سورة القصص 028 - الدرس (15): تفسير الأيات (76 – 77)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (15): تفسير الأيات (76 – 77)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - بئس الضجيع - الشيخ توفيق الصايغ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - ضوابط التفاؤل - د. أحمد السيد           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 17 - موعد تحرير فلسطين - د. راغب السرجاني           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية - 438 - شد الرحال للأقصى - الشيخ محمد ماهر مسودة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 398 - سورة المائدة 032 - 033           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 076 - 077)

23/01/2012 14:23:00

سورة القصص (028)
 
الدرس (15)
 
تفسير الآيات: (76 ـ 77)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

  
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 
لماذا لم يُفرَز  القرآن على حسب الموضوعات ؟
 
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الخامس عشر من سورة القصص ، وصلنا في الدرس الماضي في سورة القصص إلى قصة قارون ، والحقيقة أن بين آيات القرآن الكريم اتصالاً ، وارتباطاً ، وتسلسلاً ، وقد يسأل سائل : لمَ لا تكون آيات الإخباريات في فصل ، والكونيات في فصل ، والقصص في فصل ، وما شاكل ذلك ؟ لِمَ لا يُفْرَزُ القرآن فرزاً موضوعياً إن صَحَّ التعبير ؟
الحقيقة هذا القرآن كتاب هدايةٍ وإرشاد ، وربنا سبحانه وتعالى هو الحكيم الخبير ، يأتيك بآيةٍ كونية تنبهر لها ، ويأتيك بخبرٍ من التاريخ فتتَّعِظُ به ، ويأتيك بقصةٍ فتتأثر بها ، فمن خبرٍ إلى قصةٍ إلى آيةٍ إلى مشهدٍ إلى إنذارٍ إلى بشارةٍ ، فتنوُّع الموضوعات يسير مع النفس البشرية ، ولذلك فتنظيم آيات القرآن تنظيمٌ نفسي ، لأنه في الأصل كتاب هدايةٍ وإرشاد ، فلذلك جاءت قصة قارون .
 
علاقة قصة قارون بسورة الأحزاب :
 
ولكن ما علاقتها بالسورة ؟ لها ارتباطان بالسورة .
الارتباط الأول هو أن الله سبحانه وتعالى في مطلع السورة حدَّثنا عن فرعون ، وفرعون يُمَثِّل القوة الآمرة الناهية ، إذا طغت وبغت فمصيرها هو الهلاك ، والقوة الثانية التي تأخذ بالأبصار هي قوة المال يمَثِّلها قارون ، فقوة الملك والسلطان يمثلها فرعون ، وقوة المال والعلم يمثلها قارون ، قال :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
(سورة القصص : الآية 78)
 
إذاً : قد يُعْطي الله الملك لمن لا يحبه ، وقد يعطيه لمن يحبه ، فسيدنا سليمان آتاه الله الملك ، وقد يُعطي المال لمن لا يحبه .. مثل قارون ، وقد يعطي المال لمن يحبه .. سيدنا ابن عوف ، وسيدنا عثمان ، صحابةٌ كرام أجلاء أعطاهم الله المال ، فإذا كان المال يُعطى لمن يحب ولمن لا يحب ، والقوة تعطى لمن يحب ولمن لا يحب ، إذاً لا علاقة لها بالحب والبُغْض ، مادامت القوة تعطى لمن يحب الله عزّ وجل ولمن لا يحب ، أعطاها لسليمان ، وهو يحبه نبيٌّ كريم ، وأعطاها لفرعون وهو لا يحبه ، والمال أعطاه لقارون وهو لا يحبه ، وأعطاه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو يحبه ، فإذا كان الشيء يُعْطى أولا يعطى ، إذاً لا علاقة له بالحب والبغض ، ولذلك : إذا كان أحد الناس قد آتاه الله المال فلا يذهَبَنَّ به الظن إلى أن هذا المال الذي آتاه الله عزّ وجل دليل حب الله له ، لا .. فهذا استنباط غلط ، استنباط غير صحيح والأدلة قطعية ، وإذا جعل الله الإنسان قوياً لا يذهَبَنَّ به الظن إلى أن الله يحبه ، قد يحبه وقد لا يحبه ، يحب الله عبده إذا عبده ، ويبغضه إذا عصاه ، هذا هو المقياس ، فحب الله وبغضه هو في الطاعة والمعصية ، لذلك :
سُئِلَ الإمام الجنيد : " من ولي الله ؟ أهو الذي يطير في الهواء ؟ قال : لا ، قالوا : أهو الذي يمشي على وجه الماء ؟ قال : لا .. الولي كل الولي الذي تجده عند الأمر والنهي " ، أن يجدك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك .
هذه أول علاقة ، وقد انتهت قصة فرعون بالغرق ، وانتهت قصة قارون بالخَسْفِ ، فإذا كان الله عزّ وجل يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب ، ويعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب ، فما الشيء الذي لا يعطيه إلا لمن يحب ؟
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
( سورة القصص : الآية 14 )
 
إذا عرفت الله عزّ وجل ، وعرفت منهجه ، والطريق الصحيح ، ولماذا أنت في الدنيا ، وسرَّ وجودك ، ومهمَّتك في الدنيا ، وسِرْتَ في الطريق الصحيح ، وجاءت حركتك اليومية مطابقةً لهدفك في الحياة فأنت
 
 ممن يحبهم الله عزّ وجل ، لأن نعمة الإيمان لا تعدِلُها نعمة :
 
إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين .
 
قصة قارون :
 
القصة :
 
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾
( سورة القصص : الآية 76)
 
1 – مَن هو قارون ؟
هو من قوم موسى ، وموسى نبيٌّ كريم ، نبيٌّ من أُولي العزم ، وقيل : إنه ابن عمه ، وقيل : إنه على صلةٍ معه شديدة :
 
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾
 
إذاً : هناك استنباطٌ دقيق هو : أن الإنسان لو عاش مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يَسِرْ على منهجه فهذا لا ينفعه شيئاً :
 
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴾
(سورة المسد)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ : ] وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ :
 
(( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي
 
 عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا )) .
[ البخاري ]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
 
(( مَا مِنْ رَجُلٍ يَسْلُكُ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا إِلَّا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقَ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)) .
[ أبو داود ]
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ :
 
(( لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ يَبْلُغُهُ أَوْعَى لَهُ مِنْ سَامِعٍ )) .
[ ابن ماجه ]
 
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ
 
 
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى
كان منهم :
 
﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾
1 – معنى : فَبَغَى عَلَيْهِمْ
معنى بغى عليهم أي خرج عن منهجهم ، وطريقتهم ، وجادَّة الصواب ، وبغى بمعنى طغى ، وأخذ ما ليس له ، واعتدى ، وتجاوز ، وانحرف ..
 
﴿فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾
2 – لماذا بَغَى عَلَيْهِمْ ؟
وقد يسأل سائل : لماذا بغى عليهم ؟ هنا المشكلة ، المشكلة هي الغنى ، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام استعاذ بالله من الغنى المُطْغي .
هناك شيء خطير جداً وهو الغنى المُطْغِي ، فما الغنى المُطْغِي ؟ إذا نما مالُك بأسرع مما ينمو إيمانك يَخْتَلُّ التوازن ، المال كثير  ، والمغريات كثيرة ، فأين أسهر هذا اليوم ؟ معي مالٌ وفير ، وهذا المال إذا نما ولم يُنْم معه الإيمان بالسرعة نفسها فإن الخطر هو اختلال التوازن ، والطغيان ، والفسق ، والغرور ، والانحراف جاثم ، والخطر قائم ، فربنا سبحانه وتعالى كأنَّه في هذه القصة أشار إلى الغنى المُطْغِي ، أي من دون علمٍ بالله عزّ وجل يحمل الغنى صاحبه على الفجور ، والفسق ، والعدوان ، وأن يفعل كل شيء :
 
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾
 
وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ
 
ليس عنده كنزٌ واحد ، بل كنوز ، والكنز يُعَبَّر به عن المال الوفير ، وكلكم يعلم أن كل مالٍ مهما كَبُر إذا دفعت زكاته فليس بكنز ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام ، وأن كل مالٍ مهما قلّ إذا لم تُدفع زكاته فهو كنز ، والكنز كما تعلمون :
 
﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾
(سورة التوبة)
 
﴿وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾
كلمة : ] وَآتَيْنَاهُ [ ، أي أن هذا الكنز لم يُحَصِّله بذكائه ، ولا بعلمه ، ولا بخبرته ، ولا بإمكاناته كما يزعمون ، الإنسان إذا قال : أنا هذا حَصَّلته بخبرتي ، أو بعلمي ، أو بتدبيري ، أو بقوَّتي ، أو بجاهي ، أو بسُلطاني، أو بسهري الليل الطويل ، أو بكدي وتعبي ، أو بعرق جبيني ، فهذه كلُّها كلمات الشرك ، ماذا قال الله عزّ وجل ؟ قال :
 
﴿وَآَتَيْنَاهُ﴾
إذاً زعمه باطل :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
(سورة القصص : الآية 78)
الله عزّ وجل يعطي ويمنع ، يرفع ويخفِض ، يبْسِط ويقبض ، ويُعِز ويُذِل :
 
 مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ
 
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ﴾
معنى ناء بالحمل ، أي حمله بتعبٍ شديد ، أي حملَهُ وقد انحنى ظهره ، وكاد لا يستطيع ، فناء بالحمل أي ثَقُلَ عليه الحمل .
مفاتيح كنوزه ، أي مفاتيح خزائنه ، وصناديقه التي يودع فيها المال .
لو أن عصبةً ، والعصبة كما تعلمون من ثلاثة إلى عشرة ، وقيل : من عشرة إلى عشرين ، وقيل : أربعون ، على كلٍ أصَحُّ الأقوال أن القرآن الكريم وصف إخوة يوسف بأنهم عصبة ، والعصبة عشرة أو تسعة ، وما شاكل ذلك ، إذاً : عشرة رجالٍ أَشِدَّاء ، أقوياء ، مَفْتولو العضلات ، لو أرادوا أن يحملوا مفاتيح كنوزه لكان هذا الحِمْلُ عليهم ثقيلاً ، فكم هي كنوزه ؟
يروى أن بعض أغنياء اليهود واسمه روتشيلد كان يضع سبائك الذهب في غرفةٍ كبيرة ، وكثيراً ما اقترضت منه الحكومة ، دخل مرةً إلى غرفة سبائكه الذهبية فأُغْلِقُ عليه الباب خطأً ، والباب لا يفتح إلا من الخارج ، فبقي أياماً ، وكان لكثرة أسفاره وتَنَقُّلاته اعتاد أهله أنه يغيب فجأةً ، وينتقل من بلد إلى بلد ، فظنوه مسافراً ، إلى أن ألوى به الجوع ، فجرح أصبعه ، وكتب على جدار هذه الغرفة : " أغنى رجل في العالم يموت جوعاً ".
ولذلك الذي يظُنُّ أن المال هو كل شيء هو في ضلالٍ كبير ، تمُرُّ الأيام والسنون فإذا بريق المال يضعف ، ويكتشف الرجل حقيقةً ، ولكن بعد فوات الأوان ؛ أن المال ليس كل شيء ، ولكنه شيء ، فإذا جاء ملَك الموت يكتشف الرجل أن المال ليس بشيء إطلاقاً ، إذاً :
 
﴿وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ﴾
مفاتحه جمع مَفْتَح ، والمفتح هو المفتاح ، مفتاح ، مفاتيح ، مَفْتَح ، مَفاتِح :
 
﴿مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾
رجال أشداء ، أقوياء ..
 
﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ﴾
 
إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ
 
1 ـ بماذا يكون فرحُ المؤمنِ ؟
هنا موطن الشاهد ، يا أخي الكريم ... ما الذي يُفْرِحُك ؟ وما الذي يملأ قلبك سروراً وغبطةً ؟ ويجعلك تطيرُ فرحاً ؟ ويجعلك في انبساط ؟ أهو المال ؟ فإذاً أنت من أهل الدنيا ، أم هي معرفة الله عزّ وجل ؟ إذاً أنت من أهل الآخرة ، قال بعض العلماء : " انظر ما الذي يفرحك ؛ أن تأخذ أم أن تعطي ؟ إذا كان الذي يفرحك أن تأخذ فأنت من أهل الدنيا ، أما إذا كان فرحك بأن تعطي فأنت من أهل الآخرة " ، هذا مقياس دقيق جداً :
 
﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ﴾
لا تفرح بهذا المال ، لأن هذه الدنيا كما قال النبي الكريم :
(( دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء )) .
[ ورد في الأثر ]
الرخاء مؤَقَّت ، والشقاء مؤَقَّت ، وقد جعلها الله دار بلوى ، وليست دار استقرار ، ولا دار مقام ، ولا مَحَطَّ الرحال ، ولا نهاية الآمال ، إنها ممر وليست مقراً ..
(( قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عُقْبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عِوضا ، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي)) .
إذاً لا تفرح ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
(سورة يونس : الآية 58)
 
2 ـ الغنى ليس معيار زائدا على الإيمان :
المؤمن يفرح برضوان الله ، أي إذا شعرت أن الله يحِبُّك ، وأن الله راضٍ عنك حُقَّ لك أن تفرح ، وكذلك إذا اصطلحت مع الله ، وإذا أزلت هذه المعصية ، وإذا قدر الله على يديك عملاً صالحاً ، وإذا هديت إنساناً إلى طاعة الله ، فهذا هو الفرح الحقيقي ، إذا فهمت آيةً من كتاب الله حُقَ لك أن تفرح ، إذا فهمت سنة النبي ، وإذا وقفت على دقائق سيرة النبي ، أما إذا كان فرحك بالمال ، فهذا الذي يفرح بالمال .. طبعاً المعدوم إذا جاءه المال ليمسك رمقه فهذا فرح طبيعي ، أما بعد أن يقضي الإنسان كل حاجاته ، فإذا كان همه الأول أن يُكَدِّس الأموال ، وأن يجمعها فهو من زمرة قارون ، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه يُحْشَر مع قارون ، فهذه القصة قصة أصحاب الأموال ممن هم بعيدون عن الله عزّ وجل .
لا تقل لي : هذا الرجل غني إذا كان مؤمناً ، فهذا مؤمن فقط ، لا يضاف على الإيمان كلمة واحدة ، لأنَّك إذا رأيت غنياً مؤمناً فإنك تشتهي الغنى منه من تواضعه ، وسخائه ، وحُبِّه للناس ، ورأفته بهم ،  إنفاقه من ماله عليهم ، لا تقل لي : غني مؤمن ، قل لي : مؤمن فقط ، كلمة مؤمن غني لا معنى لها ، مؤمن أي متواضع ، يعرف الله عزّ وجل ، فإذا تحدثنا عن الغنى فالغنى مرافق للبعد عن الله عزّ وجل ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي فَلْيَكْفِكِ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ ، وَلا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ )) .
[سنن الترمذي]
الغني غير المؤمن يُشِعِرُكَ بالحرمان ، وأنه لا قيمة لك ، فقيمتك عنده بقدر ما تملك من مال ، ولهذا قال سيدنا عمر : << من دخل على الأغنياء خرج من عندهم وهو على الله ساخط ، ومن جلس إلى غنيٍ فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ، وشرف المؤمن قيامُه بالليل ، وعِزُّه استغناؤه عن الناس ، ولا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، وابتغوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجري بالمقادير >> .
 
﴿قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾
(سورة القصص)
 
لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
 
وطبعاً هذا الفرح المُقَيد بالمال ، فالله عزّ وجل لا يحبك أن تفرح بالدنيا لأنها زائلة ، وخلقك للآخرة ، ولعطاءٍ كبير ، فإذا فرحت بهذا النزرِ اليسير فأنت لا تعلم شيئاً ، وربنا عزّ وجل يقول :
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
 
(سورة النساء : الآية 77)
 
﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
(سورة التوبة)
ولذلك : قل لي ماذا يُفْرحك أقل لك من أنت .
راقب نفسك تماماً ، ما الذي يملأ قلبك فرحاً ؟ أن يكون الله راضياً عنك أم أن يكون جيبك ملآن ؟ وما الذي يفرحك ؟ أهذه الأوراق المُكَدَّسة في خزانتك ، أم هذه الأعمال الصالحة المُسَجَّلة في صحيفتك ؟ أيفرحك أن تكون سبباً في هداية مخلوق ، أو أن تكون سبباً في حرمان أُناسٍ كثيرين ؟ خلصتهم الصفقة ، فما الذي يفرحك ؟
 
﴿قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾
 
 لماذا يعطي الله المال للإنسان ؟ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ
 
ولكن الآن جاء الشيء الخطير جداً ، لماذا يعطي الله المال للإنسان ؟ ولماذا يعطيه الصحة ؟ والعلم ؟ والخبرة ؟ وقوة الإقناع ؟ والجاه ؟ والقوة والسلطان ؟ فإذا آتى الله الإنسان شيئاً فلماذا يؤتيه إيَّاه ؟ وهنا جاء الجواب :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
(سورة القصص : الآية 77)
كلّ شيءٍ آتاك الله إياه إنما آتاك إيَّاه لهدفٍ واحد هو : أن تستثمره ، لا أن تستهلكه ، وهذا درسنا كله ، إن آتاك الله مالاً فعليك أن تستثمره في العمل الصالح ، ومعونة الضعفاء ، وإطعام الجِياع ، وإيواء المُشَرَّدين ، وتزويج الشباب ، وتأمين حاجات الضعاف والمساكين ، وهكذا ، وسيدنا أبو ذر الغفاري قال : << حبذا المال أصون به عرضي ، وأتَقَرَّب به إلى ربي >> .
المال قوة كبيرة جداً ، أن تكون ذا مالٍ وفير ، وبإمكانك أن تدخل إلى قلوب الآلاف من الناس ، هذا بإقراضه ، وهذا بالإحسان إليه ، وهذا بمعونته ، وهذا يأتي معك إلى المسجد ، وهذا يتوب على يديك ، وهذا يُقْبِلُ معك على الله عزّ وجل ، وهذا تأخذ بيده ، عن طريق المال :
"يا داود ، ذَكِّر عبادي بإحساني إليهم ، فإن النفوس جُبِلَتْ على حُبِّ من أحسن إليها ، وبُغْضِ من أساء إليها ".
وقد تُلَبِّي حاجة إنسانٍ فتفيده بهذه الحاجة أضعاف ما تفيده بمحاضراتك الفَصيحة والبليغة ، والإنسان عبد الإحسان ، وأصحاب الأموال والله الذي لا إله إلا هو أمامهم أبوابٌ للعمل الصالح لا يعلمها إلا الله ، إنها أبوابٌ مفتحةٌ على مصاريعِها ..
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
 
عمومُ قولِه : آتَاكَ اللَّهُ
 
الآية عامة ، مطلقة ، آتاك الله علماً فابتغِ به الدار الآخرة ، وآتاك الله شأناً فانصر به الضعفاء ، واطلب به الدار الآخرة ، وآتاك الله قوة إقناع ، ولساناً طليقاً فانصر به المظلومين ، وابتغ به الدار الآخرة ، وآتاك الله قوةً فابتغِ بها الدار الآخرة ، آتاك الله خبرةً فارجُ بها الدار الآخرة ، وآتاك الله علماً فاطلب به الدار الآخرة :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
فأنت الذي معك إما أن تستثمره ، وهذا هو العقل ، وإما أن تستهلكه .
مثلاً : لو معك عشر ليرات ، كل ليرة يمكن أن تجلب لك مليوناً بطريقة معينة ، فذهبت ، واشتريت بهذه الليرات طعاماً وأكلته ، هذه خسارة كبيرة جداً ، فهذه الورقات العشر يمكن أن تجلب لك عشرة ملايين بطريقةٍ أو بأُخرى ، أنت استهلكتها ولم تستثمرها ، فالمال ينبغي أن تستثمره في إنفاقه في سبيل الله ، أما إذا أنفقته على التَرَفِ ، والسَرَفِ ، والرفاهية ، والانغماس في الملَذَّات فقد استهلكته ، هذا إذا كان مباحاً ، أي إذا لم يوجد معاصٍ ، إذا أنفته في المباحات فقد استهلكته ، أما إذا أنفقته في الأعمال الصالحة فقد استثمرته :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
 
 وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
 
1 – مفهومٌ شائع غير صحيح :
إن معظم الناس يفهمون هذه الآية على غير ما أراد الله ، إذا دَخَلْتَ إلى بيتٍ ، ورأيت صاحبه قد عُنِيَ به عناية ، قال لك : أخي ، الله عزّ وجل قال :
 
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
وإذا انغمس الإنسان في الطعام والشراب وبعض المَلَذَّات يقول لك : الله عزّ وجل قال :
 
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
2 – المعنى الصحيح للآية :
مع أن هذه الآية من أَدَقِّ الآيات ، أي يا أيها الإنسان ، أنت لماذا جئت إلى الدنيا ؟ من أجل العمل الصالح ، نصيبك من الدنيا هو العمل الصالح ، وكل شيءٍ آخر لا قيمة له ، لأنه زائل ، فإذا أرسلنا طالباً إلى دولة أجنبية له مهمةٌ واحدة ، وهي أن يدرس ، فلو أنه أمضى هذا الوقت في المتنزَّهات ، والأماكن اللطيفة ، واللقاءات ، والسهرات ، والندوات ، وبعض الملاهي ، والحفلات ، والحدائق ، وفي النوم ، والراحة ، والاستجمام ، والسباحة ، والرياضة ، فماذا يفعل ؟ يعمل شيئاً خلاف مُهِمَّته ، وخلاف نصيبه من هذا البلد ، نصيبه من هذه البلدة أن يأتي بشهادةٍ عُليا ، وأن يحمل دكتوراه ، فأية حركةٍ ، وأي نشاطٍ ، وأي تصرفٍ ، وأي سلوكٍ لا يتصل بمهمته فهو مضيعةٌ وخسارةٌ وحمق :
 
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
أيها الإنسان ، كما قال الله عزّ وجل :
 
(( عبدي ، خلقتُ لك السماوات والأرض من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحَقِّي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك ، عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن
 
 أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين ، لي عليك فريضة ، ولك عليَّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزَّتي وجلالي ، إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلِطَنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في
 
 البرِّية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أُبالي ، وكنت عندي مذموماً ، أنت تريد وأنا أريد فإذا سَلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تُريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد )) .
 
[ ورد في الأثر القدسي ]
 
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
(سورة القصص : الآية 77)
هذا الذي قُلْتُه خطبة : " يا بِشر ، لا صدقة ولا جهاد ، فبمَ تلقى الله إذاً " ؟
3 – سؤال خطير : بماذا تلقى الله عزوجل ؟
والله الذي لا إله إلا هو ما من سؤالٍ أَخْطَرُ من هذا السؤال ، بمَ ألقى الله عزّ وجل ؟ فما العمل الذي هَيَّأته للقبر لساعة الفِراق ؟ :
 
﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى*ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾
( سورة القيامة )
فالذين يدرسون ، ويتعبون ، ثم يحصلون على الشهادات هؤلاء المساكين يأخذون هذه الشهادات ليفتخروا بها ، أو ليكسبوا بها المال فقط ، لا .. وأنت تَعَلَّمت علماً ينبغي أن توَظِّف هذا العلم للدعوة إلى الله عزَّ وجل ، أنت أصبحت طبيباً ، فيجب أن تستغل طِبَّك في هداية الخلق والإحسان إليهم ، وأصبحت تاجراً ، فيجب أن تبذل هذا المال في تقوية معنوِيَّات المؤمنين ، وإشعارهم أنَّهم في رعاية الأغنياء وحفظهم ، لا ، هم منبوذون ، بل هناك من يرعاهم .
يا أيها الإخوة الأكارم ، هذه الآية تكفي ، والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله غيرها لكفت .
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
(سورة القصص : الآية 77)
شهاداتك ، زواجك ، ابتغِ به الدار الآخرة ، وهذه الزوجة اطلب بزواجها الدار الآخرة ، وبيتك اجعله بيت ذكرٍ وقرآنٍ ، ودعوة إلى الله عزَّ وجل ، وهذه غرفة الضيوف يجب أن تشهد لك يوم القيامة كم من سهرةٍ فيها ذُكِرَ الله ، أم كم من سهرةٍ لُعِبَ فيها الشطرنج ، أم بالنرد ، أم بالحفلات ، أم بالمزاح ، أم بالغيبة ، غرفة الضيوف ابتغِ فيها الدار الآخرة ، وكذلك غرفة الجلوس ، وغرفة الطعام الفقراء والمساكين على أطيب الطعام ، شَرُّ الطعام طعام الولائم ، لأن الأغنياء يُدْعَون إلى هذا الطعام والفقراء محرمون منه ، فاسعدْ بهذه الغرفة غرفة الطعام ، وكذلك بهذه المركبة  ، انتقل بها إلى المسجد ، واجعلها في خدمة أهل الحق ، يركب معك المؤمنون أصحاب البيوت البعيدة ، فوَظِّف هذه المركبة في خدمة أهل الإيمان ، ابتغِ بها الدار الآخرة ، هذا الثوب الجديد الذي اشتريته اطلب به الدار الآخرة ، وانو به أن تكون ذا مظهرٍ حسن مقبول عند الناس ، أنت مؤمن تُمَثِّل هذا الدين العظيم ، كُنْ بهيئةٍ حسنة ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّكُمْ قَادِمُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ ، فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ ، وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ ، حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ )) .
[ أبو داود عن أبي الدرداء ]
فابتغِ بهذا البيت الدار الآخرة ، وإذا اشتريت كتباً فاطلب بها الدار الآخرة اقرأها ، وافهمها ، وادع إلى الله بها ، وهذه آيتنا اليوم ، هذه آية هذا الدرس ..
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
شعار المؤمن : إلهي ، أنت مقصودي ، ورضاك مطلوبي ، وذلك إذا تَزَوَّج المؤمن ، وإذا سافر ، وإذا جلس مع أهله وأولاده ، وإذا لبس الجديد ، وأكل الثريد ، كله أعمال صالحة ، لأنه لا يبتغي بهذا إلا الله والدار الآخرة ، لا يبتغي بها الدنيا .
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
 (سورة القصص : الآية : 77 )
 
4 – يا لها مِن حسرة إذا جئتَ إلى الدنيا ثم غادرتَها ولم تعرف لماذا عشتَ ؟
آه ، أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تغادرها ، ولا تعلم لماذا أنت في الدنيا ؟ إذا نظرت إلى ميتٍ في نَعْشِهِ ، وقد وضع النعش على القبر ، ورُفِعَ الغطاء ، وحُمِلَ هذا الميت في كفنه ، وأدخل في القبر ، فالسؤال خطير : هذا المَيِّت هل جاء إلى الدنيا وغادرها ، وقد عَرَفَ لماذا هو في الدنيا ؟ وهو في زحمة كسب المال جاءته أزمةٌ فأودت به ، وهو في زحمة رحلاته الممتعة جاءه مرضٌ عضال فأنهى حياته ، وهو في زحمة خصوماته مع الناس ، دعاوى في قصر العدل لها ثماني سنوات ، جاء ملك الموت فأنهى الدعوى ، وشطبت ، وتوفى المُدَّعي ، وهكذا أنت أيها المؤمن يجب أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تغادرها ، وقد عرفت مهمتك .
5 – ماذا تركتَ وراءك في الدنيا من الأعمال الصالحة ؟
والنبي الكريم مثل أعلى ، جاء للدنيا وغادرها ، ماذا ترك ؟ ترك الهدى ، والفضيلة ، والسعادة ، والأنوار التي أشرقت حتى الصين ، قد تذهب إلى أقصى البلاد ، إلى أقصى آسيا مثلاً فترى مئذنةً يُذْكَر الله فيها ، وترى مسجداً ، وترى مؤمناً في أذربيجان ، وفي أقصى الشمال ، وأقصى الجنوب ، وأقصى الشرق ، وأقصى الغرب ، هذا ما فعله النبي ، فماذا فعلت أنت ؟
وبشكل آخر ، ماذا تركت في الدنيا من أعمالٍ صالحة ؟ هل كنت أباً مثالياً ؟ أيَّتُها المؤمنة هل أنتِ أمٌ مِثاليَّة ؟ وهل أنتِ أمٌ صالحة ؟ يقول عليه الصلاة والسلام :
((أيُّما امرأةٍ قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة )) .
[ ورد في الأثر ]
قعدتِ على بيت أولادك ، اعتنيت بهم ، أطعمتهم ، نَظَّفتهم ، وهكذا .
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
 
 وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ
 
ما هو نصيبك من الدنيا ؟ قال :
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾
(سورة القصص : الآية 77 )
 
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾
(سورة الإنسان)
الله عزَّ وجل أحسن إلينا بنعمة الإيجاد ، فكل واحد منا سنة 1900 ، لم يكن أحد منا موجودا ، ولم يكن له اسم بالسجلات ، من أنت ؟ فلان الفلاني ، ألف وتسعمئة ؟ .
 
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾
نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ؛ جعلك من أبوين يعطفان عليك ، يقدِّمان لك كل شيء ، ربياك حتى كَبُرْت ، نعمة الإمداد ، الهواء ، والماء ، والطعام ، والشراب ، والفواكه ،  والمأوى ، والفِراش الوثير ، والماء الوفير ، وما شاكل ذلك ، ثم أنعم الله عليك بنعمة الإرشاد ، إذاً : نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الإرشاد .
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾
(سورة القصص : الآية 77)
 
أنواع الفساد : وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ
 
النوع الأول :
هنا آيةٌ دقيقةٌ جداً ، هذا الغني ، إذا أراد أن يَغْرَقَ في الترف ، أي إذا أراد أن يجعل من بيته قبلَة الأنظار ، أن يجعل من أنماط حياته الراقية مساراً للإعجاب ، فماذا يفعل ؟ يُفْسِد وهو لا يدري ، لماذا ؟ لأنه يخلق شعور الحرمان عند الناس ، ويخلق فيهم الحسد ، والبغضاء، والحرمان ، ولذلك فالفقراء إذا رأوا الغني قد أَلَمَّت به المُلِمَّات لماذا يفرحون ؟ لما عندهم من حسد وبغض ، أما إذا كان هذا الغني متواضعاً ، وكان معتدلاً في طعامه وشرابه وبيته ، من دون إسرافٍ ولا مخيلةٍ ، لا يشعِر الناسَ بالحرمان ، ولذلك المبالغة في الترف ، والزينة تخلق في قلوب الناس الحسد والضغينة والإحساس بالحرمان ، هذا أول أنواع الفساد ، لم يفعل شيئاً ، لطيف المعشر ، رقيق الحاشية ، متواضع ، لكنه أغرق نفسه في نعيمٍ لا نهاية له ، فكُلَّما رأى فقيرٌ هذا البذخ ، وهذا الترف ، والإنفاق وفي الطعام ، وما شاكل ذلك شعر بالحرمان ، والصغار ، وبالانكماش ، وإذا كان غير مؤمنٍ شعر بالحقد ، والحسد ، والضغينة ، هذا هو أول أنواع الفساد ، حينما يبالغ الغني في زينته ، وعرض ما عنده ، حينما يغْرَق في النعيم والترف ، والملذَّات ، طعامه وشرابه ، ورحلاته ، ونزهاته ، وثيابه ، ويعرضها على الناس ، ويذكر لهم مصدرها هذه أجنبية ، وسعرها ، وأنواعها ، وكثرة الثياب بالخزانة ، فإذا فعل الغني هذا أفسد وهو لا يشعر ، وهذا أول أنواع الفساد .
النوع الثاني :
أن يحرم أصحاب الحقوق حقوقهم ، وهذا فساد آخر .
النوع الثالث :
أن يأخذ ما ليس له ، وهذا أصعب ، فإيقاع الإحساس بالحرمان فساد ، ومنع الحقوق فساد ، وغَصْبِ الأموال فساد .
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
(سورة القصص)
في الأثر : " أن الأغنياء يحشرون أربع فرقٍ يوم القيامة ، فريقٍ جمع المال من حرام ، وأنفقه في حرام فيقال : خذوه إلى النار ، وهي قضية سهلة جداً ، يحاسب بلمح البصر ، وفريقٍ جمع المال من حلال ، تجارة مشروعة ، وأنفقه في حرام ، على ملذَّاته ولياليه الحمراء وموائده الخضراء ، وسهراته المخملية كما يقولون ، فيقال : خذوه إلى النار، فحسابه كذلك سريع ، وفريقٍ جمع المال من حرام ، عنده ملهى أو مقْمَرة ، وأنفقه في حلال ، تزوج ، واشترى بيتاً ، وأكل وشرب ، فيقال : خذوه إلى النار ، أيضاً حسابه سريع ، وفريق جمع المال من حلال ، وأنفقه في حلال ، فهذا الذي يحاسب ، ويقال : قفوه فاسألوه ، وهل تاهَ بماله على عباد الله ، هل قَصَّر في حق جيرانه ، هل قال من حوله : يا رب قد أغنيته بين أظهرنا فقَصَّر في حقنا " ، هكذا يروي النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه وقف ينتظر حسابه رآه طويلاً جداً ، سؤال وراء سؤال ، قائمة أسئلة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " فما زال يُسأل ويسأل " ، فهذا الذي جمع المال من حلال وأنفقه في حلال .
فأنا أريد أن أقول لكم : ليس الغني الشاكر بأقلَّ أجراً من الفقير الصابر ، ولكن الغنى مسؤولية ، يحتاج إلى إيمان لكي يكون متواضعا ، لأن الحديث القدسي :
 
(( أحب الطائعين ، وحبِّي للشاب الطائع أشد ، أحب الكرماء ، وحبي للفقير الكريم أشد ، أحب المتواضعين ، وحبي للغني المتواضع أشد ، وأبغض ثلاثاً ، وبغضي لثلاثٍ أشد ، أبغض العصاة ، وبغضي للشيخ
 
 العاصي أشد ، أبغض المتكبِّرين ، وبغضي للفقير المتكبِّر أشد ، أبغضالبخلاء ، وبغضي للغني البخيل أشد)) .
[ ورد في الأثر ]
إذاً :
]وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[.
مهمتك معرفة الله ، ومعرفة أمره ، استقامتك على أمره ، والأعمال الصالحة التي تقرِّب إليه ، أن تكون مع أهل الحق ، ]وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[ .
 
الإحسان مبتغى كل مؤمن ، والإساءة هدفُ كل كافرٍ :
 
بل إن نصيبك من الدنيا يُلَخَّص بهذه الآية .
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾
(سورة القصص : الآية 77 )
جوهر عملك الإحسان .. فالأنبياء العظام جاءوا إلى الدنيا فأعطوا ولم يأخذوا ، والأشرار أخذوا ولم يعطوا ، فأنت ماذا أعطيت ؟ وماذا قدَّمت للمسلمين ؟ ولأمتك ، ولأبناء بلدك ، وماذا فعلت ؟.
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾
(سورة القصص : الآية 77 )
فباللغة الحديثة استراتيجية المؤمن الإحسان ، واستراتيجية الكافر الإساءة والأخذ ، والمؤمن العطاء والإحسان .
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾
(سورة القصص : الآية 77 )
كم معنى ؟ ثلاثة :
أول معنى : إذا بالغت في إظهار ما عندك للناس ، وافتخرت به ، وجمعت الناس ، وأطلعتهم على ما عندك ، وأثمان ما عندك ، وكيف أمضيت العطلة ، وأين سافرت ؟ وماذا أنفقت ؟ وفي أي فندق نزلت ؟ ...إلخ ، فهذا ماذا يفعل في نفوس المؤمنين ؟ يفعل الإحساس بالحرمان ، والضيق ، وفي نفوس غير المؤمنين ، الضغينة والحسد والبغضاء والحقد ،  أول نوع من الفساد .
ومن الفساد أن تمنع حقوق الآخرين .
فهو يرضى بهذا المعاش القليل ، وأنت في بحبوحة كبيرة ، يرضى ، لكن هذا المبلغ لا يكفيه ، فأعطه ما يكفيه ، ولك عند الله الأجر والثواب ، إذاً : حرمان الآخرين من الحقوق هذا فساد .
وأن تأخذ ما ليس لك أيضاً فساد ، ففي إلقاء بذور الحسد والحقد إفساد ، وفي حرمان أصحاب الحقوق إفساد ، وفي العدوان على أصحاب الحقوق إفساد .
 
﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
(سورة القصص)
فيجب أن تسعى أن يحبك الله عزَّ وجل ، فهو يحب المحسنين ، ويحب الصادقين ، والتوَّابين ، والمؤمنين ، ولا يحب المفسدين ، والفاسقين ، والكافرين ، والظالمين ، فالآية دقيقة .
 
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
(سورة القصص)
ماذا قال قارون ؟ هذا ما يكون في الدرس القادم ، أجابهم فقال :
]إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [ .
بذكائي وخبراتي ، وسهري الطويل ، وسَعْيي وإمكاناتي ، لا ، هذا من جهدي ، وأنا حرٌ بمالي ، هذا الموضوع إن شاء الله نبحثه في الدرس القادم .
 
 
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب