سورة غافر 040 - الدرس (2): تفسير الأيات (04 – 04)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة غافر 040 - الدرس (2): تفسير الأيات (04 – 04)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة غافر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة غافر ـ (الآية: 04 - 04)

10/11/2012 16:49:00

سورة غافر (040)
 
الدرس (2)
 
تفسير الآية: (4)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
       أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الثاني من سورة غافر ، ومع الآية الرابعة وهي قوله تعالى:
 
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ
 
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَاد
 
1 ـ الجدال نشاط عقلي :
 
الجدال نشاطٌ عقلي ، العقل في الأصل أودعه الله في الإنسان ليكون أداة معرفة الله ، فلو أن الإنسان أعرض عن طريق الله عزَّ وجل ، واتبع طريق الدنيا ، وطريق الملذات والشهوات ، فلديه عقل وقوة إدراكية ، وبإمكانه أن يستغل هذا العقل ويسخره لشهواته ، ولمآربه ، من هنا يأتي الجِدال ، لماذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا(54) ﴾
(سورةالكهف)
       لأن الإنسان في الأصل أعطي قوة إدراكية ، أعطي عقلاً ، بهذا العقل يسأل ويجيب ، يستفهم ، يدرك ، يوازن ، يقارن ، يحاكم ، يتصور ، يتخيَّل ، ولهذا العقل قوة إدراكية كبيرة جداً ، بل لست مبالغاً إذا قلت : إن أعظم شيءٍ مخلوقٍ في الكون هو العقل البشري ، وهو عاجزٌ عن فهم ذاته.
      هذا العقل البشري في الأصل الله زوّد الله به الإنسان مِن أجل أن يتعرف إلى الله ، فماذا فعل المعرض عن الله ؟ ماذا فعل الذي أراد الدنيا ؟ أحب الدنيا ، وأراد شهوات الدنيا ، وأراد أن ينغمس في الملذات والمتع الرخيصة ، رأى لديه عقلاً ، وهذا العقل بإمكانه أن يفلسف انحرافه ، وبإمكانه أن يغطي عدوانه بكلامٍ معسول ، الكافر متفلسف دائماً ، يرتكب أكبر الجرائم ، ويقنعك أن عمله هذا مشروع ، ويدّعي أنه عمل مشروع ، فكيف أتيح له أن يغطي انحرافه ؟ كيف أتيح له أن ينفي رسالات الأنبياء ؟ عن طريق عقله التائه .
ربنا عزَّ وجل أشار في آيات أخرى إلى أن العقل قد يضل ، وقد يغتر ، وقد يطغى ، قال :
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(28)
( سورة المدثر)
2 ـ العقل البشري يجادل حين يسيء الإنسان استخدامه :
 
إذاً العقل البشري متى يجادل ؟ إذا أساء الإنسان استخدامه ، منحك الله العقل من أجل أن يرقى بك إلى الإيمان بالله ، من أجل أن تتعرف إلى الله به ، ولكن الإنسان الشارد أراد الدنيا ، فمضى لاهثا وراء الشهوات ، والمُتَع الرَخيصة ، ثم هو يفكر بعقله تفكيرًا أحمق لفلسفة المعصية ، لتغطية المعاصي ، للإيقاع بأعدائه ، لتكذيب رسل الله عزَّ وجل ، للطعن بإخلاص الأنبياء والمرسلين ، للتشكيك في معجزاتهم التي جاؤوا بها بما فيها كتب السماء ، للتقليل من أهمية الآيات الكونية التي تدل على عظمة الله عزَّ وجل ، للطعن بكل داعيةٍ مخلصٍ أراد نشر الحق من خلال دعوته وسلوكه ومن خلال علمه .
       هذا العقل البشري أداةٌ خطيرةٌ جداً ، إما أن تُوظَّف للوصول إلى أسمى هدفٍ وغاية ، وإما أن تودي بصاحبها إلى الدركات السُفلى في النار ، كهذا المحرك الذي يوضع في المركبة ، إنه يوضع في الأصل ليدفعها إلى أهداف صاحبها المشروعة ، فإذا أراد صاحب المركبة أن ينحرف ، فهذا المحرك يزيده هلاكاً لو خرج عن الطريق الصحيح ، فيصير المحرك أداة هلاك.
 
3 ـ الجدال تشكيك في القيم الدينية :
 
      فيا أيها الإخوة كلمة يجادل التي وردت في الآية تعني أن الإنسان يشكك في القيم الدينية ، ينحو منحى السفه العقلي ، فمثلاً : يقول لك عن الإنسان : إن الإنسانَ أخلاقي إذا كان ضعيفًا ، أما إذا كان قويًا فلن يكون أخلاقياً ، يطعن كذلك بكل القيم الدينية ، يقول لك : هذا الدين شعور الضعف أمام قوى الطبيعة ، والشعوب المتخلفة كلها تؤمن بالدين ، أما الشعوب المتقدمة التي اتخذت العلم ديناً لها فلا تعبأ بالدين ، فهذا الكلام كلام فيه جدل ، فيه قلب الحق إلى باطل ، فيه قلب الباطل إلى حق ، كل شهواته غير المشروعة يفلسفها العقل البشري إذا ضل وانحرف ، ولم يعمله صاحبه فيما خُلِقَ له ، ويصبح أداة لتغطية كل انحرافٍ وكل جريمة .
       إذاً:
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ ﴾
 
4 ـ آيَات اللَّهِ :
 
تعلمون أيها الإخوة أن الآيات جمع مفردها آية ، والآية العلامة ، فهي علامةٌ على وجود الله ، علامةٌ على كمال الله ، علامةٌ على وحدانية الله ، فالآيات التي تدل على الله عزَّ وجل كثيرة ، فالكون هذا كله آيةٌ دالةٌ على وجود الله وكماله ووحدانيته ، وكلام الله عزَّ وجل آياتٌ قرآنيةٌ تعرّفنا بالله عزَّ وجل - أي علامات مقروءة - وحينما يقع الزلزال ، وحينما تحدث الفيضانات ، وحينما تأتي بعض الكوارث الطبيعية لأناسٍ ضلوا وأضلوا ، وانحرفوا وانغمسوا في الملذات وظلموا ، تشعر أن هذه الأفعالَ أفعالُ الله عزَّ وجل أيضاً ، وهي آياتٌ دالة على عظمة الله عزَّ وجل .
      إذاً : كلمة الآيات تعني الآيات الكونية ، وكلمة الآيات تعني الآيات القرآنية ، وتعني كذلك الآيات التكوينية ، أي أفعال الله عزَّ وجل ، فكلها تدل على عظمة الله ، فالذي يشكك بمصداقيتها ، والذي يشكك بدلالتها ، والذي يشكك بقيمتها ، والذي لا يعبأ بها ، والذي لا يلتفت إليها أشارت إليها الآية التالية :
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
 
5 ـ الكافر هو المجادِل في آيات الله :
 
هذه الآية دقيقة جداً تعرفنا أن أصل الدين معرفة الله ، فأنْ يكفر إنسانٌ بالله شيءٌ طبيعيٌ جداً ومن لوازم الكفر بالله أنْ يستخف بآياته ؛ إنِ الكونية ، وإنِ القرآنية ، وإنِ التكوينية ، فأنت الآن أمام مؤشر ، مؤشر دقيق ، فالذي يعظم آيات الله فهذا التعظيم علامة إيمانه ، والذي لا يبالي بها ، ويقلّل أهميتها ، يجعلها خارج اهتمامه ، فهذا من علامات الكفر .
والكفر كما تعلمون أيها الإخوة تكذيبٌ وإعراضٌ ، وبشكل أو بآخر يعني عدم رؤية عظمة الله عزَّ وجل ، أو قل : الكفر عمى يحجب صاحبه عن رؤية عظمة الله .
      ما الذي يملأ عين الكافر وقلبه ؟ أشخاص أقوياء ، أو أشخاص أغنياء ، أو أشخاص يتمتَّعون بقدرٍ عالٍ من الجمال ، فهذا عندئذ إما أنْ أنه يؤلّه الأشخاص الذين نالوا حظوظاً كبرى من الله عزَّ وجل ، أو يؤله أشخاصاً آتاهم الله قوةً ، أو يؤله أشخاصاً أتاهم الله مالاً ، فهو ذائبٌ في هؤلاء محجوب عن الإيمان ، وكان عليه أن يرى من خلال هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى هو القوي ، وهو الغني ، وهو الجميل ، وهذا هو الإيمان .
      الإيمان أن تتجاوز الخلق إلى الخالق ، أن تتجاوز النعمة إلى المنعم ، أن تتجاوز النظام إلى المنظِّم ، أن تتجاوز التسيير إلى المسيِّر ، أن تتجاوز الفاني إلى الباقي .
 
الفرق بين المؤمن والكافر :
 
      وإذًا فما الفرق بين المؤمن والكافر ؟ الكافر أمام شمس ، يقول لك : هذه شمس ، وهذا قمر ، وهذه جبال ، وهذه نجوم ، وهذه أزهار ، وهذه أطيار ، وهذه أسماك ، فهو لا يستطيع أن ينكر هذا الكون وما فيه من عظمةٍ ، ومن جمالٍ ، ومن نفعٍ ، ومن خيراتٍ لا يحصيها إلا الله عزَّ وجل ؟ أجل لا يستطيع ، ولكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن ، أن المؤمن يخترق الكون إلى المكوِّن ، يخترق النعمة إلى المُنعم ، يخترق النظام إلى المُنَظِّم ، يخترق التسيير إلى المسيِّر ؛ أما الكافر فيقف عند الكون ، وهذا مبلغه من العلم ، هو مع النعمة لا مع المُنعم ، هو مع الكون لا مع المكوِّن ، هو مع النظام لا مع المنظِّم .
       الله سبحانه وتعالى أخبرنا وقال:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا(103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104) ﴾
(سورة الكهف)
       وقال الله عزَّ وجل يصف أهل الكفر:
 
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾
(سورة الروم)
       فأبسط مثل : قد يستمع الكافر لنشرة جوية ، فيقول لك مثلا : سيتعرض القطر إلى منخفض جوي متمركز فوق قبرص ، وسيصل بعد عشرين ساعة ، سرعته كذا ، وهو منخفض مُمْطِر ، لا يخطر في باله أبداً إلا أنه مُنْخَفَض ، وبعد أيام هناك أمطار ، ولكن المؤمن يرى من خلال هذه النشرة الجوية أن هذا المنخفض رحمة الله عزَّ وجل ، وأن الله هو الرزَّاق ، هو الذي ساق الأمطار لينبت النبات ، ليكون متاعا لنا ولأنعامنا .
      فالفرق فرق رؤية ، فالكون هو كون ، لا أحد بإمكانه أن ينكر وجود الكون ، ولا مظاهر الكون ، ولا خصائص الكون ، ولكن الفرق الدقيق بين المؤمن وبين غير المؤمن هو أن المؤمن انتقل من الكون إلى المكوِّن ، من النعمة إلى المُنعم ، من التسيير إلى المسيِّر ، من النظام إلى المنظِّم ، من الربوبية إلى الرب .
        هناك نقطة مهمة جداً ، ألا وهي أن الإنسان إذا أراد أن يفعل ما يشاء مما يحلو له ، إذا أراد أن يقتنصالشهوات ، ويفنى في خضمها ، هذا الاتجاه نحو التمتع في الدنيا والانكباب على شهواتها لا يتناسب مع معرفة الله ومع الانضباط بشرعه ، فلما يصر على المعاصي تجده يقلل من قيمة الدين.
 
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) ﴾
(سورة الماعون )
       هو نفسه ، كأن هناك علاقة ترابطية ، إن كذَّبت بالدين فعملك سيِّئ ، وإن كان عملك سيِّئاً فلابد من أن تكذب بالدين   ..
 
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) ﴾
(سورة الماعون )
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
(سورة القصص : من الآية 50)
       فالمرءُ بين حالين ؛ إما أن تتبع الهوى ، وإما أن تتبع الله عزَّ وجل فيما أمر ونهى ، أي إما أنّ الإنسان رحماني ، وهذا فضلٌ كبير ، أو أنه  شيطاني ، وهو إما أن يتحرَّك بوحيٍ من إلهامات الملائكة ، وتوجيهات الأنبياء ، وكلام الله عزَّ وجل ؛ أو يتحرك بوسوسةٍ من الشياطين ، وبدافعٍ من شهواته وغرائزه .
إذًا : عندنا نموذجان اثنان لا ثالث لهما .
 
فلسفة الكفار في الدنيا :
 
إن الإنسان حينما أتاه الله عقلاً آتاه إياه ليتعرف من خلاله إلى الله ، ليرقى به إلى الله ، أما حينما اتجه إلى الدنيا ، وأصر على شهواتها ، سخّر عقله ليعنيه على فلسفة معصيته ، وعلى إسكات خصومه ، وعلى التحلّل أو التحرر من كل قيدٍ أخلاقي ، ومن كل قيدٍ اجتماعي ، ومن كل قيدٍ ديني ،  يقول لك : الأخلاق نسبية ، بذكاء يقول لك :  يا أخي ، ما تجده هنا حراماً أو عيباً ، تجده في مكان آخر مقبولاً ، إذاً الأخلاق عبارة عن أعراف .
حينما ينفي الإنسان القيم الثابتة في المجتمع البشري على مدى العصور والدهور فهذه أخطر فكرة ، إنها فكرة خطيرة جداً ، ثم هو يدّعي أن ليس في الأخلاق شيء ثابت ، أي كل المجتمع الذي ألف أن هذا عيب ، وهذا مقبول ، بينما تجد مجتمعًا آخر يرفض ما أقره المجتمع الأول ، فالعقل البشري حينما يعمل ببرمجة الشهوات ؛ لا ببرمجة الحقائق ، حينما يتحرك الفكر البشري ليغطي الانحرافات والمعاصي يكون الجدل .
       مثلاً : إنسان يحب الاختلاط ، اسمعه ماذا يقول لك ؟ يتفنن في الحديث عن الاختلاط ، وعن ميزات الاختلاط ، فيقول لك : يهذب المشاعر ، والمجتمع الذي فيه امرأة يصبح كل فرد فيه ينتقي كلماته اللطيفة ، ويتحلى بأناقة خاصة ، ويلهث وراء التنقيب عن ميزات الاختلاط ، ولا يقول لك : إن هناك آلاف اللقطاء الذين لا أباء لهم من نتائج الاختلاط ، هذا يغفله ، اللقطاء يغفل أمرهم ، أما التهذيب وانتقاء العبارات هذه يبرزها ، وهذه هي المجادلة ، فهو يبحث عن منافع موهومة للمعاصي ويبرزها ، يقول لك : الدين يجعل الإنسان متخلفًا ، كل شيء حرام في حياة المسلم !! بيت المسلم مثل القبر ، لأنّ كل لهو مثلا حرام ، فهذه هي المجادلة.
إذا ضبط الأب أولاده يقول عنه : قمعهم قمعًا ، وإذا أرخى الأعنّة لميولهم فهو عندهم أطلق الحرية لبناته ، يقول لك : هذا أب ديموقراطي ، إذا قد أطلق الحرية للبنات أصبح ديموقراطيًا ، أما إذا ضبطهم بالأخلاق ، وتابعهم صار قمعيًا ، وبين قمعي وبين ديموقراطي مسافة كبيرة ، هذه فلسفة الكفار .
هو يفلسف لك الزنا فيقول لك : هي راضية ، يفلسف لك الربا ، فيقول لك : هل من المعقول أن أجمِّد المال ، ولا أربح منه ؟ يفلسف لك كل المعاصي .
دائماً المجتمع الكافر فيه كلام مزخرف يغطي كل المعاصي ، هذه المجادلة ، فهو يشكك بالقيم الدينية ، وإذا كان انحرافه كبيراً فليس له إلا أن يشكك بوجود الله عزَّ وجل ، فيأتي لك بشبه مثل : فمَنْ الذي مات ورجع ، وقال لك : هناك آخرة ، فقد قال المعري :
زعم المنجم والطبيب كلاهما       لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسرٍ      أو صح قولي فالخسار عليكما
***
قال أحدهم لآخر : المصيبة ألا نجد جنة في الآخرة ، ونكون قد تعبنا بهذه الدنيا على غير شيء ، هذه المجادلة ، أي أنّها سخريةٌ ، وتشكيك ، وعبث ، واستهزاء بكلام الله إذْ لم يصدقه ، فإذا قلتَ له :  الله عزَّ وجل يقول لك :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾
(سورة النور : من الآية 30)
       يقول لك : أين أذهب بعيوني ؟ هذا كلام لا يسمع ، ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾
(سورة البقرة : من الآية 286)
          فتجده يضعك بزوايا ضيقة : وماذا عليّ أن أفعل ؟ لا بد من الربا ، ولابد من إطلاق البصر ، ولابد من الاختلاط ، لابد من فعل كذا وكذا ، نحن يجب أن نعيش واقعنا ، يجب أن نتفاعل مع الواقع ، يجب أن نُدرك معطيات البيئة .
أحياناً يقول لك : بيئة ، وأحياناً واقع ، وحينا يقول : تفاعل ، وحينا آخر علاقة ترابطية ، هذه هي المجادلة ، فلسفة عقيمة ، وعبث بالعقول ، لكنّ الله عزَّ وجل أعطانا منهجًا ، وهذا كلام خالق الكون ، فالحذر الحذر من التمادي .
      أذكر لكم واقعةً هي صغيرة جداً ، ولكن لها معنى كبير ، إنسان يعمل في إصلاح السيارات ، أمسك بشيء مما وضعته الوكالة أو المصنع لمحرك السيارة ، ونزعه ، وألقاه في الأرض ، وقال : هذا ليس له لزوم ، قلت له وقتها : ليس عندي استعداد أن استمع إليك إطلاقاً ، شركة عمرها مئة سنة ، وعندها خمسة آلاف مهندس ، ويمكن أن تكون أنت على صواب ، وهي على غلط ؟ مستحيل ، فأنت لا تقبل من إنسان يعمل حديثاً في تصليح السيارات ، ويلغي شيئًا بالسيارة كان المعمل قد وضعه ، إنّ المعمل مبني على خبرة ، مبني على علم ، مبني على تجارب ، لديه متابعة ، مجموعة من  المهندسين ، فهل من الممكن لهذا العامل البسيط أن يكون رأيه أصوب ؟ أنا لا أصدّق ، وأرفض ذلك واقعا و عقلاً .
 
الحَذرَ الحَذَرَ من الإيمان الإبليسي !!!
 
لتعلم أيها الإنسان أنّ هذا كلام الله عزَّ وجل ، كلام خالق الكون ، إذا كان ليس عندك هذا اليقين ، فقف ، وابحث عن دليل قطعي على أن هذا الكلام كلام الله عزَّ وجل ، فاسلك الطريق الذي لا بد منه ، إذ لابد من معرفة الله ، هذه المعرفة السطحية التي لا تثمّر استقامةً ، أعجبني إنسان والله ، وأدهشني إذ سمّى إيمان أولئك الناس : " إيمان إبليسي" ، لأن إبليس قال :
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾
( سورة ص : من الآية 82 )
إبليس هل أنكر وجود الله عزَّ وجل ؟ لا ، خاطب الله عزَّ وجل وقال له : رب ، وقال له : فبعزتك ، ومع ذلك هو إبليس من قبل مقالته ومن بعدُ ، فماذا يفعل ؟ كل معصية وموبقة .
       كل إنسان إن لم يفضِ به إيمانه إلى طاعة الله فهذا إيمان إبليسي ، ليس له قيمة إطلاقاً ، الإيمان الصحيح هو الذي ينقلك إلى الطاعة ، هو الذي يترجم بسلوك ، هو الذي يفضي إلى مواقف ، إلى عطاء ، إلى منع ، إلى غضب ، أن تغضب لله ، أن ترضى لله ، أن تُعطي لله ، أن تمنع لله .
      لو أن إنسانًا رأى الشمس ساطعة في كبد السماء ، وفكر ، وفكر ، وفكر ، وفكر ، ثم قال : الشمس ساطعة ، خيرًا إن شاء الله ، فهي ساطعة ، أقررت بها أم لم تقر فهي ساطعة ، إن قلت : ساطعة فهي ساطعة ، وإن قلت : الشمس ليست ساطعة ، فكلامك لا قيمة له لأنها ساطعة ، فالذي يكتفِ بالإيمان بلسانه فقط ماذا فعل ؟ نقول له : أنت ماذا فعلت ؟ اكتفيت أن تفوهت بكلمة الإيمان ، وهذا الإيمان لم يترجم إلى سلوك ؛ بيتك غير إسلامي ، عملك غير إسلامي ، جوارحك منطلقة عشوائيا ، لسانك أفعى تلدغ ، بيتك غير منضبط . هذا انطبق عليه الحديث الشريف :
((وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ)) .
[من سنن الترمذي عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ]
 
المجادلة استخدام العقل في غير ما خُلِقَ له :
 
      إذاً : المجادلة عملية استخدام العقل في غير ما خُلِقَ له ، بينما خُلِقَ ، وأودع في الإنسان ليكون أداة معرفة الله ، فإذا استخدمته للطعن بالتشريع الإلهي ، للطعن بمصداقية القرآن ، للتشيكيك بقيمة الوحي ، للتشكيك بكمال الأنبياء ، للتشكيك بالدعاة الصادقين ، إذا أردْت أن تستخدم العقل للتشكيك وللطعن فهذه هي المجادلة ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ، قال تعالى :
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
هنا معنى المجادلة ، التكذيب ، التشكيك ، الطعن ، التقليل ، البحث عن المثالب ، وحاشا أن توجد في كتاب الله ، أما بالنسبة للمؤمن فعلى سبيل المثال ، فالمؤمن ليس معصوماً ، ولكن يغلب عليه الإيمان ، يغلب عيه الورع ، يغلب عليه حب الله عزَّ وجل ، إذا كان له قريبان ؛ قريب مؤمن وقريب غير مؤمن ، تجد أن القريب المؤمن لا يرى من هذا المؤمن إلا الفضائل ، القريب غير المؤمن إذا عثر على زلةٍ صغيرة ، أو على غلطٍ قليل ، أو على تقصير طفيف ، هذا التقصير الطفيف يكبِّره ويكبره ، ويبالغ به ليجعله مجرماً ، ويصوره تصويرا بشعا ، لأن المؤمن حجة على غير المؤمن ، فإذا أخطأ المؤمن ، تجد أن أهل الدنيا يسارعون إلى نشر هذا الغلط ، وإلى تكبيره وتفخيمه ، فما الدافع إلى ذلك ؟ الدافع إلى ذلك أن الكافر عنده قلق عميق ، وعنده شعور بالذنب مستمر ، فإذا رأى المؤمن يغلط ، فهذا الغلط يتخذه حجةً ، فيقول على الفور : ألم أقل : إنّ كل أصحاب الدين هكذا ، يكون له قريب له التزام ديني قليل ، إذا غلط معه قريبه يتهم كل أهل الدين بالخطأ .
           يستخدم الإنسان عقله لغير ما خلق له ، يستخدمه أداة لتبرير غلطه ، يستخدمه أداة لفلسفة المعصية ، وتستخدمه كأداةٍ لتغطية الانحراف ، إذا غَطَّيْتَ الانحراف ، وفلسفتَ المعصية ، وبررت التقصير ، فهذه هي المجادلة ، وذو الجدال لا يستطيع ذلك إلا أن يطعن بالأنبياء ، أن يطعن بالوحي ، يقول لك : الوحي منام ، هكذا تراءى للنبي ، أو قد يسبغ هؤلاء وأهل الكفر على الأنبياء طابع العبقرية ليقللوا من شأن الوحي ، فيقولون : يا أخي هذا محمد عبقري ، ليس محمدً رسولاً ، بل هو عبقري ، وهذا بحث آخر ، لكن الحق كل الحق أنّ محمداً رسولُ الله يوحى إليه ، لا ينطق عن الهوى ، هذا وصف الله له ، وهذه حقيقة لا تعمى أمامها الأبصار ، و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ، قال تعالى :
 
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾
(سورة المائدة : من الآية 67 )
      قال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾
(سورة النجم)
      الله عزَّ وجل يصف النبي بأنه يوحى إليه ، وبأنه لا ينطق عن الهوى ، وبأنه معصوم ، ومع ذلك يرغب المجادلون بإسباغ صفة العبقرية على النبي عليه الصلاة والسلام ليقللوا من قيمة الوحي ، ومن قيمة العِصمة ، ومن قيمة التشريع حتى ينفوا الإسلام و النبوة ، و يردوا القرآن .
      أو يقولون لك : إنّ النبي عليه الصلاة والسلام تعلم كل هذا العلم من بَحِيرَة ـ هذا الراهب الذي التقى به في الشام ـ فهل يعقل لطفل صغير خلال ساعة أن يتعلَّم علمًا غزيرًا ؟ أو يُعقل أنّ هذا الإسلام العظيم ، وكل ما فيه من علمٍ جاءنا عن طريق النبي بلقاء تم خلال هذه الساعة ؟ هذا شيءٌ مضحك .
         حدثني أخ كريم ، وهو أستاذٌ في الجامعة ـ دكتور في التاريخ ـ قال لي : إنه بعد تحقيق وتمحيص وجد أنّ : " قصة بحيرة بقضها وقضيضها ، جملةً وتفصيلاً لا أصل لها في التاريخ إطلاقاً " ، وهذارأي عالم باحث محقِّق  .
 
التفسير العلمي المحض للظواهر الكونية نوع من الجدال :
 
         إذا استمعت لأهل الدنيا كيف يتحدثون ، في محور واحد ، الطعن والتشكيك والتقليل من أهمية  الآيات الكونية ، والآيات القرآنية ، والآيات التكوينية .
مثلاً : لو قلت له : هذا الزلزال الذي حدث في بلد يعج بالفجور و الفسق ، وإلى حدّ أنّ فيهنواديَ للعراة ، ويفلسفون هذا كله باسم صناعة والسياحة المتفوقة جداً ، ما معنى صناعة السياحة ؟ أي انحراف ما بعده انحراف ، يقول لك : لا ، ليس مصيبًا ، فالزلزال عبارة اضطراب يحدث في القشرة الأرضية ، كما يفسره العلم ، ونقول بدورنا : لا يمنع أن تفسِّر الزلزال تفسيرًا علميًا ، وأن يكون هذا التفسير العلمي موظَّفاً كآيةً من آيات الله الدالة على أنه شديد العقاب .
       المجادلة ، أي أنه يطعن في الآيات الكونية ، أو يقلل من قيمتها ، أو يطمسها ، أو يغفلها ، أو لا يعجبه التفسير الذي تطرحه أنت من خلالها ، هذه هي المجادلة ، وأهلها كلُّ خصيم مبين .
    أما الآيات القرآنية فيقول لك : إنّ الصحابة اختلفوا في بعض الروايات  في قراءات القرآن الكريم ، فلماذا هناك قراءات ؟ ويرى أنّ في القراءات مجالاً للطعن ، أو يدَّعي أنّ القرآن ليست موضوعاتُهُ موحدة ، فيقول لك : عجيب يا أخي ، فالآيات في سورة واحدة ذات موضوعات متنوعة ، ليتها كانت مرتبة بحيث تدور الآيات في السورة الواحدة حول موضوع واحد فقط ، هكذا يتمنى أن يكون هذا الكتاب منظمًا ، فصل عن بني إسرائيل ، فصل عن الكونيات ، فصل عن الساعة ، فصل عن الجنة ، فصل عن النار ، من قال لك : إن هذا الكتاب كتابٌ علمي ؟ هو كتابٌ هدايةٍ ورَشَد ، وهو مرتب ترتيبًا يسمونه بالتعبير المعاصر : سيكولوجي ـ نفسي ـ مرتب ترتيبًا نفسيًا ، الإنسان في السورة بحاجة إلى آية كونية ، وخبر عن أمة سابقة ، ومشهد من مشاهد يوم القيامة ، وحكم شرعي ، كل ذلك آخذ بعضه برقاب بعض ، ومنه التكامل ، فالقرآن الكريم مرتَّب لا على أساس الموضوعات ، بل على أساس حركة النفس ، فالنفس تحتاج إلى شيء مُقْنِع ، وإلى ردع ، وإلى مخاطبة الوجدان ، وإلى مخاطبة العقل ، وإلى الأخبار الصادقة ، والتفسير التاريخي الصحيح ، فالنفس بحاجة إلى هذا كله في آية واحدة ، لأنها في معرض تثبيت العقيدة و ترسيخ الإيمان .
      كانت السورة من السور ، وكأنها سور تحيط بالآيات ، إحاطة سور البستان بالأشجار ، فالبستان فيه أشجار مثمرة ، وفيه خضروات ، وفيه أزهار ، فالزَّهرُ ليس للأكل بل للتمتع بمنظره ، والفواكه للطعام ، والقمح قوت ، والماء للشرب ، فهذا هو البستان ، فلماذا لا يوجد بستان كله ماء ؟ يقول لك : فلماذا تجد بستانًا كله أشجار حور ، أو بستان كله زيتون ؟
      أما البستان فهو بستان فيه زيتون ، وفيه تفاح ، وعنب ، وجداول  الماء السلسبيل ، هكذا السورة ، فأساس المجادلة هي عملية طعن بالآيات ؛ كل الآيات سواء منها : الآيات الكونية ، والقرآنية ، والتكونينة ، حتى الزلازل والبراكين والحروب الأهلية لا يقبل إلا أن تفسَّر تفسيرًا أرضيًا ، لا يقبل أن تكون آياتٍ دالةً على عظمة الله وعلى عدالته ، كلما علّلت الأحداث الكبرى التي تجري في العالم على أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء وأنه هو المصرِّف ، وهذه مشيئته :
 
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
(سورة الفتح : من الآية 10)
       والله عزَّ وجل خبير ، وهؤلاء كلهم عباده ، يعاملهم وفق حكمةٍ مطلقةٍ ، وفق ميزان عدلٍ كبير ، فهذا التفسير لا يعجبه ، بل يطعن بهذا التفسير ، ويعترض ، و يماري :
 
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾
 
من أصول الدعوة : لا تناقش الكافر في الفروع :
 
لذلك إذا كان الإنسان كافرًا بالله فلا تحاول إطلاقاً أن تدخل معه بموضوعات فرعية ، فهو كافر بالأصل ، أصل الدين معرفة الله ، هو لا يعرف الله ، إذا كان لا يبالي بكل الآيات الدالة على عظمة الله ولا يعطيها قيمةً ويصمدونها آذانه فهذا من باب أولى إهماله  .
         وكأَنَّ هذه الآية فيها توجيه لنا ، فأنت قبل أن تناقشه في التعدُّد ، فدائماً أعداء الدين لا يذكرون سوى التعدد : أنتم عندكم تعدُّد زوجات ، لا تناقشه في تعدد الزوجات ، ناقشه في وجود الله ، وإذا آمن بوجود الله ناقشه في الكتاب ، إذا آمن في الكتاب فعندئذ من الممكن مناقشته ، وقد يستجيب لنتيجة النقاش .
      لدينا في الإسلام تسلسل وترتيب : أوّلا ، لا جدوى من الإيمان بالأنبياء قبل أن نؤمن بالله ، ولا جدوى من الإيمان بالكتاب قبل أن نؤمن بالله ، فإذا آمنا بوجود الله ؛ آمنا به خالقاً ، آمنا به رباً ، آمنا به مسيِّراً إلهاً ، ثم آمنا بأن هذا القرآن كلامه من خلال الإعجاز ، وآمنا بأن الذي جاء بهذا القرآن المُعْجِز هو رسول الله .
         إذا سرنا بهذا الترتيب ، الإيمان بالله أولاً ؛ الإيمان بالله موجوداً ، والإيمان بالله كاملاً ،
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
( سورة الأعراف : من الآية 180 )
 
ابحث في الإعجاز العلمي :
 
       والإيمان بالله واحداً ، هو واحدٌ في ذاته ، وواحدٌ في صفاته ، وواحدٌ في أفعاله ، إذا آمنا بالله ؛ بوجوده وكماله ووحدانيته ، ذاتاً وأفعالاً وصفاتٍ ، فقد بات ممكنًا أن نؤمن بكلامه من خلال الإعجاز ، وابحث فهناك إعجاز لا حصر له ، قال تعالى :
 
﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ ﴾
(سورة الروم)
       أدنى يقابلها أعلى ، أدنى وأعلى ، الروم التقت مع الفُرس في غَوْر فلسطين ، وقبل مئات السنين فقط عرف أن أخفض نقطة في الأرض هي غور فلسطين ، الآن معروف أنّ أخفض نقطة في البحر هي خليج مِرْيَانة في المحيط الهادي ، وأخفض نقطة في اليابسة غور فلسطين ، والتاريخ يؤكِّد أن المعركة التي جرت بين الفُرس وبين الروم كانت في غور فلسطين ، ولم يكن معروفاً قبل مئة عام أن هذا المكان هو أخفض نقطةٍ في الأرض ، فالله عزَّ وجل قال :
﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) ﴾
(سورة الروم)
       غلبوا ، غلبوافِي بِضْعِ سِنِينَ ، ففي الآية إعجاز إخباري ، والإخبار في القرآن الكريم إخبارٌ عن الماضي ..
﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44) ﴾
(سورة آل عمران)
       من أين جاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الوقائع و أخبارها ؟ إنّ القرآن يردِّد دائماً كلمة فرعون عن حاكمًا لمِصْرَ ، أما في قصة سيدنا يوسف فقداكم مصر :
 
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾
(سورة : يوسف : من الآية 50 )
      اسأل المؤرخين يخبروك أنّ الذين حكموا مصر هم الفراعنة ، إلا في حقبةٍ يسيرة حكمها المُلوك ، وحينما التقى سيدنا يوسف بملك مصر ، لم يكن فرعون ملكاً ، بل كانت أسرة الفراعنة منحّاةً عن الحكم معزولة ؛ فانظر إلى دقة القرآن الكريم .
مثلا : قال الله سبحانه وتعالى في سورة الحج :
 
﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) ﴾
(سورة الحج)
       الله لم يقل: بعيد ، بل قال : عميق ، لأن الأرض كرة ، فكلما ابتعدت عن إحدى نقاطها صار الخط منحنيًا ، وصار هناك بعدٌ عمق ، واللهُ قال :
﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) ﴾
(سورة الحج)
       بإمكانك أن تصل من خلال عقلك ، وبالدليل العقلي المُطْلَق إلى أن هذا القرآن لا يمكن للبشر مجتمعين أن يؤلفوامثله ، فإذا آمنت بالله من خلال كونه على أنه موجودٌ وكاملٌ وواحد ، وآمنت بأن هذا القرآن كلامه ، وآمنت بأن الذي جاء بهذا القرآن رسوله ، فعندئذ تؤمن أنّ أي شيءٍ أخبرك الله به هو الحق ، فانتهى دور العقل الآن وجاء دور النقل ، العقل حصان ركبته وأوصلك إلى باب القصر ، إذا وصلت إلى باب القصر انتهى دور الحصان ، ومن ثَمّ دخلت إلى القصر ، فالعقل إذا أوصلك إلى الله ، وإلى أن هذا القرآن كلامه ، وإلى أن النبي رسوله ، فعليك بخبر الكتاب و السنة ( النقل) ، ماذا قال الله عزَّ وجل ؟ قال :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
(سورة البقرة : من الآية 30)
 
لا تأخذ دينك إلا من أهله الموثوقين :
 
      هو آدم ، إذاً نظرية داروين صارت تحت قدمك ، لأنها خلاف القرآن ، وإذا لم تكن متأكداً فارجع وجدد إيمانك بالقرآن الكريم ، فإذا شككت بشيء جاء به القرآن فاعلم أنّ إيمانك بهذا الكتاب لم يكمل ، ولا يزال ضعيفًا ، أما إذا بلغ إيمانك بأن هذا القرآن كلام الله فأي شيءٍ آخر يتناقض معه تشعر أنه تحت قدمك ، لأنه مناقضٌ لكلام خالق الكون .
       الأمر تماماً كما لو أنك جئت بجهاز حاسب إلكتروني ثمنه ثلاثون مليونًا ، ومعه تعليمات تقدر بألف صفحة ورسوم ، ولك جار يعمل في بيع الألبان ، وقال لك : هكذا يعمل ، وكان كلامه خلاف التعليمات ، فمن تصدق ؟ أيًّا كان هذا الإنسان ، قد يكون أخاك ، قد يكون قريبًا منك ، والمودة بالغة بينك وبينه ، فإنك في موضوع تصليح الجهاز وتشغيله تقول له : لا ، فهذه ليست من اختصاصك ، هذا شيءٌ لا تعرفه أنت ، بل يحتاج إلى ذوي اختصاص ، فهل يعقل أن أسلِّم جهازًا ثمنه ثلاثون مليونًا وكله صمامات وكله دارات ، وشيء معقد جداً ، أفأُسلمه لإنسان لا خبرة له بهذا الجهاز ولا بأمثاله ، و لو كان أخًا أو صديقا حميمًا ؟
      فأنت عندما تعرف أن للكون إلهًا عظيمًا ، وهذا كتابه وهذه تعليماته ، وأنت كائن بالغ التعقيد ، وتعيش حياة في الدنيا محدودة ، وفي الآخرة أبدٌ ، فإنك لا تسلم نفسك إلا إلى منهج الله عزَّ وجل وتلتزم به  .
((إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم )) .  
[كشف الخفاء]
 ((يا ابن عمر ، دينَك ، دينَك ، إنما هو لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ الدين عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين قالوا )) .  
[كنز العمال عن ابن عمر]
       ما قولك أنك إذا صدَّقت إنساناً ، ولم تطالبه بالدليل في أمر دينك ، واتبعت طريقاً غير صحيح فالعاقبة وخيمة ، فلو كان دخلك حراما مثلاً، أو لو مارست هوايةً لا ترضى الله عزَّ وجل على أنها مشروعة ، بزعم زيد ودليل عُبيد ، ثم فوجئت يوم القيامة أن زيدًا وعبيدًا لا يفقهان شيئاً ، وأنهما ليسا مخوَّلين أن يوجِّهاك ، وليس لهما عليك سلطان ، وأنك تركت كتاب الله وراء ظهرك ، واتبعت أمر أناسٍ جهلاء ، أليست هذه خسارةٌ كبيرة ؟ قال تعالى :
 
﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾
( الأنعام : من الآية 20 )
       فأنا متأكِّد أنك لا تسلم ساعتك لإنسان غير خبير ، ساعة لا تسلمها ، بل تحرص عليها ، فكيف نفسك التي بين جَنْبَيك ، كيف هذه النفس التي لا تملك أثمن منها ؟ لذلك أكبر خسارةٍ تحيق بك أن تخسر نفسك التي بين جنبيك ؛ أن تبقيها جاهلة ، أن تبقيها عاصية ، أن تحجبها عن أنوار الله عزَّ وجل ، وتنأى بها  عن رضوانه ، هؤلاء الذين تفوقوا في الدنيا ، وغابوا عن معرفة الله ما نالوا شيئاً ، لذلك أجمل دعاء أنا أكرره : " يا رب ، ماذا فقد من وجدك ؟ ـ والله لم يفقد شيئًا ـ وماذا وجد من فقدك ؟ " ـ والله لم يجد شيئًا ـ فالدنيا سراب ؛ فهل من مدّكر ؟
     إذًا عليك أولاً أن تؤمن بالله من خلال آياته الكونية ، والتكوينية والقرآنية ، فإذا آمنت بالله يجب أن تؤمن بكتابه ، إذا آمنت بكتابه تؤمن برسوله ، لأنه سيضع بين يديك السُنَّة بتفصيلاتها ، فإذا آمنت بالله وكتابه ورسوله من الممكن أن تدخل في فروع الدين ، أما أن تدخل في فروع الدين قبل أن تؤمن بأصل الدين ، هذا طريقٌ مسدود .
الشيء الذي يلفت النظر قوله تعالى :
 
﴿ فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾
 
فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَاد
 
1 ـ لا يغرنّك التقلُّبُ في النِّعم :
 
      أحياناً تجد الإنسان من قِِصَر بصره إذا رأى إنسانًا لا يصلي ، أو لا يعتد بقيم الدين ، ولا يعبأ بها ، و مع ذلك يراه غنياً وقوياً ووسيماً وذكياً وطليق اللسان ، ويستخدم ذكاءه للتشكيك بالدين ، يستخدم وسامته لإغواء الطرف الآخر ، يستخدم ماله مثلا للانغماس في المتع الرخيصة ، فالمرء يحتار ويتساءل : يا رب هذا يعصيك ، وهو ذو شكل وسيم فما أجمله ؟  والمال بين يديه وافرٌ طائل ، وقد كلَّف عرسهم ثلاثة عشر مليوناً ، ورغم ذلك ليس لديه لا قيم ولا دين يردع ، قال :
﴿ فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾
فإذا كانوا يتقلبون من بيت لبيت ، ومن مركبة لمركبة ، من بلد لآخر ، ثم يقول لك : كلفتني السياحة ثلاثمئة وخمسين ألفًا، في عشرة أيام ، كلها فنادق خمس نجوم ، يتقلب من فندق إلى فندق ، من بيت لبيت ، من قصر لقصر ، من مركبة لمركبة ، معه أموال طائلة ، وهو لا يصلي ، ولا يقيم للدين وزنًا ، مثل هؤلاء الأشخاص بلاءٌ شديد مرٌّ عند ضعاف الإيمان ، ويحدثون فيهم اضطرابًا .
﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79) ﴾
(سورة القصص)
       هنيئاً له ، هكذا قال الذين يريدون الحياة الدنيا ، فلتعلم أنك إذا رأيت شخصًا عمره خمس وثلاثون سنة محكوم بالإعدام ، وسينفذ فيه بعد أسبوع ، ورأيت معه زجاجة عطر ثمنها ثلاثة آلاف ليرة ، فهل تقول : هنيئاً له على هذه الزجاجة ، إذا كان كذلك فأنت مغفل حقًّا ، غابت عنك الحقيقة كلها .
﴿ فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾
       المؤمن إذا كان على خطّ طاعة الله فهو الفائز ، فإذا لم تعرف نفسك فاعرفها.
﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ﴾
(سورة الأحزاب)
       والله أيها الإخوة ـ هذا كلام ربما وجدتموه قاسياً ـ إذا كنت مستقيمًا ، وّقافًا عند حدود الله ، ضابطًا جوارحك ، ضابطًا دخلك وإنفاقك ، ترضي الله ، تؤدِّي الصلوات ، تصوم رمضان ، تحج البيت ، تؤدي زكاة مالك ، تغض بصرك ، بيتك إسلامي ، عملك إسلامي ، ورأيت كافرًا فاسقًا فاجرًا على مستوى رفيع من الغنى و الثراء ، قلت : هنيئاً له ولو بقلبك فأنت غفلت عن صواب وحقيقة ، يقولون لك : والله يا أخي وضعه فوق الريح ، ثراؤه فاحش ، وهو يعرف كيف يعيش ، فهذا القول عنه خطير عليك ، خطير على كل من يسمعه .
﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ﴾
(سورة الأحزاب)
       هذا هو الفوز ، الفوز أن يراك الله حيث أمرك ، في الساعة الثانيةَ عشرةَ والنصف أين تجلس ؟ أنت في الجامع يوم الجمعة وليس في النزهة ، فقد تجد شخصًا في وقت الصلاة يعدّ سيارته لأنه سينطلق بعد قليل إلى المنتزه ، وليس للدين عنده أيّ اعتبار‍‍‍ !
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا ﴾
(سورة الجمعة : من الآية 9)
       فهو غافل عن هذه الآية ، إنه ينظف سيارته الساعة الثانية عشرة تهيئةً للنزهة ، َصلَّى أم لم يصلِّ سيان ، الاختلاط وعدمه عنده يستويان ، دخل حرام ، دخل حلال يقول لك : لا تدقّق فالله غفور رحيم ، فهذا جاهل كل الجهل ، وإنّ الذين كفروا حينما يخرجون عن دائرة معالجة الله يُعطَوْن الدنيا ، بالتعبير العامي : " خذوها وانمحقوا " ، حينما يصرّون على كفرهم ، وحينما ينكبّون على شهواتهم ، وحينما يؤثرون الدنيا على مرضاة ربهم ، عندئذٍ يُعطَوْن الدنيا :
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)
هذه آية في أواخر سورة آل عمران..
﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) ﴾
(سورة آل عمران)
وهذه آية ثالثة:
 
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 44 )
 
2 ـ المسلم المستقيم أسعدُ الناس :
والله أيها الأخ الكريم ، أيها المستقيم ، أيها المصلي ، أيها الصائم ، يا من تغضُّ بصرك ، يا من تحرر دخلك ، يا من تضبط أعضاءك وجوارحك ، يا من تجعل بيتك إسلامياً ، وعملك إسلامياً ، أيها الأخ الكريم يجب أن تشعر أنك أسعد الناس ، وأن طاعة الله أكبر نعمةٍ أنعم الله بها عليك ، وأن نعمة الهُدى لا تعدلُها نعمةٌ على وجه الأرض ، فأن تكون مهتدياً فأنت الأسعد ، والله عزَّ وجل يقول :
﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22) ﴾
(سورة الملك)
       شخص أغمض عينيه ، و يمشي في الطريق ، وفي الطريق حفر فوقع في إحداها ، وفي الطريق أكمات ارتطم فيها ، وفيه مزالق انزلق فيها ، فهل يستوي مع إنسانٍ مبصر يقظ يرى كل شيء  ؟
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ(18) ﴾
(سورة السجدة)
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36) ﴾
(سورة القلم )
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾
(سورة الجاثية : منالآية 21)
       إنّ شابًا نشأ في طاعة الله ، يخشى الله ، يؤدِّي صلواته ، له مجلس علم ، يسعى لهداية الخلق ؛ فهل هذا كشابٍ آخر من بيتٍ إلى بيت يلهو ويلعب ، ومن انحرافٍ إلى انحراف ، ومن فيلمٍ إلى فيلم ، ومن مسلسل إلى مسلسل ، كلامه بذيء ، منحرف السلوك والأخلاق ، يختلط بالفتيات ، ويفعل كل الموبقات ، أهذا كهذا ؟!!
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36) ﴾
(سورة القلم )
       هذا مؤمن موعود وعدًا حسنًا من الله عزَّ وجل ..
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
(سورة القصص : من آية 61)
        أنا أشعر أن الأخ الكريم أنه يجب أن يقول إذا سألته عن أحواله : الحمد لله على نعمة الهدى ، على نعمة معرفة الله ، على نعمة طاعته ، على نعمة السَيْر على منهجه ، على نعمة البيت المسلم ، لك زوجة مؤمنة هذه لا تقَدَّر بثمن ، تعينك على طاعة الله ، فهذه النِعَم العظمى ، هذه نعم ، لأنها بحقّ سببُ الحياة الأبدية ؛ أما تلك التي سماها الله نَعمة ـ بفتح النون ـ ..
﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ﴾
(سورة الدخان )
       هذا المال ، وهذا الجمال ، وهذا الغني ، وهذه القوة ، هذه إن لم توظَّف في طاعة الله كانت دركاتٍ إلى جهنَّم ، حظوظ النفس إما أنها درجاتٌ إلى الجنة أو دركاتٌ إلى النار ، هي حيادية ، وأنت توجهها ، لذلك سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبة يقول : " الحمد لله ثلاثاً ؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني " ـ ديني سليم ، فكل ما بعد ذلك سهل ـ صحابية جليلة رأت ابنها بين القتلى ، وأخاها بين القتلى ، وزوجها بين القتلى ، وأباها بين القتلى ، و مع كل هذا كانت تقول : " ما فعل رسول الله ؟ " ، فلما علمت أنه بخير ، قالت : " كل مصيبةٍ بعدك هينةٌ يا رسول الله " .
      نحن من باب أولى ؛ إذا كان دينك سليمًا ، دخلك حلالًا ، زوجتك محجَّبة ، أولادك أبرارًا ، عملك مشروع وليس لديك غلط ، وليس عندك مادة محرمة في تجارتك ، وليس لديك طريقة محرمة بالتعامل ، فإذا كانت هناك أزمات تواجهك في حياتك ، فهذا مما لا بد منه مع كل الناس ، مرحباً بقضاء الله وقدره ، فالإنسانُ يمتحن بالبحبوحة وبالضيق ، لم أسمع أحدًا جرّب سيارة في طريق نازل ، بل يجرّبها في طريق صاعد ، خاصة إذا أراد أنْ يختبر مدى قدرتها على التحمل ، وأنت مؤمن لابد من أن تمتحن بالشدة أحياناً :
" أوحى ربك إلى الدنيا أن تكدَّري وتمرري وتضيقي وتشددي على أوليائي حتى يحبوا لقائي " .
      ألا تحب أن تكون على رؤوس الأشهاد يوم القيامة مؤمناً صادقاً ؟ ألم يخطر ببالك ذات مرة أن الله عزَّ وجل قادرٌ أن يخلق النبي وأصحابه المحبين له وحدهم في بلد ، ولا يعكر حياتهم أو قيدتهم أحد ؟ كل أصحابه ؛ سيدنا الصديق وسيدنا عمر ، وسيدنا عثمان وسيدنا علي ، وطلحة والزبير ، والحسن والحسين ، ولا أحد يعاديهم أو يعارضهم ، أجل كان ذلك ممكنًا ، فالله على كل شيء قدير ، لكن إذا لم تكن هناك معارضة ولا متاعب ، ولا  جهاد ، فالحياة عندئذٍ تصبح لا معنى لها ، وأنت عندئذ لا ترقى إلى الله عزَّ وجل .
 
3 ـ الهناء بعد التعب :
 
إنّ شخصًا تعب في دراسته إلى أن نال الدكتوراه ، يقول لك فيما بعد : أنا في كل حياتي هانئ  ، فقد تعبت في الأيام السابقة ، فلولا هذا التعب لم أبلغ هذه الراحة ، هذه الراحة لن يصل إليها أحد إلا بعد اجتياز العقبات ، واجتياز طريق الأشواك ، والجنة التي وعد الله بها المتَّقين لن يستحقها الإنسان ، ولن يشعر بنعمها إلا إذا قد ابتليَ في الدنيا ، وامتحن ودفع الثمن ، فسلعة الله غالية ، ولذلك فالمؤمن كلما ارتقى سلّم الإيمان واجهه الابتلاء ، ويشعر أن الله سبحانه وتعالى لابُدَّ من أن يرقِّيه ، ولكن مرة بالرخاء ومرة بالشدة ، قال أحدهم ، و ما أجمل ما قال :
بصُرتَ بالرّاحةِ الكبرى فلم ترَها            تنال إلاّ على جسر من التعبِ
***
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾
       لا تغتر .
4 ـ ما هو الغرور ؟
 
ما هو الغرور ؟ الغرور أن تجد علبة بالأرض فتظن أن بداخلها ساعة ، فتنكب عليها ، فتجد العلبة فارغة . هذا الغرور ، أي أن تظن الشيء بحجمٍ أكبر من حجمهالحقيقي ، الغرور أن تنكب على علبةٍ ، وأنت تحسب أن فيها قطعةً ذهبيةً ثمينة ، تفتحها فإذا هي فارغة ، هذا هو الغرور ، أن تغتر بالشيء ، أي أن تراه بحجم أكبر من حجمه ، الله عزَّ وجل قال :
﴿ فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾
سيدنا إبراهيم ..
 
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾
(سورة البقرة  : من الآية 126)
       يا رب ارزق المؤمنين فقط ، فالله عزَّ وجل قال:
 
﴿ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126) ﴾
(سورة البقرة  : من الآية 126)
       قال الله:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
(سورة النساء : من الآية 77 )
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38) ﴾
(سورة التوبة)
       يا عبدي أأنت راضٍ بها ؟ فمتاع الدنيا قليل ، ألا تطمع بما عندي من جنة ؟
 
﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38) ﴾
(سورة التوبة)
 
خاتمة :
 
       يا أيها الإخوة الكرام ... أعظم نعمةٍ أنعم الله بها علينا أنه هدانا إليه ، وعرفنا بذاته ، وأعاننا على طاعته ، فهذه نعمةٌ ما بعدها نعمة ، وما سوى ذلك فكل مصيبةٍ تهون أمام هذه النعمة ، كل ضائقةٍ تزول ، كل كربٍ ينتهي ، كل مرضٍ إلى شفاء إن شاء الله ، فالعاقل لا يجعل الدنيا أكبر همه ، يجعل معرفة الله أكبر همه ، بل يجعل طاعة الله عزَّ وجل أكبر همه ، فإذا فعل ذلك كان في رضوان الله عزَّ وجل .
      فالله عزَّ وجل ما منح النبي الكريم وأصحابه الكرام النصر والعز إلا بعد أن دفعوا الثمن ، فالإنسان أحياناً يجد متاعب في بيته ، متاعب في عمله ، متاعب في كسب الرزق ، متاعب في الاستقامة ، يقول لك : وقعت في حرج ، فهذا لا بدّ منه ، هذا الإحراج هو الذي يرقى بك إلى الله عزَّ وجل ، هذا الإحراج هو الذي يظهر شرفك عند الله وعند الناس ، لكن هناك من يرضي الناس كلهم ، قالوا : من استطاع أن يرضي الناس كلهم فهو منافق ، دائماً يقع واقفاً وهذا يسمونه : العفريت النفريت ، يدبر حاله ، ويخرج سالما من كل مشكلة ، بالطبع على حساب دينه ، فهو مع هؤلاء ومع هؤلاء ، يرضي كل طرف على حساب دينه ، ليس هذا ذكاءً ، فالذكاء أن تكون ذا مبدأ ، ولك اتجاه واضح الهدف ، تتمسِّك بالشرع ، وفي ذلك الفلاح والسعادة .
 
والحمد لله رب العالمين
 
 

 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب