سورة العنكبوت 029 - الدرس (3): تفسير الأيات (05 – 06)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة العنكبوت 029 - الدرس (3): تفسير الأيات (05 – 06)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 274 - مقبرة مأمن الله           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 14 - متى ينطق الشجر والحجر للمسلم - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - الرحمة بعباد الله           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 395 - سورة المائدة 019 - 026           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 22 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 13 - واجبنا في ظل الظروف - الذي أطعمهم من جوع         

الشيخ/

New Page 1

     سورة العنكبوت

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة العنكبوت - (الآيات: 05 - 06)

04/02/2012 17:05:00

سورة العنكبوت (029)
 
الدرس (3)
 
تفسير الآيات (5 ـ 6)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
     الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
       أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الثالث من سورة العنكبوت ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
 
معنى لقاء الله :
 
المعنى الأول :
الحقيقة أن لقاء الله من معانيه أن يقف العبد بين يدي ربَّه ليس بينه وبين الله حِجاب ، هذا اللقاء قال بعض عنه المفسِّرين : إنه يوم القيامة .
المعنى الثاني :
وقال بعض المفسِّرين في لقاء الله عزَّ وجل : هو أن يلقى وعده ووعيده، وثوابَهُ وعقابه .
المعنى الثالث :
وقال بعض المفسِّرين في لقاء الله عزَّ وجل : هو أن تَلْقَى حكم الله في كل شيء ،
 
 ﴿ وَاللهُ يَحْكُمُ لاُ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ .
       أيها الإخوة الأكارم ...
       
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ ﴾
      أي أن تقف بينيدي الله عزَّ وجل ليس بينك وبينه حجاب ، تُعْرَضُ عليه أعمالك ، وعليك أن تدافع عن نفسك ، وعليك أن تدلي بحجَّتك عن كل عمل ، أو أن يأتي ذلك اليوم الذي تلقى فيه جزاء عملك ؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، أو ذلك اليوم الذي تنال فيه الثواب أو العقاب ، أو ذلك اليوم الذي يحكمُ الله فيه بين عباده ..
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ﴾
      هذا هو لقاء الله ، لقاء الله أن تقف بين يديه ليس بينك وبينه حجاب ، لقاء الله أن يقع وعده ووعيده ، لقاء الله أن تلقى ثوابه وعقابه ، لقاء الله أن ترى حُكْمَهُ في كل شيء ..
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ﴾
 
كلُّ آتٍ قريبٌ :
 
     أضرب لكم بعض الأمثلة : إذا جاء رمضان ، في أول يوم من أيام الصيام تقول : ما أبعد العيد ، وما هي إلا أيامٌ وليالٍ معدودة حتَّى يأتي العيد ، إذا دخلت في العام الدراسي تقول : ما أبعد الامتحان ، ما هي إلا أسابيع وأشهر حتَّى يفاجئك الامتحان ، إذا دخلت في مشروع مُدَّة العقد فيه خمس سنوات ، ما هي إلا أيام وليالي وأسابيع وأشهر وسنين قليلة حتَّى يحلّ الموعد المَطلوب ، كيف يمضي الصيف ويأتي الشتاء ، ويمضي الشتاء ويأتي الصيف ؟ كيف وصلت إلى سن الأربعين والخمسين ؟ كيف مضت هذه السنون ؟ هكذا ..
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ﴾
 
ما دام أجل الله الذي وَقَّتَهُ وعَيَّنَهُ ليلقى كل إنسانٍ جزاءه آتياً ، فإنه إذاً قريب ..
 
﴿ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ﴾ .
( سورة يونس : من آية " 4 " )
        فهذا اليوم الذي سمَّاه الله يوم الدين ، يوم الجزاء ، يوم الحساب ، يوم الدينونة ، هذا اليوم سيأتي ، وما دام سيأتي والوعد من قِبَلِ الله عزَّوجل إذاً في حكم أنه قد أتى .
 
مِن إعجاز القرآن : الإخبار عن المستقبل بصيغة الماضي :
 
من إعجاز القرآن قول الله عزَّ وجل :
 
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ .
 ( سورة النحل : من آية " 1 " )
       أنا متى أستعجل الأمر ؟ إذا لم يأتِ بعد ، الله عزَّ وجل قال  :
 
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ .
       تستعجلوه ، وهو لم يأتِ ، وقد عبَّر الله عنه بالفعل الماضيلقد أتى ، إذاً وعد الله ووعيده في حكم الواقع ، ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام ؟ قال :
(( كأني أرى أهل الجنَّة في الجنَّة يتنعَّمون ، وأهل النار في النار يتصايحون )) .
[ورد في الأثر]
       هكذا الإنسان إذا أيقن أن هذا الكلام كلام الله عزَّ وجل .
بعضهم يفسِّر :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ .
( سورة الفيل )
       قد تسأل أنت : والله أنا لم أرَ هذا الشيء ، هذا خبر ، كان يتوقَّع أن يقال : ألم تسمع بخبر أصحاب الفيل ؟ لمَ ربنا عزَّ وجل عَدَلَ عن قوله ألم تسمع بألم ترَ ؟ قال العلماء : لأن إخبار الله عزَّ وجل في حكم الشيء المُشَاهد ..
 
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ .
( سورة النساء )
 
﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ ﴾  .
( سورة التوبة : من آية " 111 " )
       إخبار الله عزَّ وجل في حكم المشاهدة ، لذلك قال :
 
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ .
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ ﴾
 
 على المؤمن أن يرجو لقاء الله وأن يستعدّ له :
 
على ذكر كلمةيرجو ربنا سبحانه وتعالى قال :
 
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ .
( سورة الأحزاب )
       الحقيقة أنَّ الإنسان يسأل نفسه هذا السؤال : ماذا يرجو ؟ هناك من يرجو مالاً ، هناك من يرجو جاهاً ، هناك من يرجو بيتاً ، هناك من يرجو مركبةً ، هناك من يرجو مكانةً ، لكن المؤمن يرجو لقاء الله ، يرجو الله واليوم الآخر،يرجو ما عند الله من ثواب ، يرجو ما عنده من تَكْرِمَة ، يرجو مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ، هذا الذي يرجوه المؤمن ، لذلك الكلمة الشهيرة عند من أخلص قلبه لله عزَّ وجل، " إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي " .
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ﴾
 
أن تقف بين يديه ليس بينك وبينه حجاب ، أن تتصل به،أن ترى الحقيقة ، أن يُكْشَفَ الغِطاء ..
 
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ .
( سورة ق )
أن يقوم الناس لربِّ العالمين ، أن يُحَجَّمَ الإنسان .
 
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ .
(سورة الأنعام : من آية " 94 " )
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ ﴾
 
      لا محالة آتٍ ، لذلك قيل : " كل متوقعٍ آت وكل آتٍ قريب " ، ما دمت في طريقك إلى هذا الشيء فكأنَّك وصلت إليه ، وما دام هذا الشيء في طريقه إليك فكأنما وصل إليك ، فالآية دقيقة جداً :
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ ﴾
 
إذاً ماذا علينا أن نفعل ؟ أن نُطَهِّر قلوبنا وأن نضبط ألسنتنا ..
      
﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
 
الله سميع للأقوال عليم بكل شيء :
 
     سميعٌ لدعائكم ، عليمٌ بأحوالكم ، أي أنك إذا تكلَّمت فهو سميع ، وإذا صمت فهو عليم ، وعلمه علم كشفٍ وإحاطة ، إذا تكلَّمت فهو سميع ، وإذا صمت فهو عليم ، إذاً ما دام هناك لقاءٌ مع الله فستُسأَل .
 
هيِّىء جواباً لسؤال الله لك :
 
مرَّة استنصحني إنسان يعمل في وظيفة تبدو للناس مزعجة ، وبإمكانه أن يضبط هذا بمخالفةٍ ، والمخالفة جزاؤها السجن ، فاستنصحني ، فقلت له : افعل ما تشاء ، اكتب كما تشاء ، ضع الناس في المكان الفلاني ما تشاء ، ولكن إذا كنت بطلاً حقيقةً فهيِّئ لله جواباً يوم القيامة عن كل عَمَلٍ تعمله .
هذا الكلام الصحيح ، أنت مدرِّس ، أنت طبيب والمريض بين يديك مستسلم واثق ، قل له : تعالّ كل يوم ، وادفع مئة ليرة يومياً يصَدِّق ويأتيك كل يوم ، وأنت محامٍ ، أنت مهندس ، أو أنت مدرِّس ، قل ما تشاء ولكن هيِّئ لملك الملوك يوم القيامة جواباً ، هيِّئ للواحد الديَّان جواباً ، ماذا تقول يوم القيامة لربِّك ؟
       كان سيدنا عمر بن عبد العزيز ما من آيةٍ يُكْثِرُ تلاوتها كهذه الآية :
 
﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ¯ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ¯مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾
(سورة الشعراء )
       هذا الكلام لنا جميعاً ، كل منا له عمل ، بإمكانه أن يصدق وأن يكذب ، بإمكانه أن ينصح وأن يَغُش ، بإمكانه أن يتساهل وأن يتعاسر ، بإمكانه أن يُعطي أو ألا يعطي ، بإمكانه أن يرحم أو أن يقسو ، بإمكانه أن ينصف أو أن يظلم ، الله عزَّ وجل جعلك في دار ابتلاء ، جعلك في دار امتحان لينظر كيف تعملون ؟ كيف تفعلون ؟ ما الموقف الذي سوف تقفه ؟ ماذا تفعل ، أتعطي أم لا تعطي ؟ أترحم أم لا ترحم ؟ " إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي " ،  أتنصف أم لا تنصف ؟ أتقسو أم لا تقسو ؟ فالبطولة أن تهيِّئ جواباً لمن يطَّلع عليك في سرَّك ونجواك ، هذه البطولة ..
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ ﴾
 
      ترجو الجنَّة ؟ إنها آتيةٌ ، ترجو ثواب الله ؟ إنَّك في الطريق إليه ، ترجو ما عند الله من مكانةٍ ، وما عند الله من سعادةٍ ؟ إنك في الطريق إليها ..
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ ﴾
 
هذا يوم الدين ، يوم الواقعة ..
 
﴿ الْحَاقَّةُ¯مَا الْحَاقَّةُ¯وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ¯كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ .
( سورة الحاقَّة )
       في هذه السورة ..
 
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي¯إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِي¯فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ¯فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ¯قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ¯كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ¯وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِي¯وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِي¯يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ¯مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي¯هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه﴾ .
إلى آخر الآيات .
إذاً :
      
﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ ﴾
 
إذا كنت على يقين بسمع الله وبصره فراقب أقوالك وأعمالك :
    
إذاً فاجتهد ، فاجتهد في دعائك ، واجتهد في تطهير قلبك ، وتطهير نفسك ، لأنه سميعٌ عليم ، يسمع دعاءك ، وعليمٌ بحالك ، أنت متكِّلم وهو سميع ، أنت ساكت وهو عليم ، فأنت محاصر ..
 
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ .
( سورة النساء )
       الآن ننتقل إلى قوله تعالى :
      
﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
 
تمهيدٌ بين يدي الآية :
 
الحقيقة ، أنني أتمنَّى أن أُمَهِّدَ لهذه الآية تمهيداً ما ..
      
﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾
      إذا صحَّت عقيدة الإنسان ، أو عرف سرَّ وجوده،عرف لماذا هو في الدنيا ، عرف طرفاً عن جلال الله وعظمته ، عرف لماذا كانت الحياة، لماذا كان الكون ، وكيف أن هذا الكون سُخِّرَ له ، إذا عرف حقيقة الكون ، والحياة ، وحقيقة وجوده ، فإنه ينطلق انطلاقاً صحيحاً ، إذاً : أن تعرف سرَّ وجودك ، وأن تعرف فلسفة الحياة ، وكنْهَ الكون ، هذا شيءٌ مقدَّمٌ على كل شيء ، ليس هناك من مهمةٍ أعظم ولا أخطر في حياتك من أن تتعرَّف إلى الله ، وإلى حقيقة الدُنيا ، وإلى سرِّ وجودك ، إذا عرفت هذا تفهم أن الدنيا دار ابتلاء .
       مثلاً : المدرسة هل يُعْتَنى بأثاثها لدرجة أن الإنسان إذا جلس على هذا الكرسي ينام ؟ لا ، فالكرسي فيها عادي ، لأن الهدف الأساسي من وجود الطالب في هذه المدرسة التَعَلُّم ، إذاً المقعد طبيعي عادي ، المرافق عاديَّة ، لكن هناك أماكن أخرى كالمتنزَّهات أماكن جميلة جداً ، فيها أسباب الراحة والرفاه .
       الطبيب مثلاً : إذا كان في غرفة العمليَّات له ثياب قد تكون ليست لائقة ولا أنيقة ، لأن هنا أهمّ ما في الأمر أن تكون هذه الثياب مُعَقَّمة ، أهم ما في الأمر أن تكون الآلات معقَّمة أيضاً ، لكن في بيته يرتدي ثياباً أخرى ، فيجب أن تعرف هذه الدنيا ، وما سرُّ وجودك فيها ؟ إنما هو الابتلاء ، يقول لذلك ربنا عزَّ وجل :
      
﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾
 
معنى الجهاد في الآية :
 
       ما معنى جاهَدَ ؟ جاهد بمعنى بذل الجهد ، وتحمَّل المشقَّة ، فيها شيء إيجابي ، وشيء سلبي ، تحمُّل المشقَّة والمتاعب والصعاب ، هو جهاد ، وبذل المال والنفس جهاد ، في الجهاد بذلٌ ، وفي الجهاد صبرٌ ، إذاً ربنا عزَّ وجل يقول :
       
﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾
 
الدنيا مُركَّبةً على بذل الجهد :
 
     كأن الله عزَّ وجل جعل الحياة الدنيا مُرَكَّبةً على بذل الجهد ، والحق أن الحياة الدنيا مُرَكَّبةٌ على بذل الجهد ..
 
﴿ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ﴾ .
( سورة الانشقاق )
       الكدح بذل أقصى الجهد .. ﴿ إلَى رَبِّكَ ﴾ .. يوجد كدح إلى غير الله .. ﴿ إِنَّكَ كَادِحٌ ﴾ .. من أجل المال ، من أجل المكانة ، من أجل المُتعة ..﴿ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ ﴾ .. يجب أن ينتهي هذا الكَدْحُ إلى الله عزَّ وجل ، أن يكون الله هو المقصود من هذا الكدح ..
 
﴿ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6) ﴾ .
       هذا الكدح لابدَّ من أن تلاقيه ، إذاً طبيعة الحياة الدنيا طبيعةٌ بذلٍ وجهدٍ وصبر ، بذل الجهد ، وتحمُّل المشاق ، هذه طبيعة الحياة الدنيا ، لذلك قالوا : الدنيا دار تكليف لا دار تشريف ، الآخرة دار تشريف ، الدنيا دار عمل ، الآخرة دار جزاء ، يجب أن تعرف فلسفة الدنيا ، أنت هنا في بذل جهدٍ ، إنَّ هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، لا تصفو لإنسان ، لا تصفو لإنسان كائناً من كان ، لا راحة لمؤمنٍ إلا بلقاء وجه ربِّه ، إنَّ هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ؛ فيها أمراض ،  وهموم ، وأحزان ، ومتاعب ، وفقر ، وضيق ، وشدَّة  ، وحزن ، ومصيبة ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، لأن الرخاء مؤَقَّت ، والشقاء مؤقَّت ، كله ماضٍ ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عِوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي .
      شيءٌ آخر ، ربنا سبحانه وتعالى يقول في الآية الأولى التي ذكرتها قبل قليل :
 
﴿ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6) ﴾ .
( سورة الانشقاق )
       الآية الثانية :
 
 
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ .
( سورة البلد )
       أي أن طبيعة حياته ، طبيعة الحياة الدنيا تقتضي أن يَتَكَبَّدَ الإنسان المشاق ، فلمَّا يفهم الإنسان فلسفة الحياة الدنيا على أنها بذلٌ للجهد ، وتحمُّلٌ للمشقَّة يتقبَّل فيها كل شيء ، أما إذا فهم أنّ الحياة الدنيا راحة واستمتاع ، ورفاه وإنفاق للمال ، وتناول ما لذَّ وطاب من المأكولات ، والاستمتاع بالمباهج حلالاً أو حراماً ، فهذا شأن أهل الدنيا ، هذا شأن البعيدين عن الله عزَّ وجل ، هذا شأن الجُهَّال ، يفهمون الدنيا على أنها مكانٌ للراحة ، للاستجمام ، للسرور ، للنزهات ، للولائم ، للسياحة ، للتمتُّع بمباهج الدنيا ، هذا الفهم فهم خطير ، فأنت في دار عمل ، أنت في دار ابتلاء ، أنت في دار كَدْحٍ ، أنت في دار تَكَبُّدٍ ، أنت في دار جهادٍ .
       فهو في لآخرة إما في سرور ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ )) .
[ متفق عليه ]
الجزاء في الآخرة ، التشريف في الآخرة ، الاسترخاء في الآخرة ، السرور في الآخرة ، في جنَّةٍ لا نصب فيها ، ولا حزن ، ولا شقاء ، ولا قلق ، ولا مرض ، ولا فاقة ، ولا أي شيء من مثل هذا .
       أردت من هذا التمهيد أن الإنسان إذا عرف أن سرَّ الحياة أساسه بذل الجهد يقبل بالتكليف ، لذلك ما هو التكليف ؟ التكليف شيءٌ فيه كُلْفَة ، الله عزَّ وجل خلق الإنسان على طبعٍ ، وجعل التكليف مُناقضاً له ، فهذا الجسم يميل إلى الراحة ، وأنت مُكَلَّفٌ أن تصلي ، هذا الجسم يميل إلى أن يستمتع ، وأنت مكلَّفٌ أنتغضَّ بصرك عن محارم الله ، هذا الجسم يميل إلى اللذَّة ، وقد تؤمر أن تدع أيَّةَ لذَّةٍ لا ترضي الله عزَّ وجل ، فأي شيءٍ كلَّفك الله به مبنيٌّ على بذل الجهد ، مبنيٌّ على الكُلْفَةِ ، ولا ترقى إلى الله عزَّ وجل إلا إذا كان هذا الأمر فيه كلفةٌ عليك ، لذلك أُمرتبغضِّ البصر ، أُمرت بأداء الصلوات ، أُمرت بالصيام ، أُمرت بالحَج ، أُمرت بكف اللسان عن الغيبة والنميمة ، أوامر كثيرة مأمورٌ بها تتناقض مع طَبْعِكَ .
         هذا هو الجهاد بذل الجهد في طاعة الله عزَّ وجل ، وتحمُّل الشدائد والمشاق ، كلكم يعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليعرفه .
 
 من معاني الجهاد :
 
والحقيقة أن الجهاد ل معانٍ كثيرة :
مثلاً : قال ربنا عزَّ وجل :
 
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ .
( سورة العنكبوت )
       ما معنى : ﴿ جَاهَدُوا فِينَا ﴾ ؟ يعني بذلوا جهداً كبيراً كي يعرفونا ، بذلوا جهداً كبيراً كي يستقيموا على أمرنا ، بذلوا جهداً كبيراً كي ينفقوا من أموالهم في سبيل الله ، ففي الحياة جهد ، هذا الجهد إذا كان في سبيل الله عزَّ وجل فالله سبحانه قال : ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ .. معنى ذلك أن السبيل إلى الله بذل الجهد ، المجاهدة ..
 
 
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ .
       الحقيقة المجاهدة أنواع :
1 – جهاد العدو :
من المجاهدة أن تجاهد العدو ، يقول لك : الجهاد .
2 – جهاد النفس والهوى :
ومن المجاهدة أن تجاهد النفس والهوى:
((رَجَعْنا مِن الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ ، مُجهادة العبد هواه النفس والهوى )) .
3 – جهاد الشيطان والمغريات :
ومن المجاهدة أن تجاهد الشيطان والمُغْرِيَات ، عندك مصدر إغراء : الشيطان والشهوات ، ونفسك مصدر قَلِق مُقْلِق ، والعدو كذلك ، فإذا قلنا : الجهاد ؛ نعني به جهاد العدو ، ونعني به جهاد النفس والهوى ، ونعني به جهاد النفس ضدَّ الشيطان والشهوات .
        والجهاد يكون بالبذل ويكون بالصبر ، بذل المال جهاد ، بذل الوقت جهاد .
4 – جهاد طلب العلم :
الإنسان إذا أتى إلى مسجدٍ ليتلقَّى درس علمٍ ، ليتعرَّف إلى كتاب الله ، إلى حديث رسول الله ، إلى موضوعاتٍ في الفقه ، إلى سُنَّة رسول الله ، هذا جهاد لأنه بذل وقته ، بذل وقته رخيصاً في سبيل معرفة الله عزَّ وجل .
إذاً :
 
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ .
       الجهاد أحياناً يكون ببذل المال ، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وفي آياتٍ كثيرة بدأ الله فيها بالمال ، وثنَّى بالنفس ، بدأ بالمال لأن بذل المال أهون على صاحبه من بذل النفس ..
 
﴿ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ﴾ .
( سورة الأنفال : من آية " 72 " )
       صار معنى الجهاد فيه بذل وفيه تَحَمُّل ، البذل إيجابي والتحمُّل سلبي ، إذاً : معنى الجهاد الدقيق : " أن تبذل ما في وسعك وأن تتحمَّل المشاق قدر وسعك " ، بذلٌ وتحمُّل ، إذا فهمنا الحياة الدنيا هكذا لا يعنينا الرفاه ، والتَرَف ، والسرف ، و تهيئة الأمور حتى تغدو مريحةً إلى درجةٍ ننسى فيها مهمَّتنا في الدنيا ، نأكل ونشرب ، ونسكن ، ونتزوَّج ، ونعمل ، ولكن لهدفٍ كبير دون أن تكون الدنيا هي محطًُّ رحالنا ، ومنتهى آمالنا .
 
 
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ .
 ( سورة التوبة )
 
 من علامات المنافق كره بذل الجهد وتحمل المشقة :
 
المنافق يكره بذل الجهد،يعطي نفسه ما تشتهي ، ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟ قال  :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ )) .
ربطها ، ملكها ، سيطر عليها ، حملها على الطاعة ، دفعها إلى مرضاة الله عزَّ وجل ..
((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ )) .
(سنن الترمذي عَنْ  شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ )
       إذاً من علامات المنافقين أنهم يكرهون بذل الجهد ، ويكرهون تحمُّل المشقَّة ، فهو يريد الدين ثقافة فقط ، معلوماتٍ ، قصصاً ، ومن دون انضباط، من دون غض بصر ، من دون تحرير الدخل من الحرام ، من دون حمل النفس على طاعة الله عزَّ وجل ، يأخذ بكل الرُخَص، والفقهاء قالوا : : من تصيَّد الرخص في المذاهب كلها فقد وقع في التلفيق " ، والتلفيق هو رقَّةٌ في الدين .
 
﴿ فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ .
( سورة الفرقان )
 
تعلُّمِ القرآن وتعليمه من الجهاد :
 
       كلمة( به) تعود على القرآن الكريم ، أي فهم كتاب الله ، حسن تلاوته ، أن تتلوه حقَّ تلاوته ، أن تفقه معانيه ، أن تتدبَّر آياته ، أن تعمل به هذا جهاد ، معك كتاب مقرَّر ؛ فيه آيات ، فيه قصص ، فيه وعد وفيه وعيد ، فيه أخبار الأمم السالفة ، فيه بِشارات ، فيه تحذيرات ، أن تقف على معاني هذا الكتاب ، أن تفهمها ، أن تعمل بها ، أن تعيشها ، أن تدعو إليها ، أن تُلَقِّنَها للناس ، أن تعلِّمها لغيرك ، هذا جهاد ، قال تعالى :
﴿ فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾ ـ أي بالقرآن ـ ﴿ جِهَادًا كَبِيرًا(52) ﴾ .
       إذاً إنفاق المال من الجهاد ، تَحَمُّلِ المشقَّة من الجهاد ، فهم كتاب الله وتعليمه للناس والعمل به من الجهاد ..
 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ .
(سورة المائدة : من آية " 35 " )
       ما الوسيلة ؟..
 
 
 
﴿ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ .
( سورة المائدة )
       أحياناً يأتي ما بعد الواو تفسيراً لما قبلها ، ما الوسيلة ؟ أن تجاهد في سبيل الله نفسك وهواك ، إذاً : اللغة المُستعملة حديثاً ليستعربيَّة .. استراتيجية المؤمن في الحياة ، مركز الثقل في الحياة عنده بذل الجهد ، بينما أهل الدنيا أساس حياتهم التلقي ، والراحة ، والانغماس في الملذَّات ، والاسترخاء ، والاستمتاع بكل مباهج الدنيا ، لذلك فالمؤمن حياته مجموعةٌ من المتاعب ، المتاعب المقدَّسة في سبيل معرفة الله ، في سبيل التعريف به ، في سبيل التَقَرُّب إليه ، في سبيل اخذ نفسه بالعزائم ، وحياة أهل الدنيا أساسها ؛ الراحة ، والرفاهيَّة ، والسرف ، والترف ، والانغماس في الملذَّات ، لماذا كان العلم ضرورياً ؟ من أجل أن تعرف سرَّ وجودك ، فالمؤمن يعرف أن الله عزَّ وجل خلقه في الدنيا كي يعرفه..
 
 
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ .
(سورة الطلاق )
 
فائدة : اواخر سور القرآن تلخيص للسورة :
 
       أواخر السور ؛ كما عوَّدنا ربنا سبحانه وتعالى فيها تلخيصٌ للسورة كلها ، فسورة البقرة تنتهي بقوله تعالى :
 
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
( سورة البقرة )
       أقول :مِن ، من تفسيرات هذه الآية لأن القرآن الكريم حمَّال أوجه ، ولا يستطيع إنسان على وجه الأرض أن يقول : هذه الآية هذا تفسيرها ، هذا كلام الله ، وكلام الله لانهائي ..
 
 
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ .
( سورة الكهف )
       فحينما تفسِّر ، أو حينما تُدْلِي برأي في آيةٍ أو حديثٍ الأوْلى أن تقول : من لأن من للتبعيض ، من تفسيرات هذه الآية أن الله عزَّ وجل يقول :
 
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ .
       كلمة السماوات والأرض تعني الكون ، والكون يعني ما سوى الله ، كان الله ولم يكن معه شيء ، الكون من خلق الله ، فالكون ما سوى الله ، لله هذه اللام لام الملكيَّة ، ولكن إذا ملك الإنسان قد يملك ولا يحكم ، وقد يحكم ولا يملك ، قد يملك ولا ينتفع ، هو مالكٌ بيتاً ، ولكنَّه مؤجّر منذ ثلاثين سنة ، وقد ينتفع ولا يملك ، وقد يملك وينتفع ، والمصير ليس له ، عملت المحافظة تنظيم فهدم البيت ، قد يملك ولا يحكم ، قد يملك ، ولا ينتفع ، وقد ينتفع ولا يملك ، وقد ينتفع ويملك ، وليس له المصير ، لكن إذا قال الله عزَّ وجل : لِلَّهِ ، أي أن هذا الكون مِلْكُهُ مُلْكَاً وتصرُّفاً ومصيراً ، والملكيَّة تامَّة والتصرُّف تام والمصير لله عزَّ وجل ، ماذا يعني هذا الكلام ؟ يعني كما قال العلماء :
 
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ .
       نحن في الدنيا إذا شعر الإنسان بآلامٍ في أمعائه ، فإذا سكت فالطبيب لا يعلم ، أما إذا أبدى هذه الآلام للطبيب فالطبيب قد يعالجها ، وقد لا يعالجها ،  قد يستطيع وقد لا يستطيع ، وقد يبدي وقد لا يُبدي ، لكن أحياناً بالعناية المشدَّدة يكون القلب موصولا بجهاز التخطيط الإلكتروني ، وتجد أن التخطيط مستمر ، والنبض مستمر ، والضغط مستمر ، فالمريض إن تكلَّم أو لم يتكلَّم فالطبيب يعرف مستوى تخطيطه ونبضه وضغطه ، فسواءٌ كلام المريض أو سكوته هو بالعناية المشدَّدة ، أما بالعناية غير المشدَّدة فإذا تكلم نعالجه ، وقد نستطيع ، وربما لا نستطيع ، وإذا سكت فلا أحد يعرف ما به ، فربنا عزَّ وجل يقول :
 
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ . 
 
      أي أن السماوات والأرض ومن فيها ، وما فيها ، ومن عليها ، ومن تحتها ، ومن وسطها ، ومن فوقها ..
 
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ .
       إذا وُجِد خلل ، أو مرض ، أو انحراف ، أو شهوة ، أو إصرار، أو كِبر ، أو شِرك ، أو استعلاء ، إذا كان هناك خلل ، وإذا كان هناك ضَغَن ، ودَرَن ، و قصور ، إن أعلنت أو سكت ، إن أبديت أو أخفيت ، إن أسررت أو أعلنت ، إن تكلَّمت أو سكت .. ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ ..
تشبيه بسيط جداً ، كهذا المريض في العناية المشدَّدة ، الطبيب عينه على التخطيط ، وعينه على الضغط وعلى النبض ، فالمريض لم يعد لكلامه قيمة إطلاقاً ، إن قال : أنا مرتاح والنبض مئة وثمانون ، فكيف أنت مرتاح ؟ إذا قال : أنا ضغطي نازل ، وضغطه ثلاثة وعشرون ، فكلامه لم يعد له معنى .
 
 العلاج الإلهي :
 
       فأنت كمؤمن أنت في العناية المشدَّدة ، إن أردت تتكلَّم أو تظل ساكتاً ، تبدي أو تخفي ، تعلن أو تكتم كله سواء .. ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه ﴾ .. فالبطولة هناك طريقان للشفاء ، كيف أن في الطب أيضاً طريقين : طريق المعالجة السريريَّة ، وطريق العمل الجراحي ، إذا انتبه أحد لنفسه في الوقت المناسب ، وكان عنده رغبة صادقة في الشفاء قد يعالج علاجاً لطيفاً من دون إزعاج ، من دون فتح بطن ، من دون تخدير عام ، من دون أن يسيل الدم ، من دون أن يشعر بآلام ، فإذا أصرَّ على خطئه ، أصرَّ على ضلاله ، على انحرافه ، يأتي العلاج الجراحي ، فإذا خالف الإنسان ، وعصى ، وقصَّر ، أو فعل شيئاً لا يرضي الله عزَّ وجل ، إما أن يستغفر ، ويتوب ، ويصلح ، ويقبل حتى يَطْهُر ، وإما أن ينتظر العلاج الإلهي ، وربنا عزَّ وجل علاجه دقيق ، وعلاجه صعب أحياناً ، ومصيبته مصيبة ، إذا أصاب الله الإنسان بشيء ، فالله سمَّاها مصيبة ، لأنها تصيب الهدف تماماً .
       فهذه الآية سبحان الله تلخيص لسورة البقرة :
 
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ .
       إذا ندم الإنسان ، وتاب توبة نصوحا ، وتراجع ، وأصلح ، وأقبل ، وأقلع وعزم .. ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ .. صار العلاج سريريًا ، حبتان يأخذهما المريض ، حمية بسيطة ، وانتهى الأمر ؛ أما إذا أصرَّ الإنسان على خطئه صار العمل الجراحي ضرورياً ، ساعتها الله عزَّ وجل يُضَيِّق عليه ، يتوب عليه ليتوب ، معنى يتوب عليه ليتوب أي يحمله على التوبة ، يعني يسوق له من الشدائد ما يحمله بهذه الشدائد على التوبة ، فإذا تابَ تاب عليه ، توبة الله قبل توبة العبد لها معنى ، وبعد توبة العبد لها معنى ، قبل توبة العبد أن يحمله الله على التوبة ، وبعد توبة العبد يكون قبول التوبة ، هذه الآية كلَّما قرأناها نتذكَّر المعنى ..
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ﴾ .
       ما في السماوات والأرض مُلْكٌ لله ، مُلْكَاً تاماً وتصرُّفاً ومصيراً..
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا ﴾ .. أيها البشر .. ﴿ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ .. أنت في العناية المشدَّدة نفسك مكشوفة عند الله ، أحوالك ، أقوالك  ، مشاعرك ، صراعاتك ، طموحاتك ، تمنيَّاتك ، نواياك كلَّه مكشوف ، أنت مكشوف عند الله عزَّ وجل .. ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ .. لأنك في العناية المشدَّدة .. ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ .. أنت مخيَّر بأن تحب العلاج الأسهل ، العلاج السريري ، تناول الحبوب ، تناول الأدوية ، حِمْيَة بسيطة ، كله ممكن ، أما إن كنت لا تريد فأمامك عمل جراحي ، وفيه مهانة وذل ، الله عزَّ وجل عنده عذاب مهين ، وعنده عذاب عظيم ، وعنده عذاب أليم ، وأحياناً يجمع عذابين بآنٍ واحد ، عنده قلق ، الإنسان أحياناً يقلق ، يخوِّفه ، فتجد قلبه فارغاً ، أحيانا يَلُفّ في قلبه الانقباض ، تجد أنه متضايق ؛ يشعر بانقباض ، وخوف ، وقلق، وحزن ، واختلال توازن ، و شعور بالفقر دائماً وبالحرمان ، وآلام بالجسد ، وفي أمراض وبيلة ، وفي مضايقات خارجيَّة ، وفي مواقف مهينة ، فإذا لم يقبل الإنسان بالإقلاع ، والندم ، والإقبال ، والاستغفار ، والاتصال بالله ، فهناك علاجات لكنَّها مُرَّة ، فالبطل الذي يأتي طوعاً في الوقت المناسب .
       وهناك آية ثانية :
 
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾ .
( سورة آل عمران : من آية " 18 " )
       فربنا عزَّ وجل جعل من لوازم أهل العلم أنهم يشهدون للخلق أن الله قائمٌ بالقسط أي عادل ، فأية قصَّةٍ ، أو أي تفسيرٍ ، أو أي توجيهٍ ، أو أي حديثٍ ، أو أية دعوةٍ ، أو أية نظريَّةٍ ، أو أية فكرةٍ ، أو أية مبدأٍ يوحي بأن الله ليس بعادل فهذا باطلٌ في باطل ، وهذا المتكلِّم جاهل بشهادة ربنا عزَّ وجل ..
 
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾ .
( سورة آل عمران : من آية " 18 " )
 
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه¯وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ﴾ .
( سورة الزلزلة )
 
﴿ وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ﴾ .
( سورة النساء )
       الفتيل : خيط في نواة التمر ..
 
 
﴿ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ .
( سورة النساء )
 
 
﴿ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ .
( سورة غافر )
 
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ .
( سورة العنكبوت )
       كلُّها آيات قطعيَّة الدلالة ، فلذلك أية قصَّة تسمعها خلاف هذه الآيات ارفضها ، وإن لم ترفضها قل كما أقول لك ، قل : هذه القصَّة أسمعتني منها فصلاً ، وهذا الفصل لا يكفي كي نحكم على أصحابها ، إن لم نسمع فصولها كلَّها لسنا مُؤَهَّلين أن نحكم على أصحابها ، وهذا رد لطيف ، أما توجد قصص مفادها ، وظاهرها أن الله ظالم ، مفادها في الظاهر أن الله عزَّ وجل يعذب المستقيم ؛ بينما المنحرف قوي ، وفي نعمة ، هكذا ، هذا كلام مؤدَّاه أنه لا توجد حكمة إلهيَّة ، فلذلك الله عزَّ وجل قال :
 
 
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾ .
( سورة آل عمران : من آية " 18 " )
      
       والذي ورد في الأثر أنه: " من أحيا ليلتي العيد أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب " .
       فمن إحياء ليلة القدر صلاة التَهَجُّد ، وقد صليناها بحمد الله عزَّ وجل ، ومن إحياء ليلة العيد صلاة التسابيح .
 
شرح كيفية صلاة التسابيح :
 
      صلاة التسابيح عبارة عن ثلاثمائة تسبيحة يجب أن نقولها في أربع ركعات ، التسبيحات هي سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وهذه الجمل الأربع تعد مرة أو تسبيحة واحدة ، نبدأ بعد تكبيرة الإحرام بدعاء الاستفتاح ، سبحانك اللهمَّ وبحمدك ، ونعد خمس عشرة مرَّة سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ويمكن للشخص بأصابعه أن يعد خمس عشرة مرَّة ، وبعدها يقرأ الإمام الفاتحة ، وما تيسَّر من القرآن ، ونرجع نعد كذلك عشراً ، بالركوع عشراً فصار العدد خمساً وثلاثين ، وعند كل حركة عشر ، أي في كل ركعة خمس وسبعون مرَّة .
       الله عزَّ وجل قال :
 
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾ .
( سورة الكهف : من آية " 46 " )
 
 تفسير الباقيات الصالحات
 
       في بعض التفاسير الباقيات الصالحات : سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، أما المال فقد يكون معك ألف مليون ، ولكن ( سبحان الله ) أفضل من هذا المال كله ، لأنها صالح يبقى .
في تفسير الآية إذا قلت : سبحان الله ، أي سبَّحت الله ، أي نزَّهته ، ومجَّدته ، هذه سبحان الله ، والحمد لله حمدته ، ولا إله إلا الله وحدَّته ، والله أكبر كبَّرته ، إذا سبَّحته وحَمِدَّته ووحدته ، وكبرته فقد عرفته ، وإذا عرفته هذه المعرفة أفادتك إلى أبد الآبدين ، أما المال والبنون فتنتهي بموت الإنسان .
الآية جميلة المعنى جداً ، ﴿ المَالُ وَالبَنُونَ ﴾ ، لكن موضوع القراءة الشكليَّة الجافة الجوفاء ليس لها معنى ، الإسلام لم يكن هكذا ، فإذا قلت : سبحان الله يجب أن تسبِّح نفسك بعظمة الله عزَّ وجل ، لا إله إلا الله ألا ترى مع الله إلهاً آخر ، الله أكبر مهما عرفت عن عظمته فهو أكبر ، فإذا عاين الإنسان ، وحاول ، وتأمَّل في معاني هذه التسبيحات ، والتهليلات ، والتكبيرات فعليه أن يعانيها ، ويعيش معانيها ومدلولها لكي تحقق التسابيح معناها ، والهدف الذي نرجوه من ورائها .
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب