سورةالأنعام
الدرس (46)
تفسير الآيات: (116 ـ 118)
دع الخلق لخالقهم
الفرق بين موت الدابة وبين ذبحها
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السادس والأربعين من دروس سورة الأنعام ، ومع الآية السادسة عشرة بعد المئة ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾
ضابط معرفة الحق : نعرف الرجال بالحق
الانطباع الأول قبل التدقيق في كلمات الآية أن الحق لا يقاس بعدد المتبعين له ، قد يكونون أقلية ، وأن الحق لا يتأثر لا باتساع رقعته ، ولا بضعف رقعته ، وقد يكون الواحد الذي عرف الحق ، واستقام على أمر الله جماعة ، وقد تكون الملايين المملينة فرداً ، فالمقياس هو الحق .
سيدنا علي كرم الله وجهه يقول : <<نحن نعرف الرجال بالحق ، ولا نعرف الحق بالرجال >>.
الأصل هو الحق ، لكن ثمة ظاهرة استشرت أنّ الإنسان حينما يتوهم أن هذا القول قاله فلان إذاً هو صحيح ، ليس على وجه الأرض إنسان يعد كلامه دليلاً ، وما على وجه الأرض إنسان إلا ويحتاج فيما يدعيه إلى دليل ، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، ديننا دين علم ودين دليل ، لكن واحداً هو سيد الخلق وحبيب الحق كلامه هو الدليل ، لأنه :
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ¯إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
( سورة النجم ) .
لأن الله عصمه من أن يخطئ في أقواله ، وأفعاله ، وإقراره ، ولأنه مشرع والدليل :
﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
( سورة الحشر الآية : 7 ) .
لأن الله عصمه ، وجعله مشرعاً ، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو الدليل ، لكن غير النبي eلا يمكن أن يكون كلامه دليلاً ، إلا أن يأتي بالدليل ، ولأن :
(( هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم )) .
[ أخرجه الحاكم في المستدرك عن أنس]
ولأن ملايين القضايا في حياة الإنسان لا تعد مصيرية ، كبيتٍ نصحت به فلم يكن جيداً ، أو تجارة نصحت بها فلم تنتفع بها ، فلا مشكلة حينئذ ، لكن الدين مصيري ، الدين مصير صاحبه الأبد ، فإما نعيم مقيم ، أو عذاب لا ينتهِي ، لذلك ثمة فرق في حياتك بين ما هو عارض وهو مصيري .
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إذاً الآية الكريمة : ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ .
لا تعبأ بالأكثرية ، لا تعبأ بما يسميه العلماء الخطَّ العريضَ في المجتمع ، لا تكن مقلداً ، لا تكن إمعة ، تقول : أنا مع الناس ، إن أحسنوا أحسنت ، وإن أساؤوا أسأت ، لا تكن كذلك ، ولكن كن حراً ، تحرك وفق قناعاتك ، اعتمد الدليل ، لا تقبل شيئاً من دون دليل ، ولا ترفض شيئاً من دون دليل ، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، فإنْ كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدّعياً فالدليل ، هذا الانطباع الأول .
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ من هم ؟ البشر ، بنو الإنسان ، الذين كلفهم الله بعبادته ، المخيرون ، الذين أودعت فيهم الشهوات ، الذين سُخرت لهم ما في الأرض والسماوات ، الذين أُعطوا العقل ، أُعطوا الفطرة ، أُعطوا الشهوة ، هؤلاء المكلفون ، هم المعنيون بقوله تعالى : ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ .
أيها الإخوة ، لو تصورنا أنبوبًا طويلا ، وله مضخة ، لو أن ثقباً في هذا الأنبوب قريب من المضخة ، واستخدمت المضخة ، فالماء يستسهل الثقب القريب ، ويخرج منه ، ولا يصل إلى آخره ، وهذا شيء طبيعي .
لوازم الاستقامة على أمر الله
إن سبيل الله يحتاج إلى فهم ، يحتاج إلى ترجيح العقل ، يحتاج إلى ضبط الشهوة ، يحتاج إلى صبر ، يحتاج إلى نفس طويل ، يحتاج إلى أن تنقل اهتماماتك إلى ما بعد الموت يحتاج إلى إيمان ، يحتاج إلى إرادة ، لكن طريق الشيطان طريق سهل جداً ، كما ورد في بعض الأحاديث :
(( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثًا ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بشهوة )) .
[ رواه أحمد عن ابن عباس ]
يكفي أن تطلق بصرك ، وأن تسترخي ، وأن تأكل ما تشاء ، وألا تدقق في الحسابات ، أي شيء دخل إلى جيبك فهو لك ، يكفي أخذ مبلغ ضخم بالكذب والاحتيال ، وأن تمارس كل الشهوات من دون قيد أو شرط ، هذا طريق النار ، (( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثًا ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بشهوة)) .
إن سبيل الله يحتاج إلى فهم عميق ، وإلى إيمان دقيق وإلى إرادة ، وإلى ترجيح العقل على الشهوة ، وإلى ترجيح الهدف البعيد على الهدف القريب .
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
إن طريق الشهوة قريب وسريع ، لذلك الذي أهلك الناس أنهم الآن يعيشون لحظتهم ، وفي الإنسان شهوات ، وهذه الشهوات يمكن أن تمتعه دون أن ينظر إلى العواقب .
إخوانا الكرام ، فكرة دقيقة جداً ذكرتها عشرات المرات ، لكن هنا لا بد من ذكرها :
أنت ذاهب إلى حمص في أيام الشتاء الباردة ، فإذا بلوحة لا تزيد على ثلاثين سنتيمتراً ، وعرضها عشرة سنتيمترات ، كتب عليها : " الطريق إلى حمض مغلقة في مدينة النبك بسبب تراكم الثلوج " ، لو قرأ اللوحة ألف إنسان يقصد حمصَ بالذات ، ماذا يفعل ؟ يرجع ، لو أن دابة تمشي أين تقف ؟ عند الثلج ، ما الذي حكم العاقل ؟ النص ، ما الذي حكم الدابة ؟ الواقع .
أقرب مثل لنا :
المدخن متى يدع الدخان ؟ حينما يصاب بمرض خبيث في رئتيه ، فقط ، أو حينما تأتيه جلطة ، أو خثرة ، أو احتشاء ، الآن يوقف الدخان ، ما الذي حكمه الواقع ؟ أما العاقل فيكفي أن يقرأ مضار التدخين ، أو حكم الشرع في التدخين ، فيقلع عنه قبل أن يصاب بأمراض خبيثة .
احفظ هذه القاعدة : إن كان النص هو الذي يحكمك فأنت عاقل ، وإن كان الواقع فأنت دون المستوى المطلوب ، والذي يوقع الناس في شر أعمالهم أنّ الواقع حكمهم ، ولم يحكمهم النص ، على مستوى الصحة ، لا تبتعد كثيراً ، قد يأكل الرجل ما يشتهي بلا مراعاة لسنه ، ولا للدسم ، ولا لنوع الطعام ، ولا يمارس الرياضة ، يعيش هكذا ، فجأة يصاب بخثرة في الدماغ ، تأتيه رسالة من أبعد بلد أن خفف وزنك ، هذا الذي يتحرك بلا قيد ولا شرط ، ولا قاعدة ، ولا هدف ، هذا إنسان يحكمه الواقع ، وقد عطل عقله ، لذلك الآية الكريمة :
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ من المكلفين ﴿ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ، لأن الطريق الجنة محفوف بالمكاره ، وطريق النار محفوف بالشهوات ، (( أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلَاثًا ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بشهوة )) .
وإليك هذا المثل :
أنبوب طويل فيه مضخة ، وفيه ثقب إلى جانب المضخة ، هذا الثقب ثقب الشهوات ، فإذا استخدمت المضخة فالماء يختصر الطريق ، ويخرج من الثقب لأنه أهون طريق ، أما إذا كان هذا الثقب مغلقًا ، واستخدمت المضخة يصل الماء إلى نهاية الأنبوب ، ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ لماذا ؟
قال تعالى : ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ .
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وقد تحدث كثيراً على أن هناك وهماً هو أقلّ من الشك ، 30 % ، والشك 50 % ، والظن 90% ، أو 80 % ، لكن القطع 100 % ، فالعلم مقولة مقطوع بصحتها 100 % ، تطابق الواقع ، عليها دليل ، فإن لم يكن مقطوعاً بصحتها فهي وهم وشك وظن ، ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ ، وإن لم تطابق الواقع فهي الجهل ، وإن لم يكن معها دليل فهو التقليد ، والعلم ليس شكاً ، ولا وهماً ، ولا ظناً ، ولا تقليداً ، ولا يناقض الواقع ، ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ .
الآن هذا الظن أي ظن ؟
﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ¯فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾
( سورة الحاقة ) .
طبيعة الظن ومتعلّقاته
هذا الظن المتعلق بالهوى ، لأن هوى الإنسان وشهوته أمْلت عليه أن تمتّعْ بالحياة ، ودعك من التوبة الآن ، معك وقت طويل تتوب فيه ، ويزيّن الشيطان للإنسان المعصية ، فيستخدم الظن المتعلق بشهوته ، والظن هنا يبرز إيجابيات المتعة ، ويخفي عنك الأخطار الوبيلة من اتباع الشهوة ، وهذا كان الحديث عنه في درس سابق .
﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾
( سورة الأنعام الآية : 112 ) .
يظهِر الإيجابيات الحسية ، ويعتم على الأخطار المهلكة .
لكنك لو دققت في الآية لوجدت شيئاً آخر ، هذا الشيء الآخر مأخوذ من آية أخرى .
معنى قوله : أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
حينما تسمع قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ ﴾ ليس معنى ذلك أنه بقي الأقلية ، هذا معنى جديد ، والطرف الآخر أيضاً كثيرون ، فكلمة : ﴿ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ لا تعني أن ما يقابلها قلة ، والدليل :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾
( سورة الحج الآية : 18 ) .
كلمة : ﴿ َكَثِيرٌ ﴾ لا تعني أن الطرف الآخر قليل ، هذا من باب التفاؤل ، كثير وكثير ، لذلك هناك كلمات تكتب على مداخل بعض البلاد ، هذا الكلام : أنه يا من دخلت هذه البلدة مثلك كثير ، فإن كنت صالحاً فمثلك كثير ، وإن كنت فاسداً فمثلك كثير .
مرة صلى أخ كريم من الخليج في جامع في دمشق ألقي فيه درسٌ ، لفت نظري أن هذا الإنسان صالح ، سأل عن دروس العلم في الشام ، عن المساجد ، عن العلماء ، عن المكتبات ، قلت : سبحان الله ! يأتي إنسان إلى الشام متوهماً أن فيها فاحشة في بعض الأحياء ، ويأتي إنسان آخر ليطلب العلم في الشام ، يا من دخلت دمشق مثلك كثير ، والذي يأتي للمتعة كثيرون ، والذين يأتون لطلب العلم أيضاً كثيرون ، هذا يرفع معنوياته ، فـ : ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ لا تعني أن الباقين قلة ، قد يكونون كثر .
ثم يقول الله عز وجل : ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ .
( إِنْ ) هنا نافية .
﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾
( سورة إبراهيم الآية : 10 ) .
يعني ما ﴿ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ و ما ﴿ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ لذلك قد يكون اتباع الظن في شؤون الدنيا مقبولاً ، لأن الدنيا تنتهي ، لكن اتباع الظن في شؤون الآخرة هو اتباع مدمر مهلك .
مثلاً تنجح من الصف السابع إلى الثامن ، ثم نجحت ، إلا أن الشهادة الثانوية مجموع العلامات تحدد لك مصيرك ، فهناك علامات تكون بها طبيبًا ، وعلامات تكون بها صيدليًّا ، وعلامات تكون بها مهندسًا ، فهذا المستوى الواحد في التعليم الثانوي مصيري ، يحدد لك مصيرك في الحياة ، وهناك كلية عليها إقبال شديد ، أو كلية حاملو الشهادات منها ليس لهم عمل ، ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ ، أي يكذبون ، يكذبون على أنفسهم .
﴿ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ¯انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾
( سورة الأنعام الآيات : 23 ـ 24 ) .
الإنسان في الدنيا يكابر ، ويداهن ، ويحابي ، ويكذب ، لكنه يوم القيامة يكتشف الحقيقة ، وهل من إنسان بلغ كفره كفر فرعون ؟ وهو الذي قال :
﴿ مَاعَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
( سورة القصص الآية : 38 ) .
هذا كفر ، بل هو أشد أنواع الكفر ، لكن بعد قليل قال كفراً أشد ، قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾
( سورة النازعات ) .
هو نفسه حينما أدركه الغرق قال :
﴿ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾
( سورة يونس الآية : 90 ) .
إذاً كشف عنه الغطاء فكان بصره حديداً ، لكن : ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ .
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾
( سورة الأنعام ) .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
إخواننا الكرام ، هناك حقيقة دقيقة : الناس الذين حولك لا يعرفون عنك إلا ثلث مكنوناتك :
طبيعة مكنونات الإنسان وأثرها في تقييم الناس
أنت ذكر ، ولست أنثى ، هذا معروف ، أنت تحمل شهادة عليا ، مثلاً أنت مهندس ، لك مكتب ، ولك وظيفة ، طويل القامة ، أبيض اللون ، هذا يعرفه الناس عنك ، لكن هناك ثلثا مكنوناتك لا يعرفها أحد ، أما التي معك في البيت فربما عرفتْ الثلث الثاني ، الذي معك في العمل ربما عرف الثلث الثاني ، لكن يبقى ثلث من شخصيتك لا يعلمه إلا الله ، مهما كنت ذكياً ، ومهما كنت باحثاً اجتماعياً ، ومهما كنت محللاً نفسياً ، ومهما كنت ذا نظر ثاقب لا تعرف مِن الذي أمامك إلا الثلث ، وزوجته وأقرباءه الذين معه يوماً بيوم ، جيرانه ، من سافر معه ، من شاركه في الدرهم والدينار يعرفون الثلث الثاني ، أما الثلث الثالث فلا يعلمه إلا الله ، لذلك لا تتسرع وتحكم ، دع تقييم العباد لله عز وجل ، لأن تقييم العباد ليس من شأنك ، من شأن الله وحده ، والإنسان أحياناً كلما ازداد ذكائه أتقن التمثيل ، فقد يخدع الناس لمعظم الوقت وقد يخدع بعض الناس لكل الوقت ، أما أن يستطيع الإنسان أن يخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل ، أما أن يخدع خالقه ، أو أن يخدع نفسه التي بين جنبيه وفلا ولو ثانية واحدة .
﴿ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾
( سورة الحاقة ) .
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ¯وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
( سورة القيامة ) .
إذاً : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ .
﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾
( سورة الإسراء الآية : 16 ) .
استرح وأرح ، لا تقيّم أحداً ، لا تكفر بالتعيين ، مسموح لك أن تكفر من دون تعيين ، كيف ؟ من قال : إن الله لا يعلم فقد كفر ، ككلام عام ليس فيه مشكلة ، من أنكر فرضية الصلاة فقد كفر ، لكن النبي علمنا صلى الله عليه وسلم أن صحابته الكرام في مرات عديدة لعنوا شارب الخمر ، هكذا مطلقاً ، لكن مرة جيء للنبي eبشارب خمر ، فلعنه الصحابة ، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام ، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
(( أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَلْعَنُوهُ ، فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) .
[البخاري]
فأنت لست مكلفاً أن تقيّم الناس ، هذا ليس من شأنك ، ولا من اختصاصك ، ولا من إمكانك ، ولا يتعلق به علمك ، أنت ترى الظاهر ، أنت تحكم بعلانيته الناس ، أما سرائرهم فينبغي أن تكِلَها إلى الله عز وجل .
أضرب هذا المثل دائماً :
ثمة إنسان من أهل الغنى ، وله آلاف الدُّنمات ، جاء من يهمس في أذنه أنك إذا تبرعت من آلاف الدنمات بدنم واحد لينشأ عليه بيت من بيوت الله اضطرت البلدية أن تنظم أرضك ، وأن تجعلها مقاسم ، فإذا كانت مقاسم تضاعف سعرها ، وقد يكون صاحب الأراضي هذا لا يصلي إطلاقاً ، ولم يدخل الدين في حساباته إطلاقاً ، ولم يعرف الله طلاقاً ، ولم يبتغِ الجنة إطلاقاً ، لكنها فكرة تجارية ، أنه إذا تبرع بدنم لمسجد تضطر البلدية أن تنظم أرضه إلى مقاسم ، وإذا نظمت إلى مقاسم تضاعف ثمنها ، أما الناس فيقولون : ما شاء الله ! بارك الله به ! محسن كبير ، ماذا يعرفون ؟ لذلك لست مؤهلاً أن تحكم على أحد إلا بحالة مستحيلة ، أن يكون لك علم كعلم الله .
بعض الأمثلة من السيرة مأخوذة : رجل مع رسول الله في القتال ، النبي eقال عنه : إنه من أهل النار ، هذا من إعلام الله له ، وقد أصيب بجراح ، وجاء بسيفه ، ووضعه على الأرض ، وانحنى عليه حتى قتل نفسه ، أنت لا تعلم هذا الذي يفعل لماذا يفعل ، لذلك :
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ... )) .
[ متفق عليه ] .
أنا لا أجيب عن أي سؤال متعلق بتقييم شخص ، أقول دائماً : تقييم الأشخاص من شأن الله وحده ، وإياك أيها الإنسان ، ثم إياك ، ثم إياك أن تتورط في تقييم الأشخاص ، لكن أن ترى إنسانًا شارب خمر أمامك ، وتقول : هذا وليّ ، لا ، هذا أيضاً لعب بدين الله ، هذا عاصٍ ، لكنه قد يتوب ، ويسبقك ، وهذا ممكن ، فلا تتكبر على العاصي ، لعل الله يغفر له ، أو لعل الله يحمله على التوبة ، أو يسوق له شدة يحمله على التوبة ، فيسبق الذي عيره بهذه المعصية ، لذلك من أجمل ما ورد في بعض الأحاديث أنه ورد :
(( الذنب شؤم على غير فاعله ؛ إن عيّره ابتلي به ، وإن اغتابه أثم ، وإن رضي به شاركه )) .
[ أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك ] .
ارتكب صديقك معصية ، وأنت عافاك الله منها ، مع أنك عوفيت من هذه المعصية ، ولم تقترفها ، لكن هذا الصديق اقترفها أمامك ، فأنت أمام ثلاثة مزالق ، أن تقول : فلان ارتكب هذا العمل الشنيع ، أين عقله ؟ فقد اغتبته ، أو أن تقول : والله إنه لذكيّ ، وقد حقق بعض أهدافه بطريقة أو بأخرى ، فقد شاركته حينئذ في الإثم ، وإن عيّرته بقولك : أين عقله ، أين دينه ؟ أين ؟ أين ؟ وأنت تظن أنك محصن فقد ابتليت بهذا الذنب مرة ثانية ، لذلك ما قرأت كلمة لنبي كريم تعرض لإغراء النساء كسيدنا يوسف ، قال :
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾
( سورة يوسف ) .
أرأيت إلى هذا التواضع ، أرأيت إلى هذا الافتقار إلى الله عز وجل ؟ ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ .
إذاً : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ .
دع الخلق لخالقهم
أرح واسترح ، لا تقيّم الأشخاص أبداً ، إن رأيت إنسانًا يعصي الله أيضاً فينبغي ألا تنزلق إلى كلام العوام ، وتقول : لعله وليّ ، لا نعرف ، هذا كذب ، ولعب بدين الله ، ويسبب إرباكاً في تقييم النفس ، هذه معصية ، والمعصية معصية ، والطاعة طاعة ، لكن نحن نحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر ، وأنت لست مكلفاً إطلاقاً أن تسبر أغوار نفسه ، ولا أن تحلل ، من أنت ؟ هل أنت وصي عليه ؟ أنت لست وصيًّا عليه ، ولست وصياً على أحد ، أنت عليك من نفسك ، وعليك أن تطيع الله عز وجل ، وأن تتعرف إليه ، دع الخلق لخالقهم .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ﴾ ، هو أعلم منك ، ومن كل الناس ، ومن الخلق أجمعين ، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ ، لذلك هذه الخلافات بين الأمم ، والشعوب ، والحضارات ،تارةً يقال : صراع الحضارات ، وتارة يقال : حوار الحضارات ،
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
* * *
وهذا الحوار ، وتلك الخصومات ، وقد ورد في بعض الآيات الكريمة :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
( سورة السجدة الآية : 25 ) .
﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ .
تربص الطرف الآخر بالمسلمين
الآن هناك مشكلة ، ولا بد من تمهيد لها ، وهو :
أن الطرف الآخر المعاندين ، الكفار ، المشركين ، الملحدين يتربصون بالمؤمنين ، كلما نطق مؤمن بكلمة يتصيدون ثغرة في كلامه ، ويكبرونها ، ويقيمون الدنيا ، ولا يقعدونها .
قلت امرئ في بلدة جريمة لا تغتفر وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
* * *
هناك تصيد ، وقنص ، ورغبة أن يبحث الطرف الآخر متوهماً عن ثغرة في الدين فيقيمون الدنيا ، ولا يقعدونها ، والأمثلة لا تعد ولا تحصَى .
إذا قال المسلم : لا إله إلا الله لا ينجو من النقد ، طائرة الصندوق الأسود سجل ربانها كلمة : " توكلنا على الله " ، ثم سقطت ، اعتبروا كلمة " توكلنا على الله " من الطيّار أنه إرهابي ، وأنه هو الذي أسقط الطائرة ، وطائرة مصرية عليها عدد كبير من الخبراء العسكريين ، ترجح الروايات أنها أُسقطت من جهة معادية ، لكن كلمة توكلت على الله لربان الطائرة عدّت سبباً مبرراً أنه هو الذي أسقطها .
فالطرف الآخر دائماً يتهيأ لاقتناص الثغرات ، فيما يقال في جانب الحق ، وهؤلاء المشركون يقولون : كيف تأكلون ما قتلتم أنتم ، ولا تأكلون ما قتل الله ؟ هم عدوا الموت قتلاً من الله ، وعدوا الذبح قتلاً بأيدينا ، فالذي تذبحونه من البهائم من الأنعام تأكلونه حلالاً طيباً ، أما إذا ماتت الدابة لا تأكلونها ، ما هذا التناقض ؟ والحقيقة أن هناك نقطة دقيقة جداً يفرق بها بين الموت والقتل ، أوضحها بمثل :
المصباح الكهربائي ، لو أنك قطعت عنه الكهرباء ينطفئ ، لأنك قطعتَ عنه الطاقة الممدة له فانطفأ ـ هذا هو الموت ـ أما إذا كسرت هذا المصباح فالطاقة موجودة ، لكنك أتلفت بنية المصباح ـ هذا هو الذبح ـ ، هم لم يفرقوا بين القتل والذبح ، ذلك أن الموت انقطاع الإمداد الإلهي ، فالجسم كامل ، لو كان الإنسان مضطجعًا على ميزان ، ووافته المنية وهو على الميزان لا يقلّ وزنه ولا واحد بالمليون من الغرامات .