سورة آل عمران 003 - الدرس (7): تفسير الآيات (015 - 018)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة آل عمران 003 - الدرس (7): تفسير الآيات (015 - 018)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة آل عمران

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة آل عمران - تفسيرالآية: (015- 018)

21/03/2011 01:20:00

 سورة آل عمران (003)
الدرس (7)
تفسير الآيات: (15 – 18)
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
     الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
     أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس السابع من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية الخامسة عشرة ، وهي بعد أن قال الله عزَّ وجل :
] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ[
       قال الله عزَّ وجل :
]قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [
 
 قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ
     
1 ـ لا تساوي الدنيا شيئا أمام الآخرة :
 
      لو أن الدنيا حازها الإنسان من كل أطرافها ؛ مالٌ وفير ، وامرأةٌ جميلة ، ومركبٌ رائع ، وبستانٌ جميل ، ومزرعةٌ فارهة ، لو أن الإنسان حاز الدنيا بحذافيرها ، ووضعها في كفة ، ثم وضع الآخرة في كفةٍ ثانية ، لا يمكن أن تقابل الدنيا مع الآخرة ، يقول عليه الصلاة والسلام : (( ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر )) .
[ ورد في الأثر ]
      اذهب إلى البحر المتوسط ، واركب قارباً ، وأخرج إبرةً ، واغمسها في ماء البحر ، ثم انظر بم ترجع ؟ هل نقص ماء البحر ؟ أثر الماء الذي علق على الإبرة كم يساوي بالنسبة إلى البحر ؟ هذا ما تساويه الدنيا بالنسبة للآخرة .
      لو تصورنا أن إنساناً حاز الدنيا بحذافيرها ، كل شيء على أكمل وجه ، ووازنا هذا بالآخرة لم تكن بشيء ، لذلك : " ما خيرٌ بعده النار بخير ، وما شرٌ بعده الجنة بشر " . و .. " كل نعيمٍ دون الجنة محقور ، وكل بلاءٍ دون النار عافية " .
]قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [
         والحديث الذي تعرفونه جميعاً ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ )) .
[ الترمذي وابن ماجه ]
       جناح بعوضة ، وليس من مخلوقٍ أهون على البشر من بعوضة ، تقف على يدك فتقتلها ، هل تشعر بالذنب أنك قاتل مثلاً ؟ أو ارتكبت ذنبا ؟ لا ، وأنت في أعلى تألُّقك تقتل البعوضة ، ولا تشعر بشيء ، فكيف بجناحها ؟!
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ )) .
[ الترمذي وابن ماجه ]
 
2 ـ الدنيا تنتهي بالموت :
      المعنى أنه لا يليق بكرم الله أن يعطيك عطاءً محدوداً ينتهي بالموت ، والدنيا مهما كانت عريضة فإنها تنتهي بالموت ، لو أنك ملكت البلاد والعباد لمات الإنسان ، لو كنت أغنى إنسان تموت ، لو كنت أصح إنسان فالموت ينهي صحتك ، والموت ينهي كل شيء ، ينهي غنى الغنى ، وفقر الفقير، وقوة القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، فما دام هذا العطاء ينتهي بالموت فلا يليق بالله عزَّ وجل ، وليس عطاء ، من هنا أعطى الله عزَّ وجل الدنيا لمن لا يحب ؛ أعطاها لأعدائه ، ألم يعطِ قارون المال الوفير ؟   
]وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [
( سورة القصص : من الآية 76 )
     ألم يعطِ فرعون المُلك ، وهو لا يحبه ؟ إذاً : إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ..
] قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ[
 
3 ـ العاقل مَن عمل للآخرة :
   
خير من الدنيا ، مَن هم العقلاء ؟ الذين عملوا للآخرة ، مَن هم ضعاف العقول ؟ الذين اكتفوا بالدنيا ..
]أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ [
( سورة التوبة : من الآية 38 )
    أتعجبكم سنوات معدودة كلها مشكلات ؟ لا يوجد إنسان لم تصبه مشكلة ، أحياناً مرض ، أحياناً زوجة متعبة ، أحياناً ابن عاق ، أحياناً بنت لم يخطبها أحد ، وهذه مشكلة كبيرة ، أحياناً دخل قليل ، لو أن الأمور كلها جاءت كما يريد ، لكن مع التقدم في العمر تأتي متاعب في الصحة ، ضعف بصر ، انحناء ظهر ، ألم بالمفاصل ، خلل بالأجهزة ، فالحياة مفعمة بالمشكلات ، هكذا أرادها الله عزَّ وجل .. " أوحى ربك على الدنيا أن تشددي وتكدري وتضيقي على أوليائي حتى يحبوا لقائي " .
        طبيعة الدنيا متعبة ، ومهما راقت فلا تستقيم لإنسان ، وهذا الواقع أمامكم ، إن كان دخله كبيراً ، أولاده متعبون ، أولاده أتقياء ، دخله لا يكفيهم ، أولاده أتقياء ، ودخله جيد ، ولكن زوجته ليست طيبةً ، زوجته جيدة ، وهو يعاني من مشكلة في عمله ، لا يعاني من مشكلة في عمله ، ويعاني من مشكلة في صحته ، كأن الدنيا دار التواء لا دار استواء ، منزل ترح لا منزل فرح ، والمهم أن الله عزَّ وجل يأمرنا أو ينصحنا أن نهتم بالآخرة ..
] قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ[
      أنا حَبَّبت إليكم النساء ، والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسَوَّمة ، والأنعام ، والحرث ..
] ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[
 
4 ـ لذة الدنيا متناقصة منقطعة :
 
     كلمة (متاع) يعني لذة عابرة ، أكل أحدهم طعامًا نفيسًا ، بعد دقائق انتهت الطعام ، وانتهى الأثر ، ما له أثر مستقبلي أبداً ، الدنيا كلها متاع ، أي لذة طارئة ، لذةٌ مؤقتة ، لذةٌ لا تستمر ، بل إن الحقيقة الصارخة أن شيئاً في الدنيا مهما عظم لا يمكن أن يقدم لك لذةً مستمرَّة ، إلا متناقصة ، كل شيء تقتنيه تعجب به أول الأمر ، وبعد حين تألفه ، وكأنك لم تقتنِه ، شاءت حكمة الله أن يجعل لذّات الدنيا متناقصة لا متعالية أبداً .
 
  بين اللذة والسعادة :
    
        إنه يمكن أن نفرق بين لذةٍ وسعادة ، اللذة حسية تأتيك من الخارج ؛ لذة مال ، طعام ، زوجة ، مسكن ، دفئ ، تبريد ، أجهزة ، لا تأتيك إلا من الخارج ، مركبة ، وهي ذات أثر حسي محض ، وليس أثر نفسي ، وهي متناقصة ، وقد تعقبها كآبة ، وقد تعقبها النار إلى أبد الآبدين ، هذه هي اللذة .
      أما السعادة ؛ فأولاً تنبع من الداخل ، أنت ليس بحاجة ، " ماذا يفعل أعدائي بي بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة " ، تنبع من الداخل ، لا تحتاج إلى مال ، هي معك دائماً ، بستانك في صدرك ..
]أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28) [
( سورة الرعد )
متعاظمة غير متدنية ، تعقبها جنةٌ إلى أبد الآبدين ، هذا فرقٌ كبير بين اللذة والسعادة ، اللذة طابعها حسي ، أما السعادة فطابعها نفسي ، فربنا عزَّ وجل زين ..
] حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ[
قال :
] ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[
     الله عزَّ وجل في آية أخرى يقول :
]قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [
( سورة النساء : من الآية 77 )
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [
شددتم إليها ..
]أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38) [
( سورة التوبة )
متاع الغرور ، الدنيا تغر ، وتضر ، وتمر ..
]أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [
( سورة القصص : من الآية 61 )
لذلك الأنبياء العظام سعادتهم بربِّهم ، أما التافهون فسعادتهم بالطعام والشراب ، والنساء ، والبيوت ، والنُزُهات ، وما إلى ذلك .
     هذه الجنة ليست لكل الناس ، إن الله يعطي الدنيا لمَن يحب ولمَن لا يحب ، أما الجنة فمقيَّدة بالأتقياء ..
] قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ[
 
  لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
 
      (اتقى) يعني اتقى أن يعصيه ، اتقى أن يغضبه ، اتقى أن يسخطه ، طبَّق المنهج الإلهي ، انصاع لأمر الله ..
] لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ[
     ليست جنة ، بل جنات ، لأنها كلها متنامية ومتنوعة ، حور عين ، ولدان مخلَّدون ، جنان تجري من تحتها الأنهار ، فيها لبن لم يتغيَّر طعمه ، وعسل مصفَّى ، فيها ماء نقي عذب كالزلال ، غير آسن ، في أنهار من خمر غير خمر الدنيا ..
]لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [
( سورة محمد : من الآية 15 )
هذا عطاؤه ، وفيها شيء آخر ( وزيادة ) نظرٌ إلى وجه الله الكريم ، وقد يغيب المؤمن خمسين ألف سنة من نشوة النظرة ، وهناك أكبر من النظر ( رضوانٌ من الله أكبر ) ، فهذه الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وفيها النظر إلى الله الكريم ، وفيها رضوانٌ من الله أكبر ..
] قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[
     لا يستطيع أن يدَّعي أحدٌ أن عمله يؤهله للجنة ، لكن الله عزَّ وجل بصير بعمل كل إنسان ، العمل الذي يؤهل للجنة لا يمكن أن يقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
 
  الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
 
          هؤلاء أهل الجنة ما صفاتهم ؟ قال :
] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[
 
  صفات أهل الجنة :
    
1 ـ يدعون ربهم : يَقُولُونَ رَبَّنَا
  
      أول شيء أنهم يدعون الله دائماً ، والدعاء هو العبادة ، في الحديث الصحيح عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ، ثُمَّ قَرَأَ : ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ )) .
[ الترمذي وابن ماجه ]
وإذا قال الله عزَّ وجل :
]الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) [
( سورة المعارج )
    دائماً يدعو الله ؛ إن دخل بيته يدعو ، وإن خرج يدعو ، وإن جلس إلى الطعام يدعو ، وإن انتهى من الطعام يدعو ، وإن دخل إلى الخلاء يدعو ، وإن خرج يدعو ، وإن واجه عدواً يدعو ، وإن خرج من البيت إلى عمله يدعو ، فدعاؤه مستمر ، وقد علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام من خلال أذكاره المأثورة كيف ندعو الله في كل أحوالنا .
] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا[
 
2 ـ يؤمنون بالله وحده :
 
     بك يا رب ، آمنا بك موجوداً ، آمنا بك واحداً ، آمنا بك كاملاً ، آمنا أنك الخالق ، آمنا أنك الرب، آمنا أنك المسيِّر ، آمنا بأسمائك الحسنى ، وصفاتك الفضلى ، آمنا بكل ما ذكرته لنا ..
] فَاغْفِرْ لَنَا[
 
3 ـ يستغفرون ربهم :  
 
     اغفر لنا ، طلب المغفرة ، المغفرة شيء دقيق جداً ، الله عزَّ وجل أمر النبي أن يستغفر لذنبه ، لكن ماذا فعل النبي ؟ وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) .
[ الترمذي ، ابن ماجه ، أحمد ]
       وفي بعض أدعية النبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ، وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا )) .
[ الترمذي ]
     فما من إنسان إلا ويأتيه خاطر يزعجه ، قد يقصر قليلاً ، فشأن العبد أن يخطئ ، وشأن الله أن يغفر ، لكنه يخطئ لا عن قصدٍ ، ولا في شيءٍ صارخ ، ولكن عن خطأ ، عن نسيانٍ ، عن تقصيرٍ ، عن غلبةٍ أحياناً ، فهذا الخطأ يغفر بالدعاء ..
]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) [
( سورة نوح )
       إخواننا الكرام ، هي بشارة ، ما دمت مستقيماً على أمر الله فأنت في رعاية الله ، وأنت في حفظه ، وأنت في نصره ، وأنت في تأييده ، لكن لو زلَّت القدم ، لو أخطأت ، لو غلبتك نفسك في ساعة ضعف ، ما دمت مستغفراً فأنت في بحبوحةٍ أخرى ، أنت في بحبوحتين ، أنت في أمنين ، أنت في مدتين ، بحبوحة الطاعة ، وبحبوحة الاستغفار ..
]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12) [
        عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً )) .
[ البخاري ]
        وفي رواية الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ )) .
        ليس معنى هذا أنه يرتكب مئة ذنب ، مستحيل ، لكن قد يكون ذنب النبي من نوع فوق مستوى البشر جميعاً ، بعضهم قال : النبي يرى رؤيا ، يرى شيئاً من عظمة الله ، وفي رؤيا ثانية يرى الله أعظم مما كان يراه ، فيستحيي برؤيته السابقة ، أنت إنسان ، أمامك غني توقعت معه مليون ، وهو معه مئة مليون ، توقعك ، أو رؤيتك إلى حجمه المالي الذي هو أقلّ من واقعه بكثير ، تشعر أنك ما أعطيته حقه ، فالله عزَّ وجل قال :
]وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [
( سورة غافر : من الآية 55 )
        وقال النبي الكريم :
(( إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ )) .
        فما دمت قد عودت نفسك أن تستغفر فأنت في بحبوحة ، وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّ ..
(( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) .
(الترمذي ، ابن ماجه ، أحمد)
      أما هذا الذي يدعي العصمة ، وهو ليس نبياً ، هذا تجاوز للحدود ، وهذا خروجٌ عن عقيدة أهل السنة والجماعة ، فسيدنا يوسف ماذا قال ، وهو نبيٌ كريم ؟ قال :
]وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ(33) [
( سورة يوسف )
      وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ )) .
[ مسلم ، الترمذي ، أحمد ]
 
  الشعور بالذنب دليل على صحة القلب :
 
       إياكم ، ثم إياكم ، ثم إياكم أن تفهموا هذا الحديث ، أن تسرع بالذنب ، هذا الحديث لا يمكن أن يكون هذا معناه ، لكن معناه لو لم تشعروا بذنوبكم فأنتم هالكون عند الله .
      إنسان ارتكب خطأ ، ارتاب ، كذب ، سخر ، ابتسم ابتسامة ساخرة ، دون أن يشعر بشيء ؟ معنى هذا أنه ميت ، لو أنه مؤمن لتألم أشد الألم ، إحساسك بذنبك علامة حياة قلبك ، وعدم إحساسك بذنبك علامة موت قلبك ، (( لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا ـ أي لو لم تشعروا بذنوبكم ، معنى ذلك أنكم أمواتٌ غير أحياء ـ لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ )).
        مثلاً : أنت في سهرة انسقت بالحديث ، وتكلمت في إنسان ، اغتبته وهو مسلم ، تأتي إلى البيت لا تنام الليل ، كيف اغتبته ؟ هذا مسلم ، هو أخطأ ، الغيبة : أن تذكر أخاك بما يكره ، ولو كان الذي ذكرته حقيقةً ، تتألم ، في اليوم الثاني تأخذ له هديةً وتستسمحه ، معنى هذا أن قلبك حي ، ما دمت شعرت بذنبك ، واستغفرت الله منه ، ما دمت قد آلمك ذنبك .
        من هو المؤمن ؟ هو الذي تسره حسنته ، وتسوءه سيئته ، يفرح لحسنةٍ أصابها ، ويألم أشد الألم لذنبٍ ارتكبه ، فهؤلاء الذين يستحقون الجنَّات ، والنظر إلى وجه الله الكريم ، ويستحقون رضوان الله عزَّ وجل ، وهو أكبر ما في الجنة ، يقولون :
] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[
 
  كلما علا مقامك عند الله تحاسب نفسك أشد الحساب :
 
     للتوضيح فقط : وعاء له سطح ، أو له قعر مثقَّب ، لو كان قُطر الثقب فرضاً عشرة سنتيمترات ، تضع فيه برتقال فينزل ، أما البطيخ فلا ينزل ، لأن الثقب عشرة سنتيمترات ، لو كان قطره خمسة سنتيمترات ، تضع جوزًا ينزل ، أما البرتقال فلا ينزل ، فكل واحد له مستوى في الاستقامة ، الأنبياء يبدو أن القعر أصم مغلق ، أما كل واحد يمكن أن يتساهل بكلمة ، هذا يتساهل بنظرة ، هبط مستواه ، فكلما رفعت مستوى استقامتك كنت أقرب إلى الله عزَّ وجل ، وكلما علا مقامك عند الله تحاسب نفسك أشد الحساب ، سيدنا الصديق ماذا فعل مع إنسان اتهم ابنته بالزنا ـ السيدة عائشة ـ ؟ منع عنه المساعدات ، فعاتبه الله فقال :
]وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [
( سورة النور : من الآية 22 )
    عاتبه الله ، وبكى الصديق وقال : " بلى أحب أن يغفر الله لي " ماذا فعل ؟ منع مساعدةً عن إنسانٍ اتهم ابنته ظلماً بالزنا ، فكلما ارتقى مقامك عند الله تحاسب نفسك أدق الحساب ، وقد وصف الله عزَّ وجل المؤمنين فقال :
]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ(33)وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34) [
( سورة فصلت )
    دقق : كلما ارتقى إيمانك حاسبت نفسك أشد الحساب ، حتى إنهم قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين .
     سيدنا إبراهيم ماذا فعل ؟ قال لابنه :
]يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [
( سورة الصافات : من الآية 102)
      أُمر أن يذبح ابنه ، وقف الابن موقفًا لا يصدق ..
]سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ(102) [
       إن الله لم يكلف المؤمنين أن يذبحوا أبناءهم ، فعلى كلٍ ؛ قضية الاستقامة قضية دقيقة جداً ، هذه ترقى حينما ترقى ، وتسمو حينما تسمو ..
] وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[
 
4 ـ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ  
 
    هؤلاء الذين آمنوا ، والذين طلبوا المغفرة من الله عزَّ وجل ، وطلبوا الوقاية من النار ..
] الصَّابِرِينَ[
 
5 ـ الصَّابِرِينَ 
     شأنهم الصبر في الدنيا ، يصبرون على قضاء الله وقدره ، ويصبرون عن الشهوة ، ويصبرون على الطاعة ، يعني طاعة ، وشهوة ، وقضاء ..
] وَالْقَانِتِينَ[
 
6 ـ 7 ـ الصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ 
 
     المنقطعين لله عزَّ وجل ، متفرغين له ، نحن في رمضان فهناك صيامٌ عن الطعام ، والشراب ، والنساء ، هذا صيام العامَّة ، وهناك صيامٌ عن المعاصي والآثام ، وهذا صيام المؤمنين ، وهناك صيامٌ عما سوى الله ..
 
]قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) [
( سورة المؤمنون )
أي ما سوى الله ، هؤلاء ..
] الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ[
   الصادق ؛ هناك صدق الأقوال ، وصدق الأفعال ، فصدق الأقوال أن تأتي أقوالك كما تعتقد ، أنت صادق ، أما صدق الأفعال فأن تأتي أفعالك كما تقول ، تقول شيئاً ، وتفعل شيئاً ، فهذا كذب ونفاق ، تعتقد شيئاً ، وتقول شيئاً فهذا نفاق اعتقادي ، أما الصدق القولي فأن تقول ما تعتقد ، والفعلي أن تفعل ما تقول ، هؤلاء صادقون ، أعمالهم تأتي مصدقةٌ لأقوالهم ..
 
] وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ[
 
8 ـ الْمُنْفِقِينَ 
 
     ينفقون مما آتاهم الله ، آتاهم مالاً ينفقون منه ، آتاهم علماً ينفقون منه ، آتاهم جاهاً ينفقون منه ، آتاهم خبرةً ينفقون منها ..
]وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [
 
9 ـ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ 
 
      قال العلماء : وقت السحر وقت الاستجابة ، واستدلوا من قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف :
]سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [
( سورة يوسف : من الآية 98 )
      أيْ في الوقت المناسب ، وقت السحر وقت قبول المغفرة ، لذلك ورد في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ )) .
[ البخاري ومسلم واللفظ له ]
      نحن في هذا الوقت ـ وقت السحر ـ لنا دعوةً مستجابة ، وأنا والله أنصح كل إخواني : لك عند الله حاجة ، تخاف من عدو ، تخشى من مرضٍ عضال ، عندك مشكلة في البيت ، لك زوجة تنحرف عن سواء السبيل ، لك أولادٌ ليسوا على ما تتمنى ، صلِ صلاة قيام الليل ، واسأل الله عزَّ وجل في السجود أن يعطيك ما تسأله إيَّاه ، هذا مما يقوي عقيدتك بالله .
]الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ [
      ثم يقول الله عزَّ وجل :
] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ[
   
  شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ
 
1 ـ الأسباب وحدها لا تخلق النتائج :
 
      الله عزَّ وجل هو وحده الفعال ، كيف يشهد لنا أنه لا إله إلا هو ؟ الفعل كله بيده ، الله خلق أسبابا ، وخلق نتائج ، نحن لقصور فهمنا نظن أن الأسباب وحدها تخلق النتائج ، لا ، الأسباب تترافق مع النتائج ، لكن الأسباب وحدها لا تكفي لخلق النتائج ، العلماء قالوا : عندها لا بها .
 
2 ـ كيف يشهد الله أنه لا إله إلا هو ؟
   
      كيف يشهد الله أنه لا إله إلا هو ؟ يأتي إنسان ، ويأخذ بكل الأسباب ، فيفشل ، ويخفق ، يأتي إنسان آخر من دون أسباب يحقق النتيجة ، وأوضح مثل لذلك أنه إذا تزوج شابٌ صحيح الجسم بفتاةٍ صحيحة الجسم ، لابد أن ينجبا ، الأسباب كلها مؤمنة ، شاب صحيح الجسم ، كل أجهزته سليمة ، وشابة كذلك ، تجد شابين صحيحين لا ينجبان ، لأن الله عطَّل الأسباب ، الأسباب موجودة ، لكن الله عطَّلها ، يشهد لنا أنه لا إله إلا هو ، وقد تنجب السيدة مريم من دون زوج ، ألغاها ، ومِن خلال إلغاء الأسباب أو تعطيلها يشهد أنه لا إله إلا الله ، لذلك قالوا : " عرفت الله من نقض العزائم " ، قد يأخذ الإنسان بكل الأسباب ولا ينجح ، وربما لا يأخذ بها وينجح ، فما شاء الله عزَّ وجل كان ، وما لم يشأ لم يكن .
       تحطمت طائرة ، وأحد ركابها لم يقيد نفسه بحزام الأمان ، رأى نفسه طليقاً ، وانشق جسم الطائرة جنب مقعده ، فقفز على الأرض ، أما كل الركاب فكانوا مقيدين بأجهزة الأمان ، فيمكن لواحد أن ينزل من ارتفاع أربعين ألف قدم دون أن يصاب بأذى ، نزل فوق جبال الألب ، غابات كثيفة مغطاة بخمسة أمتار ثلج ، أغصان الأشجار كانت كالنوابض ، فنزل واقفاً .
وإذا العناية لاحظتك جفونها   نم فالمخاوف كلهنّ أمان
*  *  *
       وطائرة أخرى في طريقها من جدة إلى باكستان ، أصاب إحدى النوافذ خلل فانخلعت ، الطائرة المضغوطة ثمانية أمثال ، امرأةٌ باكستانية في حجرها طفلان صغيران ، فخرجا من النافذة ، بحكم قوة الضغط ـ ضغط الهواء داخل الطائرة ـ فوقعا في البحر ، فنسبة المئة بالمليون أنهما ماتا ، طفلان رضيعان صغيران ، بعد خمسة أيام تأتيها رسالة من شركة الطيران  أن تعالَي إلى دبي ، فظنت أن تأتي لتأخذ التعويض ، فإذا بها أمام ابنيها ، ما الذي حدث ؟ سقطا أمام صياد ، فأنقذهما ، ووضعهما في القارب ، وأخذهما إلى أقرب مستشفى ، ما معنى : لا إله إلا الله ؟ وأنت بأعلى درجة من الغنى تفلس ، وأنت فقير تغتني ، وأنت قوي تضعف ، أنت ضعيف تقوى ، من إلغاء السبب أو تعطيله ..
] شَهِدَ اللَّهُ[
         الله عزَّ وجل يشهد أنه لا إله إلا الله ؛ عن طريق تعطيل الأسباب ، أو إلغائها ، أما المؤمن فيمشي في طريق ، عن يمينه وادٍ سحيق ، وعن شماله وادٍ سحيق ، الوادي اليميني واد الشرك ، هناك من يأخذ بالأسباب ، ويعتمد عليها ، وينسى الله ، وأحياناً يؤلِّهها كالأجانب ، وهناك من لا يأخذ بها ، فيعصي الله كأهل الشرق ، الشرق كله : سمِ بالله وكل ، لكن التفاحة غير نظيفة ، ولم نغسلها ، النبي قال :
 (( من انهمك في أكل الطين فقد أعان على قتل نفسه )) .
[ البيهقي في السنن الكبرى ، والطبراني في المعجم الكبير عن سلمان ]
        هناك توكل ساذج ، فعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ - خذ بالأسباب - فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )) .
[ أبو داود وأحمد ]
 
  المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله :
   
      المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب ، وكأنها كل شيء ، كما فعل النبي في الهجرة ؛ اختار خبيرًا مشركًا ، فغلَّب الخبرة على الولاء ، وكلف إنسانًا يأتيه بالأخبار ، وإنسانًا يمحو الآثار ، وإنسانًا يأتيه بالطعام ، وسار مساحلاً عكس الاتجاه المتوقع ، واختبأ في غار ثور ، أخذ بكل الأسباب ، وكأنها كل شيء ، فلما وصلوا إلى الغار توكل على الله ، وكأنها ليست بشيء ، هذا هو الإيمان ، أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، فالله يشهد لنا ..
]كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [
( سورة البقرة : من الآية 249 )
    تكون أمة قوية جداً تأخذ بكل الأسباب فتنهزم ، والمؤمنون الصادقون وهم قلةٌ ضعاف ينتصرون ، معنى ذلك أن الله شهد لنا أنه لا إله إلا هو ، الأمر بيدي ، أما الكفار فيؤلِّهون الأسباب ، والمؤمنون المقصرون يلغون الأسباب ، توكُّل ساذج ، أما الكمال فأن تأخذ بها وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .
      مثلاً : لو ترجمنا هذا الكلام إلى واقع ، عندك مركبة ، وعندك سفر ، تجري لها مراجعة تامة ، الزيت ، والوقود ، والكهرباء ، والتوصيلات ، والأطر كلها كاملة ، ثم تقول : يا رب احفظني ، أنت الحافظ ، يا رب سلمني ، أنت المُسَلِّم ، أخذ بالأسباب ، وتوكل على الله ، طالب يجتهد ، ويقول : يا رب اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ، تاجر يجتهد ، ويقول : يا رب اجبر هذه البضاعة ، المزارع يزرع حبةً في الأرض ، ثم يتوكل على الله ، هذه الترجمة ..
]شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [
   
3 ـ أهل العلم ينبغي أن تكون فحوى دعوتهم إظهار كلام الله :
 
       وهذه إشارة إلى أن أهل العلم ينبغي أن تكون فحوى دعوتهم إظهار كلام الله ، أما أن يقول لك واحد : إن الله عزَّ وجل يفعل ما يشاء ، نحن في ملكه ، هذا كلام جيد ، لكنه يأتي بمثل غير مقبول ، أنه نجار ، وعنده لوحان من الخشب ، جعل لوحًا بابًا لقصر ، والثاني بابًا لمرحاض ، ألك عنده شيء ؟ إن الله ما قال هذا ، بل قال :
]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) [
( سورة الزلزلة )
        الله عزَّ وجل عنده عدل مطلق ، وقد قال :
]وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [
( سورة الأنعام : من الآية 132 )
      العشوائية لا تقبل في أفعال الله ، والعبثية لا تقبل في أفعال الله ، لذلك الإيمان الدقيق كما قال الله عزَّ وجل :
] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ[
     قال الله عزَّ وجل :
]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا [
( سورة الشمس )
     ليس معنى هذا أنه خلق فيها الفجور ، معنى هذا أنه برمجها برمجةً ، وجبلها جِبِلَّةً ، وفطرها فطرةً ، إذا فجرت تعلم أنها فجرت ..
]لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب