيتك في الليلة نفسها المرة الثالثة ، في المرة الثالثة خفت فبعت لك الأسهم برأسمالها . وبعد أيام فلست الشركة . نوى هذا الإنسان أن يسترد ماله من هذه الشركة خوفاً من الله عزَّ وجل فحمى الله له ماله . فكون القصة مقبولة أو غير مقبولة موضوع ثانٍ . لكن :
(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى )) .
[البخاري عن عمر بن الخطابرضي الله عنه ]
العبرة :
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) ﴾ .
أي إذا تكلمنا تسمعنا يا رب ، وإذا سكتنا تعلم ما في قلوبنا .
 الله وحده يعلم الحقيقة ويعاملك لا بحسب أقوالك بل بحسب علمه للحقيقة :
 
هناك نقطة دقيقة يا أخواننا الكرام ، وهناك حقيقة ، هذه مثلاً مسجلة ، وهذه طاولة ، أي إنسان بإمكانه أن يتكلم ما فوق الحقيقة وما دون الحقيقة أو الحقيقة ، الحقيقة ما طابقت الواقع ، هذا كأس ماء ، قد تقول : الصحيح أن هذا الكأس من أرقى أنواع الزجاج ـ كريستال ـ كلام غير صحيح ، وقد تقول : هذا من أردأ أنواع الزجاج . أيضاً غير صحيح ، هذا الكأس وسط ، زجاج وسط ، فأنت قد تقول الحقيقة ، وقد تزيد ، وقد تنقص ، لكن الله وحده يعلم الحقيقة ، ويعاملك لا على أقوالك بل على علمه بالحقيقة ، يجب أن تعلم علم اليقين أن الله وحده يعلم الحقيقة ، ويعاملك لا بحسب أقوالك بل بحسب علمه للحقيقة .
﴿ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ (127) ﴾ .
إذا تكلمنا ، قل ما شئت الله سميع ، واسكت الله عليم ، تحرَّك الله بصير ، هو سميعٌ عليمٌ بصير  .
     
﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ (128) ﴾ .
أعلى درجة بالإيمان أن تستسلم لخالق الأكوان :
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131)﴾ .
(سورة البقرة)
وقال :
﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) ﴾ .
أعلى درجة ، نهاية النهاية أن تستسلم لله عزَّ وجل ، هذا الاستسلام فوق الإحسانعندنا إسلام ، وإيمان ، وإحسان ، واستسلام ، أي :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
 لا يسعد الإنسان إلا إذا كان أولاده على شاكلته :
 
قال تعالى :
    
﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا (128) ﴾ .
والله لا يسعد الإنسان إلا إذا كان أولاده على شاكلته ﴿ ومن ذريتنا ﴾ ، لو كنت أغنى الأغنياء ، وأقوى الأقوياء ، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الأشقياء ، ﴿ ومن ذريتنا ﴾ ، لذلك اعتنوا بأولادكم ، رَبُّوا أولادكم ، إن هذا يسعدكم في كل دنياكم :
﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً(74) ﴾
( سورة الفرقان)
وقال :
﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا (128) ﴾ .
       أرنا الطرق السالكة إليك ، وتب علينا فيما مضى :
     
﴿ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) ﴾ .
أيها الأخوة  :
    
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) ﴾ .
هذه الآية والتي بعدها نشرحها إن شاء الله تعالى في درس الجمعة القادم  .
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب