سورة آل عمران 003 - الدرس (10): تفسير الآيات (026 - 027)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة آل عمران 003 - الدرس (10): تفسير الآيات (026 - 027)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 274 - مقبرة مأمن الله           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 14 - متى ينطق الشجر والحجر للمسلم - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - الرحمة بعباد الله           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 395 - سورة المائدة 019 - 026           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 22 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 13 - واجبنا في ظل الظروف - الذي أطعمهم من جوع         

الشيخ/

New Page 1

     سورة آل عمران

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة آل عمران - تفسيرالآية: (026- 027)

21/03/2011 01:26:00

سورة آل عمران(003)
الدرس (10)
تفسير الآيتان: (26 – 27)
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 
 
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
         الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ،  اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق
 حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
        أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس العاشر من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية السادسة والعشرين ، وهي قوله تعالى :
 
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
 
 قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
 
1 ـ كلُّ شيء في الكون ملكٌ لله :
 
أي شيءٍ في الكون الله مالكه ، والكون ما سوى الله ، والله عز وجل الذات الكاملة ، واجب الوجود ، وما سوى الله ممكن الوجود ، ما سوى الله هو الكون ، وفي المصطلح القرآن هو السماوات والأرض ، كل
 شيءٍ في الكون ، أو كل شيء في السماوات والأرض يُمَلَّك ، الله مالكه ، كل شيء في الكون ، يمكن أن يُمَلَّك فالله مالكه ؟
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
لكن الله جل جلاله ملكه مُلْكٌ تام ؛ يملك الشيء خلقاً ، ويملكه تصرفاً ، ويملكه مصيراً ؟
 
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)
( سورة الزمر )
       أي شيء تتمتع به فهو ملك الله عز وجل ؛ لك بيت ، بزلزال شدته خمسة رختر ينتهي ، صار أنقاضاً بعضها فوق بعض ، حركة ، صحة ، القلب يقف ينتهي كل شيء ، سمع ، بصر ، قد يفقد الإنسان بصره فجأة
 ، ومن أدعية النبي عليه السلام الثابتة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ )) .
[ مسلم ]
 
2 ـ صحتك ملك لله :
       
أي شيء تتمتع به ، عقلك ؛ ملك الله عز وجل ، قد يحمل إنسان أعلى شهادة في العالم ، خثرة لا تزيد على رأس إبرة ، تتجمد في بعض أوعية المخ يفقد الإنسان عقله ، ويفقد ذاكرته ، ويفقد حركته ، ويفقد توازنه ..
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
أي عضو تتمتع به ملك الله ، أي جهاز تتمتع به ملك الله ، أيَّة خبرة تملكها هي ملك لله ، يؤتى الحذر من مأمنه ، حدثني ما شئت ؛ عن العلم ، عن الخبرة ، عن النسب ، عن الحسب ، عن الوسامة ، عن الذكاء
 ، عن الحكمة ، عن الصحة ، كلها ملك الله عز وجل .
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
لك في الورى إن شاء خفضاً      ذقته ، وإذا شاء عليهم رفعك
*  *  *
       يرفع ، ويخفض ، يعطي ويمنع ، يعز ويذل ..
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
وكلما تعمَّقت في هذه الآية وجدت في عين الحقيقة أنك لا تملك شيئاً ، فإذا عرفت أنك لا تملك شيئاً ، تستحي أن تقول : أنا ، تستحي أن تسلِّط الضوء على شخصيتك ، أنت لا شيء ، كنت لا شيئاً ،
 فأصبحت به خير شيءٍ في الورى قد صنعك ، ليس يقيك أذاه أحدٌ ، وإذا استنصرت فيه نصرك ، كلمة :
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
 
3 ـ مكانتك بيد الله :
 
لها معانٍ عديدة جداً : ابدأ بالنواحي المادية ؛ مكانتك في المجتمع ملك الله عز وجل ، الله عز وجل قادر أن تشوَّه سمعة إنسانٍ بلا سبب ، فمن الذي حبس ألسنة الخلق عنك ؟ الله جل جلاله ، مَن الذي أسبغ
 عليك ستره ؟ الله جل جلاله ، من الذي جعلك مكرمًا ؟ الله جل جلاله ، فالإنسان ما دام بقوته فهو محترم ، فإذا أصبح طريح الفراش ، ومضى على شلله عشرون عاماً ، يسمعه أقرب الناس إليه كلمات لا
 تحتمل ..
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
       إن كنت تملك مكانةً فهي ملك الله ، مَلَّكَكَ إيَّاها ، إن كنت تملك محبة الناس ، فمحبة الناس بإلهام الله عز وجل ..
 
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي
 ( سورة طه : من آية " 39" )
       لا أجد في اللغة العربية كلمة أوسع من كلمة ( مالك الملك ) ، أي شيء يُمَلَّك فمالكه هو الله ، معك مفتاح بيت فالملك لله ، ملكك إياه ، تركب مركبة الله ملكك إياها ، عندك زوجة الله ملكك إياها ، عندك
 أولاد أبرار الله ملكك إياهم ، تتمتع بصحة طيبة الله ملَّكك إياها ..
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تشرب كأس الماء فيخرج بشكل لطيف  هذه مُلك ، جهاز الإفراز ملك ، ولو كان مسدوداً لأصبحت الحياة جحيماً لا تطاق ..
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
الجهاز الهضمي يعمل بانتظام ..
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
ماذا أحدثكم عن هذه الآية !! أي شيء تتمتع به ، وتنعم به إنما هو ملك الله ملكَّك إياه ، بل إن هذا الأعرابي الذي بيده قطيع من الإبل ، فسُئِل لمن هذه الإبل ؟ قال : لله في يدي ، وما من كلمة أبلغ من هذه
 الكلمة ( لله في يدي ) ؛ بيتك ، واختصاصك ، وحرفتك ، ودكانك ، وزوجتك ، وأولادك ، وسمعتك ، وكرامتك ، وراحة بالك ، وحريتك التي أنت تتمتع بها ، قد تُلْصَق بالإنسان تهمة هو بريء منها فيفقد
 حريته لسنوات طويلة ..
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
        هذا هو التوحيد ، المؤمن الصادق لا يرى إلا الله ، لا يرى نعمة إلا من عند الله ، يرى المُنعم من خلال النعمة ، بينما الكافر تحجبه النعمة عن المنعم ، وفرق كبير بين من يحجب بالنعمة عن المنعم ، وبين مَن لا يرى
 النعمة إلا من الله عز وجل .
       أيها الإخوة الكرام ، لمجرد أن تعزو النعمة إلى الله فهذا نوعٌ من الشكر ، ولمجرد أن يمتلئ قلبك محبةً لله ، فهذا نوع أرقى من الشكر ، ولمجرد أن تجعل حركتك في الدنيا في خدمة الخلق ، فهذا أرقى أنواع الشكر ،
 لقوله تعالى :
 
﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا
( سورة سبأ : من الآية  13 )
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
 
لابد من محبة الله وشكر نعمه :
 
          فكلما ازداد إيمانك يزداد تعلُّقك بالله عز وجل ، كلما ازداد إيمانك ، تزداد محبَّتك لله عز وجل ، لأنك لا شيء ، وأصبحت به كل شيء ..
 
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)
( سورة الإنسان )
       مَن أنت ؟ ذات مرة رأيت في المطار طفلاً صغيراً ، يبدو أن السفر طويل ، من شدة الاحتياطات أصبح وسطه كالكرة ، هكذا الإنسان يوم كان صغيراً ، فإذا كبر ، ونسي الله الذي جعله من أب أو أم ، وأكرمه
 بمحبتهما له ، وأكرمه بعناية بالغة ، هذا الإنسان حينما ينسى أصله ، وينسى ضعفه ، وينسى جهله ، صار يحمل شهادةً عليا ، أو صار ذا مكانة مرموقة ، أو صار ذا ثروة بالغة ، هذا الذي ينسى أصله ليس من
 الشاكرين.
       كان عليه السلام تعظم عنه النعمة مهما دقَّت ، كان إذا شرب كأس ماء له دعاء خاص ، كان إذا أفرغ ما في بطنه له دعاءٌ خاص ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي )) .
[ ابن ماجه ]
      هذا هو المؤمن ، المؤمن يرى أن الله عز وجل مالك الملك ، لأنه يرى أن مالك الملك هو الله فهو لا يتجه لأحدٍ غير الله ، ولا يعلِّق أملاً إلا على الله ، ولا يعقد الرجاء إلى على الله ، ولا يرجو غير الله ، ولا يخاف
 من غير الله ، ولا يسعى بغير الله ..
﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)
( سورة الأنعام )
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
 
 تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
 
سلب النعم من حكمة الله :
 
من تشاء بحكمتك يا رب ، الله عز وجل حكيم ، المقولة الشهيرة : كل شيء وقع أراده الله ، وكل شيء أراده الله وقع ، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق ..
﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
بحكمتك يا رب ، برحمتك يا رب ، بعدلك يا رب ، تؤتي الملك : أي شيء يُمَلَّك ، فلان عنده مأوى ، ملك ، فلان عنده خبرة ، يعيش من ريعها ، فلان عنده معرفة بالله ، هذا ملك يُمَلَّك ، بدليل قوله تعالى :
 
﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)
( سورة الواقعة )
       فالتصديق رزق ، والتكذيب نوع من الرزق السلبي ، فأنا لا أعمم بقدر ما أعمِّق ، هذه الآية تغطِّي كل شيء ، تغطي ؛ صحةً ، تغطي علماً ، تغطي أمناً ، تغطي مكانةً ، تغطي أسرة ، تغطي أجهزةً ، تغطي معرفةً ..
 
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
        مرة ضربت مثلاً : أن في معامل الحديد رافعاتٍ ضخمةً أساسها المغناطيس الكهربائي ، فهذه الروافع تحمل عشرات الأطنان ، وليس من قوة تستطيع نزعها من هذه الرافعة ، ولكن العامل الذي على الرافعة ، إذا
 ضغط زراً في مكان ما مقدار عُشر المليمتر ، وقطع الكهرباء عن الرافعة ، كل شيء في الرافعة يقع ، والله عز وجل أي جهة تراها قوية ، مَن الذي قوَّاها هو الله  ، وفي أية لحظة يحرمها من هذه القوة ، فإذا هي في
 الحضيض ، وليس عنكم ببعيد أنه من أقوى الدول قبل سنوات لا تزيد على عشر ، من أقوى الدول أصبحت من أضعف الدول ، تداعت كبيت العنكبوت ..
 
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
 
       فهذا المعنى : إنك إن تمتَّعت بقوة ، أو إن تمتعت بصحة ، أو إن تمتعت بعقل ، أو إن تمتعت بذكاءٍ ، أو إن تمتعت بخبرة ، أو إن تمتعت بأهل ، أو إن تمتعت بأولاد ، أو إن تمتعت ببيت ، إن تمتعت بمركبة ، إن تمتعت
 بخبرة ، كله من الله ، فكلما تعمَّقت في الإيمان وجدت أن الله هو كل شيء ، وأن الله منحك كل شيء ، وأن الله قادر على أن يسلبك كل شيء .
 
2 ـ احذروا نقمة الله :
 
        والله سمعت قصةً لغرابتها لا تصدق ، أنّ أحد خمسة أغنياء في تركيا ، كل ثروته في الأبنية ، يعد خامس غني في تركيا ، له رأي : أن أمواله كلها موزعةٌ في أجمل مناطق تركيا ؛ أبنية ، وفيلات ، ومنشآت ، ولحكمةٍ
 بالغةٍ بالغة ، جاء الزلزال الأخير في مدينة إزمير ، صور في الأخبار أنه يسكن في خيمة ، ويأكل مما يجود عليه أهل الخير ، وفقد ثروته كلها ، كل ثروته أصبحت أنقاضاً ، كل ثروته أصبحت أنقاضاً ، فالله عز وجل إذا
 أعطى أدهش ، وإذا سلب أدهش فجأة .
       والله مرة قال لي رجل : بيتي مع حدائقه يزيد على ألف متر ، عندي ثلاث مركبات ؛ مركبة للسفر فخمة وغالية جداً ، ومركبة للمدينة ، ومركبة للمعمل ، وقال : والله ما دخل بيتي من الطعام إلا أغلاه ، ومن
 الفواكه إلا أطيبها ، ومن الحلويات إلا أغلاها ، والله وجدته في دكانٍ في أحد شوارع دمشق المتخلِّفة يأكل من علبة سمك ، من دون صحن ، وينام على طاولة التفصيل ، ويذهب إلى سوق الهال ، فينقب في نفايات
 القمامة لعله يجد شيئاً يأكله ، إذا أعطى أدهش ، وإذا أخذ أدهش ، لذلك ، قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( يا عائشة ، أكرمي مجاورة نعم الله ، فإن النعمة إذا نفرت قلما تعود )) .
[ ورد في الأثر ]
        إنسان تكلم كلمة كبيرة جداً قبل شهر ، بين كلمته وانتقام الله منه أربعٌ وعشرون ساعة ، والآن عنده شلل رباعي ، وفقد النُطق ، تكلَّم كلمة كبيرة جداً ، وهو في ريعان قوته ، وشبابه ، وجبروته ، وغناه ،
 ووسامته ، بين الكلمة التي قالها وانتقام الله منه أربع وعشرون ساعة ..
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
أنت لا تملك شيئاً .
والله زرت أحد الأشخاص في العيد ، من أعلام المجتمع ، ولكن جاءت خثرة في بعض أوعية المخ فتكلم كلامًا غير معقول أبداً ، أين ذكاؤه ؟ أين حنكته ؟ أين حكمته ؟ أين شخصيَّته المتألقة ؟ كلام ليس له معنى
 ، كلام مضحك ، لا يقوله طفل ، حتى إذا تكلَّمت كلاماً واضحاً جلياً منطقياً ، مترابطاً متسلسلاً ، فهذه من نعمة الله لك .
وهناك نعمة مَن يعرفها ؟ إذا خرجت من بيتك تعود إليه ، فقد حدثني ابن أحد الإخوة الكرام قال لي : اتصل بي والدي ، وقال لي : يا بني أين بيتي ؟ لا أعرف بيتي ، أصيب بفقد ذاكرة جزئي ، نسي بيته ، قد
 يدخل عليك ابنك فترحب به : أهلاً يا بني ، هناك من لا يعرف أولاده ، أنا عاصرت ، وشاهدت بعض الأقارب اختل توازنه العقلي ، كلامه مضحك ، يستحي به أهله ، يتمنَّون موته ، وانتهاء حياته ..
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
        قد يمشي إنسان في الطريق بلا هدف ، قد ينسى أين بيته ، فذاكرتك ، سمعك ، بصرك ، محاكمتك ، عقلك ، قوتك بيد الله ، والله سمعت عن إنسان يدفع عشرة آلاف ليرة في الشهر لمن ينزع منه فضلات الطعام
 من مستقيمه ، لأن مستقيمه أصيب بالشلل ، أن تخرج هذه الفضلات براحة من دون جهد ، من دون مساعدة من أحد من نعمة الله ..
 
﴿قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
        هناك مَن يحمل بوله إلى جنبه ، قال لي : كل كيس ثمنه ثلاثمئة ليرة ، مشكلة ، ولا أعلم متى أخرج ، ما دام المستقيم أصيب بورم خبيث حوّل المخرج إلى طرف الخاصرة ، معها كيس ، هذا الذي يقضي حاجته
 بانتظام ، ينام ملء جفونه ، يستيقظ في الوقت المناسب ، هذه نعم لا تعد ولا تحصى ، كان عليه الصلاة والسلام كما يقول :
(( اللهم أرنا نعمك بوفرتها لا بزوالها )) .
[ ورد في الأثر ]
       في الجسم أجهزة وأعضاء وأنسجة ، كل مكان في الجسم لو أصابه العطب لأصبحت الحياة لا تطاق ، لأصبحت الحياة جحيماً ، هناك آلام لا تحتمل .
 
  ثلاث نِعَمٍ لا تعدلها نِعَمٌ :
 
       إخواننا الكرام ، مع كل هذه الشرح ، ثلاث نعم لا تعدلها نعم :نعمة الهدى ، فأنت تعبد الله ، هذه نعمة كبيرة ، هناك من يعبد البقر ، هناك من يعبد الحجر ، هناك من يعبد الشمس والقمر ، هناك من يعبد المَدَر ،
 هناك من يعبد ذكر الرجل في اليابان ، هناك من يعبد الموج ، هناك من يعبد الجرذ في الهند ، الجرذان آلهة ، وأنت تعبد الله ، هذه نعمة لا تعدلها نعمة ، نعمة الهدى ، و
نعمة الصحة ، ونعمة الكفاية ، فمن هداه الله إليه ، ومَلَك صحَّته ، وعنده قوت يومه ، فكأنما ملك الدنيا بحذافيرها ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا )) .
[ الترمذي ، وابن ماجه ]
وعندما الملك سأل وزيره :
   ـ من الملك ؟
   ـ قال : أنت .
   ـ قال : لا ، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا ، له بيت يؤيه ، وزوجة ترضيه ، ورزق يكفيه ، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا ، وإن عرفناه جهدنا في إحراجه .
 
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
 
  وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
 
       إنها لحظة بين أن تكون مسيطراً ، مهيمناً ، أمرك نافذ في أي جهةٍ من الأمكنة ، وقد سمعت قبل يومين أن أحد الحراس الشخصيين أطلق طلقة على سيده فأرداه قتيلاً ..
 
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
فالقوي قواه الله ، وإذا نزعت هذه القوة فقد سمح الله أن تنزع ، فكل إنسان ينسب القوة إليه فهو أحمق ، وكل إنسان ينسب الضعف إلى ظروف صعبة ، فهو أحمق . .
 
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
 
ربما منعك فأعطاك ، وربما أعطاك فمنعك :
 
         ولكن أيها الإخوة لا بد هنا من تعليق : ربما منعك فأعطاك ، وربما أعطاك فمنعك ، والله عز وجل حكيم ، إذا نزع منك المُلك ، ثم كُشِفَت لك حكمة نزع هذا الملك فينبغي أن تذوب محبة لله ، إن أعطاه الملك
 فلحكمة ، وإن نُزِعَ منك الملك فلحكمة ، قد تكون عقوبة ، والعقوبة نوع من التربية ، وقد تكون وقاية ، والوقاية نوع من التربية ، وقد تكون ابتلاء ، والابتلاء رفع درجات ، على كل يجب أن تعتقد أن كل شيءٍ
 فعله الله هو محض حكمةٍ ومحض فضل .
 
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
مرة أحد كبار ملوك الأندلس كان يمشي في حديقته ، وكان شاعراً ، فرأى بركة الماء ،  وقد هبَّت عليها نسائم لطيفة ، فجعلت على سطح الماء كالزرد ، أيْ كالسلسلة ، موجات ناعمة ، فقال :
نتج الريح على الماء زرد  
ولم يستطع متابعة هذا البيت ، فسمع وراءه جارية تقول :
يا له درعاً منيعاً لو جمد
*  *  *
       أعجب بها إعجاباً شديداً لأنه شاعر وهي شاعرة ، وتزوجها وأصبحت في القصر ، اشتاقت مرة إلى أيام الفقر ، كانت تدوس في الطين ، فجاء لها بالمسك والعنبر وجبلهما بماء الورد ، فقال : هذا هو الطين ، ثم
 نزع منه الملك فجأة ، وأودع في السجن ، وبعد حين خرج من السجن ، وعاش معها في كوخٍ حقير ، وساءت العلاقة بينهما ، فكانت تقول له أحياناً : لم أر منك خيراً قط ، يقول لها : ولا يوم الطين !!
         ورد في بعض الأحاديث أن النساء ـ طبعاً غير المؤمنات ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أُرِيتُ النَّارَ ، فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ ، يَكْفُرْنَ ، قِيلَ : أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ )) .
[ من مسند الإمام الشافعي ]
      فكان يقول لها : ولا يوم الطين !! مِن إنسان يسكن في قصر إلى إنسان فقير ، فالإنسان عليه ألا يتكبر ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
(( الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ )) .
[ أبو داود ]
﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
الله يرفع ويخفض ، يعطي ويمنع ، يبسط ويقبض ، يعز ويذل ، يكرم ويهين ، ومن يهن الله فما له من مكرم .
والله مرة رأيت في الطريق إنسانًا تلقى صفعة ، قلت : والله لو مات لا ينساها ، أمام جمع غفير من الناس ، وهو يرتدي أجمل ثيابه ، قد خالف بعض المخالفات ، فجاء إنسان أرعن فصفعه على وجهه ، وهو في
 الخمسين ، الله عز وجل يهين أحياناً ، وقد يتجرَّأ عليك ولدك فيضربك ، لكن إن أحبك الله ألقى محبتك في قلوب الخلق ، فخدمك أعداؤك ، وإن غضب الله  ألهم لأقرب الناس إليك يتطاولون عليك ..
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
كن مع الله تر الله معك    واترك الكل وحاذر طمعك
وإذا أعطاك من يمنعه ؟    ثم من يعطي إذا ما منعك ؟
***
هذه ملَّة طه خذ بها
*  *  *
﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
 
  وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
 
       فهذه الدنيا كل حال يزول ، قد تصيب عزاً ، وقد يذل الإنسان ، هذا يحيى البرمكي كان الرجل الأول في الدولة العباسية ، إذا هو في السجن يعذب ، فقال لبعض مَن حوله : " لعل دعوة مظلوم أصابتنا ، ونحن
 عنه غافلون " ..
       وهذا فرعون ، كان له ملك مصر ..
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)
( سورة النازعات )
       تورط ، وتبع سيدنا موسى في البحر ، ثم أدركه الغرق ، ولولا أن الموج لفظه إلى الشاطئ لتوهم أتباعه أنه صعد إلى السماء ، فإمعاناً في إذلاله قذفه الموج إلى الشاطئ ..
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً
 ( سورة يونس : من الآية 92 )
       أحد الذين أسلموا في أمريكا بدأ يقرأ القرآن قراءة تفحُّص لا قراءة تعبُّد وفهم ، وعثر على آية ، فقال : هذه أول غلطة بالقرآن ، وهي قوله تعالى :
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً
 ( سورة يونس: من الآية 92 )
       له صديق بفرنسا من كبار العلماء ، اتصل به ، وقال له : هذه أول غلطة في القرآن ، فقال له : هذا الذي تذكره في متحف في مصر ، وموجود حتى الآن ، فرعون موسى الذي أدركه الغرق موجود في مصر ،
 وقد جيء به إلى باريس لترميم جثته ، نجاه الله ليكون لمن خلفه آية .
       وبعد ذلك أيها الإخوة ، هناك مواعظ معاصرة لا ينقضي عجبها ، كم من جبَّار قصمه الله ، كم من إنسان يزهو بماله أفقره الله ، كم من إنسان يزهو جماله ، فالله عز وجل ساق له مرضاً خبيثاً ، فعلى كل الإنسان
 تحت ألطاف الله عز وجل ..
﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
         أجمل ما في الآية ، بحسب السياق :
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
إيتاء الملك خير ..
﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
نزع الملك شر ..
﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ
الإعزاز خير ..
﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
الإذلال شر بمفهوم الأرض ، كان ينبغي بحسب السياق أن تكون الآية : بيدك الخير والشر ، لكن الله عز وجل قال :
﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ
 
  بِيَدِكَ الْخَيْرُ
 
1 ـ إيتاء المُلك خير ، وأن نزع الملك خير :
 
فقط ، ماذا يستنبط ؟ يستنبط أن إيتاء المُلك خير ، وأن نزع الملك خير ، وأن الإعزاز خير ، وأن الإذلال خير ، فالإنسان شارد ، تائه ، غافل ، غارق في المعاصي ، جاءه ذلٌ شديد فتاب إلى الله .
والله هناك أخ من إخواننا الكرام قال بالحرف الواحد : أنا كنت شارداً عن الله ، منحرفًا انحرافًا شديدًا ، ما صليت في حياتي ، ولا صمت ، وأنا مع أهل الضلال والغَيّ ، والفسق والفجور ، فجأة أصيب بمرض
 عضال ، فدخل المشفى ، وناجى ربه وقال : يا رب ألقاك وأنا عاصٍ ؟! أي أعطني مهلة يا رب كي أتوب إليك ، وتبت ، الله أعطاني فرصة ، وتبت إليه ، لزمت دروس العلم ، صلَّيت ، شعرت بسعادةٍ لا
 توصف ، فمرة ناجيت ربي فقلت له : يا رب إذا كانت كل هذه السعادة من الإنابة إليك ، لِمَ لَمْ ترسل لي هذه المصيبة قبل عشر سنوات ؟! كأنه عتب على الله ، كل هذه السعادة في القرب منك ، لمَ لمْ ترسل
 لي هذه المشكلة قبل عشر سنوات ؟!
         الله عز وجل يعطي وهذا خير ، و يمنع ، وهذا خير ، يرفع ، وهذا خير ، يخفض ـ وهذا خير، يعز ، وهذا خير ، وَعِنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :
(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ ، فَقَالَ : مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ ؟ قَالَتْ : الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا ، فَقَالَ لَا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ
 كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ )) .
[ مسلم ]
 
2 ـ المؤمن الصادق يستقبل قضاء الله وقدره بالصبر :
 
        المؤمن الصادق يستقبل قضاء الله وقدره بالصبر ، وبالبِشر ، وبالرضا ، ولعل النبي الكريم قمَّةٌ في هذا الموضوع ، حينما ذهب إلى الطائف ، واعتدى عليه أهلها اعتداءً ماديا ـ هكذا تروي الروايات ، فقال :
(( يا رب ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي )) .
[ الطبراني عن عبد الله بن جعفر ]
      ماذا كان بعد الطائف ؟ كان الإسراء والمعراج ، جاء التكريم الإلهي عرف أنه سيد البشر قاطبة ، وأنه سيد ولد آدم ، وأنه سيد الأنبياء والمرسلين ، وأنه حبيب رب العالمين ، وأن الله أقسم بعمره الثمين .
      كل محنةٍ أيها الإخوة وراءها منحة ، للمؤمن طبعاً ، وكل شِدَّة وراءها شَدَّة إليه ، فلا تيأس ، وإياك أن تتشائم ، أو أن تقنط من رحمة الله ، أو أن ترى أن المصيبة جفوة من الله لك ، لا ..
﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)
( سورة الفجر )
      هو يقول :
﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي(16) كَلاْ
( سورة الفجر)
      ليس عطائي إكراماً ، ولا منعي حرماناً ، فهذا أب طبيب ، وجد أن ابنه يعاني من التهاب في المعدة ، وثمة أكلة يحبها الابن محبة شديدة ، والأب بقسوة بالغة منع ابنه من هذه الأكلة ، خوفاً من أن تنشأ مضاعفات
 هو في غنى عنها ، هل يعد هذا الابن المريض الذي منع من هذه الأكلة أنه لذيذة عند أبيه مهانًا ؟ لا والله ، من هنا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا ، كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة )) .
( من الجامع الصغير عن حذيفة )
       لذلك المؤمن راضٍ عن الله عز وجل ..
هم الأحبة وإن جاروا وإن عدلوا      فليس لي عنهم معدل و إن عدلوا
والله وإن فتتوا في حبهم كبـدي      باق على حبهم راض بما فعلـوا
*  *  *
       فأعلى كلمة يقولها المؤمن : يا رب أنا راض ، والله حدثني أخ ـ طبيب من إخواننا ـ فقال : جاءنا مريض مصاب بورم خبيث في أمعائه ، غرفته عجيبة ، فيها بِشر ، فيها سرور ، فإذا ضغط على الجرس يأتي بعض
 الأطباء ، بل جُلُّهم ، والممرضون يلبون طلبه ، وكلما دخل عليه شخص يقول : يا رب إنني راض عنك ، فاشهد يا أخي أنني راض عن الله ، هذا المؤمن ، يرى يد الله الرحيمة الحكيمة تعمل في الخفاء .
      فيا أيها الإخوة الكرام ... بيدك الخير ..
فليتك تحلو والحياة مريـرة      وليتك ترضى و الأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر     و بيني وبين العالمين خـراب
*  *  *
فلو شاهدت من حسننا الــذي      رأوه لما وليت عنا لغيـــرنا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا      خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
و لو ذقت من طعم المحبة ذرةً      عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمت من قربنا لك نسمةٌ       لمت غريباً واشتياقاً لقربـــنا
ولو لاح من أنوارنا لك لائـح      تركت جميع الكائنات لأجلــنا
*  *  *
       أن تصل إلى محبة الله هذه غاية الغايات ، وهذا هو العطاء الذي لا يُحَد ، أن يحبك الله ، وطريق محبة الله أمامك بين يديك .
﴿ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ
 
  وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ
 
1 ـ التفسير الاجتماعي للآية :
 
فبعضهم فسر هذه الآية تفسيرًا اجتماعيًّا ، قد تجد إنسانًا شارب خمر فاسقًا ، فاجرًا ، كافرًا ، يأتي من صلبه ابن صالح ، وقد سمعت أن رجلاً من الصالحين وهب أرضاً لتكون مسجداً في أحد أحياء دمشق ، والابن
 الذي أنجبه شارد ، بل كان يؤمن بأنه ( لا إله ) فقط ، ولم يرض أن تبنى هذه الأرض مسجداً ، وعطَّل وصية والده ، هذا الابن الملحد أنجب ابناً ولياً ، قال لأبيه مرة : إن لم تنفذ وصية جدي فلست ابنك ، ولن
 ترني بعد اليوم ، فاضطر الأب المنحرف أن يبني هذه الأرض مسجداً ، أساسه هكذا ، إنسان حي ، حيٌّ بمعرفة الله أنجب ملحداً ، وهذا الملحد أنجب ولياً ..
﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ
        هذا المعنى الاجتماعي .
 
2 ـ التفسير المادي :
 
وهناك معنى مادي ؛ أن امرأة تموت ، فيُفتح بطنها ، وتلد طفلاً حيًّ ، قد تجد طفلاً حياً في بطن امرأةٍ ميتة ، وقد تجد ميتاً في بطن امرأةٍ ترزق ، وتعيش ، فإما أن تأخذ المعنى المادي ، أو أن تأخذ المعنى الصحي ،
 كلاهما وارد .
﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ
 
  وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ
 
         إذا أعطى الله أدهش بغير حساب ، فالله عز وجل خلقك ورزقك .
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ
 ( سورة الروم: من آية " 40" )
       فعل ماضٍ ، هو الرزاق .
 
1 ـ  الرزق أداة لتأديب الإنسان :
 
أيها الإخوة ، الله عز وجل رزَّاق ، ورازق ، وحينما خلق الإنسان تكفَّل له برزقه ، ولكن ربنا جل جلاله قد يتخذ من الرزق أداةً لتأديب الإنسان ، فقد يحرم المرء بعض الرزق بالمعصية ، والدليل :
﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ
( سورة الجن)
 
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
 ( سورة الأعراف: من آية " 96" )
       ففي آيات كثيرة تربط بين الرزق والإيمان .
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
 ( سورة المائدة: من آية " 66" )
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا
 ( سورة هود: من آية " 6" )
       (على) تفيد الإلزام ، يعني الله عز وجل ألزم ذاته العلية برزق العباد.
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ
( سورة هود: من آية " 6" )
        طبعاً ( ما ) و ( من ) من تفيد استغراق أفراد النوع ، أية دابة ، ولو أنها نملة سمراء على صخرة صماء ، في ليلة ظلماء ، لها رزق عند الله ، وقد تجد وعلاً ، يعيش في قمم الجبال ، وفي قمم الجبال ماء نبع ،
 مستودعه في جبل أعلى منه ، من أجل هذا الوعل .
        الحديث عن الرزق شيء لا يوصف ، ما دام الله قد خلقنا ، فهو متكفِّلٌ لنا برزقنا ، أما وصول هذا الرزق إليه فباختيارك .
مرة قلت : تفاحة في مكان معين ، في بستان معين ، على الشجرة معين ، على غصن معين ، هذه لفلان ، قد يأكلها فلان سرقةً ، وقد يأكلها تسوُّلاً ، وقد يأكلها ضيافةً ، وقد يأكلها شراءً ، وقد يأكلها هديةً ،
 الطرق تعددت ، أما هي له..
(( إن روح القدس نفثت في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله عباد الله وأجملوا في الطلب ، واستجملوا مهنكم )) .
[ من الدر المنثور عن سعد ]
       كما ورد في بعض الروايات ، فالله عز وجل يقول :
﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
 
2 ـ رزق الله بغير حساب :
 
       الأب يحاسب ، أعطيتك كذا وكذا ، الدولة تحاسب ، آخذ تعويضات ، وآخذ أجور سفر ، وآخذ رواتب ، وآخذ ، وآخذ ، أما الله فبغير حساب ، لذلك العطاء من الله مريح ، أما من العباد فصعب ثقيل ، كلما
 ألقى نظرةً عليك ذكَّرك بفضله عليك ، هذا إن لم يقل للناس : أنا أعطيته ، لحم كتفك من خيري ، هكذا يقول بعض المُمْتَنِّين ، ولكن الله إذا أعطاك عزيزاً كريماً ، أعطاك وسترك ، أعطاك ورفعك ، أعطاك وكرَّمك ،
 فالمؤمن لا يسأل إلا الله ، اللهم لا تجعل حوائجنا إلا إليك ، ودلنا بك عليك ..
﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
 
3 ـ من حكمة الله تحريكُ الرزق والصحة  :
 
آخر فكرة : الله عز وجل ثبت أشياء كثيرة ، استقراراً للنظام ، وحرَّك الرزق والصحة ، هذه من أجل تربية الإنسان ، الله يربينا بصحتنا وأرزاقنا ، أما دورة الأرض حول الشمس ، حركة الشمس ، حركة القمر
 ، خصائص المعادن ، خصائص النباتات كلها ثابتة استقرارا للنظام ، أما الله عز وجل فقد حرَّك الرزق ، وحرك الصحة ، فسماءٌ لا تمطر ؛ تجف الينابيع ، تجف الأنهار ، يموت الزرع ، يجف الضرع ، يرحل
 الإنسان ، قد تأتي المياه كأفواه القرب ، فالرزق متبدِّل ، بيد الله عز وجل يسوق هذا المطر لمن يشاء من عباده ، ويصرفه عمن يشاء ، فنحن علينا أن نعتقد أن الله هو الرزاق ، وأن استقامتنا على أمره ، وطاعتنا
 له ، أحد أكبر أسباب رزقنا ، إيماننا به ، واستقامتنا على أمره ، من خلال آيتي القرآن ..
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
 ( سورة الأعراف: من آية " 96" )
﴿وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)
( سورة الجن)
       إذاً الرزق متعلق بالإيمان ، والاستقامة من خلال هاتين الآيتين ، وقد يحرم المرء بعض الرزق بالمعصية .
       أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتقل في الدرس القادم إلى قوله تعالى  :
﴿ لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
 
والحمد لله رب العالمين
*  *  *
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب