سورة الصّافات 037 - الدرس (10): تفسير الأيات (114 – 123)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الصّافات 037 - الدرس (10): تفسير الأيات (114 – 123)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 274 - مقبرة مأمن الله           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 14 - متى ينطق الشجر والحجر للمسلم - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - الرحمة بعباد الله           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 395 - سورة المائدة 019 - 026           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 22 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 13 - واجبنا في ظل الظروف - الذي أطعمهم من جوع         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الصّافات

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الصّافات ـ (الآيات: 114 - 122)

06/09/2012 18:01:00

سورة الصافات (037)
 
الدرس (10)
 
تفسير الآيات: (114 ـ 122)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

  
بسم الله الرحمن الرحيم
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .      
       أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس العاشر من سورة الصافات ، ومع الآية الرابعة عشرَ بعد المائة:
﴿ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ﴾
 
مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ
 
1 ـ المنُّ هو العطاء :
 
     المنُّ هو العطاء .
 
2 ـ كلُّ آية مَنٍّ خوطب بها النبي للمؤمن منها نصيب :
 
      كل آيةٍ يخاطب الله بها النبي عليه الصلاة والسلام ـ دقِّقوا ـ كل آيةٍ يخاطب الله بها النبي عليه الصلاة والسلام للمؤمن منها نصيب ، فإذا مَنَّ الله على موسى وهارون ، بماذا منَّ الله عليك ؟ من أجل أن ينشأ الحب ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ ... )) .
[ الترمذي عن ابن عباس ]
       أول نعمةٍ أنعمها الله علينا جميعاً هي نعمة الوجود.
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1) ﴾
(سورة الإنسان )
 
نِعَم الله على العبد لا تعدّ ولا تُحصى :
 
      لك اسم ، معك هويَّة ، فلان الفلاني ابن فلان ، أودع الله فيك عقلاً ، وأعضاء ، وأجهزة دقيقة جدا ، ونعمة الإمداد ، أمدَّك بالهواء ، والماء ، والطعام والشراب ، أمدَّك بزوجة ، بمأوى ، بأولاد ، بخبرات ، بحرفة ، بمهارات ، برزق ، نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الإرشاد ؛ دلَّك عليه ، عرَّفك به ، جمعك مع أهل الحق ، أسمعك الحق وهذه بشارةٌ لك ، والدليل:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ ﴾
(سورة الأنفال : من الآية 23)
      ما دام قد أسمعك فأنت أهلٌ لهذا السماع، وهذه بِشارة من الله عزَّ وجل ، فعندما يقرأ الإنسان:
﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ﴾
      الله عزَّ وجل تفضَّل عليهما ، منحهما ، أعطاهما ، أكرمهما ، رفع شأنهما ، نصرهما على عدوِّهما ، نجَّاهما من فرعون ، قياساً على هذه الآية أنت عدِّد النِعَم التي أنعمها الله عليك ؛ جعلك من أبوين مسلمين ، في بلدٍ يغلب عليها الصلاح ، تُقام فيها شعائر الله عزَّ وجل ، جعلك محبوباً عند أقرانك ، جعل لك أباً وأماً يعطفان عليك ، تربَّيت في حجرهما ، نشأت ، ترعرعت ، وكلَّما تذكَّر الإنسان فضل الله عليه ذاب حبَّاً لله عزَّ وجل ، وكلَّما رأى مصيبةً حلَّت بإنسان فيما بينه وبين نفسه ليذكر نعمة الصحة ؛ أن الله أنعم عليه ، أكرمه ، إن رأيت إنساناً يفقد أحد أعضائه ، لقد مَنَّ الله عليك.
 
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْن (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ﴾
(سورة البلد)
      ماذا تنتظر ؟ ما الذي يحول بينك وبين أن تصل إلى الله ؟ ما الذي يمنعك عن طاعة الله ، الذي خلقك من لا شيء ؟ ولذلك:
﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ﴾
      وأنت أيها المؤمن إذا قرأت هذه الآية اسأل نفسك ، عدد النعم التي مَنَّ الله بها عليك ، عدد نعمة الوجود ، عدد نعمة الإمداد ، عدد نعمة الإرشاد ، عدد النعم التي أكرمك الله بها من أجل أن تحبَّه ، الإنسان لا يكون منصفاً لو أنه تذكر ما ينقصه ، في حياة كل إنسان شيء متوافر لديه ، وشيء لم يحصل عليه ، فالمؤمن ينشغل بما لديه ، لا بالذي لم يحصل عليه ، يا ثعلبة ، كما قال النبي :
(( يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه )) .
[تخريج أحاديث الإحياء]
      قليلٌ يكفيك خيرٌ من كثيرٍ يطغيك ، خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً ، ولتعلم علم اليقين أن أعظم كرامةٍ لك عند الله أنه عرَّفك بذاتك ..
      إنه وهمٌ كبير أن يظن الإنسان أن كلمة الرزق تنصرف إلى المال ، لا ، فالعلم رزق ، ومعرفة الله وطاعته رزق ، والسلامة والصحة رزق ، والعقل في الإنسان رزق ، ومأوىً تأوي إليه رزق ، والزوجةً المؤمنةً والأولاد الأبرار رزق ، لو وسَّعت كلمة الرزق لرأيت نفسك مغموراً بنعم الله عزَّ وجل ، النبي عليه الصلاة والسلام كانت تعظم عنده النعمة مهما دَقَّت .
      فإذا أكلت طبقاً من الطعام ، تذكرة المرضى الذين يعيشون على السيروم فقط ، إذا تحركت في البيت تذكَّرة المُقعدين ، إذا انطلق لسانك تذكَّرة أناساً بعيدين عن الله عزَّ وجل لا ينطلق لسانهم إلا بالباطل ، إلا بالفِتَن ، إلا بالانحرافات ، إلا بالمعاصي ، فحينما تنشغل بالنعمة عن المنعم فهذه هي الغفلة ، ولكن المؤمن ينشغل بالمنعم ، ينتقل من النعمة إلى المنعم .
      لذلك الشكر درجات ، حده الأدنى أن تعرف أن هذه النعمة من الله ، إذا عرفت أن هذه النعمة من الله فهذا شكر ، وإذا امتلأ قلبك امتناناً لله وحمداً له فهذا شكر ، وإذا انطلقت إلى عملٍ صالحٍ ، تحاول أن تعبر عن شكرك لله عزَّ وجل ، فهذا شكر ، فالمعرفة شكر ، والامتنان شكر، والعمل الصالح شكر ..
﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ﴾
 
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 164)
       لا تعرف قيمة الهدى أيها الأخ الكريم إلا حينما تجلس إلى إنسان جاهل يهرف بما لا يعرف ، يتكلم في كلاماًكله جهل ، كله فسق ، كله فجور ، كله ضيق الأفق ، حينما ترى انحرافاً في السلوك وعدواناً ، حينما ترى بغياً وضلالاً ، حينما ترى ضلالاً ، ترى تقصيراً ، حينما ترى الاختلاط ، وشرب الخمور ، وانتهاك الحُرُمات ، والتحدِّي الذي يتحدونه ، إذا رأيت مثل هؤلاء الأشخاص تعرف نعمة الهدى والانضباط ، نعمة الطهارة والعِفَّة ، نعمة النظافة الأخلاقية ، نعمة الأسرة والاستقامة .
     إذاً :
﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(114)وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾
 
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
   
    كربٌ عظيم ، العظيم يصف الكرب بأنه عظيم ، العظيم ، خالق الكون وصفه بأنه عظيم .
 
﴿ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(114)وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾
 
1 ـ لا قِبَل للإنسان بكربِ الله العظيم :
 
     ونعوذ بالله من الكرب العظيم ، أحياناً ربنا عزَّ وجل لو ساق لإنسان مشكلة واحدة يستنفر فيواجه هذه المشكلة ، ولكن إذا شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يبتلي إنساناً بكربٍ عظيم ، يأتيه من كل جانب ، تارةً من صحته ، وتارةً من زوجته ، ومن أولاده ، ومن عمله ، ومما يحيط به ، ومن سوداويته ، ومن تشاؤمه ، ومن انهياره الداخلي ، لذلك كلما ابتعد الإنسان عن طريق الحق احتاج إلى كربٍ ليعيده إليه ، كلما كان انحرافه عظيماً كان كربه عظيماً .
   
2 ـ المؤمن يفهم على الله قبل نزول الكرب :
 
    فالمؤمن يفهم على الله ، سريع الرجوع إلى الله ، كثير التوبة ، أوَّابٌ ، لوَّامٌ ، المؤمن أثنى الله عليه ، وصف نفسه بأنها لوَّامة ..
﴿ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2) ﴾
(سورة القيامة )
      دائماً يحاسب نفسه حساباً عسيراً ، لمَ قلت هذه الكلمة ؟ لمَ نظرت هذه النظرة ؟ لمَ ابتسمت هذه الابتسامة ؟ لمَ أدرت حديثاً ودياً مع امرأةً لا تحلُّ لي ؟ لماذا سكت ؟ لماذا لم أدافع عن أخي المؤمن ؟ لماذا جلست في مجلسٍ يُغتاب فيه ، وبقيت جالساً فيه ؟ لماذا لم أقل كلمة الحق ، آثرت سلامتي على كلمة الحق ؟ فالمؤمن كثير اللَّوم لنفسه ، وكل من كان حسابه في الدنيا حساباً عسيراً ، كل من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً ، كان حسابه يوم القيامة حساباً يسيراً ، كل من وسع صراطه في الدنيا ضاق صراطه في الآخرة ، وكل من ضيق صراطه في الدنيا اتَّسع صراطه في الآخرة ، فإذا قلت في كل قضية : هذه فيها فتوى ، وهذه بلوى عامة ، وهذه الله لا يؤاخذنا بعملنا ، وهذه ماذا سنفعل ، نحن عبيد إحسان ، ولسنا عبيد امتحان ، وقعت في مشكلة يعطيها فتوى ، هذا الذي يحاسب نفسه حساباً يسيراً ، عندئذٍ يأتي حسابه يوم القيامة عسيراً .
       فهذا الكرب العظيم أيها الإخوة ، الكرب العظيم يكافئ الانحراف العظيم ، أحياناً طالب يفهم من نظرة ، تجده انضبط ، لأنه حساس ، فيه حياة، قلبه حي ، يستحي ، يخجل ، أستاذه غالٍ عليه ، علاقته بأستاذه وثيقة جداً ، فلو أن المدرس أعرض عنه قليلاً لهلك هماً وحزناً  .
      قلت لكم سابقاً : مؤمن استمع من شيخه إلى أن لكل سيئةٍ عقاباً ، زلّت قدمه في مشكلة ، فيه تقصير ، انتظر المصيبة ، مر يوم ، ويومان ، وأسبوع وأسبوعان ، فلم يحدث معه شيء ، في المناجاة قال : يا رب لقد عصيتك فلم تعاقبني ، فوقع في قلبه : أن يا عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ ، ألم أحرمك لذة مناجاتي ؟
      المؤمن أيها الإخوة ، يكفيه أن يشعر أن علاقته بالله ليست كما يرام ، أن اتصاله بالله فاتر ، إقباله على الله ضعيف ، يكفي أن يشعر بهذا الشعور حتى يحاسب نفسه ، ويراجع حساباته ، ويسأل نفسه : ماذا فعلت ؟ ما الذي اقترفت ؟ من أي جهةٍ قصَّرت ؟ هذا هو المؤمن .
 
3 ـ شدّة الكرب بسبب شدة الانحراف :
 
      كلما ازداد الانحراف كان الكرب أكثر شدةً ، لذلك هناك أناسٌ لا يعودون إلى الله عزَّ وجل إلا بمصيبةٍ تقصم الظهر ، فكأن الله ينتظر منا أن لا ننحرف انحرافاً لا يرجعنا إلا الله إلا كربٌ عظيم ، مثلاً أمراض ، فإذا شعر الإنسان أنه قد أصابته ، لا تقوى رجلاه على حمله ، خلافات زوجية ، شَرخ في داخل الأسرة ، مصائب ضمن الأسرة ، في الجسم ، في علاقات العمل ، أحياناً الإنسان يتورَّط ورطة كبيرة جداً فلا ينام الليل ، يقول لك : شهر لم أنم الليل ، هو في كرب عظيم ، ولكن هذا الكرب العظيم يتناسب مع انحرافٍ عظيم ، كلما كان الانحراف عظيماً كان الكرب عظيماً ، فلا تسلكنَّ مع الله طريقاً تحتاج معه إلى كرب عظيم .
        في الجسم مرض ، ولكنه بسيط ، في بواكير المرض يعالج بحبوب ، بحمية ، لكن لو أهمل نصائح الأطباء ، وركب رأسه ، وأكل ما يشاء ، وتحرك حركة عشوائية كما يحلو له ، ولم يعبأ بنصائح الأطباء ، وألقى بها عرض الطريق ، عندئذٍ يقول له الطبيب : لابدَّ من عملٍ جراحي  .
      لا تتعدّ حدود الله ، ولا تأكل مالاً حراماً ، ولا تشتط ، ولا تعتدِ ، ولا تتجاوز حدوده لدرجة أنه لابُدَّ من كربٍ عظيم ، فإياك أن تصل مع الله إلى طريقٍ مسدود .
    أضرب هذا المثل ، إنسان ارتكب جريمة ، وحوكِم ، وحكم عليه بالإعدام ، وصُدّق الحكم ، وسيق إلى المشنقة ، في هذه اللحظة وصل مع القضاء إلى طريق مسدود ، لابد من أن يعدم ، إن بكى أو توسَّل ، إن استرسل أو تذلل ، وصل مع القضاء إلى طريقٍ مسدود ، ولابدَّ من نفاذ الحكم .
       الذي أتمناه على كل أخ ألا يتورط ، ألا يهمل نفسه إلى أن يصل مع الله إلى طريقٍ مسدود ، لابدَّمن كرب عظيم ، وربنا عزَّ وجل إذا أراد أن يعالج يعرف كيف يعالج ، من المنطقة الحسَّاسة ، من المنطقة التي تؤلم ، من الشيء الذي يخيف ، فأنواع المصائب لا تعد ولا تحصى ، أحياناً مصائب وهمية ، يتوهَّم الإنسان مرضاً خبيثاً أصابه ، يعيش أشهراً مُنسحِقاً ، ثميتبين أن الورم غير خبيث ، لكن الله قادر أن يوهمك ، وقادر أن لا يوهمك ، وقادر أن يفعل ما يشاء ، فأنت كن معه على حَذَرِ ، إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك ، وأنت تعصيه فاحذره ، الله عزَّ وجل يمد للكافرين مداً ، فإذا كان الإنسان منساقا مع رغباته من دون رادع ، عندئذٍ يحتاج إلى كربٍ عظيم ، فسيدنا موسى وهارون :
﴿ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴾
 
4 ـ الكرب العظيم أصاب فرعون :
       الكرب العظيم أصاب فرعون ، لأنه عتا وطغى ، ونسي الجبار الأعلى ، قال : أنا ربكم الأعلى ، رأى في المنام أن طفلاً من بني إسرائيل سيقضي على ملكه ، فذبح كل أطفال بني إسرائيل ، عتا ، وطغى ، وبغى ، ونسي الجبار الأعلى ، نسي المبتدى والمنتهى ، عندئذٍ جاءه الكرب العظيم ..
﴿ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ ﴾
 
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ
 
1 ـ نصرُ الله للمؤمنين يشمل جميع المجالات :
 
     النصر جميل جداً ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ، أن ينصرك الله نصراً عزيزاً ، نصراً مؤزراً ، أن ينصرك على عدوك ؛ أو يتخلى عنك ، فيقهرك عدوك ، ربنا عزَّ وجل مَنَّ على موسى وهارون وعلىقومهما.
﴿ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ ﴾
      طبعاً هنا في المعركة ، ونصر آخر على خصم لك في العمل ، نِد خبيث يزيد قهرك ، إن لم تكن مع الله قهرك وحَطَّمَكَ ، فإذا كنت مع الله يسوقُ الله الحوادث لمصلحتك ، تجده نصرك ، لمع نجمك ، ارتفع اسمك ، علا مقامك ، ورفعنا لك ذكرك ، ونصر بالدراسة ، ونصر بأسرتك ، تكون لك الكلمة العليا ، لست مقهوراً في البيت ، نصر في الدعوة إلى الله عزَّ وجل ، فإذا كنت ترجو بدعوتك إلى الله رضاء الله عزَّ وجل ، تجد الله عزَّ وجل جعل القلوب تهفو إليك من دون حيلةٍ منك ، ولكن بتقدير الله عزَّ وجل ، علم صدق نيتك فساق الناس إليك .
﴿ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﴾
 
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ
 
1 ـ لابد للإنسان من منهجٍ يسير عليه :
 
      إذا عندك آلة معقدة ، بالغة التعقيد ، غالية الثمن ، عظيمة النَفع، أمتع شيء مع الآلة كتيِّب فيه تعليمات الصانع باللغة العربية ، حركةً حركة ، الآلة غالية عليك ، وإنتاجها كبير جداً ، وهناك أجهزة دقيقة ، يقولون لك : هذا كمبيوتر لتحليل الدم ، كل كبسة زر يظهر سبعة وعشرون تحليلاً فوراً على الشاشة ، ثم هي مطبوعة ، إذا كل كبسة زر ألف ليرة ، عندك مائة زبون مائة ألف ليرة في اليوم ، أمتع شيء مع الآلة هذا الكتيب الدقيق ، هذا الكتاب المستبين ، فأنت كآلة معقدة ، كتابك هو القرآن الكريم ، هذا حرام ، هذا حلال ، هذا مباح ، هذا يغضب الله ، هذا لا يرضي الله ، هذا مأمور به ، هذا منهي عنه ، فأروع ما في الحياة أن يكون لك منهج تسير عليه ، دستور تعمل به ، قانون تنصاع له ، توجيه خالق الكون تستجيب له ، هذا شيء جميل جداً .
﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﴾
      فأنا لا أعتقد أن ثمة سعادة أعظم من أن تعيش في الحياة ومعك كتاب الله ، ومعك الأمر والنهي ، معك الحلال والحرام ، معك الخير والشر ، معك فلسفة وجودك ، فلسفة حياتك ، فلسفة ما قبل الموت ، فلسفة ما بعد الموت ، لماذا أنت في الدنيا ؟ ما حكمة الزواج ؟ ما حكمة تربية الأولاد ؟ هذا الكتاب المستبين ، فهذا الكتاب كتابنا المقرر ، كتاب خالق الكون ، فيه نبأ من قبلنا ، خبر من بعدنا ، فيه الأمر ، فيه النهي ، فيه الوعد ، فيه الوعيد ، فيه طريق الخير ، فيه طريق الشر ، فيه مواعظ ، فيه أخبار السابقين ، فيه ما بعد الموت .
﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ(117)وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
 
2 ـ السعادة الدنيوية والأخروية كلها في اتباع كتاب الله :
  
  النبي عليه الصلاة والسلام من أدعيته الشريفة كان يقول:
((اللهم ألزمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً )) .
[ ورد في الأثر ]
       شيء جميل جداً أن تعرف المنهج وتسير عليه ، أن تعرف الحق وتتبعه ، أن تعرف الخير وتكون من أهله ، وأن تعرف الشر ، وتبتعد عن أهله ، قال: " كيف أصبحت يا زيد ؟ " ، قال : " أصبحت أحب الخير وأهله ، وإن قدرت عليه بادرت إليه ، وإن فاتني حزنت عليه ؟ " ، قال : " يا زيد ، عرفت فالزم ، إني لك ناصحٌ أمين " .
 
الدعوة إلى الله بالخلق الحسن والعمل الصالح :
 
      لأن الحياة ماضية ، أعظم سعادة أن تستيقظ على طاعة الله ، أن تتحرك وفق منهج الله ، التاجر سعادته كبير جداً لأنه يقول : هذه لا تجوز ، لا أبيع ديني ، لا أحلف كذباً ، لا أبيع بسعرين ، لا أرتكب ما حرَّم الله ، لا أتجاوز حدِّي ، لا أغش المسلمين ، لا أخفي عيباً ، انصياعه لأمر الله عزَّ وجل صار داعية ، وهو لا يدري .
      من منا يصدق أن أكبر دولةٍ إسلاميةٍ في العالم هي إندونيسيا ، تعدادها مائة وخمسون مليونًا ، الأمة العربية كلها من الخليج للمحيط مائة مليون ، إندونيسيا مائة وخمسون مليونا ، كلها أسلمت عن طريق التجار المسلمين ، كانوا دعاةً إلى الله بمعاملتهم ، بإنصافهم .
    والله لا أبالغ ، إن التاجر يقدر من خلال استقامته ، وصدقه ، وسعره المعتدل ، ونصيحته أن يرغِّب الناس في الدين ، بأي مصلحة بإمكانك أن تكون أكبر داعيةٍ إلى الله عزَّ وجل وأنت ساكت ، وهذا اللسان لا ينطق ، ولكن العمل ينطق ، إذاً :
﴿ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ ﴾
 
3 ـ السكينةُ وتيسير الأمور بابٌ من أبواب نصر الله :
 
       أيضاً حينما تنتصر على عدوك ، حينما يمكِّن الله لك في الأرض ، حينما يرفع شأنك ، حينما يعلي قدرك ، حينما يمدك بمددٍ من عنده تشعر بالسعادة ، أنت تحب الله عزَّ وجل ، وتخلص له ، وتنصاع لأمره ، وتحب أحبابه ، وتأتي بيته لتنتظر إكرامه ، ويشعرك أنه يحبك ، وأحياناَ الله عزَّ وجل يشعرك أنه يحبك من خلال أشياء كثيرة ، أحدها تيسير أمورك ..
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى* وَاتَّقَىوَصَدَّقَ * بِالْحُسْنَىفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾
(سورة الليل)
       أحياناً التيسير مُشعِر على أن الله يحبك ، أحياناً هذه الطمأنينة التي تعيشها ، هذا التوازن ، هذه الثقة بالله عزَّ وجل ، هذا القلب المُتماسك ، هذه الأعصاب القوية ، هذا من علامات رضا الله عنك.
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾
(سورة الفتح : من الآية 26)
       هذه سكينة من الله ، أحياناً إذا أحبك الله ألقى حبك في قلوب الناس ، كلهم يحبونك .
 ينادى له في الكون : أنَّا نحبه    فيسمع من في الكون أمر محبنا
***
       إذا أحبك اللهألقى حبك في قلوب الخلق.
﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾
(سورة طه : من الآية 39)
 
4 ـ محبة الناس للعبد من نصر الله له :
 
       شيء رائع جداً أن يحبك الناس ، أن تكون محمود السيرة ، أن يلهج الناس بالثناء عليك ، أن يعاملوك معاملةً طيبة كلها المحبة ، والتقدير ، والإكرام ، والتبجيل ، هذا من حب الله لك .
       أحياناً ، وهذا من أرقى أنواع الحب أن يعرفك بذاته ، تشعر حينما تعرف الله عزَّ وجل أنك إنسان آخر ، لا كبراً ولا استعلاء ، ولكنه شعور بالتميُّز ، هذا غارقٌ في حب الدنيا ، وهذا مقبورٌ في شهوته ، وهذا محاصرٌ فيتجارته ، وهذا تستحوذ عليه مشكلاته فإذا هي تستهلكه لا يستهلكها ، المؤمن عظيم عند الله عزَّ وجل ، فحياته مقدسة ، عمره ثمين ، كيف لا وقد أقسم الله جل جلاله بعمر النبي ، فقال :
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72) ﴾
(سورة الحجر )
       الله عز وجل أقسم بعمر النبي ، وقياساً على هذا أنت أيضاً عمرك ثمين ، لا تنتهي حياتك هكذا ببساطة ، تنتهي حياتك وأنت معزز، وأنت مكرَّم ، لك دعوة إلى الله عز وجل ، النبي متى توفَّاه الله ؟ حينما نظر إلى أصحابه قبل أن يموت ، فابتسم حتى رئيت نواجذه ، قال :
(( حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء )) .
[ تخريج أحاديث الإحياء ]
 
الدعوة إلى الله مطلبُ كل مسلم :
 
      أصحاب الرسالات لا يميتهم الله عز وجل إلا بعد أن يحقق لهم أمانيهم في الحياة ، فإذا كان مطلبُ الإنسان كبيرا وهدفه نبيلا فالله عز وجل يجعل حياته مقدَّسة ، يجعل عمره ثميناً ، هو ينشغل بنشر الحق، بنشر الفضيلة ، ويرى ثمرة عمله قبل أن يموت ، فالنبي الكريم ما رئيت نواجذه من قبل من شدة فرحه قال:
(( حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء )) .
[تخريج أحاديث الإحياء]
      وأنت أيها الأخ أحياناً تمضي عشر سنوات بمسجد ، كل يوم تحضر مجلس علم ، جلسة في الصباح وأخرى في المساء ، وكل هذا يتراكم ، هذه كلها لوائح شرف بحقك ، بين طرفة عين وأخرى تجد نفسك مؤمناً داعياً إلى الله ، الله أجرى على يدك الخير ، أطلق لسانك ، جعلك منار هدى ، جعلك باباً للخير ، جعل الخير يجري على يديك ، فالإنسان إذا أتى بيت الله عز وجل لا ينسى الحديث القدسي :
((إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوارها هم عمارها ، فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني ، وحق على المزور أن يكرم الزائر )) .
       فربنا عزَّ وجل قال:
﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ﴾
كتاب واضح  ..
﴿ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
 
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
 
لا بد بعد معرفة الحق من العمل به :
 
     إذاً : يا رب هاتان نعمتان ؛ أن تعرف الحق ، وأن تتبع الحق ، أن تعرف الهدى، وأن تتبع الهدى ، أن تعرف الحلال ، وأن تعمل به ، أن تعرف الحرام ، وأن تبتعد عنه ، الروعة لا في معرفة الحق ، بل في تطبيق الحق ، لذلك بونٌ شاسعٌ بين أن تعرف وبين أن تعمل ، وبين الحق والباطل أربع أصابع ؛ الباطل أن تقول : سمعت ، والحق أن تقول : رأيت.
 
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ﴾
 
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ
 
الثناءُ العطر بعد الموت :
 
       مثلاً : هؤلاء الطغاة ، هؤلاء الجبابرة في الأرض ، إلى آلاف السنين كلما ذُكروا يُلعَنون ، فالحرب العالمية حرب ذهب ضحيتها خمسون مليون إنسان ، الذي ألقى على بعض المدن قنابل ذرية ، الطغاة مثل تيمورلنك هؤلاء الذين هم جبابرة في الأرض ، هؤلاء كلما ذُكروا يُلعَنون ، بينما الأنبياء كلما ذكروا يصلى عليهم ، لا أعرف كم مرة يذكر النبي في العالم الإسلامي في اليوم ، ومع كل مرةٍ صلى الله عليه وسلم ، تحس أن هذا الإنسان قدَّم كل شيء ، أعطى كل شيء ، ولم يأخذ شيئاً ، أعطانا الهُدى ، أعطانا المنهج ، أعطانا السبيل الصحيح ، أعطانا الدستور ، كان أرحم بنا من أنفسنا ، جمعنا ، إذاً :
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ﴾
الثناء العطر ..
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ﴾
 
      في الأجيال اللاحقة ، يضرب يوسف العظمة مثلاً ، ويثني عليه ،  كان وزير دفاع ، وجاءت فرنسا إلى هذا البلد ، والجيش السوري لا يكافئ أبداً الجيش الفرنسي ، ولكن أبى عليه شرفه العسكري أن يستسلم ، فذهب إلى ميسلون وقاتل ، أعداؤه احترموه ، كلما ذكر الآن يُذكر بالتعظيم والتبجيل ، فانظر إلى الذكر الحسن ، هذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرى كي لا يرى في جلسة الأغراب أشعر هذا بعمل رفع الله له ذكره ، ومؤمن دعا إلى الله عز وجل ؛ ترك آثارا طيبة ، ترك هدى ، بنى نفوساً بناء صحيحاً ، عرفها بربها ، حملها على طاعة الله عزَّ وجل ، هذا عمل عظيم .
      لذلك صنعة الأنبياء أن يستخدمك الله في هداية الخلق ، وأنت بعملك ، باستقامتك ، بسمتك الحسن ، بحيائك ، بتواضعك ، بعفتك ، بانضباط لسانك ، تكون قدوة للآخرين ، في عملك ، في بيتك ، مع جيرانك ، مع إخوانك في الجامع ، فلذلك :
 
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ ﴾
 
      الذكر الحسن ، الثناء الطيِّب ، الحمد .
      قال لي أخ تاجر : كنت على وشك الإفلاس ، أحد أصحاب الديون جاءني إلى موقع العمل ، طالبني بشدة ، فدعوته إلى طعام الغداء في البيت ، بيتي صغير مساحته خمسةوثلاثون متراً ، فلما رأى بيتاً بهذا الضيق قال : إنسان يسكن بهذا المكان مستحيل أن يأكل مال الناس ، مزق السندات ، وقال له : تعال وخذ بضاعةً ، وبعها ثم ائتني بالثمن ، وأي إنسان لم يبعك أخبرني أنا أقنعه ، والقصة من ثلاثين سنة ، كلما ذكرها يذكره بالخير ، قال لي : أنهضني من كبوتي ، وأعانني على دنياي .
     قلت في نفسي : شخص من ثلاثين سنة كلما ذكره يذكره بالخير ، هذا الإيمان ، إذا كان له عمل طيِّب ، لو توفاه الله ، يلهج الناس بهذا العمل طول الحياة وطول الزمن ، هذا معنى:
﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ(119)سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ﴾
 
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
 
قانونٌ عامٌّ : جزاء المحسنين :
 
      روعة الآية ، هذه ليست قصة ، هذا قانون ، هذا ليس لسيدنا موسى وهارون ، لا لك أنت ، يا من تجلس في هذا المجلس ، يا من تجلس في هذا المسجد ، ويا من تقرأ هذه الكلمات أو تسمعها ، قال تعالى :
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
      إن أحسنت هكذا نجزيك ، ننجِّيك من الكرب العظيم ، ننصرك على عدوك ، نؤتيك الحق ، نعينك على تطبيقه ، نلقي عليك ثناء حسناً وذكرا طيباً ، قال :
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
خلاصة الدرس :
 
         أيها الإخوة الأكارم ... أتمنَّى مرةً ثانية على الله عز وجل أن تضعوا أيديكم على دقة هذه الآية:
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
       هذه الميِّزات ، يكون كرب عظيم الله ينجيك منه ، كرب عظيم لا يبقي ولا يذر ، يحرق الأخضر واليابس ، تنجو منه أنت بأعجوبة ؟! أن تتعرف إلى الحق ، وأن يعينك على تطبيقه ، أن تعرف المنهج وأن تطبقه ، وأن ينصرك في كل الميادين على أعدائك ، دائماً أنت متفوق عليهم ، ولك العز والشأن ، أن يكون لك الذكر الحسن والطيب في الناس ، يلهج الناس بالدعاء لك ، والثناء عليك .
      أن تنجو من الكرب العظيم ، وأن تنتصر على أعدائك ، نصراً عزيزاً مؤزَّراً ، وأن يؤتيك الله الحق ، وأن يعينك على تطبيقه ، وأن يبقي لك ذكراً حسناً ، هذا في متناول يدك ، والثمن شيء واحد وهو : الإحسان .
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
       الإحسان على إطلاقه ، المستقيم محسن ، أن تؤدي ما عليك محسن ، أن تتقن عملك محسن ، أنتكون صادقاً محسن ، الإحسان بأوسع معانيه ، فالنصر على العدو ، والنجاة من كل كرب ، ومعرفة الحق ، والعمل به ، والذِكر الحسن ، هذه هي الأهداف الكبرى ، هذه في متناول يديك ، ثمنها بسيط تملكه : كن محسناً ؛ مع صديقك ، مع عدوِّك، مع كل مخلوق، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ )) .
[ مسلم ]
      هذا إحسان ، والإساءة ما يفعله بعض الناس ، يذبحون الدجاج ويضعونها في الماء المغلي ، وهي لا تزال تتحرَّك ، هذه إساءة بالغة لمخلوق أكرمك الله به ، تعذبه ؟! النبي الكريم رأى رجلاً يذبح شاةً أمام أختها فغضب ، قال عليه الصلاة والسلام :
((أتريد أن تميتها مرتين ؟ هلاً حجبتها عن أختها ؟! )) .
[ ورد في الأثر ]
      إذاً : النصر على العدو ، وهو شيءٌ ثمينٌ جداً لا يعرفه إلا من فقده ، القهر ، الهزيمة ، عدوّ يستعلي عليك ، يشمت بشيء لا يحتمل ، أن تنتصر على عدوك ، وأن ينجيك الله من كل كربٍ عظيم احتماله فوق طاقة البشر ، وأن يؤتيك الحق ، وأن يعينك على تطبيقه ، وأن يدع لك ذكراً حسناً في الناس ، كل هذه المكاسب العظيمة بين يديك ، ثمنها الإحسان ، فأجمل ما في هذه القصة قول الله عزَّ وجل :
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
كن محسناً في عملك ، وفي بيتك ، ومع كل مخلوق  .
﴿ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾
    فإذا كنت مؤمناً محسناً فكل هذه الخيرات بين يديك ، كل هذه العطاءات في متناول ، يدك  .
      وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قصة سيدنا إلياس.
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
إلى آخر الآيات .
والحمد لله رب العالمين
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب