سورة القصص 028 - الدرس (8): تفسير الأيات (47 – 54)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (8): تفسير الأيات (47 – 54)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 047 - 054)

08/01/2012 15:53:00

 
سورة القصص (028)
 
الدّرس (8)
 
تفسير الآيات: (47 ـ 54)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثامن من سورة القصص ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
 وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
 
1 – إعراب لولا :
       أيها الإخوة ، كلمة ( وَلَوْلاَ ) يعربها علماء اللغة حرف امتناعٍ لوجود ، ( ولو ) حرف امتناع لامتناع ، تقول : لولا المطر لهلك الزرع ، أي امتنع هلاك الزرع لوجود المطر ، فهذه لولا :
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
(سورة القصص : آية 47)
2 – المصيبة لها أسباب مِن عمل الإنسان :
       إذاً : المصائب في نص هذه الآية ، وفي صريح هذه الآية ، وفي الدلالة القطعية لهذه الآية لها أسبابٌ مِن عمل الإنسان .
 
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
3 – الفائدة مِن تنكير كلمة ( مصيبة ) :
        كلمة مصيبة هنا جاءت نكرة ، أيْ أيَّةُ مصيبة ، وهذا تنكير شمول ، مصيبة في المال ، مصيبة في النفس ، مصيبةٌ في الهمِّ والحزن ، فقدُ بعض الأولاد مصيبة ، أن يكون مُهاناً مصيبة ، أن يكون خائفاً مصيبة ، أن يكون مريضاً مصيبة .
 
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾
       في الدنيا وفي الآخرة ، فإن الموت مصيبة إذا أفضى إلى عذاب جهنَّم ، بل إنه مصيبة المصائب : " يا بني ، ما خيرٌ بعده النار بخير ، وما شرٌ بعده  الجنة بشر ، وكلُّ نعيمٍ دون الجنة محقور ، وكلُّ بلاءٍ دون النار عافية " .
4 – مصائب الدنيا أهون من مصائب الآخرة :
      مصائب الدنيا أهون بكثير من مصائب الآخرة ، والله سبحانه وتعالى يقول :
 
 
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
(سورة السجدة)
       هناك عذابٌ أدنى ، وهناك عذابٌ أكبر ، كل أنواع العذاب في الدنيا تنتهي بالموت ، والموت نهاية كل حي ، لكن عذاب جهنم أبدي سرمدي ، فالمصيبة مهما كانت كبيرةً يُنهيها الموت ، لكن مصائب الدار الآخرة مصائب أبدية ، يقول ربنا سبحانه وتعالى :
 
 
﴿فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾
(سورة البقرة)
       هذا شيءٌ لا يحتمل :
 
 
﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾
(سورة الزخرف)
       فإذا جَمَّد الإنسانُ عقلَه ، وعَطَّله ، وعاش لحظته كما يعيش عامَّة الناس فهو إنسان فَقَدَ عقله ، إنسانٌ مغبون ، ربنا سبحانه وتعالى سمَّى يوم القيامة يوم التغابُن ، الإنسان يظن نفسه في الدنيا أنه قد تفوق ، وقد حَصَّل ، وقد جمع ، وقد استعلى ، وقد أخذ ، فإذا به يوم القيامة بالنظر لمقياس الله عزَّ وجل ولمقاييس الدار الآخرة مغبون ، ضَيَّع كل شيء ، ولم يأخذ شيئاً ، لذلك البطولة أن تأتي مقاييسُك في الدنيا وَفق مقاييس القرآن .
 
 
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾
(سورة الأحزاب)
        إن موضوع المصائب موضوعٌ طويل ، على كلٍ ، في هذه الآية تقريرٌ من قِبل الله عزَّ وجل ، وتوضيحٌ إلى أن كلَّ مصيبةٍ مهما دقت ، ومهما كَبُرَت ، نفسيةً كانت أم مادية ، في الجسم أم في المال ، في الروح أم في النفس ، في الدنيا أم في الآخرة ، في الأهل أم في الولد فهي مصيبة موجعة .
 
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
5 – القصاص من مقتضيات العقل السليم  :
        استنبط علماء التوحيد من هذه الآية أن العقل وحده يوجب القصاص ، لأن الإنسان فُطِرَ فطرةً يعرف بها دائماً ما إذا كان على حقٍ أو على باطل ، والإنسان لو لم يأته من يبلغِّه ، لو لم يأته من يعظه ، ولو لم  يأته من يبيِّن له فإنه يعرف بفطرته أنه على حق أو على باطل .
 
 
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
(سورة القيامة)
       إن الله سبحانه وتعالى يحاسبك على ما فطرك عليه ، فإذا أخذت شيئاً ليس لك ألا تعرف ذلك ؟ إذا اعتديت على إنسانٍ ما ألا تعرف ذلك ؟ إذاً قال علماء التوحيد : إن العقل وحده يوجب القصاص ، أَوَصَلتك حقيقةٌ أم لم تصلك ، لأنك مكلَّف ، أنت مكلف ، معنى أنك مكلف أنك إنسان مخلوق متمَيِّز ، والكون كلُّه مخلوقات .
 
 
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾
(سورة الأحزاب : آية 72)
6 – الإنسان كائنٌ مخلوقٌ متمَيِّز بالتكليف :
      الجبال مخلوقات ، وهي نفوس ، والسماوات نفوس ، والأرض نفوس كذلك ، والملائكة نفوس ، والحيوانات نفوس ، ولكن الإنسان كائنٌ مخلوقٌ متمَيِّز بالتكليف .
 
 
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾
(سورة الأحزاب : آية 72)
     الإنسان حمل الأمانة ، ما الأمانة ؟ نفسه التي بين جنبيه ، الدليل :
 
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
(سورة الشمس)
        الله سبحانه وتعالى جاء بك إلى الدنيا ، وجعل نفسك التي بين جنبيك ، والتي هي أثمن شيء ، والتي لا تفنى ، بل هي خالدة إلى ما شاء الله ، هذه النفس إما أن تسعد بها إلى الأبد ، وإما أن تشقى بها إلى الأبد ، أوكلها إليك ، جعلها بين يديك ، جعل أمر سموِّها أو انحطاطها بيدك ، والدليل :
 
 
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
(سورة البقرة : آية 148)
والدليل :
 
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾
(سورة الشمس)
       إذاً أنت إنسان متمَيِّز ، مخلوق متميز ، بل إنَّك المخلوق المُكَرَّم ، الذي حملت الأمانة ، وقبِلت التكليف .
7 – بماذا كُلِّفتَ أيها الإنسان في الدنيا ؟
         والتكليف أن تزكِّي نفسك في الدنيا حتى تكون هذه النفس مؤهلةً للسعادة الأبدية ، أنت كُلّفت أن تعبد الله ، وعبادة الله عزَّ وجل تعني غاية الخضوع لله ، وغاية الانصياع له ، وغاية الحبِّ له ، وغاية الطواعية له ، وغاية الشوق إليه ، ولن تحبه ، ولن تطيعه ، ولن تشتاق إليه ، ولن تؤْثِرَهُ على ما سواه ، إلا إذا عرفته ، إذاً العبادة طاعة ، غاية الطاعة ، غاية الخضوع مع غاية الحب ، أما طاعةٌ بلا حب فهذا كلام فارغ ، وحبٌ بلا طاعة كلامٌ فارغ .
8 – ما هي العبادة ؟
      ففي أدقِّ التعبيرات : العبودية غاية الطاعة مع غاية الحب ، ولن تكون هذه الطاعة ، ولن يكون هذا الحب إلا إذا عرفت الله عزَّ وجل ، فإذا عرفت الله عزَّ وجل أحببته غاية الحب ، وأطعته غاية الطاعة ، إذاً : ستسعد بقربه إلى الأبد ، هذا ملخص الملخص ، وهذا هو التكليف :
 
 
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾
(سورة الأحزاب : آية 72)
       العبادة طاعةٌ طوعية ، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية ، أو غاية الطاعة مع غاية الحب ، أساسها معرفةٌ يقينية ، تفضي إلى سعادةٍ أبدية ، فأن تعرف الله عزَّ وجل هذا أخطر عملٍ تفعله في الدنيا ، قبل الطعام والشراب ، قبل اختيار المهنة ، قبل الزواج ، قبل أي شيء ، لأنك إذا شَكَّلت حياتك بعد معرفة الله ، شكلتها وفق المنهج الصحيح ، شكلت عملك ، زواجك ، علاقاتك ؛ أما إذا شكلّت حياتك قبل معرفة الله عزَّ وجل ، شكلتها على نمطٍ مغلوط ، عندئذٍ تدفع الثمن باهظاً بعد معرفة الله عزَّ وجل .
       فإذا أردتُّم تلخيص الدين كلِّه بكلمات فهي : حبٌ في القلب ، وخدمةٌ للخلق ، يؤكِّد خدمة الخلق ، يؤكد حبَّ الله في قلبك ، خدمتك للخلق ، وتعبِّر خدمتك للخلق عن حبِّك للرب ، فهي حبٌ في الداخل ، وعملٌ في الخارج ، يقول الله سبحنه وتعالى :
 
 
﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ﴾
(سورة الزمر)
      من الداخل إخلاص ، أي حب ، ومن الخارج طاعة لله عزَّ وجل .
 
 مقوِّمات التكليف :
 
      إذاً : أنت مكلَّف ، وحينما كلفك الله عزَّ وجل أعطاك مقوِّمات التكليف .
1 – العقل :  
     وفي الأثر :
(( وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبَّ إليَّ منك ـ أيُّها العقل ـ بك أُعطي وبك آخذ )).
[مشكاة المصابيح عن أبي هريرة بسند فيه ضعف]
     بك أعطي الإنسان كل شيء ، وبك آخذ منه كل شيء ، أيْ بعقله .
و : (( إنما الدين هو العقل ومن لا عقل له لا دين له)).
[الجامع الصغير عن جابر بسند فيه مقال]
و: (( أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حباً)) .
[ورد في الأثر]
        إن الآيات التي تبيِّن قيمة العقل في القرآن تزيد على ألف آية ، والقرآن فيه ستة آلاف آية تقريباً ، سُدُسُ القرآن يتحدَّث عن العقل ، فتبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً ، وإن الرجلين ليستوي عملهما وبرُّهما وصومهما وصلاتهما ، ويختلفان في العقل ، كالذرة جنب أُحُد ، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين .
        أنت المخلوق المكرَّم ، المخلوق الذي قبِل حمل الأمانة ، المخلوق المكلَّف ، كلِّفت أن تسمو بنفسك في الدنيا حتى تسعد بها إلى أبد الآبدين ، هذا التكليف له مقومات أحدها : العقل .
2 – الكـون :
       الكون سخَّره الله لك تسخير تعريفٍ وتكريم ، تعرف هذا بعقلك ، عقلك والكون يتكاملان ، وبِنية العقل مطابقةٌ تماماً لقوانين الكون ، فبعقلك تعرف الله من خلال الكون ، والكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى ، العقل مُقَوِّم ، والكون مقوِّم .
3 – الفطرة :
       إن الله فطرك فطرةً عالية ، فإذا خرجت عنها قيد أَنْمُلة عرفت ذلك بالضيق ، والانقباض ، وتعذيب الضمير ووخزِه ، واختلال التوازن ، والشعور بالقلق ، والتبرُّم ، والضجر ، هذه كلُّها عقابٌ نفسيٌّ عاجل ، هذه الفطرة في خدمتك من أجل أن تبقى على الطريق ، فمقومات التكليف : العقل والكون والفطرة .
4 – الاختيار :
        أعطاك حرية الاختيار ، لك أن تفعل هذا أو ذاك ، ولك ألا تفعل :
 
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
(سورة الإنسان)
 
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
(سورة البقرة : آية 148)
5 – الشهوة :
        أودع فيك الشهوات لترقى بها صابراً أو شاكراً إلى رَبِّ الأرض والسماوات ، العقل والكون والفطرة وحرية الاختيار والكسب والشهوة ، هذه كلها من مقوِّمات التكليف ، وهذا حقك .
6 – الشرعُ الإلهي :
       مثلاً كلَّفْنا إنساناً بعمل ، وقال : إنه يحتاج إلى مركبة ، فنقول له : خذ هذه المركبة ، يحتاج معها إلى الدليل ، فأعطيناه الدليل ، يحتاج إلى خارطة ، زودناه بخارطة ، يحتاج إلى مبلغ من المال للإنفاق ، فمولناه بالمبلغ ، كلَّفناه ، وأعطيناه كل ما يحتاج ، لابدّ من أن نحاسبه على تقصيره ، فإذا راقبناه ، ورأيناه قد انحرف ، وذَكَّرْناه بالخطة المتفق عليها ، إن هذا التذكير فضلٌ من المكلِّف ، وليس حقاً للمكلَّف :
 
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً﴾
(سورة آل عمران : آية 164)
      ثم يأتي الرُسل والأنبياء ، والدعاة والكتب ، وهذا من باب التذكير ، إنك بالفطرة تعرف الحق من الباطل ، وهذا الكلام كله استنباطٌ من قوله تعالى :
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
(القصص : آية 47)
      أي أن الإنسان حينما يفعل شيئاً مخالفاً لفطرته فلابدّ من أن يُعاقب على ذلك ، لما يتمتع به من العقل ، لأن الله عزّ وجل أودع في الإنسان عقلاً يوجب التكليف ، ويوجب الطاعة لله عزّ وجل .
      نعيد عليكم سريعاً مقومات التكليف : العقل ، والكون ، والفطرة ، والاختيار ، والشهوة ، والشرع ، هذه مقومات التكليف .
     أما إرسال الأنبياء النبي تلوَ النبي ، والرسول تلوَ الرسول ، فهذا من باب التذكير :
 
﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ﴾
(سورة المدثر)
       إنه تذكيرٌ لهذا المكلَف ببنود الاتفاق ، فحيثما وردت في القرآن الكريم كلمة تذكرة فإنما تعني أن هذا القرآن جاء ليذَكِّر الإنسان بما عاهد عليه الله سبحانه وتعالى :
 
﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ﴾
(سورة المدثر)
       الآية :
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
(القصص : آية  47)
 
الحكمة من تخصيص الأيدي في قوله : بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
 
      لماذا قال الله سبحانه وتعالى :
 
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
     الإنسان له أرجل أيضاً ، وله لسان ، لأن أكثر الأعمال يقوم بها الإنسان بيديه ، هذا في البلاغة اسمه ذكر الجزء وقصد الكُل ، أي كل أعماله ، فأعمال اللسان هي كلامه ، وهو محاسب عليها ، أفكاره السيِّئة ، حركاته بأرجله ، لكن الله سبحانه وتعالى ذكر :
 
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾
      وقصد كل أعمال الإنسان الكسبية الاختيارية ، الإنسان على ماذا يحاسب ؟ الفعل فعل الله عزّ وجل ، يحاسب على انبعاثه إلى هذا العمل ، أضرب لكم مثلاً لطيفاً :
       الفعل هو فعل الله عزّ وجل ، أي أنه لا يقع شيء في الكون إلا بفعل الله عزّ وجل ، ولكن الإنسان على ماذا يحاسب ؟  حينما ينبعث ليطيع أو ليعصي فإنَّ هذا الانبعاث للطاعة أو للمعصية هو الكسب الذي عَبَّر عنه القرآن بقوله تعالى :
 
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
(سورة البقرة : آية 286)
        أي أن هذا الضوء مفتاحه عندي ، وله مفتاح خُلَّبي لا يعني شيئاً ، ولا يتصل به ، موضوع على الجدار ، فإذا أمرتُ ابني أن يطفئ هذا الضوء فذهب ليطفئه ، فلما وضع يده عليه أطفأته أنا ، ماذا عرفت من هذا التصرُّف ؟ أن هذا الابن أراد أن يُطيعني ، فإذا أبى عرفت ذلك ، الفعل هو فعل الله عزّ وجل ، والإنسان يحاسب على انبعاثه ، وعلى كسبه للعمل ، وليس غير :
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا﴾
 
 لا حجة للإنسان بعد البيان الإلهي الشافي :
 
       هنا العلماء قالوا : " لو أن الله عزّ وجل أصاب الإنسان بما يستحق في الدنيا ، أو في الآخرة ، لو أنه عصاه في الدنيا ، ومات على معصيته ، وعلى كفره ، واستحق جهنم ، يقول له الله عزَّ وجل في جهنم : لقد أعطيتك كل المقومات ، أعطيتك العقل فلم تعمل له ، خلقت لك الكون فلم تفكِّر فيه ، جعلت لك فطرةً فلم تصغِ إليها ، منحتك حرية الاختيار فلم تستخدم هذا الاختيار فيما يُرضيني ، أعطيتك شهوةً لترقى بها إليّ فهويت بها إلى جهنم ، فماذا تريد مني ؟ يقول هذا العبد : يا رب ، هذا كلام صحيح ، لولا أرسلت إليّ رسولاً ، وأنا في الدنيا لكي يذكرني .
         حتى هذا الطلب لئلا يطلبه الإنسان في الآخرة ، لئلا يقول الإنسان الذي أعطي كل مقوِّمات التكليف ، لئلا يقول يوم القيامة وهو في جهنم :
 
﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾
(القصص : آية 47)
         لذلك أرسل الله للبشر رُسُلاً :
 
﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾
(سورة النساء : آية 165)
        فإن التركيب صار :
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ﴾
      في الدنيا أو في الآخرة ، وأغلب الظن المعنى هنا في الآخرة ، لولا أنه إذا دخل جهنم جزاء عمله السيئ ، وقال وهو في جهنم :
 
﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾
(القصص : آية 47)
 
 جواب لولا محذوف :
 
      الجواب محذوف ، وتقديره : لما أرسلناك يا محمد :
 
﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
       أين جواب الشرط ؟ جواب الشرط محذوف تقديره : لما أرسلناك ، لولا أن الإنسان إذا عصى ربَّه في الدنيا ، وعطَّل عقله ، وطمس فطرته ، ولم يفَكِّر في الكون ، واختار الشر على الخير ، وفعل كل المعاصي ، ومات على كفره ، وعلى معصيته فاستحقَّ النار ، وفي النار عاتب الله عزّ وجل ، وقال له : يا رب ، أنا أخذت حقِّي كاملاً ، ولكن لو ذكَّرتني في الدنيا ، لو أرسلت إليّ رسولاً فيذكرني ، لولا أن الإنسان الذي سوف يحاسَب على عمله جزاءً وفاقاً بالعدل التَّام ، يقول هذا الكلام لما أرسلناك يا محمد ، إذاً إرسال الرسل منّةٌ وفضلٌ من الله عزّ وجل .
         فأحياناً الإنسان يُعطي ابنه الذي يدرس كل ما يحتاج ، والمنهج الدراسي ممتاز ، وهو أحسن مدرسة ، وله أحسن أساتذة ، وأحسن برنامج ، وله غرفة خاصة ، وهو معفوّ من الأعمال ليتفرغ للدراسة ، فالتكليف انتهى ، وكذلك حرص الأبِ الشديد موجود ، فهو يراقبه في أداء مهمَّته ، فيذكِّره بالامتحان ، ويذكره بالعهد ، ويذكره بالتكليف .
         إن الآية إذاً دقيقة جداً ، ومن أدق الآيات ، أي لولا أن الإنسان على الرغم من أنَّه أخذ من الله كل ما يستحق ، وخالف ما عاهد الله عليه لما استحق دخول النار ، ثم يقول وهو في النار :
 
﴿لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾
         لمَا أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء ، أرسلناك لئلا يقولوا وهم في النار :
 
﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
        أعتقد أن تفسيرها واضح .
 
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا﴾
(القصص : آية 48)
 
 فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا
 
هذا هو حال العرب قبل الإسلام :
         جاء النبي عليه الصلاة والسلام ، وجاء بالقرآن الكريم ، الكتاب المُعْجِز على فترةٍ من الرسل ، والعرب في جزيرتهم ، في جاهليةٍ جَهْلاء ، في فوضى ، يعبدون الأصنام ، يئدون بناتهم ، يسيئون الجِوار ، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، يكذبون ، لأنها جاهلية ، حسبك قول الله عزّ وجل : جاهلية ، ماذا قال الشهيد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ؟ قال للنجاشي :
(( كُنّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ ؛ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ المَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ ، وَنُسِيءُ الجِوَارَ ، وَنَقْطَعُ الرَّحِمَ )) .
[أحمد عن أم سلمة ]
 
قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى
 
        هذه هي الجاهلية ، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يعرفون نسبه وأمانته ، وصدقه وعفافه ، فدعاهم إلى الله عزّ وجل ، وجاءهم بهذا الكتاب ، فذهبوا إلى اليهود وقالوا : يَزْعُم محمدٌ أنه نبي ، فهل عندكم في كتبكم أنه سيبعث نبيٌّ في هذه الجزيرة ؟ ماذا قال أهل الكتاب ؟ قالوا : نعم ، في كتابنا ما يؤكِّد بعثته ، وما يؤكِّد أوصافه ، وقد آن أوان ظهوره ، وحين سمع العرب من اليهود أو من أهل الكتاب هذا التأييد وهذا التصديق برسالة النبي :
 
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾
      قالوا : لو أنه نبيٌّ حقاً لجعل العصا ثعباناً مبيناً ، لو أنه نبيٌّ حقاً لأصبحت يده بيضاء للناظرين ، لو أنه نبيٌّ حقاً لأُنزِل عليه القرآن جملةً واحدة كما أنزلت التوراة :
 
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى﴾
        لولا أوتي محمد عليه الصلاة والسلام بمثل ما أوتي موسى ، إن أمرهم عجيب ، بماذا جاء موسى ؟ جاء بالتوراة ، ماذا في التوراة وفي الإنجيل كذلك ؟
 
﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾
(سورة الصف : آية 6)
       في الإنجيل والتوراة .
       إذاً :
 
 
﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾
(القصص)
 
 الجواب الإلهي : أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ
 
     لماذا عندما قال لهم أهل الكتاب : عندنا في التوراة ما يؤكِّد دعوة النبي عليه الصلاة والسلام كفروا بهذا الكلام ؟
 
 
 
﴿قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾
(سورة القصص)
 
 قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا
 
       أي أنه لمَّا جاءت الأخبار على ما يُخَالف هواهم رفضوها ، فإذا جاءتهم على ما يوافق هواهم قبلوها ، جاءتهم الأخبار بأن موسى عليه السلام جعل العصا ثعباناً مبيناً ، وصارت يده بيضاء للناظرين ، قبلوها ، وطالبوا بها النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما قال لهم أهل الكتاب : إن في كُتبنا ما يؤكد بعثة النبي رفضوا هذا القول ، إنها مناقشةٌ منطقيةٌ جداً :
 
 
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ﴾
            إذا كنتم أيُّها العرب ، أيها المشركون الذين عاصرتم النبي عليه الصلاة والسلام ، إذا كنتم مؤمنين إيماناً حقيقياً قطعياً بما أوتي موسى من قبل ، وما عند هذا النبي الكريم من بشارةٍ بظهور النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، إذاً يجب أن تؤمنوا به أيضاً :
 
 
﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾
 
وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
 
      أي أنهم يكفرون بأصل الرسالة السماوية ، لن نؤمن لا بموسى ولا بمحمد :
 
 
﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾
        الله سبحانه وتعالى يقول : إذا كان القرآن والتوراة سِحرين ، وإذا كان الله سبحانه وتعالى لابدّ من أن يرسل لخلقه رسولاً وكتاباً :
 
 
﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
(القصص : آية 49)
 
 التحدّي الإلهي : قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
 
1 ـ المنطق الإسلام في المناقشة والمحاورة :
       الحقيقة أن لدى الإنسان فكراً وعقلاً ، والعقل سلطان ، حينما يستجيب للحق يستجيب لفطرته ، ويستجيب لعقله ، فإذا أراد أن يَتَّبع الهوى بدا على عقله الخلل ، وبدا على فطرته الانحراف .
       فمثلاً : عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
       (( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ ، قَالُوا : مَهْ مَهْ ـ أصحاب النبي غضبوا غضباً شديداً ، وقاموا إليه ، أمّا النبي عليه الصلاة والسلام فناقشه بهدوءٍ كبير نِقاشاً منطقياً ، فَقَالَ : ادْنُهْ ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ، قَالَ : فَجَلَسَ ، قَالَ : أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ قَالَ : لَا  وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ ، قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ )) .
[أحمد]
       انظر فالعقل سلطان .
2 – من بنود المناقشة : أين البديل ؟
       الآن لدينا مناقشة منطقية ، إذا كان لله كتابٌ في أرضه ، وأنتم تدَّعون أن القرآن والتوراة سحران تظاهرا ، أو تعاونا ، وأنتم بكلٍ كافرون ، فأتونا أنتم بكتاب من عند الله هو أهدى منهما نتبعه ، دائماً أنت حينما تناقش إنساناً رفض شيئاً فقل له : فما هو البديل ؟ إذا كنت لا ترى في هذا الدين النظام الأمثل ، فأيّ نظامٍ أمثل يحلُّ محلَّه ؟ ما هو البديل ؟ إذا رفضت هذا فماذا عندك ؟ الرفض شيء سلبي ، أما البطولة فأن تأتي بالإيجابيات ، إذا كنت ترى أن قطع يد السارق عمل ليس مدنياً ، ليس عملاً حضارياً ، فكم سرقة في الغرب حدثت في عام واحد ؟ ستة عشر مليون سرقة ، وفي كل ثلاثين ثانية ترتكب جريمة قتلٍ ، أو سرقةٍ ، أو اغتصاب ، هذا هو البديل ؟ إذا رأيت في قطع اليدِ عملاً غير حضاري فهل ترى أن يموت آلاف الأشخاص كل عام بجرائم سرقة وقتل واغتصاب ؟ ما هو البديل ؟
يدٌ بعشر مئين عسجدٍ وُدِيَتْ     ما بالها قطعت في ربع دينارٍ
فأجاب الإمام الشافعي :
عِزُ الأمانة أغلاها وأرخصها     ذُل الخيانة فافهم حكمة الباري
لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت  .
        فربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
             وهذا نقاش قرآني ، فإذا رفضت هذا فما البديل ؟ ما الحل عندك إذاً ؟ إذا رفضت أمر الله عزّ وجل ، إذا رأيت في شرع الله شيئاً قديماً لا يصْلُح لهذا الزمان ، ما الذي يصلح لهذا الزمان ؟ ائت بكتابٍ آخر ، بمنهجٍ آخر ، بدستورٍ آخر ، بنظامٍ آخر ، بتشريعٍ آخر متماسك لا يُعَدَّل ولا يُبَدَّل .
             الآية دقيقةٌ جداً :
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾
(القصص : آية 50)
 
 اتباع الهوى سبب عدم الاستجابة للشرع :
 
             قلتم : التوراة سحر ، سَايرناكم فرَضًا ، وقلتم : القرآن سحر ، سايرناكم ، تظاهرا ، سايرناكم ، ولكن ما البديل ؟ ائتنا أيها المنتقد بكتابٍ أهدى منهما نتبعه ، إذا لم يأتِ بالكتابٍ الذي هو البديل فربنا سبحانه وتعالى وَصَمَهُ بأنه من أهل الأهواء ، يتبع الهوى ، والإنسان إما أن يتَّبع العقل ، وإما أن يتبع الهوى ، يعني أن يتبع شهواته ، فالزاني لماذا يزني ؟ لأنه يتبع الهوى ، لو أنه سار على منهج الله لتزوَّج ، والذي يكسب مالاً حراماً يتبع الهوى ، والذي يعتدي على أموال الناس وعلى أعراضهم يتبع الهوى ، والذي يغتصب ما ليس له ، يتبع الهوى ، إذا كنت صادقاً فيما تقول فما البديل ؟ وما النظام ؟ وما المنهج ؟ وما القانون ؟ وما الدستور ؟ وما الخطاب الذي نتبعه ؟
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
      ربنا عزّ وجل يقول في بعض الآيات القرآنية قال :
 
 
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾
(سورة العلق)
     إذا دعاك إنسانٌ لترك الصلاة ، ودعاك إلى أن تعيش كما تحب ، دعاك إلى أن تتبع الهوى ، دعاك إلى الشهوة ، دعاك إلى الدنيا ، دعاك إلى الانحراف ، قبْلَ أن تستمع إلى كلامه ، قبل أن تدقق في كلامه ، قبل أن تقف عند كلامه ، راقب أعماله ، وانظر إلى دناءته ، انظر إلى حقارته ، انظر إلى شهوانيته ، انظر إلى أنانيته ، انظر إلى كسبه للمال ، انظر إلى إنفاقه للمال ، انظر إلى ذمته ، انظر إلى لسانه :
 
 
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾
(سورة العلق)
     أي أرأيت إلى أعماله المنحطة ؟ أرأيت إلى نفسه الخسيسة ؟ أرأيت إلى دناءته ؟ أرأيت إلى أنانيته ؟ أرأيت إلى حبِّه لذاته ؟ أرأيت إلى أنه إنسان هبط إلى مستوى الحيوان ؟
 
 
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾
        انظر إلى أمانته ، إلى عفَّته ، إلى استقامته ، إلى نظافته ، إلى صدقه ، إلى لطفه ، إلى رحمته ، يكفينا من المؤمن قبل أن يقنعنا استقامتُه التي هو عليها ، ويكفينا من الكافر قبل أن يقنعنا انحرافُه الذي يشينه .
      جرت مناقشة بين عالمين ، قال أحدُهُما : " إن الإنجيل طَهَّر روحي " .. وبعد فترة ضبط متلبساً بجريمة زنا قذرة ، فأي روحٍ طهَّرها ؟ العمل دائماً هو الأبلغ ، الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، والشيء الذي يؤكِّد أن المؤمن على حق استقامتُه وخوفُه من الله عزّ وجل ، إنَّك ترتاح للمؤمن ، وتطمئن له ، لا تخاف أن يأكل ما ليس له :
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
         لذلك اتباع الهوى مشكلة كبيرة جداً ، ومن الصعوبة بمكان أن تناقش إنساناً يتبع الهوى ، لذلك قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ : " ما ناقشني عالمٌ إلا غلبته ، ولا ناقشني جاهلٌ إلا غلبني " .
          المتبع للهوى لا يرضى بالحق ، إذا كان الإنسان مُصِرًّا على أكل الربا فمهما جئته بالأدلة والبراهين والآيات والأحاديث والآثار والقصص يَقُلْ لك : لا ، هو لا يقتنع ، لأنه لا يريد أن يَقْتَنع ..
 
 مصطلحان دقيقان : الفهمُ والتفهُّم :
 
        هناك مصطلحان دقيقان :
أولهما : فهمٌ .
وثانيهما : تَفَهُّم .
        إن الإنسان قد لا يفهم لماذا ؟ لأنه يريد ألا يفهم ، لأنه إذا فهِم يُحْرَج ، أما المُتَفَهِّم فهو الذي عنده قابلية الفهم ، فأحياناً تناقش إنساناً فتجده يردّ عليك رداً مزعجاً ، رداً سخيفاً ، يرد رداً غير معقول ، فهذا يدافع عن شهوته ، وعن هواه الذي يتبعه :
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ﴾
        من علامات المؤمن :
 
 
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾
( سورة النازعات )
 
 الإنسان بين شهوات الطبع وأوامر التكليف :
 
        قلت لكم سابقاً : أنت مكلَّف ، ومعنى لأنك مكلف أي أنت مكلف بأعمال ذات كلفة ، وتحتاج إلى جهد ، فطبْعك يدعوك إلى النوم ، والله كلَّفك بالصلاة فجراً ، طبعك يدعوك إلى قبض المال من أية جهةٍ كانت ، بأية طريقة ، والله عزّ وجل كلَّفك أن تنفقه ، وألا تأخذه إلا من حلال .
        أحياناً يأتيك عرضٌ مغرٍ فيه شُبُهَة ، الله عزّ وجل كلفك ألا تأخذه إلا من حلال ، وألا تنفقه إلا في حلال ، فإن هذا تكليف ، وطبعك يدعوك أن تنظر إلى النساء ، لكن الله كلفك أن تغض البصر ، وطبْعك يأمرك أن تنفجر على الناس لكي تشفي غليلك ، والله أمرك أن تكظم غيظك ، هذا تكليف ، وطبْعك أمرك أن تتندر بقصص الناس في مجالسك ، وهذا شيء ممتع ، فضيحة في بيت ، خلاف زوجي ، خيانة زوجية ، قضية مثيرة ، تتحَدَّث عنها والناس تشرَئِبُّ لك بأعناقها ، هذا هو الطبع ، بينما التكليف أن تَكْتُمَ هذا السر ، ألاّ تغتاب أحداً في مجلسك ، هكذا هو التكليف :
 
 
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾
(سورة النازعات )
       قد تهوى المال غير المشروع ، واللهُ قد نهى النفس عن الهوى ، قد تهوى التمَتُّعَ بشيءٍ لا يحل لك ، واللهُ قد نهى النفس عن الهوى ، قد تهوى النوم ، والله أمرك بالصلاة فجراً ، قد تهوى أن تُظْهِر ما عندك من حقد ، والله أمرك أن تكظم غيظك ، إذاً :
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
 
 الإنسان بين الاستجابة لله والاستجابة للهوى :
 
       هذه الآية فيها معنى دقيق جداً ، معناها أن الإنسان إما أن يستجيب لهوى نفسه ، وإما أن يستجيب لأمر ربه ، والدليل :
 
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
( سورة الأنفال : آية 24)
      أنت أحد رجلين ؛ إما أن تستجيب لهوى نفسك فتَهلَك وتُهْلِك ، وإما أن تستجيب لنداء ربِّك ، فإذا استجبت لله عزّ وجل دعاك لما يُحيْيِك نجوت ، واعلمْ أن اتباع الهوى هوان ، ومن هوى فقد هوى ، أي من اتبع الهوى فقد هوى ، أي سقط .
      (( ألاَ يَا رُبّ نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألاَ يا رُبّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة ، ألاَ يا رُبّ مكرم لنفسه ، وهو لها مُهين ، ألا يا رُبّ مهين لنفسه ، وهو لها مكرم ، ألا يا رب متخوِّض و متنعم فيما أفاء الله على رسوله ما له عند الله من خلاق ، ألاَ وإن عمل الجنة حزن بربوة ، ألاَ وإن عمل النار سهل بشهوة ، ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا )) .
[الجامع الصغير عن أبي البحير بسند فيه مقال]
 
 المؤمن يسير على منهج سليم :
 
       المؤمن عنده منهج وكتاب ، الحلال حلال ، والحرام حرام ، يجوز ، ولا يجوز ، مسموح ، وغير مسموح ، حلال وحرام ، جائز وغير جائز ، في كل موضوع ماذا قال الله عزّ وجل ؟ ما حكم الشرع فيه ؟ حلال ، مباح ، مكروه تنزيهاً ، مكروه تحريماً ، محرَّم ، فرض ، مندوب ، مستحسن ، سنة ، واجب ، المؤمن الصادق في أية حركةٍ من حركاته ، في أية سكنةٍ من سكناته ، في بيته ، في عمله ، في الطريق ، في نزهته ، كل موقف له حكم شرعي ، لذلك لو سألنا معظم الناس : أتحبون الله ؟ يقولون : نعم نحب الله ، وهذا شيء جميل ، فما علامة هذا الحب ؟
 
 
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾
(سورة آل عمران : آية 31)
      اتبعوني ، فلا تكون محباً لله عزّ وجل إلا إذا كنت متبعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولسنته ، هذا المقياس الواحد ، قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى : "عين طاعة النبي صلى الله عليه وسلم عين طاعة الله عزّ وجل ، وحب النبي حب الله عزّ وجل " ، لماذا ؟ لأنه ليس للنبي عليه الصلاة والسلام أغراضٌ خاصة ، ولا مطلبٌ خاص ، ولا رغبةٌ خاصَّة ، ولا حظوظٌ خاصة ، مطلبه ، وهمُّه ، وهدفه أن يعرِّف الناس بالله عزّ وجل ، لذلك : حبُّ النبي هو حبٌ لله عزَّ وجل :
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
 
 وجوبُ موافقة الهوى للشرع فقط :
 
       النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )).
[ذكره النووي في الأربعين]
       يجب أن تهوى القرآن ، أن تهوى الإنفاق ، أن تهوى العفَّة ، أن تهوى الورع ، أن تهوى كلمة الحق ، أن تكره الباطل ، أن تكره المُزاح الرخيص ، أن تكره الغيبة ، إن لم يكن هواك تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام فهذه علامةٌ خطيرة لأنه (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )) .
      انظر ماذا تهوى ؟ أتهوى أهل الحق أم أهل الباطل ؟ من تحب ؟ هل تحبُّ أهل الدنيا الأثرياء الأغنياء ؟ تحب أن تكون معهم ؟ أن تكون في معيَّتهم ، أم تحب أن تكون مع أهل الحق ؟ أتحب الأسواق أم المساجد ؟ أتحب أن تعطي أم تأخذ ؟ من أجل أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة فانظر ما الذي يرضيك ؛ أن تعطي أم أن تأخذ ؟ المؤمن يحب أن يُعْطي ، وهذه كلها علامات دقيقة جداً ، إذاً :
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ﴾
 
 َوَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ  
 
      ( أَضَلّ ) اسم تفضيل ، الله عزّ وجل يُعَبِّر عن ضلال هذا الذي اتبع هواه بعبارةٍ فيها تعجب ..
 
 
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى﴾
        هناك تحفظ لطيف جداً ، لقد أودع الله في قلب الإنسان حبَّ المال ، فإذا كسب المال ، وفرح بكسب المال ، من طريقٍ حلالٍ مشروع فإن هذا اتبع الهوى ، ولكن بهدى من الله عزّ وجل ، تاقت نفسه إلى النساء فتزوَّج ، هذا اتبع الهوى ، ولكن بهدىً من الله عزّ وجل ، فالشهوات التي أودعها الله في الإنسان لها قنواتٌ نظيفةٌ مسموحٌ بها ، هذه القنوات النظيفة هي اتباع الهوى بالهدى ، أما إذا اتبع الهوى من دون هدى من الله عزَّ وجل فهو إذاً يزني ، يُطْلِقُ بصره في الحرام ، يأكل مالاً حراماً ، وكلام الناس : " حلال على الشاطر " ، بالحق ، بالباطل ، باحتيال ، بألاعيب كلام شيطاني ، لذلك يقول ربنا عزّ وجل :
 
 
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
(سورة القصص)
       فإذا بقي الإنسان في المنهج الإلهي ، وتاقت نفسه إلى شيء ولم يفعله إلا وفق المنهج الإلهي فهذا لا غُبار عليه ، النبي عليه الصلاة والسلام بلغه أن بعض أصحابه أراد أن يصوم الدهر ، وآخر أراد أن يمتنع عن النساء ، وآخر أن يترك الطعام والشراب ، فقام فيهم خطيباً وقال :
(( مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا ؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) .
[سنن النسائي عن أنس[ٍ
     إذاً : كل ما أودعه الله في الإنسان من الشيء إذا كُبِتَ كانت له مضاعفات خطيرة :
 
﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا﴾
      بدعة ..
 
﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾
( سورة الحديد : آية 27)
       هم حينما ابتدعوها توهموا أنهم بهذا يرضون الله عزّ وجل ، قال تعالى :
 
﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾
      أي أنهم أخلُّوا بهذه البدعة ، إذاً الأفضل أن تتبع السنة ، النبي e تزوج ، فتزوَّج أنت ، له عمل ، اشتغل راعي غنم ، فاشتغل تاجراً ، ليكن لك عملٌ ترتزق منه ، هكذا السنة ، فلا تَحِد عن السنة :
 
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
 
المتَّبع للهوى ظالمٌ لنفسه : إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
 
      أي أن هذا الذي يتبع الهوى يظلم نفسه ، وظلم النفس هو أشدُّ أنواع الظلم ، ظلم النفس أن تحرمها السعادة الأبدية ، هل هناك ظلمٌ أشد من هذا الظلم ؟ ظلم النفس أن تحرم نفسك تلك السعادة الأبدية التي أعدَّها الله لك ، هذا أشدُّ أنواع الظلم ، لذلك طلب العلم فريضة ، ومعرفة أركان العلم فريضة ، ومعرفة أركان الإسلام فريضة ، ومعرفة حقيقة الدين فريضة ، وطاعة الله فريضة ، وفعلُ المعروف فريضة ، هذا كلُّه من أجل تحقيق الهدف الذي خلقت من أجله :
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
      الذي يتبع الهوى يظلم نفسه ، عندئذٍ ينحاز إلى هواه ، فيرفض الحق ، ودائماً الذي يُعاند هو الذي يتبع الهوى ، جرِّب في أي مناقشة الذي لا يقبل شرع الله عزّ وجل تجده متبعًا للهوى ، هذه قاعدة إلهية في القرآن :
 
 
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
     لذلك :
 
 
﴿اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
(القصص : آية 51)
 
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
 
1 – معنى : وَصَّلْنَا  
       ( وصَّلْنا ) هكذا وردت في الآية الكريمة ، وصَّلَ على وزن فعَّل ، تقول : قَطَعَ وقطّع ، كَسَرَ وكسّر ، وزن فعَّل فيه مبالغة ، أي قد توصل له رسالة فأوصلتها له ، أما وصَّلتها له ، أي هي رسالة وتأكيد ، وتأكدت بالهاتف أنها وصلت ، وبذلت المستحيل كي تصل هذه الرسالة ، أول نسخة ، وثاني نسخة ، وبعثتها مع إنسان مخلص وأمين ، واطمأننت بالهاتف ، فوصل لها معنى ، ووصَّل لها معنى ، ربنا عزّ وجل يقول :
 
 
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ﴾
2 – معنى : وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ  
      أيْ آيّةً تلوَ آية ، وسورةً تلوَ سورة ، وكتابًا تلوَ كتاب ، وقصة تلوً قصة ، وحكمًا تلوَ حكمٍ ، ووعدًا ، ووعيدًا ، وبشارة ، وإنذارًا ، وحكمًا ، وآية كونيةً ، وقصةً قرآنيةً ، ومثلاً قرآنيًّا ، ومشهدًا من يوم القيامة ، وذكرًا للتاريخ ، وأخبارًا من مضى ، فالقرآن منوَّع ، فيه قوانين ، وحِكم ، وقواعد ، وآيات كونية ، وإشارات وسنن ، هكذا توصيل القول :
 
 
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
      العهد ، حمل الأمانة ، التكليف ، المقومات ، كما قلت في مطلع الدرس :
 
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
        هذا القرآن توصيلٌ للقول ، السنة توضيحٌ لهذا القول ، العلماء عَبْرَ الحِقَبِ والقرون الذين سخَّرَهم الله عزّ وجل لبيان ما في هذا الكتاب الكريم وما في السنة المطهرة من باب توصيل القول ..
     أحياناً إنسان ينصحك ، أحياناً واقعة تقع أمامك ، كلمة تقال أمامك ، هذا كلُّه بتقدير عزيزٍ حكيم ، وتوصيل لك :
 
 
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
سببُ نزول الآيات :
 
       هذه الآيات نزلت في طائفةٍ من أهل الكتاب وفدوا على النبي عليه الصلاة والسلام ، وأغلب الروايات تقول : إنهم وفدوا من عند النجاشي ، وقد بعثهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، التقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وقرأ عليهم سورة يس ، فبكوا ، وأبكوا ، وأسلموا ، هؤلاء من أهل الكتاب ، والله سبحانه وتعالى وصفهم بهذه الآيات :
 
 
﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ﴾
(القصص : آية 52)
أي من قبل القرآن ..
 
 
﴿هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾
 
 موطن استعمال كلمة (المسلمين) في القرآن :
 
1 – الموطن الأول :
      إن كلمة ( مسلمين ) في القرآن تستعمل لكلِّ من آمن بالله عزّ وجل ، وأسلم نفسه له ، فسيدنا عيسى وردت آية أنه من المسلمين ، سيدنا موسى من المسلمين ، وفرعون حينما أدركه الغرق قال : وأنا من المسلمين ، أي أن الإنسان حينما يعرف الحقيقة ، ويستسلم لها فهو مسلم ، وهذا المعنى الواسع للإسلام .
2 – الموطن الثاني :
       وله معنى آخر : الدين الذي جاء به النبي محمد عليه الصلاة والسلام هو الإسلام ، أما كلمة الإسلام فلها في القرآن معنى واسع جداً ، أيّ إنسان عرف الله عزّ وجل ، واستسلم له فهو مسلم ، لذلك تقول الآية :
 
 
﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴾
       أي أنهم حينما كانوا أهل كتاب ، وكانوا أيضاً مسلمين :
 
 
﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
 
الحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب