سورة العنكبوت 029 - الدرس (14): تفسير الأيات (47 – 52)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة العنكبوت 029 - الدرس (14): تفسير الأيات (47 – 52)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة العنكبوت

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة العنكبوت - (الآيات: 47 - 52)

23/02/2012 17:36:00

سورة العنكبوت (029)
 
الدرس (14)
 
تفسير الآيات: (47 ـ 52)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الرابع عشر من سورة العنكبوت ، وصلنا في الدرس الماضي بتوفيق الله إلى قوله تعالى :
 
﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾
[ سورة العنكبوت ]
 
 وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
 
يعني كما أنزلنا على موسى التوراة ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى داود الزبور ، كما هو شأن الله عز وجل في إرسال الرسل ، وإنزال الكتب كذلك أنزلنا إليك الكتاب ، أي هذا القرآن ، وإذا سماه الله قرآناً فلأنه يُقرأ ، وإذا سماه كتاباً فلأنه مكتوب .
 
] وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ [ .
هؤلاء أهل الكتاب لهم أنبياء ، لهم كتب يعرفون بها ما الوحي ، وما الكتاب ، وما النبي ، وما المعجزة ، هذا شيء يعرفونه ، وشيء يألفونه .
 
فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ
 
ومن هؤلاء العرب ، ومن هؤلاء من يؤمن به ، هؤلاء الذين ليسوا أهل كتاب ، بل  هم مشركو مكة ، ومِن هؤلاء من يؤمن به .
إذاً : كذلك يعني كما أنزلنا على موسى التوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، ] وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ[ ، أيْ هذه سنة الله في خَلقه أن لا يدع عباده بلا أمر ، ولا نهي ، ولا تعريف  ولا توجيه ، ولا إرشاد ، ولا تبين ، ولا إخبار ، ولا إنذار ، ولا إعذار ، ولا وعد ، ولا وعيد ، هذا شأن الله ، شأن رحمته ، شأن حكمته ، شأن حرصه على هداية الناس ، شأن أنه خلقهم ليرحمهم  ، خلقهم ليسعدهم .
من لوازم رحمة الله عز وجل ، من أسماء الله الحسنى أنه هو الهادي ، وبشكل مبسط وتمثيل بسيط : إذا رأى الأب ابنه في طريق غلط فلا يمكن لأب أن يسكت ، لابد من أن يوجه ، لابد من أن يُحذّر ، لابد من أن يُعلّم ، من أن يبين ، فالمسؤولون يشقون طريقاً ، وبعد شق الطريق يضعون اللافتات رحمةً بمن يمر على الطريق ، هنا منعطف خطر ، وهنا منزلق خطر ، وهنا طريق ضيقة ، وهنا تقاطع خطر ، وهنا قطار سيعبر الطريق ، ما هذه اللافتات ، ما هذه الشاخصات إلا رحمة بهؤلاء المارة ، بأصحاب المركبات ، لئلا يصابوا بالأذى والهلاك .
شأن الخالق العظيم أنه لا يَدَع خلقه معطلِّين عن الأمر والنهي ، لا يدَع خلقه بلا توجيه ، بلا تعريف ، بلا تبيين ، بلا أمر لصالحهم ، بلا نهي عما يؤذيهم ، بلا وَعد يبشرهم ، بلا وعيد يخوفهم بلا بيان لحقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، وحقيقة الإنسان بلا إشارة إلى الماضي السحيق ، بلا تعريف بما ينتظر الإنسان في المستقبل البعيد ، هذا كله من شأن الله عز وجل .
] وَكَذَلِكَ[ ، يعني كما أنزلنا على موسى التوراة ، وعلى عيسى الإنجيل ، وكذلك أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن ، لأن هذا من شأن الله ، هكذا تقتضي رحمة الله .
عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىأَنَّهُ قَالَ :
(( .... يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ ، يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ ، يَا عِبَادِي ، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ ، يَا
 
 عِبَادِي ، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ،
 
 وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي
 
 شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا
 
 هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
[ مسلم ـ الترمذي ـ ابن ماجة ـ أحمد ـ الدارمي ]
 
 
] وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [ .
ينبغي أن يؤمنوا به ، لأنهم أصحاب كتاب يعرفون ما النبي ؟ وما الوحي ؟ وما الكتاب ؟ وما الشرع ؟ ومن بعض هؤلاء العرب المشركين مِن أهل مكة مَن يؤمن به ، مَن حَكَّم عقله ، وأدرك أن هذا النبي إنما هو نبي من عند الله ، وأن هذا القرآن كلام الله ، فيؤمن به .
 
وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ
 
هذا الذي يرفض الإيمان ، هذا الذي يجحد آيات الله في الكون ، وآيات الله في القرآن ، إنما هو كافر بنعمة الله ، ما عرفها ، وما قدرها حق قدرها ، الآية الأساسية في هذا الدرس قوله تعالى :
 
حكمةُ اللهِ في أميّةِ النبي عليه الصلاة والسلام : 
 
] وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [ .
النبي عليه الصلاة والسلام أميٌ ، هكذا وصفه الله عز وجل ، وقد لا يرتاح المسلم بسذاجة إلى أن النبي أميٌ ، إن عظمة النبي تكمن في أنه أمي ، لماذا ؟
لو أن الله سبحانه وتعالى جدلاً أو فرضاً جعله يقرأ ويكتب ، لو أن هذا النبي الكريم تعلّم القراءة والكتابة ، وقرأ ثقافة عصره ، واستوعب ما في هذا العصر من ثقافة ، والثقافة تعني خبرات البشر المتراكمة ، ثقافة أية أمة ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ ، ويكتب ، وقد استوعب ثقافة عصره كما هو الوصف لبعض العباقرة ، أو لبعض المبدعين ، أو لبعض الأدباء ، أو لبعض العلماء ، يقولون : إنّ فلاناً قد استوعب ثقافة عصره ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام استوعب ثقافة عصره ، وكان يقرأ ، ويكتب ، ولو اطلع على ما في الكتب ، وما في الحضارات ، ثم جاءه الوحي ، إن أيّ إنسان سيسأله كل يوم ، وفي كل وقت ، مع كل كلمة يتلوها على قومه ، يا رسول الله ، أهذه من عندك أم من الوحي ؟ يختلط الوحي بالثقافة ، ولو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ ، ويكتب ، وقد استوعب ثقافة العصر لجعل الناس الوحي دراسةً ، لجعل الناس الوحي ثقافةً ، لجعل الناس الوحي اطّلاعاً ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ ، ويكتب لتوصلنا بهذا إلى إنكار نبوة النبي ، وإلى إنكار الوحي ، ولكن حكمة الله جل وعلا شاءت أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أمياً .
ولا يذهبن بكم الظن أن كلمة أُمّي تعني أنه لا يعلم ، لا ، قد يأتينا طبيب من أرقى فروع الاختصاص ، ولكنه يجهل لغتنا جهلاً مطبقاً ، فهو في لغتنا أُمّي ، وهو يمثل أعلى درجات العلم ، وكلمة أمي تعني أنه لا يقرأ لغة .
أنا أحياناً حينما أُمسك ورقة تخطيط قلب لا أفهم منها شيئاً ، فأنا أُمّي في هذا ، أما إذا قرأها طبيب فيقول : القلب سليم ، أو فيه اضطراب ، أو فيه اضطراب في النظم ، أو ما شاكل ذلك .
لذلك معنى أمي :
يا أيها الأمي حســـبك رتبـةً    في العلم أن دانت لك العلماءُ
***
 
  كلما ارتفعت قيمة المعلِّم ارتفعت قيمة التلميذ :
 
الآن إنسان يحمل ليسانس أو ماجستير في الشريعة ، يأخذ بعض الأحاديث الشريفة فيدرسها ، ويحللها ، ويدرس صيغها ومضامينها وأبعادها ، يؤلف كتيباً صغيراً ، يمنح على هذا الكُتَيب لقب دكتور ، لأنه فهم بعض أحاديث النبي ، فلذلك إذا قلنا : إن النبي أمي يجب أن نقول : ولكن يوحى إليه ، من الذي يوحي إليه ؟ إذا قلنا : إن فلاناً تلميذ فلان ، كلما ارتفع المدرس ارتفع معه التلميذ ، أنا أستاذي فلان ، هؤلاء الأطباء قد يقولون : أنا فلان الفلاني البروفيسور الفلاني ، الذي أجرى عشرة آلاف عملية قلب مفتوح هو أستاذي ، كلما رفعتَ من قيمة الذي علّمك ترتفع معه ، من الذي علم النبي عليه الصلاة والسلام ؟ إنه الله سبحانه وتعالى ، وكفى بنبينا شرفاً وفخراً أن الله أوحى إليه .
لذلك مرةً جرت مناقشة بين أناس لا يقدّرون أُمّية النبي وأناس يعرفونه قدره حق القدر ، فقالوا : أنتم نبيكم أمي ، فكان الجواب : ولكنه يوحى إليه ، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يقطع على كل الناس ، وعلى كل المشككين ، وعلى كل الكافرين ، وعلى كل الملحدين ، أن يقطع عليهم طريق إنكار نبوة النبي ، فجعله أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، لماذا ؟ ليكون الوحي ظاهرةً جلية .
 
 ظاهرة الوحي :
 
أيها الإخوة الأكارم ، موضوع أمّية النبي ينقلنا إلى ظاهرة الوحي ، ظاهرة الوحي هي الأساس في الدين ، كل هذا القرآن جاءنا عن طريق الوحي ، هذا الكلام كلام الله ، بما فيه من أوامر ونواهٍ وأخبار ، وتحليل وتحريم ، وما فيه من وعد ووعيد ، ما فيه من توجيه ، كل ما في هذا الكتاب جاءنا عن طريق الوحي ، إذاً : موضوع الوحي موضوع خطير جداً في الإسلام ، لأنه على فهمه الدقيق ، وعلى اليقين به يترتب كل فهمك لكلام الله ولسنة نبيه .
أيها الإخوة الأكارم ، في الوحي شيءٌ يجب أن يُعلم عِلماً يقينياً ، هو أن ظاهرة الوحي تتمثل في شيء و، في حقيقةٍ خارجة عن إرادة النبي لا يملك جلبها ولا ردّها ، لو أنه يملك جلبها لاختلط الشيء ، لو أنه يملك ردها لاختلط الأمر ، حقيقة الوحي أن الوحيَ مستقل تمام الاستقلال عن كيان النبي ، لا يملك جلبها متى شاء ، ولا ردها متى شاء ، لذلك عَنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ :
(( كَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ ، قَالَ : وَالتَّحَنُّثُ
 
 التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا ، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
 
 وَسَلَّمَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ ، قُلْتُ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ ... )) .
[ متفق عليه ]
ليكون هذا الوحي واضحاً وضوح الشمس أنه ليس حلماً ، وليس رؤيةً نفسيةً ، ولا خيالاً ، ولا وهماً ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ )) ، فهو ليس بنائم ، وعاد إلى البيت وهو خائف وقال :
 
(( زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي )) .
هذا الوحي ليس حالةً نفسيةً ، ليست شفافيةً نفسيةً ، ليس رؤيةً نفسيةً يملك استحضارها متى شاء ، وردها متى شاء ، لا ، الوحي شيء خارج تماماً عن إرادة النبي ، لا يملك جلبها ، ولا ردها .
هذا معنى دقيق جداً ، لأن موضوع الوحي ، وموضوع أمّية النبي موضوعان متكاملان ، النبي عليه الصلاة والسلام لأنه أمي إذاً فهو مقطوع عن ثقافة عصره كلياً ، فكل ما جاء به ما هو إلا وحي يوحى .
 
بعض الدلائل على ظاهرة الوحي :
 
عندنا بعض الدلائل التي تبرز ظاهرة الوحي ، لا على أنها كما يدّعي بعض المستشرقين رؤية نفسية ، ولا على أنها شفافية ، ولا على أنها شيء أَلِفه النبي عليه الصلاة والسلام ، أو أحد فروع عبقريته ، لا ، ظاهرة الوحي ظاهرة مستقلة استقلالاً تاماً وخارجةً عن كيان النبي عليه الصلاة والسلام .
الدليل الأول :
أول دليل على ذلك : أن هناك فَرقاً كبيراً جداً بين أسلوب القرآن و أسلوب النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف ، أليس كذلك ؟ لمجرد أن تقرأ آيةً تقول : هذا قرآن ، ولمجرد أن تقرأ حديثاً شريفاً تقول : هذا حديث ، هناك بون شاسع ، وفرق كبير ، وتمايز واضح بين أسلوب القرآن وأسلوب النبي عليه الصلاة والسلام هذا أولاً .
لو أن الوحي شيء من عند النبي كما يدعي الكفار ، أو كما يدعي أعداء الإسلام ، الوحي كان ينقطع ، ويتألم النبي أشد الألم ، وينتظر الوحي انتظاراً ممضاً ، ولا يأتي الوحي ، ماذا يعني ذلك ؟ لو أن الوحي شيء من عند النبي لجاء به كما شاء .
الدليل الثاني :
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : قَالَتْ عَائِشَةُ :
(( تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْءٍ ، إِنِّي لَأَسْمَعُ كَلَامَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ ، وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ ، وَهِيَ تَشْتَكِي زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهِيَ تَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَكَلَ شَبَابِي ، وَنَثَرْتُ
 
 لَهُ بَطْنِي ، حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّي ، وَانْقَطَعَ وَلَدِي ظَاهَرَ مِنِّي ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ، فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرَائِيلُ بِهَؤُلَاءِ الْآيَاتِ : ] قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [)) .
[ ابن ماجه ]
ماذا قال ؟ قال : ما أظن إلا أنك قد بِنت منه ـ أي هذا طلاق لقد طلقكِ طلاقاً فيه بينونة كبرى ـ فجاء الوحي بحكم آخر .
كان عليه الصلاة والسلام يُسأل فلا يجيب ، وينتظر الوحي ، حينما اتّهم المُرجفون في المدينة ، اتهموا أمهم أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها ما اتهموها به ، والأمر معروف عندكم ، أصاب النبي غم شديد ، هذه الزوجة الطاهرة بنت أحب الناس إليه تُتّهم تتهم في عفتها ، ماذا فعل النبي ؟ تأخر الوحي شهراً بأكمله ، فالوحي حقيقة مستقلة عن مشيئة النبي لا يملك جلبها ولا دفعها ، وحينما جاء جبريل النبي عليه الصلاة والسلام وارتعد منه خوفاً ، وقال : (( زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي )) ، وحينما ضمه ضمةً ، وحينما انقطع الوحي فقال الله عز وجل :
 
﴿ وَالضُّحَى ¯وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ¯مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى¯وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ¯وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾
[ سورة الضحى ]
هذا كله يؤكد أن الوحي شيء لا علاقة للنبي به ، إنما هو خارجي عنه يأتيه بمشيئة الله وينقطع عنه بمشيئة الله .
الدليل الثالث :
شيء آخر ، لو أن هذا الوحي من عند النبي لما ذكر النبي العتاب هناك عتاب في أماكن متعددة من كتاب الله،قال تعالى :
 
﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ¯أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ¯وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ¯أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾
[ سورة عبس ]
 
﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾
[ سورة التوبة ]
إذاً : جاء الوحي بتوجيه مخالف لاجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي هذا ما يؤكد على أن الوحي ظاهرة مستقلة عن النبي عليه الصلاة والسلام .
الدليل الرابع :
كلكم يعلم أن السيدة امرأة عمران ، هذه المرأة المؤمنة التي قال النبي نقلاً عما قالته :
 
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
[ سورة آل عمران ]
والقصة معروفة ، وكانت موضوع الخطبة اليوم  ، قال تعالى :
 
﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾
[ سورة آل عمران ]
هذه الحادثة ما تعرفها أنت ، وأنت أميٌ ، وما أخبرك أحد بها ، أما : ]وَمَا كُنْتَ لَدَِيْهِمْ [ لها تفسير رائع جداً :
 النبي عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ، لا يقرأ كتاباً ، ولم يكن معهم حينما وقعت لهم هذه الحادثة التي وقعت قبل مئات السنين ، أليس هذا دليلاً على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ لذلك هذه الآية التي قالها الله عز وجل :
 
] وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [ .  
أنت لا تقرأ ، ولا تكتب ، ولكن قد يسأل سائل : كيف قال الله عز وجل :
 
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ¯خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾
[ سورة العلق ]
 
إشكالات مدفوعة ، وأوهامٌ مرفوعة :
 
الإشكال الأول :
كيف يأمر أن يقرأ ، وهو لا يقرأ ؟ الجواب سهل جداً :
القراءة أيها الإخوة إما من كتابٍ ، وإما من محفوظٍ ، النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقرأ من كتاب ، أما قوله تعالى :
 
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ¯إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾
[ سورة الأعلى ]
لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، أنت حينما تقف بين يدي الله عز وجل ألا تقرأ فاتحة الكتاب أمياً كنت أم متعلماً ، فالقراءة من المحفوظ هذه القراءة لا علاقة لها بهذه الآية ، ولكن المقصود في قراءة هذه الآية أن تقرأ من كتاب .
 
] وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [ .
الإشكال الثاني :
أمّا ورد في السنة المطهرة من أحاديث يُشم منها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف القراءة والكتابة فأكثرها ضعيف بل موضوع ، وإذا قيل : إن النبي كتب فهذا بمعنى أمر بالكتابة ، ألا تقول مثلاً : إن فلان بنى هذا البناء ، يعني أمر ببنائه ، فلان رجل كبير ما عرف موقع البناء ، إذا قلت : فلان أقام هذا البناء ، أي سمح بإنشائه ، أو أمر بإنشائه أو موَّله ، فإذا ورد في السنة الصحيحة أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب بمعنى أنه أمر بالكتابة ، ألا نقول : الملك الفلاني كتب إلى الملك الفلاني ، فهل هو كتب ؟ هو أعطى توجيهاً ، وهناك من كتب له .
إذاً : أي حديث ورد في السنة يفهم منه أن النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب فهذه الأحاديث أكثرها ضعيف ، وبعضها موضوع ، أما ما كان منها صحيحاً فهو بمعنى أنه أمر بالكتابة ، وعلى كلٍ الذي لا يقرأ ولا يكتب لا يغيب عنه أن هذا كلام يكتب ، وأن هذا حرف طويل ، وأن هذا حرف مطموس ، هذه الأشياء لا تنافي أمية النبي عليه الصلاة والسلام ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب قال تعالى :
 
]إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [ .
هؤلاء المشككون ، هؤلاء المنكرون لنبوة النبي يتخذون من تعلمه القراءة والكتابة مطعناً في نبوته ، أساساً ماذا يقول أعداء النبي وأعداء المسلمين ؟
إن الراهب بحيرا علمه كل شيء في هذه الزيارة العابرة ، فكيف إذا كان يقرأ ويكتب ؟
 
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
 
قال تعالى :
 
]بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [ .
هذه الآية دقيقة جداً أيها الإخوة ، ومما يدل على أنك عالم ، ومما يدل على أنك أوتيت العلم أن ترى أن هذا الكلام كلام الله ، وما دور النبي عليه الصلاة والسلام إلا دور المبلغ الأمين ، هذا كلام الله ، بل أبلغ من ذلك كما قال سيدنا سعد : << إذا كنت ممن أوتيت العلم ترى أن حديث النبي عليه الصلاة والسلام حق من الله تعالى >> ، تنفيذاً أو فهماً دقيقاً ، لقوله تعالى :
 
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ¯إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
[ سورة النجم ]
إذاً : كلما ارتقى مستوى علمك ، كلما ارتقى مستوى إيمانك ترى إعجاز هذا القرآن ، ترى أن هذا القرآن كلام الله عز وجل ، قال تعالى :
]بَلْ هُوَ آيَاتٌ [ .
هذا القرآن ليس من عند النبي ، ولا من عبقريته ، هناك من يضفي على النبي صفات العبقرية والإبداع ، هو كذلك ، ولكن يتوصلون من ذلك إلى إنكار نبوته ، يقولون : هو عبقري ، مصل        كبير ، عنده نفس شفافة ، تراءى له ما يصلح أمته من بعده ، هذا كلام فيه لغم ، هذا كلام فيه مطبّ كبير ، النبي عليه الصلاة والسلام رسول الله جاءه الوحي من عند الله فنقله بأمانة بالغة كما جاءه .
قال تعالى :
 
]بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [ .
القرآن الكريم آياته واضحة بينة في صدور الذي أوتوا العلم ، إذاً : من هو الذي يعلم ؟ في آية أخرى قال تعالى :
 
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
[ سورة آل عمران ]
 
 كيف يُعرف الرجل أنه من أولي العلم ؟!
 
 يا أيها الأخ الكريم ، إذا رأيت يد الله هي المسيطرة ، وهي الفعالة ، ولا يد سواها ، إذا رأيت أنه لا إله إلا الله ، لا معبود بحق ، لا رافع ولا خافض ، ولا معز ولا مذل ، ولا معطي ولا مانع ، ولا رازق ولا باسط ولا خافض ، إذا رأيت ذلك فأنت من أولي العلم ، لقول الله عز وجل :
 
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
 
[ سورة آل عمران ]
 
ويجب أن ترى مع وحدانيته في التصرف يجب أن ترى عدالته حتى تكون من أولي العلم ، إذا رأيت وحدانيته في ألوهيته ، ورأيت وحدانيته في ربوبيته ، ورأيت وحدانيته في الخلق ، ورأيت وحدانيته في الأمر ، ورأيت عدالته ، ورأيت أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى فأنت من أولي العلم هذا شاهد .
الشاهد الآخر ، إذا رأيت هذا الكلام كلام الله ، وأنه كلام معجز في نظمه ، معجز في تشريعاته ، في بلاغته ، في أخباره ، في وعده   في وعيده ، في حقائقه العلمية ، في أساليبه التربوية ، إذا رأيت هذه الرؤية فأنت أيضاً من أولي العلم ، قال تعالى :
 
]بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ [ .
هناك قوله تعالى :
 
]وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ [ .
الكافر هو الذي أعرض عن الله عز وجل ، والكافر هو ظالم لنفسه حرمها كل خير ، قال تعالى :
 
 طلبُ الكفار من الرسول الآيات الحسية :
 
]وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ [ .
يبدو أن الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يطلبون منه المعجزات .
النبي صالح فتق الجبل فظهرت منه ناقة ، هؤلاء الذين كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام تساءلوا لمَ لمْ يأتِ النبي بآية من هذه الآيات ؟
الحقيقة هذه آيات حسية ، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بمعجزة عقلية ، والآيات الحسية تتناسب مع طفولة البشرية ، بينما الآيات العقلية تتناسب مع تطورها ، ومع تقدمها ، الآيات الحسية لا يراها إلا من عاصرها ، وبعدئذٍ تصبح خبراً يُصدَّق أو يُكذَب ، أما الآيات العقلية فهي معجزة النبي الخالدة ، وأنت بعد ألف عام وزيادة تقرأ الكتاب ، فترى إعجازه ، وإذا رأيت إعجازه آمنت برسالة النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى :
 
]وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ [ .
لو أن النبي جاء بآية
 
جواب النبي لقومه : قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ
 
حسية ظاهرة كما جاء موسى وعيسى والنبيون من قبله فماذا أجابهم النبي بأمر الله ؟ قال تعالى :
 
]قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [ .
الله هو الذي اختار هذه الآية ، ولم يختر آية حسية ، هو الحكيم ، هو القدير ، أنا لا شأن لي بذلك ، أنا لا أملك جلباً ولا دفعاً ، ولا نفعاً ولا ضراً ، قال تعالى :
 
]قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)[ .
أنا في الحقيقة لا أزيد على أنني كُلفت من قِبل الله عز وجل أن أنذركم عذاب يوم عظيم ، وأُبيّن لكم موجبات هذا الإنذار ، أنا أنذركم ، وأُبين لكم ، هذا حجم النبي عليه الصلاة والسلام ، ليس في إمكان النبي أن يأتي بآية ، ليس بإمكان النبي أن يبدل آية مكان آية ، ليس بإمكان النبي أن يقترح على الله شيئاً ، قال تعالى :
]وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ .
قال تعالى :
 
]وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ [ .
 هو الذي يملكها ، وهو الذي اختار لكم هذه الآية :
]وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ .[ .
 
كفى بالقرآن آيةً ومعجزة :
 
قال تعالى :
 
]أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [ .
ألا يكفيهم هذا القرآن معجزة ؟ هذا القرآن في حلاله وحرامه ، في أمره ونهيه ، في وعده ووعيده ، في أخباره وفي قصصه ، في أمثاله وفي حِكمه ، في ذكره عن الأقوام السابقة ، في ذكر المغيبات عن الإنسان ، هذا القرآن بهذه الصياغة وبهذا النظم وبهذا الإعجاز وبهذه الفصاحة وبهذه البلاغة .
 
]أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ .
 
 القرآن رحمة وذكرى وشفاء :
 
هذا الكتاب رحمة كبيرة ، ولذلك القرآن الكريم ذكر شفاءَين : العسل فيه شفاء للناس لأجسامهم ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فذا أردت أن يشفى جسمك فتناول العسل ، وإذا أردت أن تشفى نفسك فاقرأ القرآن ، ولم يرد لفظ الشفاء في القرآن إلا في موضعين ، في موضع شفاء الأجسام ، وموضع شفاء النفوس ، قال تعالى :
 
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً﴾
[ سورة الإسراء ]
 
]أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[ .
المؤمن يكون القرآن له ذكرى ، فإذا طبقه يكون له رحمة ، أما الآية التالية فدقيقة جداً في فهمها ، قال تعالى :
 
 
 قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً
 
]قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [ .
الله جل في علاه يشهد لي أن هذا الكلام كلامه ، بربكم كيف يشهد الله بذلك ؟ الله في عُلاه يشهد لي ، وتكفيني شهادته أن هذا الكلام كلامه ، وليس من عندي .
محور الآيات اليوم كله إثبات أن هذا القرآن كلام الله ، ليس من عند النبي ، إن هو إلا وحي يوحى ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، كيف ؟ بعض الأمثلة :
الله سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
[ سورة النحل ]
 
 كيف يشهد الله لنبيه أنَّ القرآن كلام الله ؟
 
هذه آية وردت في القرآن ، شيء جميل ، إذا جاء مؤمن ، وآمن بالله ، واستقام على أمره ، وعمل صالحاً لابد من أن يشعر أن شيئاً تغير في حياته ، شعر بسعادة ، شعر بطمأنينة ، شعر بقربه من الله عز وجل ، شعر أن معاملة الله له تغيرت ، صار موفّقاً ، صار مصيباً في كلامه ، صار مُسدّداً في أفعاله ، يشعر أن تطوراً جذرياً طرأ على حياته ، يشعر أن انقلاباً كاملاً طرأ على حياته ، كان في الجحيم فصار في النعيم ، كان في التشتت فصار جمع الشمل ، كان في التشتت فصار في الجمع ، كان في البعد فصار في القرب ، كان في الجفوة فصار في المودة ، كان في التعسير فصار في التوفيق ، هذه الحياة الطيبة وما فيها من توفيق ، وتسديد ، وحفظ ، ورعاية ، وإكرام وتجلٍّ وقرب ، أليست شهادةً من الله عز وجل على أن هذه الآية كلامه ، كيف يشهد لك الله عز وجل ؟ كيف يشهد الله عز وجل للنبي أن هذا الذي جاء به ليس كلامه ، بل هو كلام الله ؟
الطريق الأولى : الحياة الطيبة :
أنك إذا طبقت وعده قطفت الثمار ، وإذا تجاوزت حدوده دفعت الثمن .
الفكرة دقيقة جداً ، مثلاً : الحياة الطيبة من طمأنينة القلب،إلى سلامة الجسم ، إلى وفرة في الدخل ، إلى شيء من الراحة النفسية ، إلى شيء من توفيق الله عز وجل ، هذا لا يفعله إلا الله ، هذا قَدَر الله عز وجل ، فإذا آمنت بالله ، واستقمت على أمره ، وشعرت بما وعدك الله إذاً فهذه الحياة الطيبة هي من قدر الله لك ، قدرها لك تأكيداً لوعده في القرآن ، قال تعالى :
 
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
 
[ سورة النحل ]
وهكذا شهد الله للنبي أن هذا القرآن هو كلام الله ، وشهد لك أن هذا القرآن كلامه .
الطريق الثانية : أفعال الله :
إذا قرأ إنسان قوله تعالى :
 
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
[ سورة البقرة ]
 
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾
[ سورة البقرة ]
كان هذا شاهدا على أن هذا كلام الله ، إنسان مرابٍ ذكي جداً ، ويبدو أن المال بين يديه لا يعد ولا يحصى ، وأنه يزداد توفيقاً ، ومنعةً ، وغنىً ، ثم بضربة قاصمة أصبح صفر اليدين ، بين عشية أو ضحاها أصبح مشرداً ، أين أمواله الطائلة ؟ أين ممتلكاته ؟ أين عوائد أمواله في البنوك ؟ محقه الله ، أليس مَحْقُ هذا المرابي شهادة من الله لك أيها الإنسان أن هذه الآية كلامه ؟ هذه الشهادة .
مثل آخر : إنسان ما عبأ بهذا الدين قال : ما هذا الدين ؟ سلوك قديم لا يتناسب مع هذا العصر ، هذا عصر العلم ، هذا الدين أشياء غيبيات ، وعاش كما يشتهي ، ولم يستقم على أمر الله ، أخذ المال مما أراد بحق أم بغير حق ، وأطلق لشهواته العنان بحق أم بغير حق ، فإذا حياته قطعة من الجحيم يقول لك : ليس في الأرض من هو أشقى مني ، أليست هذه الحياة الشقية التعيسة التي فيها القهر ، والخوف ، والقلق ، والتشتت ، والتبعثر ، والتمزق ، واليأس ، أليست هذه الحياة الضنك شهادة الله له على أن قوله تعالى :
 
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾
[ سورة طه ]
هذه شهادة ، أنا أريد من هذه الأمثلة أن أصل إلى تفسير هذه الآية
 
]قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا[ .
أيها الكفار ، كما يقول النبي لكفار مكة ، يكفيني شهادةً أن الله يشهد لي بأنني رسوله ، وأن هذا الكلام كلامه كيف ؟ ذلك حينما يتحقق وعده ووعيده .
فرضاً : طالب دخل إلى الصف فرأى على السبورة الكلمة التالية :
كل من لم يكتب الوظيفة غداً فسيفصل عن المدرسة أسبوعا  .
يا ترى هذا الكلام كلام المدرس ، أم كلام طالب خطه جيد ؟ أم مزحة  كلام جاد ، ما هذا الكلام ؟ هو حمله على أنه كلام أحد الطلاب ، وفي اليوم التالي ما كتب الوظيفة ، فلما علم المدرس أنه ما كتبها عد ساعة صدر قرار عن مدير الثانوية بفصله أسبوعاً ، قرار الفصل ألا يشهد لهذا الطالب أن هذا الخط الذي على السبورة هو خط المدرس وكلامه ؟ والدليل قرار الفصل .
هذه الفكرة ، والحياة الطيبة التي تحياها شهادة الله لك على أن هذه الآية كلامه ، والحياة الضنك التي يعيشها المعرض شهادة الله لهذا المعرض على أن هذه الآية كلامه ، ومحق أموال المرابي شهادة من عند الله على أن هذه الآية كلامه ، وحينما تربو أموال الصدقات وتزيد ، ويمحق الله الربا ، ويربي الصدقات ، إذا تصدقت بمالك .
لا يوجد أخ من الإخوة الحاضرين يدفع شياً من ماله إلاّ ويقول : والله يا أخي الله عوضني أضعافا مضاعفة ، هذا التعويض من قبل الله عز وجل على صدقتك أليس شهادة من الله عز وجل على أن هذا الكلام كلامه ؟
إذاً هذه الآية مهمة جداً :
 
]قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [ .
حينما تطبق أمر الله ، وتقطف ثماره اليانعة ، وأنت في الحياة ، هذه الثمار اليانعة هي شهادة الله لك ، وأن هذا القرآن كلامه ، وحينما تحيد عن منهج الله ، وتدفع الثمن باهظاً ، هذا الثمن الباهظ شهادة الله للمنحرف أن هذا القرآن كلامه ، لذلك اقرأ القرآن ، فكلما رأيت أمراً أو نهياً فاحرص على تنفيذ الأمر ، وترك النهي ، وراقِب الذين أكلوا مالاً حراماً كيف أن الله سبحانه وتعالى يمحق مالهم ، وأن الذين اختاروا الطريقة المشروعة في كسب المال كيف أن الله يزيد من أموالهم ، راقب الآيات الكريمة ترَها مطبقة .
إنّ إنكار القرآن لا يُوقّف تطبيقه ، القرآن مطبّق ، كما تقول : للسقوط قانون ، إذا ألقيت حجراً من طائرةٍ هذا الحجر خاضع لقوانين السقوط ، إنك إن صدقت هذا القانون أو لم تصدقه فهو واقع ، تصديقك لا يلغي تطبيقه ، ولا علاقة له بتطبيقه ، صدق أو لا تصدق ، هو واقع ، وأوامر الله ، وعده واقع ، ووعيده واقع ، وهذه الحياة بين يديك ، إنه بإمكانك أن تعرف الله من خلال الكون ، عن طريق التفكر ، قال تعالى :
 
﴿ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ¯الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
[ سورة آل عمران ]
الطريق الثالثة : تدبر القرآن :
وبإمكانك أن تتعرف إلى الله عز وجل من خلال القرآن عن طريق التدبر ، الأمر ، النهي ، والوعد ، والوعيد ، البشارة ، الإنذار ، حقيقة الحياة ، حقيقة الإنسان ، حقيقة ما بعد الموت ، أين كنا قبل الموت ؟ ما التكليف ؟ ما الرسالة ؟ ما الأمانة ؟ كله تعرفه .
وبإمكانك أن تتعرف إلى الله من طريق ثالث ، عن طريق النظر في الحوادث ، الحوادث أفعاله ، والكون خلقه ، والقرآن كلامه وكل هذه الطرق سالكة إليه ، يمكن أن تعرفه من خلال خلقه ومن خلال أمره  ومن خلال أفعاله ، فلذلك قال تعالى :
 
]قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [ .
يجب أن توقن أنه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، يجب أن توقن يقيناً يشبه يقينك بوجودك ، يجب أن توقن يقيناً يشبه يقينك بأشعة الشمس ، وهي في كبد السماء أن هذا القرآن كلامه ، وأن أمره واقعٌ ، وأن وعده واقعٌ ، وأن وعيده واقعٌ ، يكفي أن تطبق شيئاً وفق ما أمر القرآن ، قال تعالى :
 
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
[ سورة الإسراء ]
في زواجك ، في تجارتك ، في صناعتك ، في بيعك ، في شرائك  في علاقاتك ، في أفراحك ، في كل مناسبة من حياتك ، فيما بينك وبين الله ، فيما بينك وبين أهلك ، فيما بينك وبين أولادك ، فيما بينك وبين الناس :
 
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
 
[ سورة الإسراء ]
 
 
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
[ سورة طه ]
قال تعالى :
 
]قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [ .
هو يشهد لي لأن الفعل مطابق لكلامه ، أفعاله مطابقةٌ لكلامه ، والآن عند الناس جميعاً بالفطرة حينما يصاب إنسان ، حينما يتلف ماله كله يشعر الناس جميعاً لعل في هذا المال حرمةً ، لعله اغتصب من حرام ، حينما يُقدم إنسان على إيقاع الأذى بالآخرين ينتظر الناس أن يوقع فيه الأذى ، هناك إله عادل ، هناك وعد ووعيد ، هذه الآية مهمة جداً هي محور الدرس كله :
 
]قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا [ .
الطريق الرابعة : التوفيق والتيسير والتعسير :
 
التوفيق ، قوله تعالى :
 
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ¯وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ¯فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾
[ سورة الليل ]
التيسير شهادة الله لك أنك أعطيت ، وأحسنت ، وصدقت فتيسر أمرك ، قال تعالى :    
 
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ¯وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ¯فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾
[ سورة الليل ]
والتعسير شهادة الله عز وجل على أن هذه الآية كلامه ، قال تعالى :
 
]قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [ .
 
 
  إنها قضيةُ وقتٍ فقط !!!
 
لا يوجد إنسان على وجه الأرض كائناً من كان إلا وهو يبتغي السلامة والسعادة ، فإذا علمت أنك إذا حدت عن منهج الله دفعت الثمن باهظاً في حياتك الدنيا ، وفي أخراك لا تفعل هذا .
الأزمة هي أزمة علم ، والأصح من ذلك وقت ، لأنه لو علم الكافر ما عند الله من ثواب لأطاعه ، ولو علم الكافر ما عند الله من عقاب لانتهى عما عنه نهى ، ما الفرق بين الكافر والمؤمن ؟ موضوع العلم ، فرعون وهو يغرق قال تعالى عنه :
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
[ سورة يونس ]
إذاً : القضية قضية وقت أيضاً وليست قضية علم ، لابد من أن تعلم ما جاء به الأنبياء من قبل ولكن عند الموت ، لكن عند الموت لات حين مناص ، لا ينفع الندم بعد فوات الأوان ، إذاً الدرس كله ملخص بكلمتين ، المشكلة مشكلة علم أو جهل ، الجاهل يفعل في نفسه ما لا يفعله عدوه به ، لو أحضرنا أعدى أعداء الإنسان ، وقلنا له : افتك بهذا الإنسان ، هو بين يديك ، لا يستطيع هذا العدو أن يفتك بهذا الإنسان كما يفتك هذا الإنسان بنفسه إذا كان جاهلاً .
 
الخروج عن منهج الله سبب مشكلات الأرض كلها :
 
والله الذي لا إله إلا هو ما من مشكلة في الأرض إلا بسبب خروج عن منهج الله ، مشكلات الأُسَر ، مشكلات الزواج ، مشكلات الطلاق ، البيع الشراء ، كسب المال ، إنفاق المال ، مشكلات الصحة  أبداً ، ما من مشكلة في الأرض إلا بسبب الخروج عن منهج الله ، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل ، فالمشكلة مشكلة جهل ، لهذا قال الله عز وجل :
 
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
 
[ سورة الزمر ]
 
بعد مشكلة الجهل مشكلة وقت ، فإما أن تعرف قبل فوات الأوان ، وإما أن تعرف بعد فوات الأوان ، بعد فوات الأوان لابد من أن تعرف ، قال تعالى :
 
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾
[ سورة ق ]
 
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾
[ سورة الفجر ]
 
 
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ¯يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً﴾
[ سورة الفرقان ]
إنها مشكلة وقت ، إذاً : فما الإنسان ؟ بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بعض منه ، مشكلتنا مشكلة علم أو جهل ، ومشكلة علم بالوقت المناسب ، وليست علمًا فقط ، وأنت شاب صحيح ، قوي ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
((اغتنم خمساً قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك )) .
[ الحاكم ]
لا تحب أحداً ، أحبب نفسك وحدها ، إذا أحببت وجودك ، وسلامة وجودك ، وكمال وجودك ، واستمرار وجودك فهذا منهجك .
هذه تعليمات الصانع ، أنت آلة معقدة ، إما أن تسحقها ، وإما أن تعطبها وتعطلها ، وإما أن تجعل مردودها ضعيفاً ، وهذه التعليمات ، لا تحب أحداً ، أحب نفسك ، إن أحببت نفسك فهذا منهج الله ، والدنيا ساعة اجعلها طاعة ، والقبر صندوق العمل ، والموت قريب .
نحن في هذا الجامع أنا والله أذكر أكثر من خمسين أخا توفوا ـ رحمهم الله ـ كل فترة يوجد أخ توفي ، رحل عنا ، أين هو ؟ دخلت إلى بيوت فخمة جداً ، أين أصحابها  ، أين هم ؟ تحت أطباق الثرى رهن أعمالهم ، قال تعالى :
 
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ¯إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ¯فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ¯عَنِ الْمُجْرِمِينَ ¯مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ¯قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ¯وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ¯وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ¯وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ¯حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ¯فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ¯فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ¯كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ﴾
[ سورة المدثر ]
خلقت لك السماوات والأرض ، ولم أعيَ بخلقهن ، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين ، لي عليك فريضة ولك علي رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، وكنت عندي مذموماً  ، أنت تريد ، وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب