سورة البقرة 002 - الدرس (85): تفسير الآيات (256 - 258) الدين أساسه الاختيار

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (85): تفسير الآيات (256 - 258) الدين أساسه الاختيار

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 17 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 08 - فقدنا الأمل في الدعاء - د. عمر عبدالحفيظ           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - التضامن مع الأسرى           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 389 - سورة المائدة 006 - 006           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 272 - مقبرة باب الرحمة           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 07 - بشرى لمن قصف بيته - الشيخ محمد نور         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآية: (256 - 258) -الدين أساسه الاختيار

20/03/2011 19:05:00

سورة البقرة (002)
الدرس (85)
تفسير الآيات: (256-258)
الدين أساسه الاختيار
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
الحق هو الشيء الثابت والهادف أما الباطل فهو الشيء الزائل :
 
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس والثمانين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السادسة والخمسين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
 
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
أولاً: كلمة (دين) دان بمعنى خَضَعَ، والإنسان بحسب جِبِلَّته وفطرته، وبحسب ما أودعه الله فيه من عقلٍ لا يخضعُ إلا للكمال، ولا يخضعُ إلا للمَنطق، ولا يخضع إلا للحق، والحق هو الشيء الثابت والهادف، الشيء المتبدِّل ليس حقاً بل هو الباطل، أما الشيء الثابت هو الحق، ونقيضُ الحق الباطلُ، ونقيضُ الحق اللعبُ..
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[ سورة الدخان: 38-39 ]
الحقُ نقيض اللعب، والحق نقيض الباطل، الباطل هو الشيء الزائل، أمّا الحق فهو الشيء الثابت، واللعب هو العَبث، والحق هو الشيء الهادف.
فقد نبني جناحاً في معرض من القماش من ورق مقوَّى، لأنه سيبقى أسبوعين، أما حينما نبني وزارةً عتيدةً، أساسيةً في الحياة، نبنيها من الحَجَر، فهذه الوزارة بُنيت لتبقى، أما هذا الجناح في المعرض فقد أنشئَ ليزول، فالحق الشيء هو الثابت، لا يتأثر لا بمكان، ولا بزمان، ولا بتطورات، ولا يخضع لتقلُّبات، ولا يقبل الحذف ولا الإضافة، لأن الله هو الحق، وحقَّ الشيءُ أيْ استقر، فأنت مع الحق، أنت مع الشيء الثابت الذي لا يتأثر، وهذا الدين العظيم دين حق، كم من العلوم والفنون جاءت فهل استطاعت أن تقوِّض دعائمه؟ إطلاقاً، مهما تقدَّم العلم، مهما وصل إلى أعلى مستوياته فلا يستطيع أن يهز حقيقةً من حقائق الدين، ولن تجد في كتاب الله كلَّه آيةً أصبحت مثار جدل، وكلما تقدم العلمُ أكَّدَ حقائقَ القرآن.
 
سمي الدين ديناً لأن النفوس ذوات الفطر السليمة والعقول النيِّرة تخضع له :
 
كلمة (حق) شيء ثابت لا يتغير، لا بمكان، ولا بزمان، ولا بنزعات، ولا بأهواء، لا يضاف عليه، ولا يحذَف منه، لا يُستحيا به، لا يخشى البحث، لا يحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، هذا هو الحق:
﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾
[ سورة الدخان: 39 ]
أما الباطل فهو شيء زائل، حائط بُنِيَ بلا شاقول، فلا بد أنْ يقع، أما حائط بُنِيَ على أصولٍ علمية فسيبقى، لذلك كم من المذاهب الوضعية انهارت، كم من المذاهب الوضعية أصبحت في الوَحْل، كم من المذاهب الوضعية رفضها الناس واحتقروها لأنها باطل، فإذا قلت كلمة (حق) أي الشيء الثابت والهادف، ليس باطلاً يزول، وليس لعباً هو العبث:
﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾
[ سورة الدخان: 39 ]
فالإنسان بعقله الذي أودعه الله فيه، وبفطرته التي فطره الله عليها لا يخضع إلا للحق، أي لا يدين إلا للحق، فَسُمِّيَ الدين ديناً لأنه يُدان له، قل: الإله شمس، لا، فإذا أفلت مَن يرعاني عند أفولها، قل: الإله نار، لا، هذا غير منطقي، قل هذا الصنم إله، هو جماد، هو حجر..
﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ*وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾
[ سورة الصافات: 95-96 ]
قل: الإله هو بقرة كما يزعمون في الهند، البقرة مخلوقة، انسب الآن صفة عظيمة لإنسان، هذا الإنسان يموت، وكل مخلوقٍ يموت، فأي ألوهيةٍ لغير الله فإنّ النفس لا تخضع لها، ولا تقبلها، وتعافها وتَمُجُّهُا النفوس، فسمي الدين ديناً لأن النفوس ذوات الفطر السليمة والعقول النيِّرة تخضع له.
 
تعريف الدِّين :
 
حينما أسلم سيدنا خالد، وقد أسلم متأخراً، وعاش في الإسلام سبع سنوات فقط، خاض خلالها زهاء مئة معركة، مئة معركة خاضها في سبع سنوات، حينما أسلم قال له النبي عليه الصلاة والسلام: " عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً ".
فلماذا يكون الإكراه في الدين؛ الدين واضح، الدين جليٌّ، كل شيءٍ في الكون يدل على الله، وكل شيءٍ في الكون يدل على أن هذا الدين حق، لذلك كلما حاولت أن تحارب هذا الدينَ ازداد قوةً، وكلما حاولت أنْ تقمعه ازداد ثبوتاً، كهذا الذي يريد أن يطفئ النار بالزيت، فكلما صبَّ على النار الزيت ازدادت تألُّقاً ولمعاناً، هذا هو الدين، أيْ الشيء الذي تخضع له، أما المذهب الوضعيّ فأنتَ لا تخضع له، لأنه يعتمد على التمييز.
جاء الألمان بنظرية العِرْق المتفوِّق، حيث اعتبروا أنّ ما سوى الألمان شعوب من سقط المتاع، وهذه نظرية غير معقولة، وما من نظريةٍ جاءت إلا وسقطت في الوحل لأنها ليست حقاً، والناس لم يدينوا لها، وكم من نظرياتٍ لا تعد ولا تحصى كلها سوف تنتهي إلى الزوال لأنها باطلة، أما حينما تقول: لهذا الكون إلهٌ عظيم، ولهذا الإله منهجٌ قويم، وهذا المنهج مبنيٌ على مصالح الخلق، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وأنه لا فضل لعربيٍ على أعجميٍ إلا بالتقوى، وأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، هذا منطق وعدل ورحمة، وهذا شيء مقنع.
ماذا قال بعض العلماء؟ الشريعة رحمةٌ كلها، عدلٌ كلها، مصلحةٌ كلها، حكمةٌ كلها، فأيَّةُ قضيةٍ خرجت من العدل إلى الجَور، ومن المَصلحة إلى المَفسدة، ومن الحكمة إلى خلافها، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل.
الدين الذي تخضع له، هو ما يخضع له عقلك، وتخضع له فطرتك، الدين هو المنهج الذي ترتاح نفسك له، ويطمئن قلبك له، تشعر أنك وجدت نفسك، تشعر أنك تعرَّفت إلى ذاتك، تشعر بأنك اصطلحت مع الكون كله ومع خالق الكون، هذا هو الدين.
 
الإكراه في الدين يتنافى مع سعادة الإنسان :
 
أولاً: إنّ الإنسان قَبِلَ حمل الأمانة، وقد أعطى اللهُ الإنسانَ مقوِّماتِ الأمانة، ومن أهم هذه المقومات حريّة الاختيار، فما دام الإنسان حراً في اختياره فلا يمكن أن يكون ثمّةَ إكراهٌ في الدين، لا يمكن أن يكون إكراهٌ في الدين، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، مستحيل أن يُجبر الله عباده على الدين، لو أجبرهم لما سعدوا به، لأن الله عزَّ وجل بنى هذا الدين على المَحْبوبيَّة، الله عزَّ وجل لا يريدك أن تؤمن قسراً، ولا إكراهاً، ولا إرغاماً، يريدك أن تؤمن طَوْعاً، حُباً، شَوقاً، بمبادرةٍ منك، بإقبالٍ منك على الله، لذلك الإكراه في الدين يتنافى مع سعادة الإنسان، خلقك ليسعدك، وإنَّك لن تَسعد إذا كنت ديِّناً مكرهاً، لن تسعد بدينٍ قسري، إنك لا تسعد إلا بعملٍ طوعي.
لو أمسك شخصٌ حاجة ثمينة بيده، وجاء إنسان معه مسدس، وقال له: أعطني هذه الحاجة وإلا قتلتك، فأعطاه إياها، هذا الذي أعطى هذه الحاجة هل يشعر أنه قدَّم هديةً؟ على أنه عمِلَ صالحاً؟! إنّه مقهور يمتلئ غيظاً، أما لو جئت إلى إنسان وقدَّمت له هديةً، فكلما التقيت به تألق وجهك، لأنك فعلتَ معه معروفاً، فحينما تجبَر على العمل سقطت قيمة العمل، وحينما تفعل هذا العمل اختياراً، وطواعيةً، عظمت قيمة العمل، فالاختيار يثمِّن للعمل، فالإكراه في الدين يُنهي الدين، الإكراه في الدين يلغي ثمار الدين، الإكراه في الدين يلغي السعادة النابعة من الدين. لذلك شاءت حكمة الله أن يكون هذا الدين في بداياته ضعيفاً، فماذا يفعل النبي؟ ليس عنده دنيا يُغري بها، وليس عنده قوة يُخيف بها، ومع ذلك يؤمن به أصحاب النبي إيماناً طوعياً عن رغبةٍ وحُبٍّ، هذا الإيمان صحيح ورائع، لأنه جاء بمبادرة شخصية، وجاء باختيارٍ طيب..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
هذه (لا) نافية للجنس، إذا سألَك شخص: هل عندك رغيف خبزٍ؟ إذا قلت: ليس عندي رغيف خبز، لو أردت أن تناقشه، قد يكون عنده رغيفان، لكنه ماذا نفى؟ ليس عندي رغيف خبز، نفى الرغيف الواحد، أما إذا قال لك: لا رغيف عندي، فهذه نافية للجنس، لا تنفي الرغيف الواحد، بل تنفي جنس الخبز، تنفي القمح، وتنفي مشتقات القمح، ونفي الجِنْس مِن أبلغ النفي.
 
الدين هو الرشد وخلاف الدين هو الغي :
 
مثلاً، عندنا (لا) التي تعمل عمل (ليس)، فتقول: لا طالبٌ في الصفِ، هذه "لا" تعمل عمل ليس، فتقول: بل طالبان، ماذا نفيت بها؟ نفيتَ المفرد، أما إذا قلت: لا طالب في الصف بل طالبةٌ، فقد نفيتَ جنس الذكور، وكلمة لا طالبٌ في الصف نفيت بها المنفرد، أما لا طالبَ في الصف فنفيتَ جنس الذكور، ولا تنس أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فأبلغ أنواع النفي نفي الجنس..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
أي كل أنواع الإكراه، هناك إكراه حاد، إن لم تؤمن بهذا تُقتَل، هذا إكراه حاد، وهناك إكراه أقلّ منه، أي إنْ لم تؤمن فليس لك ولا ميِّزة، مثلاً، هناك أنواع منوَّعة من الإكراهات، كل أنواع الإكراهات القاسية، والحادة، والمخففة، والمباشرة، وغير المباشرة، والصريحة، وغير الصريحة، والمعلنة، والمبطنة غير موجودة في دين الله.
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
والله جل جلاله يريدك أن تأتي إليه طائعاً، يريدك أن تأتيه مُحِبّاً، يريدك أن تأتيه مختاراً، يريد أن تأتيه مشتاقاً، فلو أجبرك على الطاعة لبطل الثواب ولو أجبرك على المعصية لبطل العقاب..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
ولكن ما هو الدين؟ قال تعالى:
﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾
إنّ الدين هو الرشد، وخلاف الدين هو الغي، وهذه حقيقة أيها الأخوة، هناك طريق الحق وطريق الباطل، ولا ثالث بينهما:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
[ سورة القصص: 50 ]
 
حياة المسلم منضبطة وفق منظومة قيَم وسلسلة مبادئ :
 
إن لم تكن على الحق ـ لا سمح الله ولا قدَّر ـ فأنت على الباطل قطعاً، وإن لم تستجب لله فأنت مستجيبٌ لغير الله ـ قطعاً ـ وعندنا شيء في الدين اسمه الاثنيْنيَّة، أي هناك حق وباطل، خير وشر، صدق وكذب، إخلاص وخيانة، إنصاف وظلم، إقبال وإدبار، تألُّق وانكماش، فإن لم تكن على أحد الخطين فأنت على الثاني..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
الدين هو الرُشْد، الدين كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
 [ سورة الإسراء: 9 ]
في صحتك، في زواجك، في حرفتك، في علاقاتك، في جدَّك، في لهوك، في إقامتك، في سفرك، حياة المسلم رائعة، منضبطة وفق منظومة قيَم، وفق سلسلة مبادئ..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾
قدِّم لمئة ألف إنسان نموذجَ المسلم يرمقونه بأبصارهم، قدِّم لهم نموذج المنحرف يزورّون عنه، الناس يكرهون الكذاب، يكرهون المنافق، يكرهون الدجال، يكرهون المؤذي، يكرهون المغتاب، يكرهون النمَّام، يكرهون المتغطرس المتعالي، يحبون المتواضع، الرحيم، المنصف، الصادق، الأمين، العفيف.
 
في كل حقل هناك رشد وهناك غَيّ :
 
قال تعالى:
﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾
الدين هو الرشد، هناك معنى آخر: إذا قُدِّم لإنسان ـ فرضاً ـ وهو جائع طعامٌ طيبٌ ونفيسٌ، وقُدِّم له صحنٌ آخر فيه لحمٌ متفسخ، تفوح رائحته النتنة، فهل هناك حاجة أن تكره هذا الإنسان على أكل الطعام الطيب؟ يتّجِه إليه بفطرته، ضع صحن طعامٍ طيب وطعام خبيث، وقل له: أنا لن أكرهك على أن تأكل الطعام الطيب، طبعاً سيأكله، وسيشكرك عليه، وسيذوب محبةً لك.
هناك معنى آخر، فضلاً عن أن الله لا يقبل مؤمناً مقهوراً، ولا مؤمناً مكرهاً، ولا صلاةً فيها ضغطٌ وإكراهٌ، بالمقابل دين الله بتألُّقه، ومنطقيته، وكماله، وكيف أنه قدَّم تفسيراً رائعاً للكون، وكيف أن فيه قيَماً، واللِه من أحد ألد أعداء المسلمين في بلد غربي بعيد قال في احتفال: إن القيم التي نؤمن بها هي نفس القيم التي جاء بها الإسلام، هكذا قال. الإسلام عظيم.
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾
(الغي) الانحراف، الغي الطغيان، الغي الظلم، الرشد أن تنسجم مع فطرتك، وأن تنسجم مع الحق، وأن تنسجم مع علَّة وجودك وغاية وجودك، هذا هو الرشد.
طالب في المدرسة، ما هو الرشد؟ أن يدرس، وما هو الغي؟ ألاّ يدرس، أن يذهب إلى دور اللهو هذا هو الغي، وأن يقبع وراء كتابه هذا هو الرشد، والتاجر ما هو الرشد له؟ أن يربح، الغي أن يكذب على الناس، وأن يظلمهم، في كل حقل هناك رشد وهناك غَيّ..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾
طاغٍ، والمؤمن يكفر بهؤلاء الذين يطغون، فالطاغي قوي، لكنّ المؤمن كفَر بالطاغوت وآمن بالله.
 
لن تقطف ثمار الدين إلا إذا آمنت بالله وكفرت بالطاغوت :
 
قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾
أي يكفر بالكفر، يكفر بالذي يستخدم قوته لإمتاع شهواته، بالذي يقهر الناس..
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾
أي إنك حينما تؤمن بالله تكفر بالطاغوت، المشكلة أيها الأخوة هي التداخل، فهو مؤمن ولكنّه مع أهل الدنيا، ومع الأقوياء، ومع الأغنياء، في فسقهم وفجورهم، لا تسخو نفسه أن يدعهم، لن تقطف ثمار الدين إلا إذا آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، لا بدّ أن تكفر بالكفر حتى تُفْتَح لك أبواب السماء..
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾
أنتَ بعيدٌ عن اللهِ ما دمت تعقد الأمل على طواغيت الأرض؛ الفسَّاق والفجار، والذين جاؤوا بالمذاهب الوضعية، والذين أرادوا الدنيا وغفلوا عن الآخرة، الذين أرادوا الشهوة وغفلوا عن القيَم، الذين أرادوا المال وغفلوا عن الأخلاق، هؤلاء كلهم طواغيت، قد يكون الإنسان محاطاً بطواغيت، يقول لك: لي جار مادي، لي عم لا يحلل ولا يحرِّم، كل إنسان طغى وبغى ونسي المبتدى والمنتهى فهو طاغوت، فما دمت متعلِّقاً بأهل الكفر، علماً أنهم قد يكونون أقوياء، وقد يكونون أغنياء، تعقد الأمل عليهم، ترجو عطاءهم، ترجو ودَّهم، تحذر من غضبهم، تحسب لهم ألف حساب، ما دمت مؤمناً بهم، متعلقاً بهم، تعلِّق عليهم الآمال، ترجو الخير منهم، فالطريق إلى الله غير سالك..
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ﴾
 
على الإنسان أن يؤمن بالله إلهاً في السماء وإلهاً في الأرض :
 
حتى في تاريخنا القديم والحديث تجدنا متعلقين بالأقوياء، ونظن أن اتصالنا بهم رحمة لنا، وأن تقليدهم رُقي، وأن إرضاءهم ذكاء، وأن التعلق بوعودهم أمل، هؤلاء لا يعطوننا شيئاً، إلا أنهم يستغلوننا، وتجربتنا مع العالم الغربي منذ خمسين سنة ماضية، فماذا أخذنا منهم؟ لم نأخذ شيئاً، أخذوا منا كل شيء، ولم يعطونا شيئاً أبداً..
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾
كل جهة طغت، وبغت، واستكبرت، واستغلَّت، وقهرت، وأرادت الدنيا، وكفرت بالآخرة، أرادت العِلمانية وكفرت بالدين، كل قوةٍ جبارة عاتيةٍ طاغيةٍ ينبغي أن تَنْفِضَ يديك منها، أما إذا كنت متعلقاً بها، راغباً بما عندها، ترجو رضاها، تخشى غضبها، تعلق الآمال على رضاها، فالطريق إلى الله ليس سالكاً..
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾
يجب أن تؤمن به خلاَّقاً، وأن تؤمن به فعَّالاً، وأن تؤمن به متصرِّفاً، وأن تؤمن به إلهاً في السماء وإلهاً في الأرض، وأن تؤمن أن الأمر كله بيده، وأنه إذا شاء شيئاً فعل، ووقع:
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾
 [ سورة الرعد: 11 ]
من تمسَّك بالقرآن والسُّنة وعضّ عليهما النواجذ فهو متمسك بعروةٍ وثقى :
 
كل شيءٍ بيده، بيده مقاليد السماوات والأرض، هذا هو الإيمان، فيجب أن تكفر بالطاغوت، وأن تؤمن بالله، كم مسلم في العالم يرتكب المعاصي والآثام تقرباً إلى أهل الدنيا، تقرباً إلى أهل الباطل، تقرباً إلى الطواغيت..
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾
 (العروة) هذه التي تمسكها، تتعلَّق بها، ترجو أن تبقى متَّصلة، فأنت حينما تتمسك بالشريعة، وتتصل بالله عزَّ وجل، ليس في الكون كله جهةً تستطيع أن تقطعك عن الله:
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
[ سورة فاطر: 2 ]
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾
أي إذا تمسَّكت بالقرآن والسُّنة وعضضت عليهما النواجذ فأنت متمسك بعروةٍ وثقى.
سمعت أن لبعض الشاحنات عروة في نهايتها من أجل أن تجرَّ مقطورة، قال: هذه العروة لها اختصاص نادر، وهي مصنَّعة من أدقّ أنواع الفولاذ المطرَّق، لأن المقطورة تزن عشرين طناً، ولو أن هذه العروة تفلَّتت لوقع حادث مخيف، فهذه العروة التي توضع في نهاية الشاحنات لها صناعة متميِّزة، ومن أمتن أنواع الفولاذ المُطَرَّق، أي معالج بالطرق لا بالصب ولا بالسحب، فهذه عروة وثقى.
 
الطاغوت هي كل جهة تنكر وجود الله عزَّ وجل وتؤثر الدنيا :
 
ربنا عزَّ وجل قال: أنت إذا كفرت بالطاغوت، أيُّ طاغوت؟ كل جهة تنكر وجود الله عزَّ وجل وتؤثر الدنيا، تطغى وتبغي..
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾
إن آمنت بالله آمنت بكتابه، إن آمنت بالله صدقته، إن آمنت بالله صدقت نبيَّك، إن آمنت بالله تقرأ الحديث الشريف وكأنه من عند الله عزَّ وجل، قال الله لك:
﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾
[ سورة الذاريات: 58].
لا تيأس، لا تذل، لا تستخذِ، لا تتضعضع أمام غني:
(( من دخل على غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))
[ رواه البيهقي عن ابن مسعود]
لا تمدح فاسقاً، لا تجيَّر لإنسان أنت مجيَّر للواحد الديَّان.
﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾
كأن هذا الدين حبل نجاة، أحياناً يلقى لإنسان حبل لكنه متين، يمسك به فينجو، أحياناً إنسان في حالة صعبة تأتيه طائرة هليكوبتر فتمدّ له حبلاً، يمسك به نجا، ترفعه شيئاً فشيئاً فينجو.
 
﴿ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾
مهما كنت في خطر، مهما كنت في خطرٍ شديد، إذا تمسَّكت بالأمر الإلهي في القرآن، والأمر النبوي في السنة، كأنك تمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها، نجوت.
﴿ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
يسمع قولك، وعليمٌ بحالك.
 
أشد الناس شقاءً من خرج من ولاية الله :
 
أيها الأخوة الكرام، ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
لا بدَّ من أمثلة؛ تصور أباً متفرغاً لابنه، عالمٌ، غنيٌ، قويٌ، مربٍّ، مثقف ثقافة تربوية عالية، إيمانه قوي، قوي مادياً، عالِم، له ابن متفرِّغ له، يسأله عن صحته، عن طعامه، عن شرابه، عن هندامه، عن وظائفه، عن بيته، عن مدرسته، عن أصدقائه، يجلس معه، ينبِّهه، يذكره، يقوم اعوجاجه، يسأله، يصحح خطأه، أبٌ متفرِّغٌ لابنه..
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
انظر إلى هذا المثل، الله عزَّ وجل وليُّ الذين آمنوا، يرعاهم، يؤدبّهم، يبشِّرهم، يخيفهم، يصحح مسارهم، قد يشعرهم بالخوف ليأتوا بابه طائعين، قد يشعرهم بالأمن ليشكرهم على طاعتهم له، ولي، وليٌ كامل، لذلك أشد الناس شقاءً من خرج من ولاية الله..
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾
(الظلمات) جاءت جمعاً، لأن الباطل يتعدد، بينما (النور) جاء مفرداً، لأن الحق لا يتعدد، ما قال: من الظلمات إلى الأنوار، وما قال: من الظلام إلى النور، بل قال:
 
﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾
وهي جمع..
﴿ إِلَى النُّورِ ﴾
 
الفرق بين الظلمات والنور :
 
قال تعالى:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾
[ سورة الأنعام: 153 ]
كان في ظلام المعصية فصار في نور الطاعة، كان في ظلام البُعد فصار في نور القُرب، كان في وحول الشهوات فصار في جنات القربات، كان مخطئاً فأصاب، كان ضائعاً فوجد نفسه، كان منحرفاً فاستقام، كان ضالاً فهداه الله عزَّ وجل، كان قاسياً فصار ليِّناً، كان غضوباً فصار حليماً، كان جاهلاً فصار عليماً، كان حقوداً فصار متسامحاً، كان منحازاً فصار منصفاً..
﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾
كان في  الظلمات، في الأفكار غير الصحيحة، والقيم غير الصحيحة، فصار في النور، في نور الحق، ونور الكمال..
﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾
واللهِ ذات مرَّة استمعت إلى آية قرآنية ـ صدقوا أيها الأخوة ـ أنها دخلت إلى أعماق أعماقي:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾
[ سورة محمد: 11]
 
ليست المصيبة أن تصاب بمصيبة بل المصيبة أن تكون منحرفاً ولا تصاب بمصيبة:
 
تصور ابناً في الطرقات يتيم الأب والأم، ملقى؛ يوم في المخفر، ويوم في الأحداث، ويوم في المستشفى، ينام على الطرقات، يسرق، ينحرف أخلاقياً، ليس له ولي، ولا مَن يحاسبه، ولا مَن يسأله أين كنت؟ ليس هناك مَن يرعاه، ولا من يقدّم له طعاماً، ولا يوجَد مَن يغسل ثيابه، أو يضمُّه إلى صدره، وازن بين ابنٍ بين أبوين عالمين، مؤمنين،  رحيمين، وبين طفل بلا أب ولا أم (لقيط) في الطرقات، ينام في مدخل بناية، يوم في مخفر، ويوم في المستشفى، ويوم بالسجن، ويوم يفعل به الفاحشة، ويوم يفعل الفاحشة، قذر، ووسخ، هذا هو، والله لا أبالغ الفرق بين الطفل المربَّى تربية عالية، وله أم وأب، وبيت وعناية، ومتابعة ودقَّة، وبين طفل مشرَّد، أخلاقه سيئة، كلامه بذيء، جائع، قذر، وسخ، يسرق، يفعل الفاحشة، تُفعل به الفاحشة، هذا الفرق بين مؤمنٍ وكافر..
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾
[ سورة محمد: 11]
أخواننا الكرام؛ إذا أدَّبَ اللُه عزَّ وجل المؤمنَ، وتابعه، ضيَّق عليه، وأخافه، ساق له مرضاً، ساق له شدَّة، يجب أن يشكر الله عزَّ وجل شكراً لا حدود له، لماذا؟ لأنه ضِمْن العناية المشددة، أنا أقول: هذا جبر خاطر: إذا استفقدك الله بمعالجة، ولفت نظرك، وخوَّفك، وساق لك مصيبة، فهذا لأنه يحبك، ولأنك خاضعٌ للتربية، ولأنك ضمن العناية المشددة.
أما إذا تفلَّت الإنسان كالدابة، لا يحاسبه الله، تجده يأكل ما يشتهي، ويلتقي مع مَن يشتهي، ينهب الأموال، يقترف الموبقات، يزني، يشرب الخمر، وجسمه مثل البغل، هذا ما مشكلته؟ هذا خارج العناية المشددة، هذا خارج التربية، هذه هي المصيبة، ليست المصيبة أن تصاب بمصيبة، لا والله، المصيبة أن تكون منحرفاً، وألا تصاب بمصيبة، فأشدُّ الناس مَقْتاً عند الله عزَّ وجل هم الذين ينحرفون ولا يصابون بمصيبة، هذا سمَّاه بعض العلماء (العفريت النفريت) منحرف، أخلاقه سيئة، لكنه صحته طيِّبة، دائماً متمكِّن، أما الإنسان المؤمن فيُعالج، ويؤدَّب.. " أوحى ربك إلى الدنيا أن تشددي، وتمرري، وتكدري، وتضيقي على أوليائي حتى يحبوا لقائي".
 
الشيطان دائماً ينقلنا من الحق إلى الباطل :
 
قال تعالى:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ﴾
كانوا في بيئة محافظة فتفلَّتوا، كان صادقاً فكذب، كان مستقيماً فانحرف، كان لا يقبل دخلاً غير مشروع فقَبِل، كان يحفظ زوجته فأطلق سراحها وجعلها تتفلَّت، الشيطان دائماً ينقلك من الحق إلى الباطل، من الخوف من الله إلى عدم الخوف منه، من الانضباط إلى التفلت، وأخيراً يصبح المرءُ دابةً متفلِّتة.
      
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
احرص حرصاً لا حدود له أن يكون اللهُ وليَّك، احرص أن تنتفع بالدين، أن تنتقل من تقصير إلى تفوُّق، من انحراف إلى استقامة، من ضعف إلى قوة، من لين إلى شدة أحياناً..
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾
أحياناً يؤتى الإنسان المُلك فيكفر، يرى نفسه قوياً:
﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾
 [ سورة الزخرف: 51 ]
﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾
[ سورة القصص: 78 ]
 
المحاورة بين متأولين لا تنتهي إلى يوم القيامة :
 
قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾
هذا الذي آتاه الله المُلك بدل أن يشكر، وأن يتواضع لله عزَّ وجل، ويسخر ملكه في خدمة الخلق، نسي الله عزَّ وجل، وطغى وبغى ونسي المبتدى والمنتهى..
﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾
قال له: مَن ربك يا إبراهيم؟ قال له:
﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾
ظنَّ هذا الملك النمرود أنه يحكم على إنسان بالإعدام فيميته، يعفو عن إنسان حُكم عليه بالإعدام فيحييه، هكذا ظن، الآن متابعة هذا النقاش تحدِث إشكالاً، قضية مركَّبة، هو توهَّم الإحياء أن يعفو عن مقتول، والإماتة أن يحكم على حي بالقتل، هذه طريقة للمناقشة، فهذا النبي الكريم ترك هذا الموضوع، لو تابعه لصار هناك إشكالية، صار يحتاج إلى حُجَج مركَّبة، معقدة، فتركه..
﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾
كأن القرآن يعلِّمنا أن تكون حجَّتك قوية، ناصعة لا ردَّ عليها، الأولى تركها، صار هناك إشكال، صار هناك توهُّم، صار هناك تأويل، أوَّل الإحياء بالعفو، وأوَّل الموت بالقتل، إبراهيم عليه السلام يقصد شيئاً آخر، اللهُ يخلق الحياة، ويميت، أي يخلق الموت مِن دون قتل..
﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾
توهَّم النمرود أنه هو يحي ويميت، توهم الإحياء والموت تأولاً، لذلك المحاورة بين متأولين لا تنتهي إلى يوم القيامة، كل واحد يتصوَّر شيئاً، وهذا درس بليغ في الحوار، إذا وُجِدَ تأويل فدَعْك من الحوار.
 
الدين أساسه الاختيار :
 
قال له:
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾
أيها الأخوة؛ أدق آيتين في هذا الدرس هي:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾
و..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
لأن الدين أساسه الاختيار، أساسه المحبوبية، ثم إن الدين ناصعٌ جليٌّ كالشمس المشرقة، فلا يحتاج إلى إكراه، أنت جائع والطعام طيب نفيس، فلا داعي أنْ ترفع السلاح وتقول: كُل، هو سيأكل، هذا المعنى الثاني لأن الدين هو الحق، ولأن الدين هو الصدق، ولأن الدين هو الرحمة، والعدل، والمصلحة، والفوز..
﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾
أو لا يمكن أن تسعد بدينٍ فيه إكراه.
نتابع هذه الآيات في درسٍ قادمٍ إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب