سورة النساء 004 - الدرس (31): تفسير الآيات (060 - 063) القانون الإلهي والقانون الوضعي

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة النساء 004 - الدرس (31): تفسير الآيات (060 - 063) القانون الإلهي والقانون الوضعي

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة النساء

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة النساء - تفسير الآية: (60 - 63) - القانون الإلهي والقانون الوضعي

21/03/2011 03:12:00

سورة النساء (004)
الدرس (31)
تفسير الآيات: (60-63)
القانون الإلهي والقانون الوضعي
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
الزعم مطية الكذب :
 
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الواحد والثلاثين من دروس سورة النساء، ومع الآية الستين، وهي قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً ﴾
أيها الأخوة، كما تعلمون أن قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾، أي ألم تعلم، أي ألم تعلم بإخبار الله، لكن عدل القرآن عن قوله: ألم تعلم بألم ترَ، إشعاراً للمؤمن أنه ينبغي أنه يأخذ خبر الله وكأنه يراه، فخبر الله أصدق من عينه، قد تخونه عينه، والله جل جلاله هو أصدق القائلين.
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً  ﴾
[ سورة النساء: 87 ]
إذاً: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾، بمعنى ألم تعلم، عدل عن قوله ألم تعلم إلى: ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾، لتأخذ إخبار الله عز وجل وكأنه شيء تراه عينك:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ﴾
قالوا: الزعم مطية الكذب، فلان يزعم أنه مؤمن، أي هو ليس مؤمناً، إنه منافق، فكلمة يزعم تعبير عن عدم الصدق، تعبير عن الكذب، تعبير عن الخلل.
 
علامة المؤمن أنه يتهم نفسه بالنفاق :
 
قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾
بربك أيها الأخ المؤمن هل التقيت بإنسان مسلم لا يطبق من دينه شيئاً يقول لك: أنا منافق؟ مستحيل، أنا مؤمن، قد يقول: أنا مؤمن إيماناً أشد من إيمانك، سبحان الله! الناس جميعاً يثنون على ذواتهم بغير الحق، بينما المؤمن الحقيقي يتهم نفسه بالنفاق.
أحد التابعين قال: التقيت بأربعين صحابياً ما منهم واحد إلا يظن نفسه منافقاً، حتى إن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد التقى بسيدنا حذيفة بن اليمان، وكان أمير سر رسول الله قال: يا حذيفة بالله عليك اسمي مع المنافقين؟ فعلامة المؤمن أنه يتهم نفسه بالنفاق، وعلامة المنافق يزعم أنه مؤمن، وكلما تواضعت لله رفعك، وكلما اتهمت نفسك فأنت أرقى عند الله، لا تستجب لنزوات النفس في أن تعلو على الناس، لا تحكم على نفسك، دع الله عز وجل يحكم عليك، لأن الذين يزكون أنفسهم يرتكبون معصية:
﴿ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾
[ سورة النساء: 49 ]
لو أنك مخلص، لو أنك مستقيم، لو أنك محسن، الله جل جلاله يرفع لك ذكرك، يرفع لك شأنك، يلقي محبتك في قلوب الخلق، يجعل ألسنة الخلق تلهج بمديحك دون أن تريد ذلك أنت.
 
كل إنسان فيه دوافع ثلاث لكن الدافع الثالث هو الأخطر بينها جميعاً :
 
أيها الأخوة، ما منا واحد إلا وفيه دوافع ثلاث، دافع إلى الطعام والشراب ليحفظ وجوده دون أن يشعر، ودافع إلى الجنس ليحفظ النوع عن طريق هذا الدافع، ودافع إلى العلو، دافع إلى تأكيد الذات، دافع إلى تأكيد الأهمية، الدافع الثالث خطير جداً، ولأن الإنسان مخير إذاً كل دوافعه حيادية، بمعنى أنه يمكن أن تروي الدافع الثالث دافع تأكيد الذات، دافع التفوق عن طريق الإيمان بالله وطاعته، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
[ سورة الشرح: 1-4]
هل في تاريخ البشرية إنسان رفع الله ذكره كرسول الله؟!
مفكر وباحث غربي، ليس مسلماً، ألَّف كتاباً عن المئة الأوائل في العالم، ألف كتاباً عن المئة الأوائل في تاريخ البشرية، قرأ تاريخ البشرية من قبل الميلاد بستة قرون إلى عصرنا الحاضر، واختار من بين أعلام الأرض مئة، ورتب هذه المئة بحسب الأهمية، فكانت مكانة نبينا عليه الصلاة والسلام لا في نظر المؤمنين به، لا في نظر المسلمين، بل في نظر الطرف الآخر كانت الأولى، جعله على رأس المئة الأوائل في العالم، واعتمد عدة مقاييس. المقياس الأول: قوة التأثير. المقياس الثاني: اتساع رقعة التأثير. المقياس الثالث: طول أمد التأثير. أي أن أخاً كريماً جاءه ضيف إلى بلادنا، وقد كلف هذا الأخ أن يرافقه، ذهبا إلى مكان أثري فلاحظ هذا الضيف أن الحركة قليلة، قال: اليوم يوم عطلة، قال له: ما المناسبة؟ قال له: بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف، وشرح له أن لهذه الأمة نبياً، قال له: من كم سنة توفي؟ قال له: من ألف وأربعمئة سنة، فكاد هذا الضيف أن يصعق، ولطول هذه المدة تقدسونه؛ قوة التأثير، واتساع رقعة التأثير، وطول أمد التأثير، لكن هذا المؤلف غفل عن نوع التأثير، لو جعل نوع التأثير إيجاباً لطرح من هذه المئة ثلثين.
 
فحوى دعوة الأنبياء واحدة :
 
إذاً:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾
المنافق يظن أنه مؤمن، ويدعي أنه مؤمن، ويتبجح أنه مؤمن لماذا؟ لتحقيق مصالحه، لأنه إذا ادعى أنه مؤمن أخذ من كل ميزات المؤمنين، وعاش حياته الخاصة كما يعيشها الكفار، فجمع بين ميزتي الإيمان وتفلت الكافر، لذلك المنافق يوم القيامة مكانه في الدرك الأسفل من النار، المنافق كافر لكن مصالحه تقتضي أنه مؤمن لهذا يقول الله عز وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
طبعاً الأنبياء جميعاً دعوتهم واحدة.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
[ سورة الأنبياء: 25]
فحوى دعوة الأنبياء واحدة: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾، العقيدة لا إله إلا الله، والسلوك العبادة، في كل مذهب فكر وسلوك، عقيدة وشريعة، منطلقات نظرية وتطبيقات عملية، لا إله إلا أنا العقيدة، التوحيد، وما من وقت في تاريخ المسلمين نحن في أمس الحاجة إلى التوحيد كهذا الوقت، لأن زعماء الكفر يخيفون الأرض كلها، يتهددون، يتوعدون، يرسلون صيحاتهم وزمجرتهم كل يوم، ما الذي يقينا من بأسهم؟ أن نوحد الله، أن لا نرى مع الله أحداً، أن لا نرى مع الله إلهاً آخر.
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾
[ سورة الإسراء: 23]
 
ليس القرآن كتاب تاريخ ولكنه كتاب هداية :
 
الحقيقة عندنا قاعدة في القرآن الكريم: أن خصوص السبب لا يلغي عموم القصد، لا يعقل ولا يقبل أن يتحدث القرآن عن قصة بعينها ليس غير، وقعت في عهد رسول الله، ليس القرآن كتاب تاريخ، ولكنه كتاب هداية.
كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منافق اسمه بشر اختلف مع يهودي، يبدو أن اليهودي على حق في موضوع الخلاف، فطلب اليهودي أن يحتكما إلى رسول الله مع أنه لم يؤمن به، لكنه يعتقد أنه يعدل إذا حكم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليقيِّم تمر اليهود تنفيذاً لاتفاق بينهم وبين رسول الله أرادوا أن يغروه بحلي نسائهم، كي يخفض قيمة التمر، أرادوا أن يرشوه، فقال: والله جئتكم من عند أحب الخلق إلي، من عند محمد بن عبد الله رسول الله، ولأنتم عندي أبغض من القردة والخنازير، ومع ذلك لن أحيف عليكم، فقال اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض، وبهذا غلبتمونا، وإن أردنا أن نستفيد من هذا القول لا يمكن أن نغلبهم إلا إذا كنا على حق.
﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا ﴾
[ سورة المائدة: 8 ]
اعدلوا ولو مع كافر، ولو مع عابد صنم.
﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
[ سورة المائدة: 8 ]
من هنا قال بعض العلماء: إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة، من هنا قال بعض العلماء: الدنيا تصلح بالكفر والعدل، ولا تصلح بالإيمان والظلم، الظلم أيها الأخوة ظلمات يوم القيامة، عد للمليار قبل أن تظلم إنساناً، لأنك إن ظلمته سقط من عين الله، ولن يجدي دعاؤك إطلاقاً.
 
الفرق بين الظالم والطاغية :
 
هذا اليهودي في موضوع الخلاف مع بشر كان على حق، ولأنه واثق من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالعدل أراد اليهودي أن يحتكم مع خصمه المسلم المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما المنافق فرفض أن يحتكم إلى رسول الله، وطلب أن يحتكم إلى أحد زعماء اليهود، عجيب! اليهودي يطلب الحكم من رسول الله، وهذا المسلم الذي يدعي أنه مسلم، ويزعم أنه مسلم، وهو في الحقيقة منافق يطلب الاحتكام إلى أحد أحبار اليهود الذين يرتشون، فقال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾
يزعمون:
﴿ أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
من التوراة والإنجيل على سيدنا موسى، وعلى سيدنا عيسى:
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾
ما معنى الطاغوت؟ الطاغوت صيغة مبالغة، طاغية وطاغوت، الطاغوت أشد طغياناً من الطاغية، من هو الطاغوت؟ هو الظالم، ما الفرق بين الظالم والطاغية؟ الظالم كلما أطعته يزداد طغياناً، هذه خصيصة في الطاغوت، كلما أطعته، كلما استسلمت له، كلما خضعت له، كلما حققت رغبته يزداد طغياناً وعدواناً، بدليل قول الله تعالى:
﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
[ سورة الزخرف: 54 ]
لا يستطيع الطاغية أن يطغى إلا على الفسقة:
﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
[ سورة الزخرف: 54 ]
الطاغية هو الظالم، والفرق بين الظالم والطاغية أن الطاغية كلما زدت طاعة له زادك طغياناً، والطاغوت صيغة مبالغة من الطاغية.
 
الإنسان بحسب إيمانه يحتكم إما إلى الله أو إلى جهة تعطيه ما ليس له :
 
قال تعالى:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ﴾
[ سورة البقرة: 257 ]
كم من قضية بين المسلمين لعل خصمين احتكما إلى عالم جليل فحكم لهما بشرع الله، أحدها يطلب الاحتكام إلى القوانين الوضعية، لأنه ليس على حق، يريد أن يأخذ ما ليس له، فلعل القانون يعطيه ما ليس له، والقضية واضحة جداً في البيوت أحياناً. قبل القانون الأخير الذي صدر، قانون الإيجار، المستأجر كأنه تملك البيت، فإذا كان لإنسان بيت قد أجره قبل سنة الستين، فهذا البيت انتهى، ولا يمكن أن يناله، ولا أن يستمتع به، فإذا احتكما إلى عالم جليل ليعطياهما الحكم الشرعي في هذا الاغتصاب، المستأجر الذي ليس بحاجة إلى البيت، لكن يحتجزه عدواناً وطغياناً، يحتكم إلى القانون الوضعي الذي يبيح له أن يبقيه في حوزته ما دام حياً. فالإنسان بحسب إيمانه يحتكم، إن كنت مؤمناً تحتكم لشرع الله، وإن كان الإنسان منافقاً يحتكم إلى جهة تعطيه ما ليس له.
الآن أحياناً يسكن إنسان في بلاد الغرب، يختلف مع زوجته، لو عرض عليها أن يحتكما إلى قاضٍ شرعي هناك ترفض، لا تقبل إلا أن ترفع القضية لقاضٍ غربي، لماذا؟ لأن القانون الغربي يعطي الزوجة المطلقة نصف ثروة زوجها، أما الشريعة المحمدية فتعطي المطلقة مهرها كاملاً. الذي يعدل عن تحكيم الشرع إلى النظام الوضعي الذي يعطيه ما ليس له هو إنسان منافق:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
إشارة إلى هذا المنافق الذي اختلف مع اليهودي:
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾
إلى أحد أحبار اليهود الذي عرف بالطغيان:
﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ﴾
 
فرق كبير بين إرادة الله في التوبة علينا وبين إرادة الشيطان في إضلالنا :
 
هذا الذي ولاؤه للغرب يتهم كل من أراد أن يتحرك ضد الغرب، يتهمه بالعمالة، ولاؤه كله للغرب، محبته كلها للغرب، انصياعه كله للغرب، لا يرى في أمته قيماً ولا بطولات إطلاقاً، هذا يحتكم إلى الطاغوت:
﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً ﴾
أنت دائماً ابحث ماذا يريد الله منك.
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
 [ سورة النساء: 27 ]
فرق كبير بين إرادة الله في التوبة عليكم، وبين إرادة الشيطان أن يضل الناس ضلالاً بعيداً، أي ألا تشعر بحرج حينما تقرأ هذه الآية:
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
 [ سورة النساء: 27 ]
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾
 
الفرق بين العلم التجريبي والوحي :
 
أيها الأخوة، في قول الله عز وجل:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
[ سورة الشعراء: 88-89 ]
قالوا: القلب السليم هو القلب الذي سلم من شهوة لا ترضي الله، والقلب السليم هو القلب الذي سلم من تصديق خبر يتناقض مع وحي الله، المؤمن شخصية فذة كبيرة، أن يقرأ مقالة، يستمع إلى حديث، ينظر إلى ندوة فيها تجاوز لما في القرآن الكريم ويقبل! مستحيل، لأن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، القرآن كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المؤمن لا يصدق أن الأرض كلها لو اجتمعت، وبحثت، ودرست، وخرجت بنتيجة تخالف القرآن لا يصدق كل هؤلاء الناس ولو كانوا قمماً في علمهم، معه وحي الله عز وجل. أنت معك آلة، قد تفتح هذه الآلة، وقد تعبث بجزئياتها، وقد تستنبط بعض المعلومات من العبث بجزئياتها، وقد تصل إلى بعض الحقائق، أو إلى بعض الأوهام، لكن حينما تجلس إلى جانب مخترع هذه الآلة، فكل اجتهادك لا قيمة له، هذا المخترع، هذا المصمم، لذلك الفرق بين العلم التجريبي والوحي أن العلم التجريبي فيه خطأ وفيه صواب، لكن وحي السماء حق صرف.
أيها الأخوة، أنتم تعلمون علم اليقين، هذا شيء ليس خافياً عنكم، أحياناً يصدر قانون النوايا الطيبة، الذين قننوا هذا القانون أرادوا إصلاح المجتمع، أرادوا فرضاً الحد من ارتفاع الأسعار في قضية السيارات مرة مثلاً، فمنع إلا للأقارب، نشأ بعد هذا القانون حالة اسمها زواج سيارات، زواج صوري لا وجود له، عقد زواج من أجل بيع سيارة، ونشأ من هذا التصرف مشكلات لا يعلم إلا الله مداها، امرأة ثرية جداً تزوجت إنساناً زواجاً صورياً كي تبيعه سيارتها، ثم توفيت، تمسك بالإرث، هي زوجتي، لذلك عدل القانون وألغي، هذا أتيت به مثلاً، أي إنسان وضع قانون لأنه بشر، ولأن علمه محدود، ولأن أفقه محدود، ولأن رؤيته محدودة، ولأن تجاربه محدودة، يتخيل حالات ويغطي هذه الحالات ببنود هذا القانون،  حينما يصدر هذا القانون، ويصبح بحيز التنفيذ تنشأ مشكلات لم تكن تخطر في بال واضع القانون، فيضطر إلى تعديله، ثم يعدل، ثم يعدل، ثم يعدل، ثم يلغى، هذه قصة قديمة مستمرة، الإنسان حينما يشرع، أنا أفترض فيه النوايا الحسنة، علمه محدود، خبرته محدودة، أفقه محدود، رؤيته محدودة، تجاربه محدودة، يتخيل حالات كثيرة، يغطي هذه الحالات ببنود، لكن بعد حين يكتشف أن هناك حالات غابت عنه، ولا بد من تعديل القانون، يعدل، ويعدل، ويُعدل، إلى أن يصبح مهلهل، عندئذٍ يلغى ويسن قانون جديد، هذه القصة تكرر وتعاد، لأن خبرة الإنسان حادثة، وخبرة الإنسان تأتي من تجاربه، لكن قانون الله عز وجل أساسه أن خبرة الله قديمة، لو ابتعدتم عن القضايا العملية.
 
القانون الإلهي أساسه الوازع الداخلي أما القانون الوضعي فأساسه الرادع الخارجي:
 
الآن أنت انظر إلى مركبة صنعت عام ألف وتسعمئة، البوق على الهواء، باليد، الإضاءة بالكبريت، فانوس، التشغيل من أمام السيارة، الآن انظر إلى مركبة حديثة جداً، موديل ألفان واثنان الفرق كبير جداً، فمن أين جاء هذا الفرق؟ لأن خبرة الإنسان حادثة، كل عام يطور، يبدل، يحسن، والآن أحدث سيارة بعد خمس سنوات سوف تشاهدون تطويرات لم تكن بالحسبان، لأن الإنسان خبرته حادثة.
أما انظر إلى جسم الإنسان، عندك إنسان موديل ألف وتسعمئة فرضاً، بيد واحدة فرضاً، وموديل معدل مطور إف إس، كل مخلوق مثل صاحبه، منذ أن خلق آدم عليه السلام خلقه خلقاً كاملاً، لأن خبرة الله قديمة، خبرته قديمة، وتشريعه قديم، لذلك العلماء قالوا: الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، الشيء الذي الله عز وجل حرمه سيئ جداً إلى أبعد الحدود، مهما زينته، إلا أن المشكلة أنك إذا اتبعت تشريعاً أرضياً التشريع الأرضي له ضحايا كثيرة، لأن القانون ناقص، أو لأنه ظالم، أو لأنه محدود، أو لأنه لا يغطي كل حاجات الإنسان، مثلاً القانون الإلهي أساسه الوازع الداخلي، أما القانون الوضعي فأساسه الرادع الخارجي، أقرب مثل: يمنع أن تستخدم الجهاز الهاتفي المحمول في أثناء قيادة السيارة، متى لا تستخدم هذا الجهاز؟ أمام الشرطي فقط، أما إذا كنت بعيداً عن الرقابة فتستخدمه، ولا تشعر بشيء، لأن هذا القانون من وضع البشر مرتبط بالشرطي، أما حينما يأمرك الله أن تغض بصرك، قد تكون في بيتك وحدك، وقد تفتح الجارة باب نافذتها، لماذا تغض بصرك عنها، ولا يستطيع أحد في الأرض أن يضبط هذه المخالفة، لأنه قانون إلهي، مبني على الوازع الداخلي، أنا أقول لكم: لا يمكن أن تصلح الحياة من دون إيمان.
إذا وجد بائع الزيت صباحاً في وعاء زيته فأرة، فسحبها بملقط، وباع الزيت، هل في الأرض كلها جهة يمكن أن تضبط هذه المخالفة؟ أما إذا كان مؤمناً فلا يمكن أن يبيع هذا الزيت. في كل حياتنا، إن اعتمدنا على القانون الوضعي لا يمكن أن تصلح الأمور، أما إن اعتمدنا على الإيمان القوي لا يمكن أن تفسد الأمور، في الإسلام قيم مذهلة.
حدثني أخ قال لي: والله عندي مهندس يعمل في معملي، ودخله محدود، ولا يكفيه، وليس متزوجاً، ولا يملك بيتاً، وجد في كيس أسود في أطراف المدينة مبلغ ثمانمئة ألف ليرة، بحث عن صاحبها وقدمها له، بأي قانون هذه؟! بقانون الإيمان، بقانون الخوف من الله، بقانون الإنصاف، بقانون العدل.
 
النظام الوضعي له ضحايا كثر أما النظام الإلهي فكله خير :
 
حدثني أخ كريم: في واشنطن سائق مغربي وجد في مركبته محفظة نسائية فيها عشرة آلاف دولار، فذهب إلى مركز للشرطة، وطلب مقابلة رئيس المركز، وقال له: معي هذه المحفظة، وفيها عشرة آلاف، وأريد أن تبحثوا عن صاحبتها، وهي عندي، أنا أعطيها لصاحبتها ضماناً لإيصالها لصاحبتها، بحثوا عن صاحبتها، وسلموها هذه الأمانة، حاكم الولاية دهش لهذه الأمانة، جمع طلاب المرحلة الثانوية، وعند سوق الاحتفال، قام حاكم الولاية فيهم خطيباً، وسأل معظم الطلاب لو وجدتم في مكان ما حقيبة كهذه الحقيبة ماذا تفعلون؟ فقالوا جميعاً بصوت واحد: نأخذها، قال: ولكن هذا الإنسان المسلم أعادها لصاحبتها، هذه الأمانة.
أيها الأخوة، الإنسان حينما يحكم بقانون الله لا يمكن أن يعصيه ولو كان خالياً، في أيام الصيف الحارة، الحرارة خمسون، وكان في رمضان، وأنت صائم، وأول يوم وصلت إلى آذان العصر فكدت أن تفقد حياتك، ودخلت إلى بيتك، وفتحت صنبور الماء البارد هل تستطيع أن تلعق قطرة ماء؟ لا تستطيع، ما الذي يحكمك؟ قانون الله عز وجل، أما لو كان الصيام بقانون وضعي كم يصوم من الناس؟ طبعاً لا أحد يشرب في الطريق، أما كم من إنسان يصوم في بيته؟ ولا واحد. كأنني بهذا التعليق أردت أن أبين الفرق الكبير بين القانون الإلهي من عند الخبير، من عند الحكيم، من عند العلي، من عند الرحيم، من عند المطلع، من عند السميع، البصير، الخبير، والله خبرته قديمة، وكلامه حق، والوحي مطلق في خيريته، وبين إنسان ولو كان حسن النية بحسب رؤيته المحدودة، وعلمه المحدود، وخبرته المحدودة، يقنن، ثم يكتشف أن فيه أخطاء كثيرة جداً ثم يعدل، إذاً النظام الوضعي له ضحايا كثيرة جداً، أما النظام الإلهي فكله خير:
﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً ﴾
 
أي تفسير توحيدي قرآني سماوي مرفوض عند المنافق :
 
مثلاً في بلاد الصين نمو سكاني كبير جداً، فوضعوا قانوناً من صنع البشر، هذا القانون يقضي بأنه لا يجوز للزوجين أن يكون لهما إلا ولد واحد، ولأنهم يحبون الذُكران، فإذا جاءتهم البنت خنقوها، وإذا جاء المولود ذكراً سجلوه في الدوائر الرسمية، ثم اكتشفوا بعد حين أن الصين تحتاج إلى خمسين مليون فتاة، ثم أنشئت عصابات لخطف الفتيات لشدة الحاجة إليهن، لأنهم غيروا قانون الله عز وجل، الآن ثمة قوانين تصدر في الصين عجيبة، ممنوع أن تبحث في المستشفى عن نوع المولود ذكراً كان أو أنثى، هناك تشديدات شديدة جداً، أما الآن القضية الأولى أن الصين تعاني نقصاً حاداً في الفتيات، إذاً هناك عصابات تخطف الفتيات، لأن قانون إلزام الناس بمولود واحد قاد الناس إلى أن يقتل الفتاة، وأن يبقي الشاب، هذه من آثار القانون الوضعية، وقانون ببلد آخر صدر تقليداً للغرب أن المرأة المطلقة تنال نصف ثروة زوجها، أقسم لي أخ في هذه البلاد أن سوق الزواج توقفت نهائياً، فصار الأب مضطراً إلى أن يأتي لوالد الشاب الذي يزمع أن يخطب ابنته فيعطيه سندَ أمانة بالملايين، إن طالبناك بنصف ثروتك طالبنا بهذا السند، لكن تعال وتزوج، تعديل طفيف بقانون الزواج ألغى الزواج كله، هذا القانون الإلهي من عند الخبير، أي في خيرات لا يعلمها إلا الله ناتجة عن هذا القانون.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ﴾
الآن المنافق يكره أن تفسر ما حدث تفسيراً إلهياً، تفسيراً توحيديّاً، الذي حدث له تفسير أرضي شركي، وله تفسير سماوي توحيدي، المنافق يرفض أن الذي حدث هو خير، يرفض أن الذي حدث هو بسبب تقصير المسلمين، أي تفسير توحيدي قرآني سماوي مرفوض عند المنافق، وأي تفسير أرضي شركي مادي مقبول عند المنافق.
 
المنافق على نوعين إما أساسه كافر أو أساسه ضعيف اليقين بالله عز وجل :
 
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ﴾
الله عز وجل لم يفضحهم أولاً، لماذا؟ لأن المنافق على نوعين، منافق أساسه كافر، لكنه غطى كفره بالنفاق، ومنافق أساسه ضعيف اليقين بالله عز وجل، عنده شبهات وشهوات، هذا المنافق يرجى له أن يكون مؤمناً في المستقبل، لذلك من حكمة الله عز وجل أنه ما فضحهم، بل أعطى أسماءهم لسيدنا حذيفة، من هنا جاء سيدنا عمر، وسأل سيدنا حذيفة: بربك اسمي مع المنافقين؟ فالمنافق الكافر هذا لا يرجى إيمانه، وأغلب الظن الله عز وجل يفضحه في المستقبل، أما المنافق الذي أساس نفاقه ضعف في الإيمان لشبهات تعتريه، أو لشهوات يفعلها هذا المنافق يرجى له أن يكون في المستقبل مؤمناً، لذلك حينما يكشف حال المنافقين أحياناً يسارعون إلى رسول الله ليتبرؤوا من النفاق:
﴿ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ﴾
 
الحكمة من عدم فضح المنافقين :
 
حسناً لماذا احتكمتم إلى هذا اليهودي؟ فكان جوابهم: أردنا أن نريحك يا رسول الله، أردنا أن لا نتعبك، ألا نشغلك بمشكلاتنا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل منهم ذلك، ولم يفضحهم، والتوجيه الدقيق إذا وجدت إنساناً مقصراً، أو متلبساً بمعصية، إيمانه ضعيف، انضباطه ضعيف، فلست مكلفاً أن تفضحه على الملأ، هذا العمل لا يرضي الله أبداً، أنت مكلف أن تنصحه فيما بينك وبينه، لأن قلقه من أن يفتضح يعني أن فيه بقية خير، لذلك لا ينبغي أن تفضحه، فحينما تأتيهم مصيبة، وهذه المصيبة كأن الله حذرهم بها، وكشف نفاقهم قال:
﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ﴾
قل لهم في أنفسهم قولاً يبلغ أعماق قلوبهم وخفايا عقولهم لكن بينك وبينهم دون أن تفضحهم:
﴿ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾
أعرض عنهم إشعاراً لهم أنك تعلمهم، إذا كان لك اهتمام ومودة بالغة مع المنافق يظن نفسه على حق هو، يظن نفسه أنه احتال عليك، لا، أعرض عنهم إشعاراً لهم أنك تعلم نفاقهم ثم عظهم، بيّن لهم الحق:
﴿ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾
يصل إلى قرارة نفوسهم.
 
عبادات كثيرة نفعلها ولا أحد يلزمنا بها لكنها تؤكد لنا إيماننا بالله وطاعتنا له :
 
أيها الأخوة الكرام:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾
كلمة أخيرة: لحكمة بالغةٍ بالغة في أشياء مشتركة بين القانون الإلهي والقانون الوضعي، فالإنسان إن لم يسرق لعله يخاف الله، أو لعله يخاف القانون، فإذا كنت بمؤسسة فيها ضبط شديد، مراقبة شديدة، فيها نظام محاسبة دقيق جداً، وإذا اختلس الإنسان شيئاً يفتضح ويحاكم، وتكف يده، وتصادر أمواله فأنت بهذه الحالات لا تسرق، الله وحده يعلم لماذا لم تسرق؛ خوفاً من الله، أو خوفاً من القانون، لكن ما من تشريع أرضي على الإطلاق فيه أمر بغض البصر، فأنت حينما تغض بصرك تخاف ممن؟ لا تخاف إلا من الله، فغض بصرك دليل أنك تخاف الله، هذه العبادة هي عبادة الإخلاص، صيامك في البيت دليل خوفك من الله، فالله عز وجل في بعض الأوامر ينفرد بها الدين، والقوانين الوضعية لا تشترك معه إطلاقاً، فلذلك تكشف نفسك أنت من صلاة قيام الليل، من غض البصر، من إنفاق المال، دون أن تبوح بهذا الإنفاق، من صيام النفل، في عندك عبادات كثيرة تفعلها، ولا أحد يلزمك بها، ولا أحد يطلع عليها إلا الله، فهذه العبادات يمكن أن تؤكد لك إيمانك بالله، وطاعتك له، وحبك له.
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب