سورة الأحزاب 033 - الدرس (2): تفسير الأيات (04 – 05)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الأحزاب 033 - الدرس (2): تفسير الأيات (04 – 05)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الأحزاب

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الأحزاب - (الآيات: 04 - 05)

14/05/2012 17:26:00

سورة الأحزاب (033)
الدرس (2)
تفسير الآيات : (4 ـ 5)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني من سورة الأحزاب ، في الدرس الماضي الآية الكريمة التي في سورة الأحزاب ، وهي قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) ﴾ .
( سورة الأحزاب )
 
المناسبة بين الآية الأولى وما يليها من الآيات :
 
وجوب التقوى والطاعة المقرونة بالإخلاص :
قبل أن ننتقل أيها الأخوة إلى متابعة الآيات التي تتلو هذه الآية ، لابدَّ من وقفةٍ متأنيةٍ حول العلاقة بين قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) ﴾ .
 
وقوله تعالى :
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) ﴾ .
 
 
أولاً : حينما قال الله عزَّ وجل بعد أن أمر النبي ، بل أمر المؤمنين من خلال النبي عليه الصلاة والسلام ، بعد أن أمر الله المؤمنين من خلال النبي أن يتقوا الله ، وألا يطيعوا الكافرين والمنافقين قال :
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) ﴾ .
 
أي عليماً بما تنطوي عليه قلوبكم حينما تطيعون ، لماذا تطيعون ؟ ما النوايا التي وراء الطاعة ؟ قال عليه الصلاة والسلام في حديث متواتر، ويعد هذا الحديث أصلاً من أصول الدين :
(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )) .
[ من سنن أبي داود عن عمر بن الخطَّاب]
فالطاعة أيها الأخوة قيمتها بما تنطوي عليه من إخلاص .
﴿  وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ  ﴾ .
( سورة البينة : من الآية 5)
من الظاهر العبادة ، ومن الباطن الإخلاص ، فالمؤمن لو أنه اتقى الله عزَّ وجل فيا ترى ماذا ينطوي في نفسه ؟ ماذا يخبِّئ في نفسه ؟ ما الهَدف الذي يبتغيه ؛ السمعة ، أم طاعة الله عزَّ وجل ؟ ما نوع إخلاصه ؟ ما درجة إخلاصه ؟ فحينما أمرك الله عزَّ وجل أن تتقي الله بمعنى أن تطيعه ، أعلمك أنه يعلم نواياك ، أكانت هذه الطاعة مُراءاةً للناس ، استدراراً لعطفهم ، انتزاعاً لإعجابهم ، تحقيقاً لمصالحك فيهم ؟ أم كانت عبادةً خالصةً لوجه الله عزَّ وجل ؟
فكلمة :
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) ﴾ .
 
 
أي أنه يعلم النيات ، يعلم السِر ، يعلم الإخلاص ، يعلم ماذا تريد .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) ﴾ .
 
تذكير وربط السابق باللاحق : 
 
وقد ورد في الدرس الماضي أنه عليمٌ في تشريعاته ، حكيمٌ في أفعاله ، أي أن تشريعه وفق علمه ، وعلمه أساس تشريعه ، فعليمٌ بالإنسان أنه هو خالق الإنسان ، فالأحكام التشريعيَّة تتوافق مع طبيعة الإنسان توافقاً تامًا ..
﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا  ﴾ .
(سورة البقرة من الآية 286 )
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) ﴾ .
 
فمعنى خبير أي فهمه أدق الأشياء ، فهمه أعمق الأشياء ، فهمٌ شمولي ، وفهمٌ دقيق ، وفهمٌ عميق ، الفهم الدقيق ، والعميق ، والشمولي هو معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) ﴾ .
 
الآمر ُضامنٌ 
 
أما النقطة الدقيقة :
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (3) ﴾.
 
موطن الشاهد أن الآمر ضامن ، ما يقوله بعض الناس : إذا فعلت كذا وفق أمر الله أخسر مالي كلَّه ، إذا فعلت كذا وفق ما يأمر الله عزَّ وجل يُسْرَق مالي من البيت ، إذا فعلت كذا أضيع ، إذا وقفت موقفاً حازماً في هذا الموضوع أخسر عملي ، هذا كلامٌ فيه جهلٌ كبير ، لأن الذي أمرك أن تطيعه هو الذي يضمن لك الثواب ، هو الذي يضمن لك الحِرص ، أعبِّر عن هذا المعنى الدقيق بكلمتين هما : الآمر ضامن . قد يأمرك إنسان أن تتجرَّع هذا الدواء ، وقد يكون هذا الأمر غير صحيح ، وقد ينشأ مرضٌ خطير من هذا الدواء ، فإذا عاتبته أو سألته يقول لك : ماذا أفعل ، هذا علمي ، لكن الله عزَّ وجل وهو خالق الكون إذا أمر بأمرٍ فهو ضامن سلامة العافية .
الآن مثلاً هناك أناسٌ كثيرون يقترفون المعاصي من أجل رواج تجارتهم ، يقول لك : هكذا ليكن هذا الشيء ، عندئذٍ يرضي الناس ، يرضي الناس أن تكون في المحل امرأة تبيع الرجال ، يرضي الناس أن تفعل كذا ، حينما تسعى لمصلحتك من خلال معصية الله عزَّ وجل فهذا عين الجهل بالله ، لأنه :
(( من حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد له مما رجا ، وأقرب مما يتقى )) .
[ من كشف الخفاء عن أنس]
 
  اعمل صالحاً بإحلاص ولا تخش في الله لومة لائم :
 
وإذا توهَّمت لحظة واحدة أن طاعة الله تضرُّك ، وأن معصيته تنفعك فهذا هو عين الجهل ، لذلك فالمعنى الذي تنطوي عليه الآيتان معاً :
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ(3) ﴾ .
 
أي افعل ما يرضي الله ، ولا تأخذك في الله لومة لائم ، افعل ما يرضي الله ، ولا تخش أحداً إلا الله ، افعل ما يرضي الله ، واعلم علم اليقين أن الذي أمرك سيحفظك ، افعل ما يرضي الله ، اختر الزوج المؤمن لابنتك ، ولا تظن أن الغني هو الذي يسعدها ، بل المؤمن هو الذي يسعدها ..
﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) ﴾ .
 
 وهمٌ مرفوضٌ : الطاعة تجلب الضر :
 
الآن أضع يدي على منطقة حسَّاسة في الإنسان ، ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ يريدها قد يتراءى لك أن طاعة الله عزَّ وجل سوف تحول بينك وبين خيراتٍ كثيرة ، فعدم الاختلاط يجعلك إنساناً منطويا على نفسك ، عدم المصافحة يجعل لك شخصيَّة محرجاً بها أمام الموظَّفات مثلاً ، عدم تعاملك بهذه الطريقة في البيع والشراء تفوِّت عليك ربحاً كثيراً ، هكذا شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يجعل منطق الأحداث يوحي إليك أن طاعة الله قد تضرُك ، وأن معصيته قد تنفعك ، والحقيقة هي العكس ، لكن من هو المؤمن ؟ هو الذي يقول : والله لا أعصي الله ولو أكلت التراب ، والمنافق على أتفه سبب يتَّخذه ذريعةً لمعصية الله عزَّ وجل.
إذاً : الآمر ضامن ، فالذي أمرك أن تحجِّب ابنتك هو الذي يضمن لها زواجاً موفَّقاً ، أما أنه لابدَّ من أن تسفر ، لابدَّ من أن يراها الناس ، لابدَّ من أن تكون معهم في حفلاتهم ، لابدَّ من أن تُظهر مفاتنها كي يعرفها الآخرون ، هذا الكلام هو الجهل بعينه ، الآمر ضامن ؛ في البيع ، في الشراء ، في التجارة ، في الزراعة ، في الصناعة ، في العلاقات الاجتماعيَّة ، في كل حركاتك وسكناتك أمر الله هو الذي معه حفظ الله ، ومعصية الله عزَّ وجل هي التي معها الخِذْلان ، والتعسير ، ومشكلات الحياة .
الآن هناك آيةٌ دقيقة :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (4) ﴾ .
 
 مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
 
لماذا القلبان ؟
 
لماذا القَلبان ؟ لو أنك بقلبٍ واحدٍ آمنت ، وبالقلب الثاني آمنت ، إذاً الثاني تكرار للأول ، أما إذا آمنت بقلب ، ولم تؤمن بقلب ، إذا عصيت بقلب ، وأطعت بقلب فهذا شيء متضاد ، وطبيعة الحياة ترفضه ، قال ربنا عزَّ وجل :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (4) ﴾ .
للإنسان قلبٌ واحد لا يتسع لشيئين متضادين :
أي له قلبٌ واحد ، يتَّسع لشيءٍ واحد ، لكن أدقَّ من ذلك أن قلب الإنسان لا يتَّسع لشيئين متضادين ، أي أن من أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته ، ومن أحبَّ آخرته أضرَّ بدنياه ، فإذا ادَّعى إنسان أن في قلبه شيئين معا فهذه دعوى ، لأن الإنسان إذا أحبَّ شيئاً كره ضدَّه ، فإذا أحبَّ الغناء ينبغي أن يبتعد عن كلام الله ، فإذا أحبَّ كلام الله ينبغي أن يبتعد عن الغناء  ، إذا أحبَّ أهل الدنيا ينبغي أن يجلس مع أهل الآخرة جلوساً شكلياً ، فإذا أحبَّ أهل الآخرة ينبغي أن يكره أهل الدنيا ، إذا أحب المساجد لا ينبغي أن يحب أماكن اللهو ، فإذا أحب أماكن اللهو وكان في المساجد ، كان فيها كالعصفور في القفص ، أي أن قلباً واحداً لا يتسع لشيئين متناقضين ، فلذلك الحق واحد ، والباطل يتعدد ..
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ  ﴾.
( سورة الأنعام : من الآية 153 )
الحق واحد ، والنور مُفرد .
﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ  ﴾.
( سورة البقرة : من الآية 257 )
فلذلك القلب الإنساني قلبٌ موحَّد لا يتَّسع لشيئين متضادين ، طبعاً هذه هي الحقيقة ، فإذا أحببت الله ورسوله يستحيل أن تحب أهل الفسق والفجور، فإذا رئي أنك تحب هؤلاء وهؤلاء معنى ذلك أن محبَّتك لبعضهم أمر حقيقي ، ومحبتك للآخرين دعوى .
أحياناً يقال لك عن شخص : هو ذكي ، إن جلس مع أهل الدنيا أحبَّهم وأحبوه ، وانسجم معهم انسجاماً كبيراً ، وسهر معهم عشرات الساعات ، فإذا جلس مع أهل الحق أظهر التواضع والمحبَّة والاهتمام ، نقول :
لك قلبٌ واحد إذا امتلأ حباً لأهل الدنيا ، وأهلها من ذوي أهل القوة والحول والطول ، لا يمكن أن يكون فيه مكانٌ لمحبَّة أهل الحق ، فإذا امتلأ بحب أهل الحق ليس في قلبك مكانٌ لمحبة أهل الدنيا ، فإذا رئي أنك تحب الاثنين معاً ، فاعتقد اعتقاداً جازماً أنك تحب أحد الطرفين حباً حقيقياً ، وأن حبَّك للطرف الآخر مجرد دعوى ز
في العصر الحديث يستعملون عبارة " شخصيَّة مرنة " ، يقول لك باللغة الدارجة : " معهم معَهم ، عليهم عَليهم " ،  فهو إذاً ذو وجهين ، وإذا أرضى الناس جميعاً فهو منافق ، لكن ربنا عزَّ وجل يقرِّب هذه الحقيقة ..
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (4) ﴾ .
 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ  ﴾.
( سورة الممتحنة : من الآية 13)
﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ  ﴾.
( سورة المائدة : من الآية 51 )
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا
أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا  ﴾.
( سورة التوبة : من الآية 24 )
 
قد يكون للشيء الواحد فروع :
 
إذاً : هذه قاعدة يجب أن تأخذ بها ، لك قلبٌ واحد يتَّسع لشيءٍ واحد ، وقد يكون للشيء الواحد فروع ، فإذا أحببت الله أحببت رسوله ، لأن حبَّ رسول الله فرع من حب الله عزَّ وجل ، وإذا أحببت الله أحببت المؤمنين ، ومحبَّة المؤمنين فرعٌ من حب الله عزَّ وجل ، وإذا أحببت الله أحببت الناس جميعاً ، وإذا أحببت الله أحببت الخَلق جميعاً ، فالحب الذي يتفرَّع عنه مجموعة من أنواع الحب هذا يسمى حبٌ واحد ، أنا قلت قبل قليل : لا يمكن أن يجتمع في قلبك متناقضان ، والشيئان المتناقضان الذي أحدهما ينفي الآخر ، كالظلال والنور ، فإذا كان هذا المكان مظلم إذاً نفينا عنه النور ، وإذا قلنا : إنه منير نفينا عنه الظلام ، فالظلام والنور شيئان متناقضان ، القلب البشري لا يتسع لشيئين متناقضين في وقتٍ واحد ..
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ (4) ﴾ .
 
الزوجة ليست أمّاً : 
 
أي أن هذه المرأة إما أنها أم ، وإما أنها زوجة ، فإن كانت زوجةً فلها حقوق ، وعليها واجبات ، وإن كانت أماً فلها مكان آخر ، ولها محبةً من نوع  آخر ، ولها معاملة أُخرى ، أما هذا الذي يُقسم على امرأته أنها كأمِّه ، هذا لعبٌ بدين الله عزَّ وجل ، هذه ليست أمَّك إنها زوجتك ، ولها عندك حقوق وعليها واجبات ، وهذه أمُّك ليست زوجتك .
 
من أحكام الظِّهار :
 
فإذا أقسم أحد الناس على زوجته أنها عليه كظهر أمِّه ، هذا يحتاج إلى عقابٍ أليم ، يحتاج إلى أن يصوم ستين يوماً متتالية ، كفارة ليمين الظهار ، فمن أين جئنا بهذا ؟ فهذه أم وهذه زوجة ، فإذا خلطَّت بين الشيئين ، وجعلت زوجتك التي هي محبوسةٌ لك ، التي حينما عقدت عليها العقد حبستها لك ، إذا عاملتها كأم ، وابتعدت عنها فقد ظلمتها ، هذه ليست أمًّا ، إنما هي زوجة .
إذاً :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ (4) ﴾ .
 
والآن  :
﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ (4) ﴾ .
 
الولد المتبنّى ليس ابناً :
 
هذا الطفل المتَبَنَّى ليس ابنك ، لأنه إذا كبر ما الذي يحصل ؟ قد يشتهي ابنتك ، وقد يشتهي أمَّه ، وهو دعيٌّ ، وهي ليست أمه ، إنما هي امرأةٌ أجنبيَّةٌ عنه ، فإذا قلت : هذا مثل ابني ، وفلانة مثل أختي ، وهذه مثل أمي فهذا لعبٌ بدين الله عزَّ وجل ، الأم أم ، والزوجة زوجة ، والابن ابن ، والدَعِيّ دعي ، فحينما يبتعد الإنسان عن ربِّه ، وحينما يجهل حقيقةً دينه  يخلق المُسَمِّيَات ، وتختلط الأوهام بالحقائق ، وتقع الفوضى ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (4) ﴾ .
 
بطلان نظرية : في الإمكان التوجه إلى شيئين في آن واحدٍ :
 
حتَّى قديماً في الستينات كان هناك نظريَّة تقول : إن الإنسان يتمكَّن أن يتوجَّه إلى شيئين في آن واحد ، ثم ثبت بطلان هذه النظرية هذه النظرية ، لكن الذي يتراءى لبعض الناس أنه بإمكانه أن ينتبه إلى أشياء عديدة في وقت واحد ، هذا عنده ما يسمى بقدرةٍ فائقة في سرعة التحوُّل من شيء إلى شيء ، أما في وقت واحد أن تنتبه إلى شيئين فهذا مستحيل ، أن تستغرق في شيئين مستحيل ، في وقتٍ واحد لا يمكن أن تنصرف إلا إلى شيءٍ واحد ، وهذا مصداق قوله تعالى :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (4) ﴾ .
 
على كلٍّ الذي يحصل أن هناك أشخاصاً كثيرين يقول لك : هذا بيع ، وهو في الحقيقة ربا ، فالربا ربا ، والبيع بيع ، هذا مثلاً يانصيب خيري ، اليانصيب حرام ، أما الخيري فهذه كلمة أُلصِقَت به إلصاقاً ، لا تزول حرمته أن تقول : خيري ، يبقى كسبا غير مشروع ، وطريقة في التعامل غير صحيحة ، هذه مثل أخته ـ زوجةُ صديقه ـ لا ، هذه ليست أختك ، هذه زوجة صديقك ، وهي امرأةٌ أجنبيَّة ، فلو دخلت بيت صديقك ، ولم يكن صديقك ، وقبلت أن تدخل فقد وقعت في حرمةٍ كبيرة ، فالأمور واضحة جداً في الدين ؛ الحرام حرام ، والحلال حلال ، والواجب واجب ، والسُنَّة سنة ، والفرض فرض ، والمكروه مكروه ، والمباح مباح .
أما حينما يُلْعَبُ بدين الله عزَّ وجل فلابدَّ من أن ينزلق المرء منزلقاً وخيماً في الضلال ، فلا تنكح هذه المرأة بعد أن طُلِّقَت طلاقاً بائناً ( بينونةً كبرى ) إلا بعد أن تنكِحَ زوجاً آخر ،  فإذا افتعلنا زواجاً مؤقَّتاً لساعةٍ أو ساعتين ، أو لليلةٍ أو ليلتين ، وقلنا : ها قد نكحت زوجاً آخر فلتعُدْ إلى زوجها الأول ، هذا لعبٌ بدين الله ، الزواج الثاني مفتعل ، غير صحيح ، زواج صوري ، زواج شكلي ،سمَّاه النبي التَيْسَ المُستعار ، فالزواج زواج ، والزنا زنا ، والأخت أخت ، والأجنبيَّة أجنبيَّة ، والزوجة زوجة ، والأم أم ، والابن ابن ، والمُدَّعى مُدَّعى ، فمن علامات فقه الرجل أن تكون الأمور واضحةً وضوحاً جلياً في حياتنا ، لها حدود ، ولها قيود ، ولها تعريفات ، واصطلاحات ، أما هذا التداخل ، وهذا الاختلاط ، وهذه المُسمَّيات التي تُعطى أصناف أخرى فهي ضلالات شيطانية بعيدة عن دين الله تعالى .
      
تغيير الاسم لا يغيِّر من حقيقة المسمى :
 
مثلاً : تغيير اسم الباطل باسمٍ آخر هل يعطيه حقيقة الحق ؟ فأنت لك عند فلان مئة ألف دَيناً ، جاءك وقال : أتأخذها نقداً على أن تخصم لي ستة بالمئة ، قلت لك : هذا لا يجوز ، هذا ربا معكوس ، فقال لك : يا أخي سجِّلها سمحًا ، فهل إذا كتبت ( سمحًا ) انتفت صفة الحُرمَةِ ؟ لا ، الاسم لا يغيِّر شيئاً ، فاكتب على هذه الطاولة إنها كرسي ، هل تصبح كرسيا ؟ لا ، ستبقى طاولة ، اللوحة لا قيمة لها ، الاسم لا قيمة له ، الإعلان لا قيمة له ، لذلك كيف نلعب بدين الله عزَّ وجل ؟ حينما نعطي أسماء لغير مسمَّياتها ، أخي هذا سماح ، وهذا بيع ، فإذا بعت هذه الحاجة نقداً بثمانين ليرة ، وبعتها ديناً بمئة ليرة ، واشتريتها منه نقداً بثمانين ليرة ، تقول : هذا بيع وشراء ، صفقة وصفقة ، لا ، فالشرع يقول : لا ، هذا ربا ، فحقيقة ما تفعله أنك تقرضه بالربا ، ولو جعلت هذا الربا على شكل صفقة أولى وصفقة ثانية ، فالأولى تبيعه ديناً بمئة ليرة ، والصفقة الثانية تشتريها منه نقداً بثمانين ليرة ، والفرق هو الفائدة ، ولئلا نقع في أخطاء كبيرة في دين ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ (4) ﴾ .
 
الويل لمن ظلم زوجته !!!
 
جاءت امرأةٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، هي المرأة التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، التقت بسيدنا عمر رضي الله عنه ، وكان يركب دابَّةً ، نزل عن دابته ، ووقف متأدِّباً ليستمع إليها ، فلمَّا سُئل عن هذا الموقف الغريب ؟ قال : << كيف لا أستمع إليها وقد استمع إليها ربُّنا من فوق سبع سماوات ؟ >> .
هذه المرأة جاءت النبي عليه الصلاة والسلام تقول له: يا رسول الله إن فلاناً ـ أي زوجها ـ تزوجني وأنا شابَّة ذات أهلٍ ومال ، فلمَّا كبرت سني ، ونثَرت له بطني ، وتفرَّق أهلي ، وذهب مالي قال : أنتِ عليَّ كظهر أمي ، ولي منه أولاد إن تركتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا " .
وفي هذا القول إشارة بليغة إلى أن مهمة المرأة تنحصر في تربية أولادها ، أعظِمْ بها من مهمَّة ، إنها مهمَّة لو أُدِّيَت على الوجه الحقيقي لرأيت مجتمعاً متكاملاً ، لرأيت مجتمعاً كلُّه بطولات ، لكن تقصير الأمَّهات في تربية أولادهن سبِّب هذه الأزمات ، إن تركتهم إليه ضاعوا، أنا التي أربيهم ، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا ، هو الذي يطعمنا ويسقينا ، فعلى الرجل كسب الرزق ، وعلى المرأة تربية الأولاد ، هذه مهمَّة المرأة ومهمَّة الرجل.
النبي عليه الصلاة والسلام دمعت عينه حينما سمع شكواها ، ولا  تنسوا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا )) .
( من مسند أحمد عن أنس بن مالك )
إذا كان الإنسان يستضعف زوجته ، إذ ليس لها أهل ، وليس لها أحد ، فيجور عليها ، يقسو عليها ، يحرمها حاجتها الأساسيَّة ، يحرمها ما لها ، ويكلِّفها ما لا تطيق ، ويقول : لا أحد وراءها يدفع عنها ، عندئذٍ فالله سبحانه وتعالى يُلقِّنه درساً لا ينساه ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما أظنُّ إلا أنكِ بنتّ منه )) .
ثمَّ نزلت آيات الظهار في سورة ( قد سمع ) ، وبيَّن الله عزَّ وجل أن الذي يلعب بهذا العَقد المقدَّس ، الذي يعدُّ أقدس عقد في الحياة ـ عقد الزوجيَّة ـ يلعب به ليحرم زوجته حقَّها الطبيعي ، وقد حُبِسَت من أجله فعليه كفَّارة الظهار ، وهي : تحرير رقبة ، أو صيام ستين يوماً ، أو إطعام ستين مسكيناً ، ليكون لهذا العقد حرمته وقدسيَّته في الحياة .
 
بين النبي عليه الصلاة والسلام وزيد بن حارثة :
 
شيءٌ آخر : هو أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قُدِّم له غلام من قِبَل زوجته خديجة بنت خويلد ، هذا الغلام هو سيدنا زيد بن حارثة،وكان من أقرب الناس إلى النبي ، عاش في كَنَفِ النبي سنواتٍ طويلة قبل البعثة ، والنبي عليه الصلاة والسلام بادله وداً بود ، وحباً بحب ، إلى أن وصل إليه أهله ، هذا الغلام كان قد أُخِذ في غزوةٍ في الجاهليِّة ، وبيع في سوقٍ ، واشتراه خال السيدة خديجة ، ثم أعطاه لخديجة ، وخديجة رضي الله عنها أعطته بدورها للنبي عليه الصلاة والسلام .
النبي عامله معاملةً تفوق معاملة الأب الرحيم ، والأخ الشفيق ، فتعلَّق سيدنا زيد بالنبي تعلُّقاً كبيراً ، وأحبَّه حبَّاً جمَّاً ، فلمَّا جاء أبوه وعمُّه بعد أن عثرا عليه في مكَّة ، ليقدِّما المال لسيدنا محمد ، المال الوفير : اطلب ما شئت فداء هذا العبد ، قال : " لا ، بل خيِّراه ، فإذا اختاركما فلست أريد شيئاً ، هذا ابنكم " .
وقف النبي موقفاً رائعاً ، أي إن اختاركما فهو لكما ، ولا أريد شيئاً .
لكن سيدنا زيداً رأى من خُلق النبي الكريم ، ومن عطفه الجزيل ، ومن أخلاقه الرضية ، ومن إشراقات النبوَّة فيه ما جعله يؤثر النبي على أبيه وأمِّه وعمُّه .
فقالا : يا زيد أتؤثر محمَّداً على أبيك وأمِّك ؟ فقال : لقد رأيت منه ما أنساني أبي وأمي ، عندئذٍ قال النبي عليه الصلاة والسلام:هذا زيد بن محمَّد يرثني وأرثه ، هكذا قال النبي ، وكانت هذه الواقعة قبل أن يبعث عليه الصلاة والسلام ، وكان اسمه قبل نزول هذه الآيات زيد بن محمد ، عليه الصلاة والسلام ، فالذي يعيش مع النبي هل يذكر أحداً من أهله ؟ إنه ينسى كل شيء .
 
إبطال عادةِ التبنّي : 
 
والله سبحانه وتعالى أراد أن يُبطل عادة التبني التي فيها اختلاطٌ للأنساب ، فأمر زيداً أن يطلِّق زوجته ، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوَّج زينب زوجة زيد ، زوجةَ متبنَّاه ، وهنا خشي النبي كلام الناس ، فأبطل الله هذه العادة ، وعاتبه الله عزَّ وجل وقال :
﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ .
( سورة الأحزاب : من الآية 37 )
أي أنه فعل شيئاً فوق طاقته إحقاقاً للحق ، وإظهاراً إلى أن التبني عادةٌ مرذولة ، تجعل في الحياة الاجتماعيَّة اختلاطاً وانحرافاً وتدهوراً ، وأما ما يرويه بعضهم وهي رواياتٌ ساقطة لا تقف على قدمين : من أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى زينب ، وهي تمشط شعرها بعد أن اغتسلت ، فوقعت في قلبه ، فتمنَّى الزواج منها ، فجاء الله عزَّ وجل كما يقولون ، وأمر زيداً بتطليقها ، وأمر النبي بالزواج منها ، هذه رواياتٌ مكذوبةٌ ساقطةٌ لا تليق بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وليس لها أساس من الصحَّة ، إنها من الدَسِّ على الإسلام ، فالنبي فوق هذا ، بل بالعكس فلو أراد الزواج من زينب لتزوجَّها قبل أن يخطبها زيد ، لكن النبي بهذا الأمر الإلهي أبطل عادة التبني ، لذلك :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ (4) ﴾ .
 
هذادَعِي وليس ابناً لك ، وهذه زوجة ، وليست أماً لك ..
﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ (4) ﴾ .
 
أي أنتم إذا قلتم : هذا ابني ، فهل صار ابنك ؟ لا ، هو أجنبي ، يشتهي ابنتك ، يشتهي زوجتك ، وإن قلت : هذه مثل أختي ، فهل أصبحت أختك ؟ لا ، هذا قول بالفم لا يقدِّم ، ولا يؤخَّر ، ولا يغيِّر من حقيقة الأشياء في قليل أو كثير ، هناك حقائق لا تُغَيَّر بالكلمات ، فإذا أمسكت حديداً ، وقلت : هذا ذهب ، فهل صار ذهباً ؟ بقي حديداً ، وإذا أمسكت الذهب ، وقلت : هذا حديد ، فهل صار حديداً ؟
كنت أضرب هذا المثل في كثير من المناسبات : لو كان معك كيلو معدن ، وهو في الحقيقة ذهب خالص ، واتهمك الناس جميعاً أن هذا المعدن هو حديد لا قيمة له ، اتهامهم جميعاً لك هل يغيِّر من قيمة هذا المعدن ؟ لا ، بل يبقى الذهبُ ذهباً ، ولو كان معك معدن خسيس ، واستطعت أن تقنع الناس جميعاً أنه ذهب ، فاقتنعوا وصدَّقوا ، هل يصبح هذا المعدن الخسيس ذهباً ؟ لا ، بل يبقى معدناً خسيساً ، وليس له ثمن .
فأردت من هذه الأمثلة أن أبيِّن لكم أن الأسماء لا تغير من حقائق الأشياء ، تسمي النفاق لباقة فيظل كما هو نفاقا ، تسمي الانحراف ( سبور ) يظل انحرافاً ، الآن هناك كلمات متداولة ، إذا لم يكن في المرأة دين يقولون لك : ( هذه سبور ) ، هذه فتاة ( سبور ) ، هذه الكلمة هل تغيِّر من أنها فاسقة ، فاجرة ، منحرفة ؟ لا تغيرها ، فالفسق فسق ، والفجور فجور ، والزنا زنا ، والاختلاط اختلاط .
فالذي أريده منكم أن نقف عنده قليلاً هو : أنك إذا سميت الرذيلة فضيلة تبقى رذيلة ، وإذاسميت الاختلاط انفتاحاً ، عقليَّة مرنة ، يبقى الاختلاط اختلاطا ، ويقع تداخل أنساب ، وتطلُّع إلى نساء الآخرين ، وعدوان على الأعراض ، هذه حقيقته ، تسميه اختلاطاً ، والإنسان عندها عقله مفتوح ، وعنده مرونة وذكي ، هذه كلها كلمات فارغة ، تسمي المنافق لبقاً هو منافق مهما خلعت عليه من صفات ، تسمي الكافر متحرِّراً ، وهو كافر وليس متحرِّراً ، هذه الأسماء الحديثة : الفسق تحرُّر ، والنفاق لباقة ، والاختلاط انفتاح ، وهذه مرونة ، هذه كلها كلمات فارغة ، الفسق فسق ، والفجور فجور ، والانحراف انحراف ، يقول لك : هذه صداقات بريئة ، أي صداقة هذه ؟ هل هناك صداقةٌ بريئةٌ بين رجل وامرأة أجنبيَّة عنه ، كيف تقول : هذه صداقة ؟ ما من رجلٍ خلا بامرأةٍ إلا اشتهاها ، وهناك أخطاء يقع فيها الجُهَّال تعود عليهم وبالاً كبيراً في حياتهم الدنيا .
أردت من هذا الكلام أن نتوسَّع لمعالجة الموضوع ، وإيَّاك أن تسمي المعصية اسماً آخر ، إنها معصية ، الربا ربا ، والبيع بيع ، هناك من يُخَلِّط ..
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا  ﴾ .
( سورة البقرة : من الآية 275)
      
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ
 
دائماً المجتمعات المنحرفة والفاسقة التي لها خلفيَّة دينيَّة ، يتَّجه أصحابها إلى إضفاء أسماء برَّاقة لطيفة على معاصٍ كبيرة ، وهذه الأسماء لا تغيِّر ، ولا تبدِّل ، تبقى المعصية معصية ، والاسم لا قيمة له ، تماماً كما لو جئت بلاصقة على كيلو حديد ، وكتبت : " ذهب خالص " ، هل تستطيع أن تبيع هذا الكيلو بثلاثمئة ألف ؟ كيلو حديد ، واكتب عليه بلاصقة فخمة جداً : ذهب خالص عيار أربعة وعشرين ، وانزل على سوق الصاغة ، هل تستطيع أن تبيعه بثلاثمئة ألف ؟ إنه يساوى ثلاثا وعشرين ليرة ، هذا ثمنه ، وإذا جئت بكيلو ذهب خالص ، وكتبت عليه : " حديد " ، فهل قلَّت قيمته ؟ لا ، فقيمته هيَ هي ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ (4) ﴾ .
هذا كلامكم ، هذه دعواكم ، هذا باطلكم ، هذه الأسماء أنتم سمَّيتموها ، هذه أختي ، ابنة أختي ، يتوفَّى رجل فيخلِّف أرملة ، يزورها الصديق ويقول : مثل أختي والله ، لا ليست مثل أختك، هذا كذب ولعبٌ بدين الله ، هذا يا أخي مثل البيع ، وهو رباً ، لا ليس مثل البيع ، بل هو ربا ، وليس بيعاً ، وهذه امرأةٌ أجنبيَّةٌ مشتهاة ، وليست أختك ، وهذه زوجتك ، وليست أمّك ، وهذا دعيُّك ، وليس ابنك ، وهذا حلالٌ ، وليس حراماً ، وهذا حرام ، وليس حلالاً ، هكذا ، فدائماً إذاً هناك تقصير ، وهناك فسق وفجور ، الأمور تختلف ، نضع لاصقة هذه على هذه ، وهذه على هذه ، صار هناك اختلاط بالأوراق ، لكن الله سبحانه وتعالى يقول الحق :
﴿ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ﴾ .
 
على الله بيانُ سبيل الحق :
 
أي أن السبيل إليه ، فإذا أطعته وصلت إليه ، إذا وقفت عند حدوده وصلت إليه ، إذا أقمت أمره وصلت إليه ، إذا اجتنبت نهيه وصلت إليه ، فإذا غيَّرت وبدَّلت ، سميت المعصية تحرُّرا ، والنفاق لباقة ، والتفلُّت تحديثا ، يقول لك : تحديث ، الدين لا يُحدَّث ، الدين من عند الله عزَّ وجل ، ليس الدين تُراثاً حتَّى يُحْدَّث ، ليس الدين قديماً يُحْدَّث ، الدين دين ، أي أن الحق حق مهما مرَّ الزمن ، ومهما تقلَّبت السنون والأحقاب ، لا يتبدَّل ولا يتغيَّر.
آيةٌ دقيقةٌ جداً أرجو أن نستوعبها جميعاً :
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ
ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ﴾.
 
أنت كُن مع الحق ، كن مع المسمَّى الصحيح مع الاسم الصحيح ، لا تبدِّل ولا تغيِّر ، أمرك بغض البصر ـ انتهى ـفتقول : أخي هناك نظر بلا شهوة ، هذا ما فيه سوء نية ، هذا كلام فارغ من أين جئت به ؟ من قال لك ذلك ؟ كيف نظر بلا شهوة ؟ ما ورد نظر بلا شهوة ، قال  :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ  ﴾ .
( سورة النور: من الآية 30 )
قال عليه الصلاة والسلام :   
(( إِنِّي لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ )) .
[ من سنن الترمذي عن أميمة بنت رقيقة ]
هكذا قال النبي ، ليس عندنا حالات أخرى .
 
احفظ حدود الله يحفظك :
 
قلت في درسٍ ماضٍ : احفظ الله يحفظك ، إذا حفظت أمر الله عزَّ وجل بأن نفَّذته ، وحفظت نهيه بأن اجتنبته ، وحفظت حدوده بأن وقفت عندها ، الآن حَفِظَ الله لك دُنياك ودينك ، حفظ دنياك بمعنى أنه يحفظ لك بدنك ، وأهلك ، وأولادك ، ومالك ، وحفظ دينك من الشبهات المُضلَّة ، والشهوات المهلكة ، لا شبهات مضلَّة ولا شهوات مهلكة ، إذا حفظت دينك ، لذلك كلمة الجنيد ـ رحمه الله تعالى ـ حينما سُئل : من وليُّ الله ؟ فقال : " لعلَّكم تظنونه هو الذي يطير في الهواء ، لا ، ولا الذي يمشي على وجه الماء ، الولي كل الولي هو الذي تجده عند الحلال والحرام " .
لذلك :
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  ﴾ .
(سورة الحجرات : من الآية 13)
أي أن كل الظواهر الزائغة فارغة ، فلو تكلَّمت كلاماً طيِّباً ، لو كان لك تطلُّعات ، ولو دمعت عينُك ..
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  ﴾ .
(سورة الحجرات : من الآية 13)
أي أن مكانتك عند الله عزَّ وجل تحدِّدها طاعتك له ، هذا هو المقياس الدقيق  .
أحبابٌ اختاروا المحبَّة مذهباً      وما خالفوا في مذهب الحبِّ شرعاً
***
 
﴿ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ (5) ﴾ .
 
حُكمُ التبني وتفصيلاته :
 
ثمة إخوةٌ كثيرون أحياناً يسألونني عن تبني طفلة صغيرة ، هل هذا ممكن ؟ نعم ممكن ، لكن يجب أن تحذر أن هذه الطفلة إذا بلغت سنَّ الاشتهاء يجب أن تفرزها عن أولادك ، وتُهيِّئ لها مكاناً آخر ، بطريقة أخرى ، ما دام أنها بلغت السن الخطر فهذه ليست ابنتك ، وهذا ابنك ليس أخاً لها ، إنما هو أجنبيٌّ عنها ، فهذا الذي يُقال : نحن لا نسيِّب ، ومع العمل الإنساني ، ولكن لسنا مع اختلاط الأنساب ، ولسنا مع اللعب بدين الله عزَّ وجل ..
﴿ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) .
 
ليس في الخطأ إثم ، ولكن على ما عزم القلب وتعمّد :
 
المشكلة أن على الإنسان ألا يعقد العزم على معصية الله عزَّ وجل ، ما دام الخطأ مغفورا ، ويمكن له أن يتراجع عن خطئه ..
(( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) .
[ من مسند ابن ماجة عن أنس ]
و  ..
(( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ )) .
[ من سنن ابن ماجة عن أبي ذر الفقاري ]
أما المشكلة فأن ينبعث في القلب باعثٌ إلى المعصية ، كأن يريد الإنسان أن يعصي الله عزَّ وجل ، أن يعرف الحق ويخالفه ، أن يعرف الباطل ويمشي فيه ، هنا المشكلة ، فإذا ارتكب الإنسان ذنباً عن جهل فتوبته تكون سريعة جداً ، يشعر أن الله بكلمةٍ واحدة ، بإنابةٍ سريعة ، يقبله ، ويعفو عنه ، ما دام قلبه لم يتعمَّد المعصية ، أما إذا صمَّم أن يعصي ، وقصد أن يعصي ، عندئذٍ يكون الحجاب بينه وبين ربه سميكاً ، وليس من السهل تخَطِّي هذا الحجاب ، إذاً :
﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب