سورة الأحزاب 033 - الدرس (17): تفسير الأيات (69 – 71)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الأحزاب 033 - الدرس (17): تفسير الأيات (69 – 71)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 15 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 06- غزة وخزة ايقاظ- د. عبدالوهاب الطريري           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - علامات قبول الطاعة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 387 - سورة المائدة 004 - 005           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 45- إدارة الأزمات والمخاوف- أ. أسامة ملحس -14 - 04 - 2024           برنامج مع الأسرى: مع الأسرى - حلقة45 - 13 - 4-2024         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الأحزاب

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الأحزاب ـ (الآيات: 69 - 71)

12/06/2012 15:02:00

سورة الأحزاب (033)
الدرس (17)
تفسير الآيات: (69 ـ 71)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الأكارم ، مع الدرس السابع عشر من سورة الأحزاب .
 
الإيذاء الحقيقي الذي يمكن أن يبلغ الأنبياء هو أن تعمل عملاً يعيق رسالتهم :  
 
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى  :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
(سورة الأحزاب)
أسلوبٌ حكيم أن يَذَكِّر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالأخطاء الفادحة التي وقع بها قوم موسى حينما آذوه ، ومعنى آذوه أي كذَّبوه ، وسَفَّهوا دعوته ، ولم يلتفتوا إلى أمر الله عزَّ وجل ، فأية معارضةٍ ، أو تكذيبٍ ، أو استخفافٍ ، أو استهزاءٍ ، أو إعراضٍ ، أو تفنيدٍ ، أو تجريحٍ بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام فهذا إيذاءٌ له وأي إيذاء ، والإيذاء الحقيقي الذي يمكن أن يبلغ الأنبياء هو أن تعمل عملاً يعيق رسالتهم ، عامَّة الناس إيذاؤهم أن تأخذ من مالهم ، إيذاؤهم أن تشتمهم ، إيذاؤهم أن تنتقص منهم لذاتهم ، ولكن الأنبياء منزَّهون عن هذا الألم ، الأنبياء إيذاؤهم الشديد أن تفعل شيئاً يُبعد الناس عنهم ، فالتكذيب ، والسخرية ، والاستهزاء ، والتفنيد ، والإعراض ، وعدم الاكتراث هذا هو أشدُّ أنواع الإيذاء ، لذلك :
     
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
إذاً الإيذاء بالقول ، هذا دليل قطعي وواضح على أن إيذاء الأنبياء كان بالقول :
﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى ﴾
(سورة آل عمران : من آية " 111 " )
الكافر يطلق لسانه بكل ما يُزعج المؤمن ، أحياناً يكذِّبه ، أحياناً يدَّعي أن له أغراضاً ، أحياناً يدَّعي أنه لضعفه اتجه هذا الاتجاه ، على كلٍ أية كلمةٍ ينطق بها إنسان مُعْرِض بهدف قطع الناس عن الله عزَّ وجل ، أو دفع الناس إلى إيذاء النبي ، أو إبعادهم عن هذه الرسالة السامية ، أي أنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، كيف أن الدعاة إلى الله عزَّ وجل يقرِّبون الناس من الله ، أعوان الشيطان يبعدون الناس عن الله .
 
الإنسان طاقة إما أن توظَّف هذه الطاقة في خدمة الحق وإما أن توظَّف في خدمة الباطل:  
 
الناس رجلان ، رجل يقرِّب ، ورجل يُبْعِد ، رجل يحبِّب ، ورجل يبغِّض ، رجل يدعو إلى ورجل يدعو عن ، رجل يدفع ورجل يصرف ، فهنيئاً لمن كان دوره في الحياة الدَفْعَ ، والتقريب ، والتحبيب ، والتوضيح ، والتبيين ، والإحسان ؛ والويل لمن كان دوره في الحياة قطع ما أمر الله به أن يوصل ، تكذيب ما ينبغي أن يُصدَّق ، تسفيه ما ينبغي أن يُبَجَّل ، دفع الناس إلى الدنيا وإلى المعاصي ، وصرفهم عن الله عزَّ وجل ، وعن آياته ، وعن بيوته .
الإنسان لا بدَّ من أن يكون فاعلاً ، الإنسان طاقة ، الإنسان باللغة المعاصرة ديناميكي ، أي أنه طاقة تتحرَّك ، هذه الطاقة ؛ طاقة فكريَّة ، طاقة عضليَّة ، طاقة نفسيَّة ، طاقة جسميَّة ، هذه الطاقة إما أن توظَّف في خدمة الحق ، وإما أن توظَّف في خدمة الباطل ، إما أن يكون فكرك ، ووقتك ، ومالك ، وعضلاتك ، وخبرتك ، وعلمك في سبيل تقريب الناس من الله عزَّ وجل ، في سبيل إسعادهم ، في سبيل تنوير الطريق أمامهم ، في سبيل تحبيب الناس بربِّهم ، وإما أن يكون فكرك ، ووقتك ، وجهدك ، وعضلاتك ، وعلمك ، وخبرتك في سبيل إبعاد الناس عن ربِّهم ، وصرفهم عن طاعته ، وتحبيب الدنيا لهم ، فالمشكِّك ، المنتقد ، الساخر ، المُسْتَخِف بدعوة الله عزَّ وجل الويل له لأن العاقبة للمتقين ، الأمور تدور وتدور وفي النهاية العاقبة للمتقين . هؤلاء الذين عارضوا النبي عليه الصلاة والسلام ما مصيرهم ؟ قُتِلوا في بعض المعارك ، وليس قتلهم هو العقاب ، ولكن مكانتهم في الوحل ، كانوا مع الشيطان ، هؤلاء الذين آمنوا به وعزَّروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنْزِلَ معه أين هم ؟ في حمى الرحمن ، يكفيهم أن الله عزَّ وجل قال :
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
(سورة الفتح : من آية " 18 ")
يكفي أن خالق السماوات والأرض رضي عنهم ، فهذه الآية فيها تربية نفسية حكيمة ، أي : يا أيها المؤمنون لا تكونوا كأصحاب موسى سخروا ، وكذبوا ،وفندوا ، وانتقدوا ، وأعرضوا ، فبرأه الله مما قالوا .
 
إذا اتهمت نبياً أو عالماً أو داعيةً يجب أن تعلم أن اتهامك وحده لا يكفي فهناك حقائق :
 
أنت بإمكانك أن تقول عن الذهب أنه حديد ، هذا يمكن أن تقوله ، ولكن إذا قلت هذا الكلام أيصبح الذهب حديداً ؟ هنا المشكلة ، بإمكانك أن تقول عن رجل عالم إنه جاهل ، ولكن هذا القول هل يجعله جاهلاً ؟ تبقى أنت الجاهل ، يمكن أن تتهم الأمين بالخيانة ، ولكن هذا الاتهام هل يجعله خائناً ؟ يمكن أن تتهم حتى الأنبياء ، بعض علماء النفس الذين يعدون من أركان الكفر في الدنيا ـ فرويد ـ وهو الذي فَسَّرَ كل شيءٍ بالجنس ، فسر كل سلوك الإنسان بالجنس ، حتى الأنبياء لم ينجوا من لسانه اتهمهم بالجنسية المثلية ، فهل هم كذلك ؟ لا هذا كلام ، إنها كلمة تخرج من أفواههم :
﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾
(سورة الكهف : من آية " 5 ")
إذا اتهمت نبياً ، أو إذا اتهمت عالماً ، أو إذا اتهمت داعيةً ، يجب أن تعلم علم اليقين أن اتهامك وحده لا يكفي فهناك حقائق ، كنت أقول دائماً هذه الأمثلة ، أنت معك كيلو من المعدن ، بذكاءٍ شديد ، وقوة حجةٍ بارعة أقنعت الناس بأنه ذهب وصدق الناس دعواك ، وهو في الحقيقة ليس ذهباً إنه معدنٌ رخيص ، من هو الخاسر ؟ الخاسر أنت ، وإذا كان معك ذهبٌ ، واتهمك الناس بأن هذا المعدن رخيص ، من الرابح ؟ الرابح أنت ، فخيرك منك ، وشرك منك ، لا شأن للناس بك ، لذلك ورد في الحديث القدسي :
(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ، قال : أحب عبادي إلي تقي القلب نقي اليدين لا يمشي إلى أحدٍ بسوء ، أحبني وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي )) .
[ من الدر المنثور : عن " ابن عباس " ]
 
الناس رجلان برٌ كريم وخَبٌ لئيم فالمؤمن متصل بالله والكافر منقطع عنه :   
 
إذاً الناس رجلان ؛ مُقَرِّب إلى الله ومُبَعِّد عن الله ، مُحَبِّب ومُبَغِّض ، مبيِّن ومضلل ، محسن ومسيء ، منضبط ومتفلت ، على اختلاف أجناس الناس ، وعلى اختلاف أعراقهم ، وأنسابهم ، واتجاهاتهم ، ومللهم ، ونحلهم ، وتفكيرهم ، وطبقاتهم ، وانتماءاتهم ، بالنهاية الناس رجلان برٌ كريم وخَبٌ لئيم ، فالمؤمن يُقَرِّب ، المؤمن يُحَبِّب ، المؤمن يُبَيِّن ، المؤمن ينضبط ، المؤمن محسن ، المؤمن مصلح ؛ الكافر مُبَعِّد ، مُبَغِّض ، مُضَلِّل ، مُتَفَلِّت ، مسيء ، مفسد ، هذا هو التقسيم الحقيقي لبني البشر ، متصل بالله ومنقطع عنه .
المؤمن جهده الأكبر وهدفه الأقصى أن يقرب الناس من الله ، أولاً بدعوته ، ثانياً بقيَمِهِ ، ثالثاً بقدوته ، بسلوكه ، بأعماله ، بأفعاله ، بأقواله ، بحرفته ، بصنعته ، كل شيءٍ في المؤمن يدعو إلى الحق ، وكل شيءٍ في الكافر يدعو إلى الباطل ، فهنيئاً لمن كان معيناً على الخير ، هنيئاً لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه ، هنيئاً لمن أطلق لسانه في الحق ، والويل لمن أطلق لسانه في الباطل ، هنيئاً لمن قرَّب الناس من الله ، والويل لمن أبعدهم عنه ، هنيئاً لمن حبب الناس بالله ، والويل لمن بَعَّد الله إليهم ، عن طريق قسوتهم ، وعن طريق جفوتهم .
يا أيها الذين آمنوا ، أسلوب تربوي رائع ، أن إياكم أن تكونوا كأصحاب موسى ، إياكم أن تكونوا في تعاملكم مع نبيكم ، كما تعامل أصحاب موسى مع نبيهم ، طبعاً القصة لها معنى ، عندما تكلم بعض من عاصر النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا : كيف يتزوج زوجة متبناه ؟ فالله عزَّ وجل يرد عليهم ، قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)      
النبي له مقام رفيع جداً ، أما أن يمر النبي في الطريق فيرى باباً مفتوحاً ، فينظر إلى امرأةٍ يبدو له منه جمالها ، فيقول : سبحان الله متأوِّهاً ، وتسمع زينب كلامه فتخبر زيداً ، الأنبياء فوق هذا المستوى ، فوق هذا بكثير ، هذا اتهامٌ باطل ، هذا جهلٌ بمقام الأنبياء ، المؤمن الورع يبدو أرقى من هذا المستوى .
 
النبي علمنا أن نتَّقي الشبهات وأن نتقي مواطن التهم :  
 
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
هكذا قال عليه الصلاة والسلام  :
(( ابتغوا الرفعة عند الله)) .
[الجامع الصغير : عن " ابن عمر" ]
إذا كنت عند الله وجيهاً فلا عليك ،قل مع من قال : وكل الذي فوق التراب تراب، لكن النبي علمنا أن نتَّقي الشبهات ، أن نتقي مواطن التهم ، كما فعل حينما رأى صحابيين أنصاريين يمشيان في الليل وقد رأيا النبي مع زوجته ، فقال عليه الصلاة والسلام : " على رسلكما " ، فاستحيا وأسرعا ، فقال : " على رسلكما ـ أي انتظرا ـ هذه زوجتي فلانة " ، فقالوا : أبِكَ نشك يا رسول الله ؟ قال : " لئلا يدخل الشيطان بينكما " .
أنت كمؤمن مكلف أن تتقي الشبهات ، مكلف أن تبتعد عن مواطن التهم ، وبعدئذٍ لا عليك لأن الله هو الحق ، وهو الذي سيظهر الحق .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا (69)
بل إن من أسماء الله الحسنى الحق ، ومن معنى هذا الاسم أنه سيظهر الحق ، فأي متهمٍ بريء سوف يبرِّئه الله عزَّ وجل ، وأية تهمةٍ كاذبةٍ سوف يكشفها الله عزَّ وجل ، وأي تطاولٍ ظالم سوف يضع الله صاحبه عند حَدِّهِ ، هو الحق لأنه الحق :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا (69)
 
الدنيا فيها ابتلاء ولكن الأمور لا تستقر إلا على رفعة المؤمن ونصرته وتوفيقه :
 
الشيء الثاني  :
﴿  وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)     
كان عند الله ذو شرفٍ وشأنٍ عظيم ، الشيء الأساس أن هناك آية لا تزيد عن كلمتين ، لو عقلهما الإنسان عقلاً صحيحاً ، لتغيرت حياته من أساسها ، الآية :
﴿ والعاقبة للمتقين(128) ﴾
(سورة القصص)
النهاية مع المؤمن ، الدنيا فيها ابتلاء ، وفيها امتحان ، يصعد هذا ويهبط هذا ، يغتني هذا ويفتقر هذا ، يعز هذا ويذل هذا ، هذا في الدنيا ، ولكن الأمور لا تستقر إلا على رفعة المؤمن ، ونصرة المؤمن ، وتوفيق المؤمن ، هكذا قال الله عزَّ وجل :
﴿  وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3) ﴾    
((سورة القمر
 
اتهام الناس لا يقدم ولا يؤخر لأن الحقيقة هي الشيء الثابت :   
 
آت بكرة وليكن في داخلها قطعة رصاص ودحرجها ، مهما تدحرجت لا تستقر إلا على وضعٍ واحد ، أن تكون هذه القطعة الثقيلة على الأرض :
﴿  وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ(3) ﴾    
((سورة القمر
لك أن تقول ما تشاء ، ولك أن تدَّعي ما تشاء ، ولك أن تبالغ ، ولك أن تطعن ، ولك أن تفنِّد ، ولك أن تنتقد ، ولك أن تتهم ، افعل ما تشاء ، لكن كل الكلام الذي تقوله لا يقدِّم ولا يؤخِّر ، حقيقةٌ ثابتة ، فمثل بسيط جداً : مركبة ، سمَّها ما شئت ! هي مركبة ، لها معمل صنعها ، ولها شكلها ، ولها أناقتها ، ولها إمكاناتها ، ولها ميزاتها ، إذا اتهمتها بأنها مركبة قديمة تبقى جديدة ، قل عنها قديمة هي جديدة ، قل عنها بطيئة هي سريعة ، قل عنها رخيصة هي غالية ، قل عنها ما شئت ، كلامك لا يقدم ولا يؤخر ولا يغير شيئاً من الواقع .
قل عن هذه الورقة كتاب تبقى ورقة ، فالكتاب كتاب ، قل عن الكتاب ورقة يبقى الكتاب كتاباً  .
أردت من هذه الأمثلة أن أبين لكم أن اتهام الناس لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يرفعولا يخفض ، ولا يجعل الغث ثميناً ولا الثمين غثاً ، ولا الصالح طالحاً ولا الطالح صالحاً ، ولا المحسن مسيئاً ولا المسيء محسناً ، ولا المؤمن كافراً ولا الكافر مؤمناً ، كلامٌ يلقى على عواهنه ، لكن الحقيقة هي الشيء الثابت ،الحق الشيء الثابت .
 
المنافقون أغبياء لأن أمرهم بيد الله ومن ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا :   
 
لو أن إنساناً عاصر النبي عليه الصلاة والسلام ، واستطاع بذكاءٍ حاد ، وحجةٍ قوية ، وطلاقة لسان أي ينتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام ، وهو سيد الخلق وحبيب الحق ، أن ينتزع منه حكماً في خصومةٍ لصالحه ، وهو ليس مُحِقَّاً ، قلت : على الرغم من أن هذا الرجل الذكي ، قوي الحجة ، طليق اللسان ، الذي استطاع أن ينتزع حكماً من فم النبي عليه الصلاة والسلام لصالحه في خصومةٍ ، على الرغم من كل ذلك لا ينجو من عذاب الله ! الدليل هو قول النبي عليه الصلاة والسلام قال :
((ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار )) .
[مجمع الزوائد : عن " ابن عمر" ]
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق ، وهو المعصوم ، لا ينفعك أن يحكم لك إن لم تكن مصيباً ، إن لم تكن مع الحق ، فهل ينفعك إنسانٌ دون النبي ؟! إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن ينفعك في ظلامة ، هل ينفعك من دونه ؟! من باب أولى لا ينفعك ، علاقتك مع الله .
لذلك ؛ المنافقون أغبياء ، لأن أمرهم بيد الله ، هم نسوا ربهم واتجهوا إلى غيره ، فأحبط أعمالهم ، العصاة أغبياء ، من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا .
 
البطولة أن تثبت حجتك يوم القيامة وأن تنجو من هول ذلك اليوم :
 
سيدنا سعد بن أبي وقاص ـ هو صحابي جليل ـ هو الصحابي الوحيد بين أصحاب رسول الله الذي كان إذا قدم على النبي عليه الصلاة والسلام ، النبي يحيِّه أجمل تحية ويداعبه ، يقول :
((هذا خالي فليرني امرؤ خاله)) .
[ كنز العمال : " عن جابر" ]
في السيرة النبوية الشريفة ، النبي عليه الصلاة والسلام ما فدى إنساناً بأمه وأبيه إلا سيدنا سعد بن أبي وقاص ، في أُحُدٍ قال :
((سعد ارم فداك أبي وأمي)) .
[ زيادة الجامع الصغير والدرر المنتثرة : عن " علي " ]
قال له عملاق الإسلام سيدنا عمر كلمةً رائعة :
" يا سعد لا يَغُرَّنَكَ أنه قد قيل خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له ."
أبلغ من هذا ، فقد قال النبي الكريم لابنته الحبيبة إلى قلبه :
(( يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسكِ من النار أنا لا أغني عنك من الله شيئاً ، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم ، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه )) .
 
[أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي عن " أبي هريرة "]
 
أي أن علاقتك مع الله في كسب المال ، في نصح المسلمين ، أقول هذه الكلمة دائماً : البطل هو الذي يهيِّئُ جواباً لله عزَّ وجل يوم القيامة ، لمَ طلقت هذه المرأة ؟ هل معك الجواب ؟ لمَ كتبتلك بيتها ثم طلقتها ؟ لمَ غششت هذا الذي اشترى منك هذه البضاعة ؟ لمَ أخفيت عنه العيب ؟ هل معك جواب ؟ لمَ أعطيت فلاناً ؟ لمَ منعت فلاناً ؟ البطولة أن تثبت حجتك يوم القيامة ، البطولة أن تنجو من هول يوم القيامة ، هذه البطولة ، فهذه الدنيا دار ابتلاء ، دار امتحان ، دار عمل ، ولكن الآخرة دار جزاء .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
 
الدين كلمتان ؛ معرفة الله والطاعة له :    
 
أيها الأخوة الأكارم ، الله سبحانه وتعالى يقول  :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ (70)
هذه الآية فيها كل الدين ، إذا آمنت بالله أطعته ، إن آمنت به ولم تطعه فكأنك ما آمنت به ، أما أن تطيعه من دون أن تؤمن به فهذا مستحيل ، أن تؤمن به ثم تعصيه فهذا إدعاء ، وهذا كلامٌ فارغ ، وهذا في الحقيقة ليس إيماناً ، فلو قال لك أحدهم ـ لا سمحَ الله ـ على كتفك عقربٌ ، لو قلت له : شكراً ، أنا شاكر لهذه الملاحظة القيِّمة ، وسوف أكافئك عليها إن شاء الله في المستقبل ، لو قلت هذا الكلام بهذا الهدوء معناها أنك لم تفهم هذا الكلام الذي قاله لك ، لو قلت له : شكراً على هذه الملاحظة التي ينبغي أن أقدِّرها حق قدرها ، إذا قلت هذا الكلام بهذا الهدوء ، لم تفهم ماذا قال لك ، لو أنك عرفت ما هي العقرب ، وأن لدغتها مميتة ، لقفزت من على الأرض حينما سمعت كلمة عقرب ، لأنك آمنت بأن الحياة صارت خطرة ، فما دمت لم تأبه معنى ذلك أنك ما عرفت معنى الكلمة ، أو ما عرفت العقرب ما هي ، أو لم تسمع منه بدقة ، فمن لوازم الإيمان الطاعة ، الإيمان من دون طاعةٍ لا جدوى منه ، والأصح أنه ليس إيماناً ، أما الطاعة من دون إيمان هذا شيء مستحيل .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ (70)
إن كنت آمنت بالله فاتقِ الله ، التوحيد هو نهاية العلم أن تؤمن بالله ، ونهاية العمل أن تطيع الله عزَّ وجل ، وما الدين كله إلا كلمتان ؛ معرفة الله وطاعة له ، الطاعة لا تكون قبل المعرفة ، والمعرفة الحقيقية لا تثمر إلا طاعة .
 
كل اعتقادٍ صحيح يؤدِّي إلى قول سديد :  
 
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
من بعض معاني هذه الآية أن الإنسان إذا اعتقد اعتقاداً صحيحاً قال قولاً سديداً ، فإذا نصح أحد شاباً مُقْدِماً على الزواج ، أن يذيب أوقية من الملح في ماء وأن يصب هذا الماء أمام بيت المتزوج ، من أجل أن يكون الوفاق بينهما ، هذا الكلام غير سديد ، لماذا ؟ لأن الاعتقاد غير صحيح ، الاعتقاد غير الصحيح يثمر كلاماً غير سديد ، وإذا قال أحدهم للآخر : إن لم تغش الناس لن تستطيع أن تكسب قوت يومك ، هكذا الدنيا ، هذا كلامٌ غير سديد ، لأنه بني على اعتقادٍ غير صحيح ، فإذا أمرنا أن نقول قولاً سديداً ، فالقصد أن نعتقد اعتقاداً صحيحاً ، لأن كل اعتقادٍ صحيح يؤدِّي إلى قول سديد .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
أي أن أخطر شيءٍ في حياة الإنسان عقيدته ، إن صحَّت صَحَّ عمله ، وإن زاغت زاغ عمله ، إن صحت صح سلوكه ، وإن فسدت فسد عمله ، فإذا طُلِب منك أن تقول قولاً سديداً ، أي أنك مطالبٌ ضمناً أن تعتقد اعتقاداً صحيحاً حتى تقول قولاً سديداً ، أيَّةنصيحةٌ تسديها للناس إذا كان أساسها المعصية فهذا قولٌ غير سديد ، كأن تقول : لن ترتقي في عملك إلا إذا كذبت هذا كلام غير سديد ، أيها المحامي لن تربح أرباحاً طائلةً إلا إذا بنيت عملك على الكذب ! هذا كلام غير سديد ، أيها التاجر لا بدَّ من التدليس في البضاعة حتى تباع سريعاً ! هذا كلام غير سديد ، معنى غير سديد أي غير صحيح ، أو غير صادق ، أو غير صائب ، أي لا يطابق الواقع ، غير صادق ولا يطابق الواقع ، أي فيه خطأ ، فيه خلل ، فأي كلامٍ غير سديد أساسه اعتقاد غير سديد .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
أي اعتقدوا اعتقاداً صحيحاً ، هذه واحدة  .
 
القول السديد هو في الحقيقة عملٌ سديد فمن لوازم القول السديد العمل الصحيح :
 
المعنى الثاني : أنك إذا قلت قولاً سديداً ، أي إن لم تكذب ، ما كذبت أبداً ، ولا اغتبت ، ولا كان كلامك فاحشاً ، ولا بذيئاً ، ولا فيه سبابٌ ، ولا فسوق ، ولا عصيانٌ ، ولا فيه تحقيرٌ ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( المُسلِمُ أخُو المُسْلِمِ ، لا يَظْلِمُهُ ، وَلا يَخْذُلُهُ ، وَلا يَحْقِرُهُ )) .
[ رواه مسلم عن " أبي هريرة " ]
إذا قلت قولاً سديداً بشكلٍ طبيعي صار عملك صحيحاً ، فمن لوازم القول السديد العمل الصحيح  .
صار عندنا أشياء ثلاثة : عقيدة صحيحة تفرز قولاً سديداً ، والقول السديد يفرز عملاً صالحاً ، إذا إنسان ضبط لسانه يصبح عمله جيداً ، لو فرضنا عمل بالتجارة ، وقالله شخص ما : هذه البضاعة من أين مَنْشَؤها ؟ ما دام عاهد نفسه أن لا يكذب ، تكلم كلاماً صحيحاً ، وباعها بسعرٍ معقول ، وأظهر عيبها ، فهذا القول السديد صار عملاً سديداً ، لأن الأقوال أعمال ، لم يكذب ، ولم يدلس ، ولا أخفى ، في موطن الكلام تكلم ، في موطن السكوت سكت ، هو في جلسة وجاءت قصة زيد ، سكت ، يعرف عنه قصصاً ممتعةً جداً ، لو تكلم بها لوقع في الغيبة ، لكنه سكت ، أو تكلم فنصح ، إذاً هذا القول السديد هو في الحقيقة عملٌ سديد ، من هو التاجر ؟ هكذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا )) .
[ الجامع الصغير : عن " معاذ  " ]
صار الكلام عملاً  .
(( إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ـ الوعد أيضاً كلام ـ وإذا اشتروا لم يذموا ،ـ أيضاً كلام ـ وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا كان عليهم لم
 
يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا )) .
[ الجامع الصغير : عن " معاذ " ]
التاجر الصدوق قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام :
(( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء )).
[ الجامع الصغير : عن " أبي سعيد" ]
 
الإيمان من لوازمه العمل أما العمل من دون إيمان لا يكون :  
 
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (71)
اعتقادٌ صحيح يؤدِّي إلى قولٍ سديد ، والقول السديد من لوازمه عملٌ رشيد ، اعتقادٌ صحيح ، قولٌ سديد ، عملٌ رشيد ، والإيمان من لوازمه العمل ، أما العمل من دون إيمان لا يكون ، الإيمان بلا عمل جنون ، والعمل من دون إيمان لا يكون .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
آمنت بالله ، ماذا تنتظر ؟ لمَ لا تطيعه ؟ أنت ثقافتك عالية ، أيقنت أن هذه الرائحة رائحة غاز الاحتراق في البيت ؟ نعم ، وأيقنت أن هذا الغاز قابل للانفجار ؟ نعم ، وأيقنت أنه في كل لحظة يمكن أن ينفجر البيت ؟ نعم ، فلماذا أنت واقف ؟ لمَ لا تذهب وتغلق هذا الصنبور ؟ لمَ ؟ لأن هذا الشيء لا يعقل ، إذا آمنت بأن هذا الغاز منفجر ، وربما أحرق البيت كله ، والرائحة ثابتة ، وأنت متحرِّك ، لماذا أنت واقف ؟ فعلاً هذا سؤال كبير جداً ، هل تعرف أن غض البصر أمر إلهي ؟ نعم ، كيف تطلق بصرك ؟ فإذا قلت أنا : هل هذا الكلام كلام الله ؟ كلام الله ، عندك شك ؟ لا ، أعندك شكٌ أن هذا الكلام ليس كلام الله ؟ لا والحمد لله ، لكنه يأمرك أن تفعل هكذا ، أعندك شك أن هذا القرآن ليس كلام الله ؟ لا وأعوذ بالله ، هو يأمرك ألا تأكل أموال الناس بالباطل .
هناك سؤال خطير جداً ، سؤال محرج : ما دمت قد آمنت بالله لماذا أنت واقف ؟ أين حركتك ؟ أين مبادرتك إلى طاعة الله ؟ أين هروبك من المعصية ؟ أين المَنْهَل الذي تشرب منه ؟ آمنت أن العلم هو كل شيء ؟ آمنت أن العلم هو الطريق الوحيدة إلى الله عزَّ وجل ؟ آمنت أن رتبة العلم أعلى الرتب ؟ نعم ، آمنت أن أعلى كتابٍ في الكون هو كتاب الله عز وجل ؟ نعم ، فلماذا لا تسعى إلى فهمه ؟ لماذا ؟ ما الذي يمنعك عن أن تفهم كلام الله ؟ موعد ؟ ما هذا الموعد ؟ لقاء ، ضيف ، استقبال شخص ؟ ألا ترى أن أي نشاطٍ تفعله وقت مجلس العلم نشاطٌ تافه ، تافه جداً ، استقبلت إنساناً ، يقول لك : والله في مطر الحمد لله ، الأسعار عندكم ؟ الأمطار ؟ هذا الكلام ؟ أحياناً تمضي وقتاً بموضوعٍ سخيفٍ جداً ، وتضيِّع عليك شيئاً ثميناً جداً وهو معرفة كلام الله عزَّ وجل ، منهجك في الحياة .
 
مفهوم اللهو كما فسره العلماء :   
 
ما هو اللهو كما فسره العلماء ؟ أن تشتغل بالخسيس عن النفيس ، إنسان غاص في البحر ، وتعرض لأخطار أسماك القرش ، وأخطار الاختناق ، وأخطار تعطلغاز الأوكسجين ، وأخطار الجزر المرجانية ، وأخطار بعض الأفاعي في البحار ، وغير ذلك من الأخطار ، ووصل إلى قاع البحر ، فرأى اللؤلؤ ورأى الصدف ، ترك اللؤلؤ وحمل الصدف وصعد به إلى وجه الماء ! نقول : هذا يلهو ، لأنه ترك النفيس واشتغل بالخسيس ، وشأن الناس الآن أكثرهم هكذا ، يدعون مجالس العلم ، يدعون فهم كلام الله ، يدعون فهم سنة رسول الله ، يدعون عبادة الله ، يدعون الأعمال الصالحة التي ترفعهم عند الله ، وهم غارقون إلى قمة رأسهم في الأشياء الخسيسة ، التي عند الموت لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تعطيهم شيئاً :
﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ(56)
(سورة الزمر)
لذلك  :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (71)
 
العلم بالله هو الطريق الوحيدة إلى الله فهو طريق سعادة الدنيا والآخرة :
 
ملخص الملخص : أنك مخلوقٌ للجنة ، ففيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، خُلِقْتَ لها ، والجنة كما قال الله عزَّ وجل   :
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32) ﴾
((سورة النحل
 تحتاج إلى عمل صالح ، والعمل الصالح لا يمكن أن يكون من دون علم ـ أنا أسلسل الأمور ـ أنت مخلوقٌ للجنة ، والجنة ثمنها العمل الصالح ، والعمل الصالح من غير علمٍ لا يكون ، ألا ترى معي أن العلم بالله هو الطريق الوحيدة إلى الله ، طريق سعادة الدنيا والآخرة ، هذا الذي قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه قال : " إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم " .
أحياناً شركة تطور صناعتها ، وتنفق على التطوير مئات الألوف ، بل ألوف الملايين ، من أجل تطوير صناعة ، فإذا نجحت بيع إنتاجها في العالم كله ، ووقف الناس بانتظار أن يتاح لهم شراء هذه البضاعة ، وتصبح شركةً تبيع في كل أقطار العالم بفضل التطوير العلمي لإنتاجها ، وأما الصناعة التي بعيدة عن التفكير العلمي في التطوير تبقى كاسدة ، فكلام الإمام الشافعي صحيح : " إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم " ، حتى بمجال كسب المال الذي يفكر بطريقةٍ علمية يحقق أهدافه كلها ، والذي يفكر بطريقةٍ أساسها الجَهل ، قد يفاجأ ، قد يحبط عمله ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم .
أنا ألح على هذه الفكرة لأن هذا يقيني ؛ أنك لن تصل إلى الله إلا بالعلم ، فهذا الذي يجعل خرق العادات هو الوسيلة الوحيدة بتعريف الناس بالله ، هذا إنسان ضال مضل ، ماذا يجدي الناس أن تقوم بأعمال أمامهمغير اعتيادية ؟ ماذا يجديهم أو ينفعهم أن تخرق العادات ؟ لهم أمراض ، لهم أسئلة كثيرة جداً ، لهم مشكلات ، لهم شُبُهَات ، يجب أن تجيب أسئلتهم ، وأن تحل مشكلاتهم ، وأن توضح الشبهات حتى ترقى بهم إلى الله عزَّ وجل ، فلذلك لابدَّ من العلم ، والعلم له مكان ، فلا يوجد إنسان أخذ دكتوراه في الطب وهو في بيته ، مستحيل ، إنسان يصل لأهدافه وهو جالسٌ في بيته ، هذا من رابع المستحيلات ، فالله سبحانه وتعالى أراد أن تكون صلاة الجمعة فريضةً ، لماذا ؟ من أجل العلم .
 
كلما زادت الشبهات والشهوات أصبحت بحاجةٍ إلى علمٍ صحيح وقدرةٍ على ردِّ كل الشبهات:    
في هذا الدين العظيم فريضةٌ نص عليها القرآن الكريم :
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
(سورة الجمعة : من آية " 9 ")
ماذا في صلاة الجمعة ؟ ماذا تزيد صلاة الجمعة على صلاة الظهر في المسجد ؟ الخُطبة ، معناها أراد الله عزَّ وجل أن تطلب العلم ، يوجد في الخطبة آية ، حديث ، حكم فقهي ، تذكرة بالآخرة ، قصة عن أصحاب رسول الله ، وهكذا كلما زادت الشبهات والشهوات أصبحت بحاجةٍ ماسةٍ إلى علمٍ صحيح ، وإلى عقيدةٍ راسخة ، وإلى فهمٍ دقيق ، وإلى إدراكٍ عميق ، وإلى قدرةٍ على رد كل الشبهات :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (71)
كل بني آدم خَطَّاء ، ولكن العبد ـ كما قلت لكم دائماً ـ عندما يكون الإنسان مؤمناً بالله عزَّ وجل ، مؤمناً بضعفه ، يعرف حجمه ، يذعن لله عزَّ وجل في كل ما أمر ، هذا الإنسان قد تزل قدمه أحياناً ، قد يقع في خطأٍ غير مقصود ، ما دام قد آمن بالله ، واعترف بعبوديته له ، وما دام في الحياة ، فطريق التوبة وطريق غفران الذنوب طريقٌ واضح ، فلذلك هذا طمأنينة ، النبي عليه الصلاة والسلام هو المعصوم ، ولكن المؤمن لو أنه أخطأ ، لو أنه قَصَّرَ ، لو أنه أساء عن غير قصدٍ منه ، فإن باب التوبة مفتوح ، باب الإصلاح مفتوح .
 
من كانت مقاييسه منطبقةً مع كلام الله عزَّ وجل فسوف يفوز فوزاً عظيماً :   
 
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
أيها الأخوة الأكارم ، بربِّكم : من تراه أنت في أعماقِك من دون رقابة ؟ من تراه فاز فوزاً عظيماً ؟ قل لي من هو الفائز عندك أقل لك من أنت ؟ إنسان اشترى أرضاً ، باعها بخمسين ضعفاً  ، هل تقول هنيئاً له ؟ إنسان اشترى بيتاً ، ارتفع سعره ثلاثين ضعفاً ، خمسين ضعفاً ؟ إنسان حقق بتجارته أرباحاً مذهلة ؟ إنسان اقترن بامرأةٍ تروق له ؟ إنسان اقتنى أجمل التحف ؟ من هو الفائز ؟ قل لي من هو الفائز في نظرك أقل لك من أنت ، أما إذا كانت مقاييسك منطبقةً مع كلام الله عزَّ وجل :
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
قد تكون أنت وصديق لك في مقعد دراسة واحد ، أن تكونا صغيرين على مقعدٍ واحد ، وأنت عرفت الله ، وأطعته ، وأنت في طريق مرضاته ؛ لكن دخلك قليلٌ قليل ، وحياتك خشنة ، وبيتك صغير ، وهذا الصديق الذي كان إلى جانبك على مقعدٍ واحد صار يتكلم بألوف الملايين ، وله من البيوت أجملها ، ومن المركبات أكثرها حداثةً وأغلاها ثمناً ، وله من المزارع أجملُها ، إذا قلت مرةً : هنيئاً له ، لقد أعطاه الله وحرمني ، فأنت لا تعرف الله أبداً ، وأنت لست في مستوى هذه الآية .
 
إن لم تكن رؤيتك للفوز العظيم كما يقول الله عزَّ وجل فلست مؤمناً :
 
خالق الكون يقول لك :
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
أنت ماذا ترى الفوز ؟ في كسب الدرهم والدينار ؟ في اقتناء البيوت الفخمة ؟ في ركوب السيارات الفارهة ؟ في إنفاق الأموال الطائلة ؟ في المظاهر الفخمة ؟ في تجارةٍ عريضة ؟ في منصبٍ حساس ؟ في مركزٍ رفيع ؟ ماذا ترى أنت الفوز العظيم ؟ إن لم تكن رؤيتك للفوز العظيم كما يقول الله عزَّ وجل فلست مؤمناً ، هذا الذي له دخلٌ قليل ، وبيتٌ صغيرٌ ، وحياةٌ خشنةٌ ، لكنه مطيعٌ لله عزَّ وجل ، يعرف لماذا خلق وإلى أين المصير ؟ هذا الذي يرى صديقه الذي كان إلى جانبه على مقعد واحد ، قد صار يتحدث بالملايين ، بمئات الملايين ، وله من الدنيا العريضة ما شاء ، إن قال هذا الأول هنيئاً للثاني فهو لا يعرف الله ، يجب أن يقول : هنيئاً لي لمعرفة الله ، وأرجو الله له الهدى ، هكذا يقول ، هنيئاً لك بمعرفة الله ، هنيئاً لك بطاعته ، هنيئاً لك بمرضاته ، هنيئاً لك بإنفاق زكاة مالك ، هنيئاً لك بخدمة الناس ، هنيئاً لك بفهم كلام الله ، هنيئاً لك بذكر الله.
 
الفرق بين كلام أهل الدنيا وكلام أهل العلم :   
 
قال تعالى :
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾
(سورة القصص : من آية " 79 ")
أحياناً الشخص يتأوَّه من الآخرين تأوُّهاً تحس أنه انزعج بشدة ، مثلاً أحدهم يملك بيتاً مساحته أربعمائة متر ، وهو عنده غرفة ونصف ، سيارته ثمنها اثنا عشر مليوناً ، خير إن شاء الله :
﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79) ﴾
(سورة القصص : من آية " 79 ")
 هذا كلام أهل الدنيا :
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾
(سورة القصص : من آية " 80 ")
هذا الجواب ، فلذلك  :
﴿ ْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
والحمد لله رب العالمين ، كنت أظن أن هذا الدرس هو الأخير من سورة الأحزاب ، لكن من فضل الله عزَّ وجل شُرِحَت هذه الآيات بالتفصيل .
 
الآيات التالية هي آيات التكليف والأمانة :   
 
بقي علينا قوله تعالى  :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) ﴾
هذه الآيات مهمة جداً ، وهي آيات التكليف والأمانة ، وأرجو الله سبحانه وتعالى في الدرس القادم أن يوفِّقنا إلى شرحها شرحاً دقيقاً لأنها أصل التكليف ، أنت إنسان مكلَّف ، أنت المخلوق الأول ، أنت المخلوق المكرَّم ، أنت الذي سخر له ما في السماوات والأرض ، يجب أن تعرف ذاتك ، يجب أن تعرف من أنت ؟ لأنه من عرف نفسه عرف ربه ، يجب أن تعرف المهمة التي من أجلها خُلِقت ، يجب أن تعرف الرسالة التي حملت ، يجب أن تعرف الدار التي أنت عليها مُقبل ، يجب أن تعرف الحساب الذي أنت سوف تحاسب به ، فهذه أسئلة خطيرة جداً ، فأنت الإنسان الأول والمكرم الذي خلق الكون من أجلك ، قال تعالى :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾
(سورةالجاثية : من آية " 13 ")
في الدرس القادم إن شاء الله نشرح هذه الآيات  .
والحمد لله رب العالمين
 
 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب