سورة لقمان 031 - الدرس (4): تفسير الأيات (12 – 12)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة لقمان 031 - الدرس (4): تفسير الأيات (12 – 12)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 22 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 13 - واجبنا في ظل الظروف - الذي أطعمهم من جوع           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - البلاء           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 394 - سورة المائدة 014 - 018           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 47- خماسية النصر- مهدي اسليم -21 - 04 - 2024           برنامج مع الأسرى: مع الأسرى - حلقة46 - 21 - 4-2024         

الشيخ/

New Page 1

     سورة لقمان

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة لقمان- (الآيات: 12 - 12)

04/04/2012 18:33:00

سورة لقمان (031)
 
الدرس (4)
 
تفسير الآية: (12)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
  
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 
 وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ
 
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الرابع من سورة لقمان ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
 
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾
 
 
 
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
 
 
الحكمة موهبة ربانية وليست مكسبا إنسانيا :
قال بعض العلماء : " الحكمة من المواهب لا من المكاسب " .
هناك عملٌ تفعله ، وهناك عطاءٌ تأخذه ، فالحكمة من المواهب ، إذا وهب الله الإنسان الحكمة سعد في الدنيا والآخرة .
 
الحكمة القرآنية في إخفاء طبيعة لقمان الحكيم :
 
1 – من حكمة القرآن إغفال الأسماء :
       ولكن ما تعريف الحكمة ؟ وقبل أن نعرف الحكمة ، من لقمان ؟ العلماء اختلفوا فيما إذا كان هذا الحكيم الذي ذكره الله عزَّ وجل نبياً أم عبداً صالحاً ، وهنا تبرز قضيةٌ في القرآن ، القرآنالكريم ذكر أشياء ، وأغفل أشياء ، إذا ذكر الشيء فهناك حكمةٌ بالغة ، وإذا أغفله فهناك حكمةٌ بالغة ، فإذا أراد الله عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة أن يُغْفِلَ ما إذا كان هذا الحكيم نبياً أو غير نبي ، فأنت إذا أردت أن تطلع ، أو أن تبحث ، أو أن تستقصي ما إذا كان هذا الحكيم نبياً أو غير نبي فكأنك تفسد على الله حكمته ، هذا ينقلنا إلى موضوع آخر .
2 – العبرة بالنموذج لا بالمشخَّص :
الموضوع الآخر هو أن الله سبحانه وتعالى في القصص القرآني يذكر رجلاً ، ويغفل اسمه ، هذا أبلغ ، فإذا أردنا أن نبحث عن اسمه ماذا فعلنا ؟ كأننا أردنا أن نُحَدِّدَ أو أن نخصص ما أغفله الله ، لماذا أغفل الله اسم بعض الأشخاص في القصص القرآني ، لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُعَلِّمنا أن الشخص ليس معنياً بالموضوع ، المعني هذا النموذج البشري ، لو أن الله عزَّ وجل حدد هؤلاء الأشخاص بأسمائهم وأماكنهم لأصبح هذا المُشَخَّصُ غير مكرر ، لكن الله عزَّ وجل أراد حينما أغفل اسم هذا الشخص الذي ذكره في قصته أن يكون مكرراً ، فبين أن يكون هذا الشخص ذكره ، وأغفل اسمه نموذجاً متكرراً صالحاً لكل مكانٍ وزمان ، وبين أن تكون قصةً تاريخيةً وقعت وانتهى الأمر .
ربنا عزَّ وجل حيثما خَصَّص ، وشَخَّص فنحن نبحث عنحكمة ذلك ، وحيثما لم يشخّص ، ولم يحدّد ، ولم يذكر فهناك حكمةٌ بالغةٌ لا تقلّ عن حكمته إذا شخص ، إذاً القرآن الكريم أحياناً يشخّص ، وأحياناً لا يشخّص ، يقول : ذي القرنين ، من ذو القرنين ؟ بحث العلماء واستفاضوا ، وتعمَّقوا وسألوا ، هذا طريقٌ مسدود ، لأن الله سبحانهوتعالى لم يشخص ذا القرنين ، لم يذكر اسمه لحكمةٍ بالغةٍ ، وهي أنه نموذجٌ متكرر ، قد يصل الإنسان إلى أعلى قوة ، وهو صالحٌ ، خائفٌ ، منيبٌ ، متواضعٌ ، طائعٌ خَيِّر .
فأيّ منصبٍ مهما علا يمكن أن يوظف في طاعة الله ، ويمكن أن يوظف في خدمة الآخرين ، فربنا عزَّ وجل لو أنه ذكر اسم ذا القرنين اسمه ، ومكانه ، وزمانه ، وتحديداً وتشخيصاً ، لأصبحت هذه القصة تاريخاً ، ولتوهَّمنا أنه نموذج لا يتكرر ، ولكن الله عزَّ وجل حينما لم يشخصه وعممه ، ولم يحدد اسمه ومكانه وزمانه ، جعل من هذه القصة نموذجاً إنسانياً متكرراً .
إذاً : إذا أغفل الله عزَّ وجل اسم أحد أشخاص في قصصه فهي حكمةٌ بالغة ، ولا معنى ، ولا جدوى ، ولا ذكاء ، ولا نجاح في تقصِّي من هو فلان ؟ لأن المغزى لا يتعلق بالأسماء ، يتعلق بالحوادث ، يتعلق بالعِبَر ، يتعلق بالدروس ، إذاً : يمكن أن نستنتج القاعدة التالية :
       الله عزَّ وجل حكيمٌ حكمة لا حدود لها ، إذا شَخَّصَ أبطال القصص ، وإذا لم يشخِّصهم ، فإذا شخص فالحكمة في التشخيص ، وإن لم يشخص فالحكمة في عدم التشخيص ، ولا معنى أن نبحث في هذا الموضوع الذي أغفله الله عمداً .
3 – باب الحكمة مفتوح لكل الناس :
فسيدنا لقمان ، أليس بالإمكان أن يقول الله عزَّ وجل : إنه كان نبياً رسولاً ، وانتهى الأمر ، كل هذا الخلاف ينتهي حينما يقول الله عزَّ وجل : إنه كان نبياً رسولاً ، لكن ربنا عزَّ وجل قال :
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ٌ﴾
 
الأضواء هنا مسلطة كلها على الحكمة ، لا على ما إذا كان نبياً أو رسولاً ، أو حكيماً ، أو صالحاً ، أو عبداً الأضواء هنا مسلطة على حكمته ، وكيف أن كل إنسانٍ إذا استمد من الحكيم يُصبح حكيماً ، إذا اتصل بالحكيم يصبح حكيماً ، إذا أقبل على الحكيم يصبح حكيماً ، فإذا قلنا : إنه نبي ، وانتهى الأمر ، النبوة كما يُعَرِّفُهَا العلماء ليست كَسْبِيَّة ، أما إذا قلنا :
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
 
لم يذكر الله عزَّ وجل ما إذا كان لقمان نبياً أو غير نبي ، معنى ذلك أنك أيها الإنسان أمامك باب مفتوحٌ لتكون حكيماً ، والدليل :
 
] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [ .
 ( سورة البقرة : من آية " 269 " )
       إذاً : الباب مفتوح ، أما إذا شَخَّصْنَا ، وحددنا ، وخَصّصنا تصبح قصةً تاريخيةً لا تتكرر ، ربنا عزَّ وجل يريد منا أن يكون هؤلاء الأشخاص مُثَلاً عُليا لنا ، مناراتٍ لمجموع المؤمنين .
إذاً : لو قرأتم في التفاسير حول لُقمان الحكيم ، هل هو نبي ؟ هناك علماء يستنبطون أنه نبي من بعض الأحاديث الحَسَنَة ، ليست الصحيحة ولا الضعيفة ، وبعضهم يستنبط أنه غير نبي ، ونحن نُغْفِلُ ما أغفل الله ذكره ، هذا أصح منهج في فهم القرآن ، نبحث فيما ذكر الله ، ونغفل ما أغفل الله ، لأن الله حكيمٌ في إغفاله ، وفي ذكره ، وتخصيصه .
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ ﴾
 
كلمة ] آتَيْنَا[ كما قلت قبل قليل : هذه من المواهب ، أي أنك إذا أقبلت على الله عزَّ وجل يجب أن تتوقع أن الله سيؤتيك شيئاً ، شيئاً ثميناً ، إذا أقبلت عليه قد تؤتى بصيرةً ، إذا أقبلت عليه قد تؤتى حكمةً ، وكم من إنسانٍ دَمَّرَ نفسه بحُمقه ، دمر نفسه بعمى بصيرته ، دمر نفسه بغضبه .      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
 
4 – عطاء الله بقدْر الإيمان والإخلاص والاستقامة :
وإذا ذكر الله عطاءً أعطاه لبعض الأنبياء أو لبعض عباده الصالحين فذلك ليكن معلوماً لديكم أن المؤمن بقدر إخلاصه ، وبقد استقامته ، وبقدر إيمانه له من هذا العطاء نصيب .
5 – الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ :
إذاً : الحكمة ليست قاصرةً على لُقمان الحكيم ؛ بل الحكمة ضالة المؤمن ، كما قال عليه الصلاة والسلام   أينما وجدها التقطها :
(( الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا )) .
[سنن ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
 
6 – الْحِكْمَةُ أثمنُ عطاء :
ما الحكمة ؟ طبعاً ما دام الله عزَّ وجل يقول :
 
] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [ .
( سورة البقرة : من الآية 269 )
هذا كلام خالق الكون ، هذا كلام الله عزَّ وجل:
 
وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [.]
أنت أيها الإنسان الخير الذي تبحث عنه هل تراه في الحكمة أم في المال ؟ أم في القوة أم في الصحة ؟ أم في كثرةالعدد ؟ أم في الشأن، أم في الوجاهة ، أم في الوسامة ، أم في الذكاء ؟ ربنا عزَّ وجل يبين لنا وهو الخبير ..
 
] وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [.
( سورة فاطر 14)
ويُنْبِئُنا بأن أثمن عطاءٍ تناله أن تكون حكيماً ، أثمن عطاءٍ على الإطلاق تناله من الله أن تكون حكيماً ، ما الحكمة إذاً ؟ الحكمة نوعان : مفردةً ومقترنةٌ بالكتاب .
]ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ[ .
آياتٌ ثلاث أو أربع في القرآن الكريم وردت فيها الحكمة مقترنةً بالكتاب ، إذا جاءت الحكمة مع الكتاب لها معنى ، وإن جاءت الحكمة مفردةً لها معنى .
 
 ما هي الحكمة ؟
 
1.    معنى الحكمة إذا جاءت غير مقرونة بالكتاب : 
 
1 – النبوة :
ماذا قال العلماء الأجلاَّء في تعريف الحكمة إذا جاءت مفردةً ؟ بعض العلماء فسر الحكمة بالنبوة .
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
 
     أي أن الأنبياء عندهم من الحكمة ، ومن حُسْنِ التصرف ، ومن الحصافة ، من إدراك أبعاد الأمور ، ومن التصرفات الصحيحة الموزونة ما يدهش العقول ، فحتى كلمات الأنبياء موزونة ، حتى الحروف ..
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
 
       بعض العلماء قالوا : الحكمة هي النبوة .
2 – القرآن :
وبعضهم قال : الحكمة هي القُرآن ، أي أنك إذا قرأت القرآن ، وإذا فهمت القرآن ، وإذا عملت بالقرآن ، فهي الحكمة ..
 
] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [ .
من أوتي القرآن ورأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي فقد حَقَّرَ ما عَظَّمَهُ الله ، فإذا سمح الله لك أن تفهم كلامه ، إذا سمح الله لك أن تقبل على كلامه ، إذا سمح الله لك تُطَبِّق كلامه فأنت من أسعد الناس ، لقد أوتيت الحكمة ، وما من حكمةٍ أعظم من أن تفهم كلام الله ، لأن كلام الله كله حكمة ، الحكمة كلها من الله عزَّ وجل ، أنت مع كلام خالق الكون ، أنت مع كلام المُطْلَق ، مطلقٌ في كماله ، مطلقٌ في علمه ، مطلقٌ في غناه، مطلقٌ في قدرته ، إذاً التفسير الآخر للحكمة النبوة .
      والتفسير الثاني علم القرآن ، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه: << الحكمة علمُ القرآن  ؛ ناسخه ومنسوخه ، محكمه ومتشابهه ، مُقَدَّمِهِ ومؤخَّرِهِ ، حلاله وحرامه ، وأمثاله >> ، أي أنك إذا قرأت القرآن ؛ عرفت أن هذا أمر وهذا نهي ، هذا وعد وهذا وعيد ، هذا مثل ، وهذه قصة، وهذا مغزى القصة ، وهذه آيةٌ كونية ، وهذه آيةٌ بيانية ، وهذا نظمٌ معجز ، وهذا توجيهٌ سديد ، وهذه حقيقة ، فإذا جُلْتَ في القرآن ، إذا جال فكرك في آيات الله ، واستمتعت به ، وذابت نفسك تعظيماً لمُنْزِلِهِ ، هذه حكمةٌ بالغة ، هذا رأي ابن عباسٍ رضي الله عنه في الحكمة .
3 – القرآن وفهمه وتفسيره :
       وقال بعض العلماء : الحكمة هي القرآن والفهم فيه ، وقالمجاهد: هي القرآن والعلم والفقه .
4 – الإصابة في القول والفعل :
وقال بعضهم : الحكمة هي الإصابة في القول والفعل .
أحياناً يتكلم الإنسان كلمة يبقى أسبوعاً أو أسبوعين متألماً أشد الألم من هذه الكلمة ، لأنه لم يكن بها حكيماً ، أحياناً يقف موقفاً ، أحياناً يتكلم كلمةً ، أحياناً يقبل إقبالاً، أحياناً يمتنع ، أحياناً يصل ، يقطع ، يغضب ، يرضى ، ينطلق ، ينكَمِش ، الموقف الذي لا حكمة فيه يؤلم صاحبه أشد الألم ، لذلك لا ترتاح النفس إلا إذا كانت حكيمة ، أصحاب الحساسية البالغة ، أصحاب الفِطْرَةَ السليمة ، أصحاب الحِس المُرْهَف ، لو أنهم تكلموا بكلمة ليست حكيمةً يتمزَّقون ، تتفطر قلوبهم ندماً على هذه الكلمة ..
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ)) .
[ من سنن الترمذي عن أبي هريرة ]
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا ، تَعْنِي قَصِيرَةً ، فَقَالَ : لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ )) .
[ أبو داود ]
وقد سمعت أن بعض المياه المالحة التي تفرزها بعض المدن ، تبقى في البحر تسير ما يزيد على خمسةٍ وثمانينكيلو مترا ، لشدة كثافتها ، ومع ذلك البحر طاهر ، أما أن تقول امرأةٌ عن امرأةٍ : إنها قصيرة ، أو إنها دميمة ، هذا الذي يُقَلِّد الآخرين ، هذا الذي يهزأ لشكلهم ( ولا دخل للإنسان في شكله ) ، أنت حاسب الإنسان على أعماله ، على أخلاقه ، لك أن تحاسبه على أعماله ، لك أن تحاسبه على أخلاقه ، أما مجرد التهكُّم على خلق الإنسان هو في الحقيقة تهكمٌ على خلق الله عزَّ وجل ، فالإنسان ليس له دخل في خلقه ؛ كون هذا طويل ، وهذا قصير، وهذا وسيم ، وهذا دميم ، هذا لونه كذا ، وهذا لونه كذا ، هذا عنده غُنَّة ، وهذا عنده بَحَّة ، هذا عنده حبسة في كلامه ، هذا ليس إليه هذا إلى الله عزَّ وجل ، فلذاك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ )) .
إذاً الحكمة هي الإصابة في القول والفعل .
قلت لكم سابقاً : إن امرأةً لها ابنٌ مِن زوجها ، فإذا أرادت أن تسقي أبناءها الحليب ، سقت أبناءها الذين من صلبها حليباً سليماً ، أما أبناءها من زوجها فتسقيهم حليباً نصفه ماء ، ونصفه حليب ، وفيما يروي بعضهم أنها عُذِّبَت عذاباً لا حدود له لهذه التفرقة ، إذاً : هي ما أصابت في الفعل ، فالإنسان عنده مَزْلَقِين ؛ أن يخطئ في أقواله ، وأن يخطئ في أعماله .
على كلٍ الخطأ غير المقصود مغفرته سهلة ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ )) .
[ سنن ابن ماجه ]
أما الخطأ المقصود في القول أو في العمل فهذا يهوي بصاحبه إلى أسفل سافلين .
5 – معاني الأشياء وفهمها :
قال بعض العلماء : الحكمة هي معاني الأشياء وفهمها ، الأشياء لها ظاهر ، ولها باطن ، لها شكل ، ولها حقيقة ، فالحكمة أن تفهم بواطن الأمور ، أن تفهم حقائق الأشياء ، أن تفهم الخلفية ، أن تفهم مابين السطور ، أن تفهم ما يُدَبَّرَ في الخفاء ، من الحكمة أن لا تكون ساذجاً ، لك الظاهر ، هناك أناسٌ أوتوا الحكمةً ، يفهمون أن وراء هذه الأحداث شيئاً آخر ، إذاً : من معاني الحكمة أن تفهم فهماً دقيقاً ، أن تفهم فهماً صحيحاً ، أن تمتلك رؤيةً صحيحةً ، هذا من معاني الحكمة .
6 – الورعُ في الدِّين :
وقال الإمام الحسن رضي الله عنه : " الحكمة هي الورع في دين الله " .
ولعله رضي الله عنه أراد أن يذكر الحكمة بنتائجها ، أي ملخص الملخص أن تكون ورعاً ، و (( ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعةٍ من مُخَلِّط )) .
[ الجامع الصغير عن أنس يسند فيه مقال ]
ومن لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأالله بشيءٍ من عمله ، فالإمام الحسن رضي الله عنه ذكر الحكمة بثمارها ، وبنتائجها ، الحكمة أن تكون ورعاً .
 
2. معنى الحكمة إذا جاءت مقرونة بالكتاب : 
 
السُّنة :
 
أما الحكمة إذا جاءت مع كتاب الله عزَّ وجل فهي كما قال الإمام الشافعي : السُنَّة ..
 
] وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [.
( سورة البقرة : من الآية 129)
الكتاب هو المصدر الأول ، والسنة كلام النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أقواله ، وأفعاله ، وصفاته ، وشمائله ، وإقراره إذا رأى شيئاً وسكت فهو من السنة ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يسكت على سلوكٍ غير صحيح ، لأنه حُمِّلَ الأمانة  ..
 
] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [.
( سورة المائدة : من الآية 67 )
الإنسان غير المكلف بهذه الرسالة العظيمة قد يرى خطأً ، ويسكت عليه طلباً للسلامة ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ما سكت عن خطأٍ أبداً لأنه مُكَلَّف .
هذه المرأة التي قالت لزوجها أو لقريبها الذي جاهد مع رسول الله ومات على فراشه ، قالت له :
(( رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ )) ، سمع النبي كلامها ، إن سكت فكلامها صحيح ، لأنه نبي مشرع ، سكوته تشريع ، فقال لها :
 
((وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي ،  قَالَتْ : فَوَ اللَّهِ لا أُزَكِّي
 
 أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا )) .
[ صحيح البخاري عن خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ]
ومن أدراك أن الله أكرمه قولي : أرجو الله أن يكرمه .. هذا الموقف هو التألِّي على الله ، هذا ليس من اختصاصك ، هذا من شأن الله عزَّ وجل ، أنت لك أن تدعو ، لك أن تقول : أرجو الله أن يكرمه ، أرجو الله أن يغفر له ، أرجو الله أن يعفو عنه ، أرجو الله أن يكون في الجنة ، ليس لك إلا الرجاء ، أما إذا تجاوزت الرجاء إلى التقرير ، فلان في الجنة ، من أنت ؟ فلان ليس مؤمناً ، من أنت ؟ ليس هذا من شأنك ، هذا كما قال بعض العلماء : هو التألِّي على الله ، أن يتجاوز الإنسان قدره ، وأن يتطاول ، وأن يُقَيِّم ، وأن يجعل من نفسه وصياً على الناس ، أو مُقَيِّمَاً له ، أو قاضياً ، وقد قال بعضهم : نحن لسنا قضاةً ، ولكننا دعاة ، فرقٌ كبير بين أن تكون قاضياً تحكم على الناس من برجك العاجي ؛ وبين أن تكون داعيةً إلى الله عزَّ وجل ، تدعو الناس إلى الله عزَّ وجل ، وإلى طاعته ، وإلى السير في طريق الإيمان .
إذاً : إذا جاءت الحكمة مع الكتاب فهي السنة ، إن جاءت وحدها ، بعضهم قال : هي النبوة ، بعضهم قال : هي فهم كلام الله عزَّ وجل ، بعضهم قال : هي إصابة القول والعمل .
 
 المعنى العامّ للحكمة :
 
لكن هناك من يقول : الحكمة أن تفعل ما ينبغي ، على الوجه الذي ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي ، كيف ؟ الشيء له حق ، وله حد ، وله وقت ، من حق هذا النبات أن تسقيه ، وإذا سقيته يجب أن تسقيه بقدر لا تزيد ولا تنقص ، وفي الوقت المناسب ، من حقه أن تسقيه بالقدر المناسب وفي الوقت المناسب ، فإن فعلت هذا فأنت حكيم في الزراعة ، مع أولادك ؛ يجب أن تغضب بالقدر المناسب ، يجب أن تغضب أو لا تغضب ، هذا الموقف يجب أن تتغاضب له ، فإن لم تغضب فقد انحرفت ، لم تكن حكيماً ، وفي موقفٍ آخر يجب أن لا تغضب ، فإذا غضبت فلست حكيماً ، في هذا الموقف يجب أن تُعْطِي ، هناك يجب أن لا تعطي ، هناك إعانة على المعصية لا تعطي ، إن أعطيت في الموطن الذي لا ينبغي أن تعطي فلست حكيماً ، وإن لم تعط في الموقف الذي ينبغي فلست حكيماً ، إذاً : أن تفعل الحق في الحد المناسب ، وفي الوقت المناسب ، أن تفعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ، إذاً : فأنت حكيم هذا بعض ما قاله العلماء عن الحكمة .
على كلٍ ماذا قال الله عزَّ وجل هنا عن الحكمة ؟ فالكلام له سباق كما يقولون ، وله سياق ، وله لحاق ، السباق ما جاء قبله ، والسياق ما جاء معه ، واللحاق ما جاء بعده ، فربنا عزَّ وجل حينما قال :
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
 
 
ماذا قال قبل هذا الكلام ؟ قال :
      
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ¯هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
الحديث هنا عن الشرك،هذا خلق الله ..
      
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾
إلخ ..
      
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾
 
الحكمة باعتبار سباق الآية ولحاقها :
 
1 ـ الحكمة باعتبار سباق الآية هي التوحيد :
الحكمة التوحيد إذاً ، الطيش والسفه والحمق أن يكون الإنسان مشركاً ، والحكمة أن يكون موحِّداً ، سباق هذه الآية يلقي ضوءاً على معنى الحكمة ، كل مشركٍ ليس حكيماً ، الحكمة كل الحكمة في التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، لن تكون حكيماً إلا إذا كنت موحِّداً ، ما دام يتجه ذهنك إلى هذه القوة ، وإلى هذه الجهة ، وإلى هذا المكان ، وفلان بإمكانه أن يفعل ، وأن لا يفعل ، وهذه الفئة لها قوَّتُهَا ، ولها تحديد مصيرك ، إذا نظرت إلى زيدٍ أو عُبيد ، أو إلى فُلان أو عِلاَّن ، أو إلى جهةٍ أو إلى أخرى لم تكن حكيماً ، لأنه لم يكن في الكون إلا الله ..
 
] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [ .
( سورة الزخرف : من الآية 84 )
 
] وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [ .
(  سورة هود : من الآية 123 )
 
] مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [.
( سورة فاطر : من الآية 2 )
] لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [ .
(  سورة الأعراف : من الآية 54 )
 
 
] وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ[ .
( سورة الشورى31)
 
] إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [ .
(  سورة آل عمران : من الآية 160 )
 
] مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ .
(  سورة الكهف  26)
 
] لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [ .
(  سورة الأعراف : من الآية 54 )
 
] اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [ .
(  سورة الزمر  62)
(( لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ )) .
[ سنن الترمذي عن جابر بن عبد الله ]
هذه الحكمة ، الحكمة أن تكون موحِّداً ، لسباق الآية، لأن سباقها يقول :
      
﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ  ¯وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
أي كان موحداً ، ولم يكن مشركاً ، فالحكمة كلُّها في التوحيد ، والحُمْقُ كله في الشرك ، وإن الشرك لظلمٌ عظيم ، وأقول لكم : نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى ، فإذا كنت موحداً وطائعاً فأنت في الأوج ، أنت المتفوق ، أنت الفالح ، أنت الناجح ، أنت الفائز ، أنت سعيد ، إذا كنت في العقيدة موحداً ، وفي السلوك طائعاً ، توحيد بلا طاعة لا قيمة له ، وطاعة بلا توحيد لا قيمة لها ، إذا كنت في العقيدة موحداً ، وفي السلوك طائعاً فقد نلت المجد من طرفيه ، وعرفت حقيقة الدين ، ووضعت يدك على جوهر الدين ، وحققت الفوز في الدنيا والآخرة ، الحكمة إذاً هي التوحيد في سباق هذه الآية .
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
2 ـ الحكمة باعتبار لحاق الآية هي شكرُ الله على النعم :
أما لحاقها فما دام الله قد وهب لك الحياة ، وهب لك الوجود ، فأنت أحد نعم الله عزَّ وجل ، ألست موجوداً ؟ ألست حياً تُرزق ؟ أليس لك اسمٌ في السجلات الرسمية ؟ أليس لك حَيِّزٌ تشغله ؟ أنت موجود ، ما دمت موجوداً فهذه نعمةٌ من الله عزَّ وجل ، بعد أن أوجدك ألم يُمِدَّكَ بأبوين يعطفان عليك ، رَبَّيَاك حتى أصبحت قوي العود ؟ من أودع في قلب الأم الرحمة والحنان ، من أودع في قلب الأب حب الكسب من أجلك ، حتى جعلك شاباً سوياً ؟ إذاً أنعم عليك بالوجود ، وأنعم عليك بما يحفظ لك الوجود وهما الأبوان ، لذلك في أكثر الآيات يأتي الأمر ببر الوالد ، مع الأمر بعبادة الله عزَّ وجل ..
 
 
] وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْن إِحْسَانًا [ .
( سورة الإسراء : من الآية 23)
هذه الواو حرف العطف يقتضي المجانسة ، أمرك أن تعبد الله ، وأمرك أن تكون باراً بوالديك .
إذاً: سباق الآية يعني أن الحكمة هي التوحيد ، ولحاق الآية يعني أن الحكمة أن تشكر الله على نعمٍ لا تعد ولا تحصى ، لو أنك نظرت في نعمةٍ واحدٍ ، ينقضي العمر ، ولا تنقضي خيرات نعمةٍ واحدة ، والدليل :
 
] وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [ .
( سورة إبراهيم : من الآية 34 )
أنتم عاجزون عن إحصائها ، فلأن تكونوا عاجزين عن شُكرها من باب أولى ، إذا كنتم عاجزين عن إحصائها فأنتم عن شكرها أعجز .
 
 مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ
 
إذاً : هذا الذي يفسر قول تعالى :
 
] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [ .
( سورة النساء : من الآية 147)
إنه شيء دقيق جداً ، فأنت أمام مهمتين ، مهمة الإيمان بالله ، وما دام الله منعماً ، ومهمة شكره ، فإذا آمنت وشكرت انتهت المعالجة ، حققت المراد الإلهي ، حققت الهدف الذي من أجله خلقت ..
 
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [.]
مثلاً :ولله المثل الأعلى ، الأب كل طلباته من ابنه أن يكون مجتهداً ، دَيِّنَاً ، مهذباً ، حسن المظهر ، نظيفاً ، فإذا حقق الابن هذه الغايات انتهى التأديب ، انتهى نهائياً ، وهذا معنى قوله تعالى :
 
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ[ . ]
 
تسخير الكون تعريفاً وتكريماً :
 
إن هذا الكون سخره الله لنا تسخيرين ؛ تسخير تعريف وتسخير تكريم ، لو فرضنا أنك جاءتك هدية ، جهاز كهربائي دقيق جداً من أعلى مستوى من أشهر المعامل ، وقدم لك خدمات كبرى ، وهو هدية ، أنت أمام موقفين ، موقف الإعجاب بدقة الصنع ، وموقف الاهتمام بمن قَدَّمَهُ لك ، لو قدمه لك الصانع نفسه ينشأ عندك شعوران ؛ شعور التعظيم لدقة الصنع ، وشعور الامتنان ، لأنه قدم لك هديةً ، فأنت سخر الله لك الكون تسخيرين ، تسخير تعريف ، وتسخير تكريم .
 
 ردُّ فعل الإنسان تجاه تسخير الكون تعريفة وتكريماً :
 
تسخير التعريف يكون رد فعلك الطبيعي الإيمان ، وتسخير التكريم يكون رد فعلك الطبيعي الشُكران ، فإذا آمنت ، وشكرت وصلت إلى المَجد ، ووصلت إلى الأهداف الكبيرة التي رُسِمَت لك ..
 
] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا[ .
إذاً : الشكر شيء أساسي ، ربنا عزَّ وجل أثنى على بعض الأنبياء بآيةٍ إذا قرأتها وكنت يقظاً صافي النفس تذوب :
 
]    شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ [ .
( سورة النحل : من آية "  121)
 
إنها نِعمٌ كثيرة لم تحصي عدَّها، ولن تبلغ شكْرَها :
 
أيّ نبيٍ هذا ؟ سيدنا إبراهيم ، شاكراً لأنعمه ، يا ترى نحن نشكر نعم الله عزَّ وجل ؟
1 – ماذا لو حبس عنك خروج الفضلات ؟!
النبي عليه الصلاة والسلام علمنا إذا أفرغ أحدنا مثانته أن يقول :
(( إذا خرج أحدكم من الخلاء فليقل : الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني ، وأمسك علي ما ينفعني )) .
[الجامع الصغيرعن طاووس مرسلا]
ولا يعرف آلام حبسِ البول إلا من ذاقه ، كان عليه الصلاة والسلام يقول بعد قضاء الحاجة :
(( الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى في قوته ، وأذهب عني أذاه )) .
[ الجامع الصغير عن ابن عمر]
إنّ الإنسان يمكن أن يأخذ مادة السيروم ، ويعيش عليه ، لكن :
(( الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى في قوته ، وأذهب عني أذاه )) .
انظر إلى هذا الفهم العميق للطعام ؛ فيه غذاء ، وفيه لذة ، وفيه فضلات ، الغذاء تقوَّيت به ، واللذة استمتعت بها ، والفضلات ذهبت عني ، شاكراً لأنعمه . النبي عليه الصلاة والسلام كما تروي بعض الأحاديث :
(( كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت )) .
[ ورد في الأثر ]
2 – كيف أنت مع الثوب الجديد ؟
إذا ارتدى الإنسان ثوباً جديدًا : عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : لَبِسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي ، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي ، وَأَتَجَمَّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الثَّوْبِ الَّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدَّقَ بِهِ كَانَ فِي كَنَفِ اللَّهِ ، وَفِي حِفْظِ اللَّهِ ، وَفِي سَتْرِ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا )) .
[ الترمذي ]
3 – هذه نعمة النوم فكيف حالك معها ؟
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ :
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانِي ، وَآوَانِي ، وَأَطْعَمَنِي ، وَسَقَانِي ، وَالَّذِي مَنَّ عَلَيَّ فَأَفْضَلَ ، وَالَّذِي أَعْطَانِي فَأَجْزَلَ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ ، وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ )) .
[ أبو داود ]
فهو يرى بعينيه ، ويسمع بأذنيه ، ويفكر بفكره ، إذا رأى إنساناً أذهب الله عقله ، مع أنه قوي البنان ، ولكنه ساقط الشأن بين المجتمع ، يقول لك : مجنون ، فإذا وهبك عقلاً فاحمد الله .
هناك قصة معرفة عندكم ، لما دخل وفد الحجازيين على سيدنا عمر بن عبد العزيز ، فتقدمهم غلامٌ صغير لا تزيد سنه على الحادية عشرة ، انزعج الخليفة ، قال له : " اجلس أيها الغلام ـ من أنت ؟ ـ وليَقُمْ مَن هو أكبر منك سناً " ، فقال : " أصلح الله الأمير ، المرءُ بأصغريه ؛ عقله ولسانه ، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً ، وعقلاً حافظاً فقد استحق الكلام ، ولو أن الأمر كما تقول لكان في الآمة من هو أحق منك بهذا المجلس " ، وانتهى الأمر ، إنه كلامٌ موجزٌ بليغ .
إذاً : شاكراً لأنعمه ، بمعنى أن الله عزّ وجل منحك نعمة الوجود ، فهل شكرت هذه النعمة ؟ منحك نعمة الإمداد ، فهل شكرت هذه النعمة ؟ منحك نعمة الإرشاد ، فهل شكرت هذه النعمة ؟ منحك نعمة العقل ، منحك فطرةً سليمة ، منحك أجهزةً وأعضاء ، منحك زوجةً وأولاد ، منحك مأوى ، منحك مهارات تكسب بها رزقك .
كل إنسان أعطاه الله مهارات ؛ هذا في مهنة ، وهذا في حرفة ، وهذا حرفة فكرية ، هذا طبيب ، وهذا مهندس ، وهذا محامِ ، وهذا نجَّار ، وهذا صانع ، وهذا حدَّاد ، كل إنسان الله أعطاه مهارات يكسب بها قوته ، إذاً يجب أن نشكر .
والشكر كما قلت لكم : في حده الأدنى أن تعرف أن هذه النعمة من الله ، وفي حدها الأوسط أن يمتلئ قلبك امتناناً له ، وفي حدها الأعلى أن تقابل هذه النعم بالعمل الصالح لقوله تعالى :
 
]    اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ[ .
(سورة سبأ13)
ماذا فعلت ؟
 
]     فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [.
( سورة البقرة : من الآية 152)
 
 
] كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ  [.
( سورة البقرة: الآية : 151 – 152 )
4 – ماذا فعلتَ بنعمة الهدى ؟
أنت اهتديت ، حاولت أن تهدي الآخرين ؟ الله عزَّ وجل أنعم عليك بنعمة الهدى ، حاولت أن تشكر هذه النعمة بأن تبث هذا الهدى في الآخرين ؟ حاولت أن تمد يدك إلى إنسانٍ ضال فتنقذه من ضلاله ؟ حاولت أن تمد يدك إلى إنسانٍ شارد ترده إلى صوابه ؟ حاولت أن تأخذ بيد الضعيف ، بيد المسكين ، بيد الحاجة ، شكراً على نعمة الله عزَّ وجل ؟
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾
 
 كل إنسان مسبوغٌ بنعم الله عز وجل :
 
لكن المشكلة أنك إذا كنت شاكراً فإن هذا الشكر يعود عليك ، يعود إليك ، لأن الله غنيٌ عن شكر العباد  ..
(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ
 
 مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا
 
 عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
[ مسلم عن أبي ذر]
من كلام العوام أنهم يقولون لك : ليس لي حظ ، هذا كلام ليس له معنى ، يقول لك : الدهر قلب لي ظهر المِجَنّ ، كلام ليس له معنى ، كلام فارغ ، يقول لك : أيَّامي سوداء ، جاء في الحديث القدسي :
(( يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ ، وَأَنَا الدَّهْرُ ، بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)) .
[ صحيح البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ]
(( يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَقُولُ : يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ ، فَلا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ ، فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ ، أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ ، فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا )) .
[ مسلم عن أبي هريرة]
لا يوجد إلا الله عزَّ وجل ، والنبي يقول :
(( فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
[من صحيح مسلم عن أبي ذر]
       لا يخافن العبد إلا ذنبه ، ولا يرجون إلا ربه .
إذاً:
      
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
لا تنسوا هذه الآية:
 
] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [ .
 
 بالحكم تكسب كل شيء وبالحُمق تفقد كل شيء :
 
أنت بالحكمة تكسب المال ، وبالحمق تبدده ، أنت بالحكمة تجعل من الزوجة السيئة صالحةً ، وبالحمق تجعل الصالحة سيئةً ، أنت بالحكمة تستطيع أن تستمتع بالحياة بشكلٍ نظيف ، وبالحُمق تفقد كل شيء ، ورُبَّ أكلةٍ منعت أكلات ، ألا يا ربَّ شهوة ساعةٍ أورثت حزناً طويلاً ـ شهوة ساعة ـ ألا يا ربَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ، يا ربَّ مهينٍ لنفسه وهو لها مكرم ، ألا يرب شهوة ساعةٍ أورثت حزناً طويلاً ، لعدم وجود الحكمة ، لذلك :
 
] الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [.
[سورة محمد 1]
من لوازم الكفر الضلال ، العمل فيه خطأ ، فيه انحراف ، لأنه أعمى..
 
]وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى¯قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا¯قَالَ كَذَلِكَ [ .
[سورة طه 124]
       أي كنت أعمى في الدنيا ..
 
]أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى[ .
[سورة طه 126]
      
﴿ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾
 
 َمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
 
إذا كان مع الإنسان ـ مثلاً ـ صندوق حديد ، كلما جمع مبلغا فتح الصندوق ، ودفع هذا المبلغ فيه ، وقفله ، فأنت تعطي من ؟ لا تعطي أحدًا ، هذا المال مالك ، أنت تجمع هذا المال ، بإمكانك أن تقول : أنا دفعت مئة ألف في الصندوق ، لا ، ليس لك فضل على أحد ، أنت بهذا جمعت مالك في صندوقٍ واحد .
 
 
﴿ وَمَنْ يَشْكُرْ ﴾
 
 
 
 
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَان [.]
(سورة الحجرات : من الآية 17 )
هو الذي يمنّ عليكم ، حتى إذا عرفت الله ، وحتى إذا استقمت على أمره ، وحتى إذا تقرَّبت إليه ، وحتى إذا شكرته ما فعلت شيئاً إلا لنفسك  !!
 
 
 
 
﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾
      
﴿ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾
 
وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
 
أي غنيٌ عن إيمان العباد ، لكنه لا يرضى لهم الكفر ، لأنه رحيمٌ بهم ، هو غنيٌ عنهم آمنوا أو كفروا ، لكن رحمته تقتضي أن لا يرضى لهم الكفر ، وإن يؤمنوا به ويشكروه يرضه لهم ، هذا شأن الذات الكاملة ، مع أنها غنيةٌ عن العباد إلا أنها حريصةٌ على هدايتهم ، وعلى سعادتهم في الدنيا والآخرة ، لذلك ومن هذا المنطلق تأتي جميع المصائب حرصاً من الذات الكاملة على إسعاد العباد ، فالعبد إذا كان شارداً ، ضالاً ، منحرفاً ، تأتيه عناية الله عزَّ وجل ، هناك التذكير ، وهناك المعالجة بالمصائب ، وهناك التخويف ، كل هذا من أجل أن ينيب الإنسان إلى الله عزَّ وجل ، فإذا عاد إلى الله حلت كل مشكلاته .
"إذا رجع العبد العاصي إلى الله ، نادى منادٍ في السماوات والأرض : أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله " .
والله الذي لا إله إلا هو لا يصح أن تقول لإنسان من أعماق نفسك : هنيئاً لك ، إلا إذا اصطلح مع الله ، إلا إذا تاب إلى الله ، وإذا تاب العبد إلى الله توبةً نصوحاً أنسى حافظيه والملائكة وبقاعالأرض كلها خطاياه وذنوبه ، والإسلام يجبّ ما قبله ، والإسلام يهدم ما كان قبله ...
 
]قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [.
[سورة الزمر : من الآية  53]
(( لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد ، ومن الظمآن الوارد )) .
[الجامع الصغير عن أبي هريرة]
 
 
]فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ[.
(سورة الذاريات50)
       هكذا جاء في القرآن الكريم .
 
 
 لا بد من إيمان يصمُد مع الفتن الهائجة :
شيء آخر .. يا أباذر جدد السفينة فإن البحر عميق ، الحياة فيها فتن ، إيمان العجائز ، إيمان الاستسلام ، الإيمان الصوري الشكلي ، ما تلقيته في المدرسة ، ما تسمعه من بعض خطباء المساجد من دون جهد ، ومن دون شيء ، هذا الإيمان لا يكفي في عصر الفِتَن ، ربما كان يكفي في زمنٍ قديم عندما كان الناس كلهم صُلَحاء ، الإيمان التقليدي مع أنه مرفوض عند علماء التوحيد ، غير مقبول ، لا تقليد في الإيمان ، الإيمان تحقيق لا تقليد ، ومع ذلك الناس في مجموعهم صُلَحَاء ، فإذا سار الإنسان على منهج الناس ، أغلب الظن أنه ينجو ، أما الآن الفتن كلها يقظة ، فإذا سرت في الطريق لا تستطيع أن تنجو من الفتنة إلا بإيمانٍ قوي ، مجرد أن تنظر نظرة من دون انضباط صار الحجاب بينك وبين الله عزَّ وجل ، لأن الله أمرك بغض البصر ، والنساء في الطريق كاسياتٌ عاريات مائلاتٌ مميلات .
لا تستطيع الآن أن تنتقل من بيت إلى بيت من دون إيمان ، الطرقات مزينة ، الأسواق ، المحلات التجارية ، النساء يخطرن في الطرقات بأبهى زينة ، فإذا كان إيمانك ضعيفاً تنساق ، تطلق البصر في النساء ، ومن ملأ عينيه من الحرام ملأهما الله من جمر جهنم ، ومن غض بصره عن محارم الله أورثه الله حلاوةً في قلبه إلى يومٍ يلقاه .
هل تعلم أيها الأخ الكريم أنك في اليوم الواحد تصلي خمس مرات ، ولكن إذا سرت في الطريق كل غض بصرٍ يُعَدُّ صلاةً لك ، لماذا تغضض ؟  لا توجد جهة تمنعك ، لا يوجد  في الأرض كلها قانون يمنع النظر ، وهذه حكمة الله عزَّ وجل ، أحياناً تلتقي القوانين الأرضية مع الشرائع السماوية ، فالسرقة محرمة في الدين وفي القانون ، فإذا امتنع الإنسان عن السرقة ، فالله أعلم ؛ إما خوفاً من الله عزَّ وجل ، وإما خوفاً من أن يسجن ، أو أن تُهْدَرَ كرامته ، لكنك إذا غضضت بصرك عن محارم الله ، ليس في الأرض كلها تشريع يأمرك أن تغض بصرك ، بل ليس في الأرض كلها جهةٌ تحاسبك على ذلك ، بل ليس في الأرض كلها جهةٌ تستطيع أن تكتشف هذه المعصية ،
 
]يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [ .
[ سورة غافر : الآية 19 ]
طبيب أمامه امرأة يعالجها مسموح له أن ينظر إليها ، لكن الله وحده يعلم ما إذا كان نظره إلى الموضع الضروري أو غير الضروري ، هذا من يعلمه ؟ الله عزَّ وجل ، لذلك غض البصر عبادة الإخلاص ، إذا غضضت بصرك عن محارم الله فأنت ـ وربِّ الكعبة ـ مخلص ، لأنه لا توجد جهة تتملقها بهذا ، وهذا الذي أردت أن أقوله لكم : حينما يستقيم الإنسان على أمر الله ، يشعر أن الطريق صار أمامه سالكاً إلى الله عزَّ وجل .
 
      
﴿ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ¯وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ¯وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾
إن شاء الله تعالى في دروسٍ قادمة نحاول أن نتابع شرح هذه الآيات .
 
والحمد لله رب العالمين
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب