سورة غافر 040 - الدرس (6): تفسير الأيات (17 – 18)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة غافر 040 - الدرس (6): تفسير الأيات (17 – 18)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 272 - مقبرة باب الرحمة           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 07 - بشرى لمن قصف بيته - الشيخ محمد نور           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - غزوة أحد           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 388 - سورة المائدة 006 - 006           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 15 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 06- غزة وخزة ايقاظ- د. عبدالوهاب الطريري         

الشيخ/

New Page 1

     سورة غافر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة غافر ـ (الآية: 17 - 18)

24/11/2012 17:48:00

سورة غافر (040)
 
الدرس (6)
 
تفسير الآيات: (17 ـ 18)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
       أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس السادس من سورة غافر ، ومع الآية السابعة عشرَة ، وهي قوله تعالى:
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾
 
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
 
1 ـ كسبُ الإنسانِ :
 
      لو وقفنا عند كلمة: بما كسبت ، ما كسب الإنسان ؟ بعضهم قال : كسبه عمله ، العمل حتمي ،ما من إنسان إلا وله عمل شاء أم أبى ، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى بادئ ذي بدء سخَّر السماوات والأرض من أجل الإنسان ، وفضلاً عن ذلك أعطى الإنسان قوَّةً إدراكيَّة ليبحث ، وينقِّب ، ويهتدي ، ويستفيد من خيرات السماوات والأرض .
      والحقيقة الدقيقة أن خيرات السماوات والأرض في الأعم الأغلب لا يُنتَفَع بها مباشرةً ، فالنبات لابدَّ من أن يُزْرَع ، البئر لابدَّ من أن تُحفَر ، المعادن لابدَّ من أن تُستخرج ، المَسْكَن لابدَّ من أن يُبنى ، النباتات القطنيَّة لابدَّ من تُغْزَل ، والخيوط لابدَّ من أن تُنْسَج ، والنسيج لابدَّ من أن يُخاط ، لحكمةٍ بالغةٍ جعل الله خيرات الأرض لا يُنتفع بها مباشرةً إلا إذا بُذِلَ من أجلها جهدٌ بشري أساسه العلم .
       إذاً : عندنا أرض فيها خيرات كثيرة ، وهناك إنسان أعطاه الله قوَّة إدراكيَّة ، قوة بحث ، وتنقيبا ، واستنتاجا ، وكشفا ، واختراعا، ولابدَّ من جهدٍ بشري من أجل أن تصبح هذه المواد نافعةً ، هذه حقيقة.
 
2 ـ حاجات الإنسان :
 
       الحقيقة الثانية : الإنسان ممكن ، معنى ممكن أي يمكن أن يكون وأن لا يكون ، فإذا كان يمكن أن يكون على نحو ما هو عليه أو على نحوٍ آخر ، شاءت حكمة الله أن يجوع الإنسان ، أن يكون هذا الجسد بحاجة إلى طعام وشراب ، هناك حاجات أساسيَّة ثلاث ؛ الأولى حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب حفاظاً على وجوده ، وحاجة الإنسان إلى الطرف الآخر ـ إلى الجنس الآخر ـ حفاظاً على وجود نوع البشر ، وحاجة الإنسان إلى الذِكْرِ أو بقاء الذكر .
      أول حاجة هي كلَّما شعر الإنسان بالجوع اندفع إلى الطعام والشراب ، كلَّما شعر بحاجته إلى الطرف الآخر اندفع إلى الزواج ، كلَّما شعر بحاجته إلى تأكيد ذاته ، وتخليد اسمه اندفع إلى البطولة أو التجاوزات .
     إذاً : هناك دوافع فطريَّة لابدَّ من تلبيتها ، جوع الإنسان يدفعه إلى أن يعمل ، عمله منصبٌّ على تحويل هذه الخيرات التي أودعها الله في الأرض ، إلى خيراتٍ يستفاد منها .
       إذاً : الإنسان بفطرته ، ببنيته النفسيَّة ، بطبيعة المواد في الأرض ، بطبيعة قوَّته الإدراكيَّة لابدَّ من أن يعمل ، من خلال العمل يُبْتَلَى الإنسان.
       مهَّدت لكمالموضوع على الشكل التالي : الأرض مسخَّرة ، لكن خيراتِها تحتاج إلى جهد بشري ، الإنسان فيه دوافع ؛ دوافع إلى الطعام والشراب ، دوافع إلى الجنس الآخر ، دوافع إلى تأكيد الذات ، هذه الدوافع تجعله يعمل من أجل أن يأكل ، لولا دافع الجوع لما رأيت بناء قد بني ، ولا بئراً قد حُفرَت ، دافع الجوع هو الذي يحرِّك البشر ، إذاً : هناك اندفاع نحو كسب الرزق ، واندفاع نحو استكمال شقِّ الإنسان بشقِّه الآخر ، واندفاع نحو تخليد ذكره وتأكيد ذاته ، وهذه الاندفاعات الثلاثة تقتضي أن يكسب الإنسان المال ، من خلال تحويل المواد الأوليَّة إلى موادٍ قابلة الانتفاع ،.
      إذاً : هو يعمل شاء أم أبى ، ما في خيار ، ما دمت تحسُّ بالحاجة إلى الطعام فلابدَّ من أن تعمل ، من خلال العمل يُبتَلَى الإنسان ، يبتلى بالاستقامة أو بالانحراف ، يبتلى بأنه لابدَّ من أن يعمل ، من خلال العمل يكذب أو يصدق ، يُخْلِص أو يخون ، يدلِّس أو يُحْكِم ، لابدَّ من أن يُمتحن ، فكل إنسان له عمل ، سمَّاه القرآن كسب ، هذا الكسب سوف نحاسب عليه في الآخرة حساباً دقيقاً .
       فمن الغباء بالإنسان أن يتوهَّم أن الأمور هكذا ، والله أكلنا هذا المال والحلال على الشاطر ، هذا كلام في منتهىالسذاجة ، في منتهى الغباء ، الإنسان محاسب ، لأن الله عزَّ وجل عدالته تقتضي أن يحاسب العباد جميعاً.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
(سورة الحجر)
       نحن أيها الإخوة في دار ابتلاء وانقطاع ـ دقِّقوا في هاتين الكلمتين اللتين قالهما النبي عليه الصلاة والسلام يصف فيهما الدنيا ـ دار ابتلاءٍ وانقطاع .
 
3 ـ الدنيا دار امتحان :
 
     نحن في دار امتحان ، نمتحن بكل شيء :
     نُمتحن بالإيجابيات كما نمتحن بالسلبيات .
     نمتحن بالخير كما نمتحن بالشر .
     نمتحن بالعطاء كما نمتحن بالحرمان .
     نمتحن بإقبال الدنيا كما نمتحن بإدبار الدنيا .
     نمتحن بالصحَّة كما نمتحن بالمرض .
     نمتحن بالقوَّة كما نمتحن بالضعف .
     نمتحن بالمال كما نمتحن بالفقر .
     كل طورٍ يطرأ عليك هو امتحانٌ من الله عزَّ وجل .
     لكن الله يعلم من أنت ، إلا أن حكمة الله عزَّ وجل من الامتحان أن تعرف من أنت ، لأن الإنسان أحياناً يتوهَّم أنه مؤمنٌ كبير ، وربنا عزَّ وجل يعلم أن إيمانه أقلَّ من ذلك ، يضعه في ظرفٍ دقيق فيظهر بحجمه الحقيقي ، فالامتحان تعريفٌ لأنفسنا ، وتعريفٌ لمن حولنا بنا .
       فلذلك كل واحد منَّا له عمل ، فلان مثلاً خطَّط للحرب العالميَّة الثانية ، التي ذهب ضحيَّتها خمسون مليون إنسان ، هذا عمله ، إنسان أمر بإلقاء قنبلة على هيروشيما فقتلت ثلاثمائة ألف إنسان في ثلاث ثوانٍ ، هذا عمله ، عمله تدميري .
     الأنبياء ماذا فعلوا ؟ أعطوا الخلق كل شيء ؛ أعطوهم الحب ، أعطوهم الإيمان ، أعطوهم الاتصال بالله عزَّ وجل .
 
4 ـ ما عملك في الدنيا ؟
 
       أكبر سؤال أن تسأل نفسك أنت أيها الأخ الكريم : ما عملك ؟ جئت إلى الدنيا ، وسوف تخرج منها ، ما العمل الذي يُربَط باسمك ؟ أعمال عظيمة ، أو أعمال إجراميَّة ، أو أعمال تافهة ، أو أعمال خسيسة ، أو أعمال نفيسة ، أو أعمال إيجابيَّة ، أو أعمال سلبيَّة ، أو أعمال خيريَّة ، أو أعمال أساسها الإفساد ، أو أعمال أساسها رأب الصدع ، فهذا السؤال الخطير : ما عملك ؟ ماذا تفعل ؟
       نبدأ :
     هل أنت أبٌ مثالي ؟ هل حرصت على تربية أولادك ؟ هل حرصت على أن تخلِّف من بعدك أفراداً طيّبين صالحين ؟
     أنت ابن : هل أنت ابنٌ بار ؟
     كزوج ، هل أنت زوجٌ مثالي أخذت بيد زوجتك إلى الله ورسوله ؟
     كزوجة ، هل أنتِ أيتها الأخت زوجةٌ مثاليَّة تطبقين ما أمر الله به ، وأمر رسوله به ؟
     الإنسان له دور اجتماعي ، بادئ ذي بدء هذا أب ، هذا ابن ، هذه زوجة ، هذا إنسان تاجر ، لكن التجارة لها صفات ..
((إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا
 
 كان عليهم لم يمطلوا ، وإذا كان لهم لم يعسروا )) .
[من الجامع الصغير عن معاذ]
       فلان موظَّف : هل تقوم بواجباتك كموظَّف ؟ هل أنت في خدمة هذا المواطن ، أم أنك تخلق له العقبات والمشكلات كي تبتزَّ من ماله ؟ عمل هذا الموظَّف أنه يخلق للمواطنين المشكلات كي يبتزَّ أموالهم ، هذا عمله ، ربَّما كان هذا العمل ترضى عنه في الدنيا ، لأنه يجلب لك مبلغاً أكبر من دخلك الحقيقي ، ولكن ما قولك إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجل وسألك : لماذا فعلت هكذا بعبادي ؟
       أنت مدرِّس : هل أعطيت هؤلاء الطلاب حقّهم ، أم اضطررتهم إلى دروسٍ خاصَّة ؟ لم تعلِّمهم علماً كافياً ، لم تصحِّح لهم وظائفهم ، لم تجر لهم اختبارات صحيحة ، حتى اضطر الأهل إلى دروسٍ خاصَّة يدفعون عليها مبالغ طائلة .
       أنت طبيب : هل نصحت هذا المريض ؟ هل راقبت الله عزَّ وجل وأنت تعالجه ، أم آثرت أن تكبِّر حجم مشكلته كي تجعله يرتبط بك دائماً ؟
      أنت محام : أنت مقتنعٌ أن هذه الدعوى لن تنجح ، كيف أقنعت الموكِّل بأنها تنجح ؟ من أجل أن تأخذ مالاً ليس مشروعاً ؟
      كل واحد منا له دور اجتماعي في أسرته ؛ هذا أب ، هذا ابن ، هذا أخ ، هذه زوجة ، هذا زوج . وهناك دورٌ مِهَنِي ؛ أنت تاجر ، عندك معمل مواد غذائيَّة ، هل تخشى الله عزَّ وجل في أطفالنا ؟ هل تضع في هذه المواد مواد من الدرجة الخامسة ليست جيدة ، مواد فاسدة ، ولا أحد يعلم ؟ لكنك تراقب الله عزَّ وجل ، أن الله الذي خلقك ، وأكرمك بنعمة الوجود ، ونعمة الإيجاد ، ونعمة الهدى والرشاد يراقبك ماذا تفعل ؟ ما نوع المواد التي تضعها في هذه الصناعات الغذائيَّة ؟
      فكل واحد له دوران دور أسري ، ودور مهني ؛ فالتجارة مهنة ، والصناعة مهنة ، والزراعة مهنة ، والطب مهنة ، والهندسة مهنة ، والتدريس مهنة ، والمحاماة مهنة ، والوظيفة الإداريَّة مهنة ، كل واحد بعمل ، فإما أن يحسن ، وإما أن يسئ ، إما أن يكذب ، وإما أن يصدق ، إما أن يخلص ، وإما أن يخون .
       هناك خيانة على مستوى اللون ، لو قال لك إنسان : انتقِ أنت لي اللون الذي تحبُّه ، فأنا لا أعرف ، فانتقيت له اللون الكاسد ، وأقنعته أن هذا أجمل لون ، هذا لون السنة ، وهو ليس كذلك ، هذه خيانة .
      أنت من خلال عملك إما أن تصدق ، وإما أن تكذب ، إما أن تُخلص ، وإما أن تخون ، إما أن تنصح ، وإما أن تغُش ، هذا عملك ، هذا هو أنت ، وهذا لا يبدو في هذه الدنيا صارخاً ، ولكن عندما يقترب الإنسان من أجله يبدو عمله صارخاً .
      إن الإنسان اسمه مرتبطٌ بعمله ، ما نوع عملك ؟ وشتَّان بين المؤمن والكافر ، خذ حرفةً واحدة ، راقب بها المؤمن ، كيف ينصح ؟ كيف يصدق ؟ كيف يخلص ؟ كيف يرحم المسلمين ؟ كيف يحرص على مصالحهم ؟ كيف يرأف بهم ؟ وراقب الكافر كيف يقسو عليهم ؟ ويبتزُّ أموالهم ، ويكذب عليهم ، ويدلِّس ، ويقنعهم ليأخذ أموالاً طائلة ؟
       الدسَّام ، هناك دسَّام ثمنه خمسة آلاف ، ودسَّام ثمنه ستون ألفا ، قال له : قل له ركَّبنا لك الدسَّام الذي ثمنه ستون ألفا ، لن يعرف المريض ، وهو ثمنه خمسة آلاف ، هذا عمل الإنسان ، هذا العمل يوم القيامة سوف يظهر ، سوف يظهر جَلِيَّاً ، كل إنسان يعرف بحرفته كيف يصدق أو يكذب ؟ ينصح أو يغش ؟ يدلِّس أو يستقيم ؟ ينحرف أو يعطف ؟
       إذاً : أيها الإخوة أخطر شيء في الحياة هو عملك.
"يا قييس ، إن لك عمل تُدْفَن معه وأنت ميِّت ، ويُدفن معك وهو حي ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ألا وهو عملك " .
 
العبادات الشعائرية والعبادات التعاملية :
 
      فأنتلك عمل ، والناس سبحان الله كما يقولون : " ألسنة الخلق أقلام الحق " ، الإنسان عمله ظاهر ومكشوف ، والناس يلهجون بالثناء عليه إن كان مستقيماً ، إن كان صادقاً ، ويطعنون به وبأقواله وأفعاله إن كان منحرفاً ، فأخطر شيء أن الإنسان يتوهَّم الدين بسذاجةٍ وغباء أنه صلاة وصوم ، فالصلاة والصوم من أركان الإسلام ، لكن الصلاة والصوم والحج تشبه تماماً ساعات الامتحان ، ويسبق هذه العبادات الثلاث تسعة أشهر عاماً دراسيَّاً .
       فالعبادات نوعان : عبادات تعامليَّة ، وعبادات شعائريَّة ، العبادات الشعائريَّة من صومٍ وصلاةٍ وحجلا معنى لها إطلاقاً ، ولا قيمة لها ، ولا تفدّ‍م ولا تؤخِّر إن لم يكن الإنسان في عباداته التعامليَّة مستقيماً على أمر الله عزَّ وجل .
        والله أيها الإخوة ، لو استقام الناس على أمر الله ، لو عرفوا ربَّهم حقَّ المعرفة لعدوا للمليون قبل أن يكذبوا ، قبل أنيغشوا ، قبل أن يدلِّسوا ، قبل أن يوهموا ، قبل أن يبتزوا أموال بعضهم بعضاً .
      تجد من علامات فساد المجتمع أن الذي يأكل أموال الناس بالباطل يُعدُّ ذكياً ، يعدُّ شاطراً ، الذي يكذب عليهم ، ويقنعهم يعد متفوِّقاً ؛ لكن المستقيم هو عند الله له شأنٌ كبير ، والإنسان العاقل هو الذي يبتغي العزَّة لا عند الخلق ، ولكن عند الحق ، يبتغي المكانة الرفيعة عند خالقه من خلال إخلاصه ، واستقامته على أمر ربِّه .
      الإنسان له عمل ، حاسب نفسك ، عملك في بيتك ، هناك أب مُهمل ، هناك أم مهملة ، النبي عليه الصلاة والسلام قال :
((أيما امرأة قعدت على بيت أولادها فهي معي في الجنة )) .
[الجامع الصغير عن أنس، وفي سنده ضعف ]
       فامرأة تعتني بأولادها ، تعتني بتلبية حاجاتهم ، بتربيتهم ، بالسهر على مصالحهم ، بالحِرص على نفسياتهم ، بتوجيههم التوجيه الصحيح ، هذه يمكن أن تلقى الله بهذا العمل ، يمكن أن تدخل المرأة الجنَّة إذا كانت أماً مثاليَّة ، والأمومة المثاليَّة عملٌ تلقى المرأة به ربَّها .
      الأبوَّة المثاليَّة عملٌ يلقى به الرجل ربَّه ، ممكن أن تلقى الله بأولادٍ ربَّيتهم تربيةً صالحةً ، وجَّهتهم توجيهاً صحيحاً ، جعلتهم أناساً صالحين طيِّبين ، نشؤوا على مكارم الأخلاق ، يمكن أن تلقى الله بهذا العمل ، البنوَّة المثاليَّة يمكن أن تلقى الله بها .
      الآن عملك المهني : أقول هذا كثيراً ، وقد أعدت هذا على مسامعكم كثيراً : حرفتك ، رزقك ، عملك المهني ، إذا كان في الأصل مشروعاً ، ومارسته بطريقةٍ مشروعة ، وابتغيت به كفاية نفسك ، وكفاية أهلك ومن يلوذ بك ، وابتغيت به خدمة المسلمين ، ولم يشغلك عن فرضٍ ، أو عن واجبٍ ، أو عن طاعةٍ ، أو عن مجلس علمٍ ، هذا العمل المهني ينقلب إلى عبادة ، ويمكن أن تلقى الله به ، ويمكن أن تدخل به الجنَّة ، ليس الشرط أن يكون الناس كلُّهم دعاةً إلى الله ، كل إنسان بحسب دوره الاجتماعي .
       أصحاب الحرف إذا أخلصتم في حرفكم ، وابتغيتم بها خدمة المسلمين ، ولم تأخذوا مالاً زائداً عن الحد المعقول ، ولم تشغلكم هذه الحرف عن طاعات ولا واجبات ، ولا عن طلب العلم ، فهذه  الحرف تنقلب إلى عبادات هناك وأنتم لا تشعرون ، حتى إن العلماء قالوا : المباحات إذا ابتغي بها وجه الله انقلبت إلى عبادات .
       درس اليوم  : اسأل نفسك هذا السؤال : ما نوع عملك في الدنيا ؟
      أنا أطمئن إخوتنا الكرام أنك إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيما استعملك ، لا تكذب ، هناك هراءٌ كثير ـ إن لم تكذب لا تكسب المال ـ كلامٌ فارغ ، الله سبحانه وتعالى هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين .
((من حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد له مما رجا ، وأقرب مما يتقي )) .
[من كشف الخفاء عن أنس]
      أيّ إنسان يبتغي كسب المال من خلال المعصية فهو أحمقُ كبير ، لأنه يخسر شيئين ، يخسر طاعة الله عزَّ وجل ، ويخسر المال ، والدنيا بين أيديكم ، ما أفلح عاصٍ لله عزَّ وجل ، ما أفلح كاذب ، ما أفلح غاش ،  يجمع المال شيئاً فشيئاً فتأتي مصيبةٌ تمحقه جميعاً .
     قال لي رجلٌ احترق محله : والله فيه ثمانية ملايين من البضاعة ، ثم دمعت عينه ، وقال لي : لعلي في الثلاثين عاما الماضية أكلت أموالاً غير مشروعةٍ ، جمَّعها الله لي ، واحترقت هذه البضاعة .
      مشكلة الإنسان أحياناً يكسب المال الحرام شيئًا فشيئًا ، يجمعها الله ، حتى إذا أصبحت مالاً كبيراً في لمح البصر يذهب ، والشواهد كثيرة ، والأمثلة كثيرة ، كل شيء يقع تحت سمعنا وبصرنا هو في الحقيقة وراءه مشكلة ، وراءه ذنب ، وراءه محاسبة دقيقة ، وراءه قِصاص ، وراءه جزاء ، لكن البشر لا يعلمون ، الله وحده يعلم لماذا تلف مال فلان ؟ لماذا فلَّس فلان مثلاً ؟ لماذا محق الله البركة من مال فلان ؟ أنت لا تعلم كيف كسب المال ؟ إذاً : ربنا عزَّ وجل يقول :
 
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ؟ وَفِيمَا وَضَعَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا
 
 عَمِلَ فِيهِ ؟ )) .
[من سنن الدارمي عن معاذ بن جبل]
 
5 ـ انتبه إلى عملك فإنه أخطر شيءٍ :
 
       والإنسان لا ترتاح نفسه ، ولا يطمئنُّ قلبه ، ولا يسعد في دنيا إلا إذا كان مصطلحاً مع الله ، والله سبحانه وتعالى طيِّبٌ ولا يقبل إلا طيباً ، والأخطاء مع البشر من الصعب أن تُغفر إلا أن يغفر البشر ، لكن الأخطاء مع الله عزَّ وجل سهلٌ مغفرتها ، هذه بينك وبين الله ، لكن ما كان بينك وبين البشر صعبٌ أن تُغفر .
       فكل إنسان أيها الإخوة ينتبه لعمله ، أولاً أن لا يكون عمله غير مشروع ، أن لا يكون عمله مبني علىإيذاء الآخرين ، على سلب ما عند الآخرين ، ما يكون عمله مبنيا على الكذب أو الخِداع أو الغش ، ما تكون البضاعة التي يبيعها محرَّمة ، ما تكون الطريقة التي يستخدمها طريقة غير مشروعة ، ينتبه لعمله ، لأن عمله هو الذي يعطيه مكانته عند الله عزَّ وجل.
       وما في عمل مهني للإنسان إلا وهو سًلَّمٌ ترقى به إلى الله ، أو دركاتٌ تهوي به إلى النار ، أبداً ؛ حرفتك ، دورك في الأسرة ، أبوَّتك ـ هناك أبوة فاسدة ، وأمومة فاسدة ، وبنوَّة فاسدة ـ دورك في أسرتك ، ودورك في مهنتك .
     أنت الآن موظَّف ، يجب أن تكون مخلصاً لربِّ العمل ، هذا الوقت وقته ، أنت الآن رب عمل ، يجب أن تكون منصفاً مع العمال أو مع الموظَّفين ، أن تعطيهم حقَّهم ، أن لا تستغل حاجتهم كي تنمِّي على أكتافهم ثروةً طائلة ، كل إنسان محاسب ، دورك الاجتماعي ، لك دور اجتماعي ؛ أنت جَد ، الجد مَظَنَّة صلاح ، مظنة إنصاف ، حرمت فلانة ، أعطيت فلانة لنزوةٍ شخصيَّةٍ هذه تحاسب عنها .
       يا أيها الإخوة الكرام ... أخطر ما في حياتنا أعمالنا ، بها نرقى أو بها نهوي ، بها نسعد أو بها نشقى ، بها تكون درجاتٍ إلى الله عزَّ وجل ، ومن خلالها تكون دركاتٍ إلى النار ، فكل إنسان يراجعنفسه ، الحياة الدنيا قصيرة ، والإنسان في دار ابتلاء.
       في أول الدرس قلت : نحن في دار ابتلاء وانقطاع ، معنى انقطاع : أن الموت يأتي فيلغى غنى الغني ، ويلغي فقر الفقير ، ويلغي قوَّة القوي ، ويلغي ضعف الضعيف ، ويلغي مرض المريض ، ويلغي صحَّة الصحيح ، فالموت أنهىكل شيء ، وبقي العمل .
     الشيء المؤلم أن الإنسان بعد الموت تنقطع منفعة ماله ، وتبقى تبعه هذا المال ، تنقطع المنفعة وتبقى التَبِعَة ، الميِّت ترفرف روحه فوق النعش فتقول : " يا أهلي يا ولدي ، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلَّ وحرم ، فأنفقته في حلِّه وفي غير حلِّه ، فالهناء لكم والتبعة علي " .
       عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ
 
عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَد )) .
[ الترمذي ]
       السؤال صعب ، صعب جداً ، إذا قيل لإنسان : تعالَ إلينا بعد يومين ، لا ينام الليل ، لماذا يريدونني ؟ ماذا قلت ؟ لا ينام إطلاقاً ، إن قيل له : تعال بعد يومين لنسألك ، هذا سؤال بشر لبشر متعب ومخيف ، فكيف بخالق البشر الذي يعلم السرَّ وأخفى ، ولا تخفى عليهخافية ؟ فالإنسان السعيد الذي طويَّته كعلانيَّته ، سريرته كعلانيَّته ، سرُّه كجهره ، خلوته كجلوته ، ما عنده ازدواجيَّة ، ما في قلبه على لسانه ، ما يقوله بلسانه يُحِسُّ به في قلبه ، أما الأساليب الماكرة ، الاتجاهات المنحرفة فهذه كلها خطيرة في الحياة.
       أيها الإخوة الأكارم ، احرص على أن يكون عملك في طاعة الله ، احرص على أن يكون في مرضاة الله ، لأن ربنا عزَّ وجل إذا غضب :
 
 
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) ﴾
(سورة البروج)
       والله لا يتسع المجال لأذكر لكم قصصاً واقعيةً نعيشُها جميعاً.
 
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) ﴾
       الله سبحانه وتعالى إذا انتقم كان الشيء الذي لا يُعقل ، فالعاقل هو الذي يخاف الله عزَّ وجل ، فالكذب الذي هو شائعٌ بين الناس كله محاسبٌ عليه .
((يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ )) .
[من مسند أحمد عن أبي أمامة ]
      لو ألغي الكذب من حياتنا لكنَّا في حالٍ آخر غير هذا الحال ، وربنا عزَّ وجل كل أسمائه الحسنى الكون مظهرٌ لها ، الكون مظهرٌ لعلمه ، مظهرٌ لقوَّته ، مظهرٌ لقدرته ، مظهرٌ للطفه ، مظهرٌ لرحمته ، إلا اسماً واحداً ، هذا الاسم الواحد لا يتحقَّق إلا يوم القيامة ، وهو أنه عدلٌ ، الآن هناك قوي وضعيف ، هناك ظالم ومظلوم ، هناك مريض وصحيح ، متى تسوَّى الحسابات ؟
 
الحظوظ في الدنيا توزَّع توزيع ابتلاء :
 
       بالمناسبة : ربنا عزَّ وجل يوزِّع الحظوظ في الدنيا ـ انتبه لكلمة حظوظ ـ المال حظ ، الوسامة حظ ، الذكاء حظ ، الزوجة الممتازة حظ ، الأولاد الأبرار حظ ، المنزل الواسع حظ ، المركبة الوطيئة حظ ، السمعة الطيِّبة حظ ، القوة والصحة الطيبة حظ ، هذه الحظوظ توزَّع في الدنيا توزيع ابتلاء ، كل إنسان مبتلى بما أعطاه الله ، ومبتلى بما حرمه الله ، في الوقت نفسه مبتلى بما أعطاه ، مبتلى بما حرمه ، لكن الحظوظ يوم القيامة تُوزَّع توزيعاً آخر ، لا توزَّع توزيع ابتلاء ، بل توزَّع توزيع جزاء ، ربَّ غنيٍ ابتلي بالغنى فلم ينجح ، وربَّ فقيرٍ ابتلي بالفقر فنجح ، فعاش الفقير إلى أبد الآبدين غنياً ، وعاش الغني إلى أبد الآبدين فقيراً ، فالدنيا لا قيمة لها ..
((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ )) .
[من سنن الترمذي عن سهل بن سعد]
الدنيا دار من لا دار له      ولها يسعى من لا عقل له
***
       أنت دقِّق ، حتى أخذ شقفة شهادة يقول لك : ذاب بذرُ مخِّي ، حتَّى عيَّنوه مكث خمس سنوات بعد مسابقة ، وبعدما تعيَّن ظهر له أن المعاش لا يكفي ، فاشتغل في عمل إضافي ، حتى اشترى بيت صغيرا في طرف المدينة بمساحة ستين مترًا ، حتى أمَّن الأثاث لزمه سنتان ، حتى تزوَّج ، بعد هذا اشتغل في التجارة ، جاءه دخل جيِّد ، غيَّر البيت ، غيَّر الأثاث ، زيَّن البيت ، اشترى سيارة ، صار عمره خمسة وخمسين عاما بدأت متاعب الصحَّة ، وهكذا الحياة .
 
شروط اللذة الدنيوية :
 
        مرة قلت لكم كلمة : إن السعادة ـ عفواً ، اللذَّة ، دعك من السعادة لأنها هي بالقرب من الله عزَّ وجل ـ لذّات الدنيا تحتاج إلى شروط ثلاث : تحتاج إلى وقت ، وتحتاج إلى مال ، وتحتاج إلى صحَّة ، الإنسان يمر في الحياة بثلاثة أطوار :
      الطور الأول هناك وقت وصحَّة ، ولكن لا مال ـ منتوف ما عنده شيء ـ إذاً : ليس سعيدا ، لأن لا مال معه .
      الطور الثاني : هناك مال وصحَّة ، ولكن لا وقت ، تجد أحياناً مائتي بيت بالمصائف فارغة ، أصحابها مشغولون بأعمالهم التجاريَّة ، المال موجود ، والصحَّة ، ولكن ليس هناك وقت .
      يأتي الطور الثالث صار في وقت ، والمال وافر ، ولكن لا توجد صحَّة ، تجده يحمل حقيبة أدوية ، هذه هي الدنيا ، هذه الدنيا تغرُّ وتضرُّ وتمر ، قال تعالى :
 
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5) ﴾
(سورة فاطر)
       أن تغتر بها ، أن تراها بحجمٍ أكبر من حجمها الحقيقي ، هي صغيرٌ جداً ، تافهةً ، يقول سيدنا عليعن رسول الله: << فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمَّداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ، فإن قال : أهانه فقد كذب ، وإن قال : أكرمه فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا >> .
     كان النبي اللهمَّ صلّ عليه لا يتَّسع بيته لصلاته ـ في قيام الليل ـ ونوم زوجته ، فكان إذا صلَّى قيام الليل رفعت السيدة عائشة رجليها ليتمكَّن أن يصلي  هذا سيِّد العالمين ، هذا يكفي ، هذا أكبر شاهد ، الدنيا لا قيمة لها ، القيمة لطاعة الله عزَّ وجل ..
﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ﴾
(سورة الأحزاب )
 
الغنى والفقر بعد العرض على الله :
 
        يقول سيدنا علي : << الغنى والفقر بعد العرض على الله >> ، فالذي نجمِّعه سنتًا سنتًا ، يأتي ملك الموت فيأخذه دفعةً واحدة ، وقف قلبه ، غير معقول ، يأتون بمرآة ، ويضعونها على فمه ، هناك آثار تنفُّس ؟ لا يجدون شيئًا ، يأتون بمصباح شديد على عينه ، هل انكمشت القزحيَّة ؟ لم تتحرَّك ، القلب وقف ، والقزحيَّة ما تأثَّرت بالضوء ، والمرآة لم تتأثَّر بالتنفُّس ، عظَّم الله أجركم ، أخذوا الساعة من يده ، في فمه سن من الذهب سحبوه منه ، يقولون لك : الحي أولى ، هذه الدنيا ، كل شيء جمَّعه في حياته يفقده في ثانيةٍ واحدة .
       إذا كان الرجل ماشيا في طريق ، ورأى بناء على العظم ، وله بيت ، فماذا يقول للناس ؟ أنا آخذ هذا البيت ، فكيف رأيتموه ، هل هو جيِّد ؟ شيء طبيعي جداً إذا اشترى بيتا ببناء على العظم ، ومررت مع صديقك تقول له : هذا البيت أنا اشتريته ، أخذته قبليًّا غربيا، ثالث طابق ، وكذلك فيه مصعد ، ومساحته مائتان وخمسون مترًا ، لماذا إذا مرَّ الواحد أمام مقبرة لا يقول : أنا لي بيت هنا ؟ هذا البيت أثبت من ذاك ، البيت الذي اشتريته قد لا تسكنه ، أما البيت الأخير فلابدَّ من أن تقطن فيه ، والدليل : النعي كله يكتب : " وسيشيَّع إلى مثواه الأخير " ، هذا المثوى الأخير حق ، فالبطل العاقل الذكي الذي يعمل لهذا القبر ، هو يتاجر ، ويعمل ، وينشط ، لكن كله وفق منهج الله عزَّ وجل ، حتى إذا جاء ملك الموت كان مستعدَّاً لهذا اللقاء .
 
الموت أسعدُ لحظات المؤمن ، وأسوأ لحظات الكافر :
 
       لا يستطيع أحدٌ على وجه الأرض أن يُنكر الموت ، ولكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن هو أن المؤمن يستعدُّ له ، بينما غير المؤمن يأتيه الموت فجأةً ، وأروع شيء في الحياة أن لا تفاجأ ، المؤمن لا يفاجأ بالموت ، لأنه يستعد له من خمسين عاماً ، " مرحباً بالموت ، حبيبٌ جاء على شوق " ـ هكذا قال أحد الصحابة ـ المؤمن الصادق المستقيم يستعد للقاء الله منذ أن عرف الله ، كل موقف يزنه ؛ هل يرضي الله ؟ هل في عملي شائبة ؟ أما غير المؤمن يفرح ، ويمرح ، والموت عنده كارثة ..
 
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ(83) ﴾
(سورة الزخرف)
       الموت من دون توقُّع شيء صعب جداً ، وهذا يعرفه الإخوة الأطبَّاء ، عندما يعالجون مرضى على وشك الموت يجدونهم في ذعر واضطراب ، أما لو قرأت سيرة أصحاب رسول الله لوجدت العجب العجاب ، هم في أسعد حالاتهم حينما دنا أجلهم . " واكربتاه يا أبتِ " ، قال : " لا كرب على أبيكِ بعد الموت غداً ألقى الأحبَّة محمَّداً وصحبه " .
      أحد الصحابة قال : " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي " ، فهو يمشي بأقصى سرعة ، والباب مفتوح ، وكلنا عند الله سواسية ، لا أحد أحسن من أحد ، " يا سعد ، لا يغرَّنك أنك خال رسول الله ، فالخلق كلُّهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له " .
 
لا ينفع نسب يوم القيامة :
 
 
       فتقييم الناس هذه سقطاتٌ جاهليَّة ، أي إنسان ، كن ابن من شئت ، واكتسب أدباً ، الأنساب ليست لها قيمة أبداً .
(( أنا جد كل تقي ، ولو كان عبداً حبشياً)) .
[ كشف الخفاء ]
      عَنْ أَبِي نَضْرَةَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ :
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
 
وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا : يَوْمٌ حَرَامٌ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : شَهْرٌ حَرَامٌ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا : بَلَدٌ حَرَامٌ ، قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ
 
يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَبَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ )) .
 [من مسند الإمام أحمد ]
       أما الأنساب لها قيمة مع الإيمان ، قال النبي الكريم:
(( الشرف معوان )) .
[ ورد في الأثر ]
أما بلا إيمان ..
 
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) ﴾
(سورة المسد)
       وهو عم النبي.
((سلمان منَّا آل البيت )) .
[ الجامع الصغير عن عمرو بن عوف ]
      سيدنا بلال دخل على عمر بن الخطَّاب كثيراً ، وزعيم قريش واقفٌ على الباب لم يؤذَن له ، فلمَّا دخل عليه عاتبه ، قال له: << زعيم قريش يقف ببابك ساعاتٍ طِوال ، وصهيبٌ وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان ؟ " قال له : " أنت مثلهما ؟ أين هم منك وأين أنت منهم ؟ >> .
       النقطة الدقيقة : أننا كلنا سواسية ، فافتخار الناس بأموالهم ، بأحسابهم ، برتبهم الاجتماعيَّة  بشهاداتهم ، هذه كلها للدنيا ، القرآن ما اعتمدها إطلاقاً .
       إذاً : التركيز على العمل ، قل لي ما نوع عملك أقل لك من أنت ، وأخطر شيء عملك ، صلاة جوفاء ، وصيام أجوف ، وحج سياحة لا يلغي العمل السيئ ، العمل السيئ في دكَّانك ، في مكتبك ، في عيادتك ، في مكتبك الهندسي ، في صفَّك ، في وظيفتك ، هنا عملك ، هنا يبدو إسلامك ، هنا يبدو إيمانك ، إذا كنت ذا عملٍ طيِّب فصلاتك مقبولة ، تقف لتصلي ترى الطريق سالكاً إلى الله ، ترى أن الله يتجلَّى على قلبك ، لأنك إنسان خيِّر ، طيِّب ، صالح ، أما إذا كان فيك غش ، وكذب ، واحتيال ، وحرمان ، و كسب مال غير مشروع ، وإنفاق غير مشروع ، وأعمال سيئة لا ترضي الله عزَّ وجل ، وأنت حريصٌ على مظاهر الدين ، فهذه لا تقدِّم ولا تؤخِّر ..
 
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ
 
لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ
 
1 ـ الدنيا مملوءةٌ ظلمًا :
 
      إذا امتلأت الأرض ظلماً وجوراً كما قال عليه الصلاة والسلام ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الْمَهْدِيُّ مِنِّي ، أَجْلَى الْجَبْهَةِ ، أَقْنَى الْأَنْفِ ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا ، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ )) .
[ أبو داود وأحمد ]
      معنى هذا أحياناً تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ، والأشياء بين أيديكم ، في كل أنحاء العالم الظلم والجور ، تمتلئ ظلماً وجورًا .
 
2 ـ لا ظلمَ يوم القيامة :
   
      أما يوم القيامة :
﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾
        هذه( لا ) نافية للجنس ، ونفي الجنس أبلغ من نفي المُفْرَدِ ، أحياناً يقول لك واحد : عندك رغيف خبز ؟ إذا قلت له : لا ، فقد يكون عندك كعك ، قد يكون عندك معكرونة ، قد يكون عندك أطعمة أساسها القمح ، أنت لحرصك على أن تنفي له تقول ، له باللغة الدراجة : جنس الخبز ما عندي ، نفي الجنس أبلغ من نفي المُفْرَد ، وهذه ( لا ) إعرابها : لا النافية للجنس ، تنفي الجنس ، الاسم الذي يأتي بعدها مبنياً على الفتح هو اسمها ، و( لا ) نافية للجنس ..
 
﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾
       أي لا يمكن أن يتصوَّر أي نوعٍ من أنواع الظلم أبداً ، تأخذ حقَّك الكامل ، فما دام هناك ميزان دقيق ، وعدالة فلا ظلم .
       أنا قلت لإنسان اليوم : تصوَّر لو أنك راكب مركبة والإشارة حمراء ، والشرطي واقف ، وشرطيان واقفان بجانبه على دراجتين ، وسيارة فيها نقيبان من الشرطة ، فهل تمشي والإشارة على الأحمر ؟ مستحيل ـ وأنت مواطن عادي طبعاً ـ لا تمشي ، لأن الذي أصدر هذا القانون يطولك بعلمه ، وتطولك أيضاً بقدرته ، هناك حجز ، وغرامة كبيرة ، فأنت مع إنسان إذا أيقنت أنك لن تفلت منه تطيعه ، فليت الإيمان بالله يرقى إلى مستوى الإيمان بإنسان أمامك قوي ، مع إنسان من بني جلدتك لن تتخطَّى الإشارة الحمراء ، ما دام الإنسان يحاسبك حساباً عسيراً ، فإذا أيقنت بوجود الله ، أيقنت أنه سيحاسب ، لأن الآية الكريمة :
 
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ﴾
 
احذر فإن علم الله وقدرتَه يطولانِك :
 
       لماذا ؟
 
﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12) ﴾
(سورة الطلاق)
       ذكر اسمين من أسمائه ، له تسعةٌ وتسعون اسماً ، ما ذكر إلا اسمين ، لأن هذين الاسمين يكفيان كي تستقيم على أمر الله ، إذا أيقنت أنه يعلم ، وسيحاسب ، انتهى الأمر ، لابدَّ من أن تصدق ، نسخة من البيان أرسلت إلى الماليَّة ، سألوك : ما الذي استوردته في هذه السنة ؟ أنت تعرف أن هناك نسخة عندهم ، فلا يمكن أن تكذب أبداً ، لأنك لو كذبت ستُكْشَف فوراً ، إذا أيقنت أن الله يعلم ، وأنه سيحاسب فلابدَّ من أن تستقيم على أمره .
      يا أيها الإخوة الكرام ، إذا كان للإنسان معصية مقيم عليها فلابدَّ أن في إيمانه خللاً ، أن يقينه بعلم الله ضعيف ، أو أن يقينه بمحاسبة الله ضعيف ، لو أيقن يقيناً قطعيًّا أن الله يعلم ، وسيحاسب لا يعقل أن يعصي الله عزَّ وجل .
      الآية دقيقة جداً :
 
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا ﴾
       أي أن علَّة وجودكم أن تعلموا ..
 
﴿ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12) ﴾
( سورة الطلاق )
       يعلم ويقدر ، أي أنه يعلم وأنت في قبضته ، مستحيل تعصيه ، فإذا عُصِيَ الله عزَّ وجل فلضعفٍ في إيمان الإنسان إن بعلمه أو بقدرته.
 
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
 
ماذا أترك ورائي من عملٍ بعد الموت ؟
 
       اسأل نفسك : ما نوع الكسب الذي أكسبه ؟ ما نوع العمل الذي ألقى الله به ؟ إذا ذُكِر اسمي بين الناس ماذا يقال عني ؟ أحياناً يقال : فلان أكبر دجَّال ، فلان ليس نظيفًا ، فلان سارق ، هذا عمله ، فلان ابن حرام ، فلان مؤذٍ ، فلان كذَّاب ، هذا يسموه بادئ الرأي ، أي النظرة الأولى ، فكل إنسان له عمل ، باستقامته وبحرصه على طاعة الله يلمع اسمه في سماء المعرفة ..
 
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) ﴾
(سورة الشرح)
       عندما تتقصَّى طاعة الله عزَّ وجل فلها مكاسب كثيرة في الدنيا ، منها أن الله سبحانه وتعالى يرفع شأنك ، صار لك مكانتك العالية ، لك هيبتك ، محبوب ، والبطولةلا أن تمدح في حضورك ، بل أن تمدح في غيبتك ، فعلامة العمل الطيِّب أن الناس يثنون عليك في غيبتك.
 
﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾
هذه ( لا ) نافية للجنس ..
 
﴿ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
 
إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
 
      سريع الحساب : لأن الحساب طويل يحتاج إلى جهد جهيد ، لكن ربنا عزَّ وجلكن فيكون ، والآن اخترعوا أجهزة تعطي حساباً سريعة ، يقول لك : قفزة نوعيَّة في الحسابات ، ربنا عزَّ وجل سريع الحساب ، كل شيء جاهز ..
 
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾
 
وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ
 
بقيت آيةٌ واحدة ، وهي قوله تعالى :
 
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ﴾
1 ـ يَوْم الْآزِفَةِ :
 
      سُمِّي يوم القيامة يوم الآزفة من الفعل أزِفَ أي اقترب ، كل آتِ قريب ، طبِّقوا هذا أول رمضان ، بقي عليه ثلاثون يوما ، تمضي الأيام سراعاً ، ويأتي العيد ، العيد الكبير بقي عليه شهران وعشرة أيام ، تمضي الأيام سريعاً ، يأتي العيد الأضحى ، دخلنا في الصيف ، صيف وحر ، يأتي الشتاء ، تركِّب المدافئ ، ترتدي المعاطف ، وأنت في الشتاء يأتي الصيف ، كنا بالسبعينات ، أول سنة الثمانين ، ألف وتسعمائة وثمانون ، مضت الثمانينات ، الآن بالتسعينات ، مازال هناك عام الألفين وما بعده ، وهكذا تمضي الحياة ، الوقت من خصائصه أنه يمضي سريعاً .
       فليسأل الواحد منا نفسه : كيف مضت هذه الأربعون سنة ؟ هذه الخمسون ، هذه الخمسة والثلاثون ؟ يقول لك : البارحة كنا صغارًا، والإنسان يقول : يا ولد لا تحتاج إلى هذا ، معنى هذا أنه ولد ، ولا يزال يرى نفسه صغيرا ، الأيام تمضي سريعاً ، الموت على الطريق ، محطَّة ، والقطار ماشٍ ، والموت آخر المحطَّة .
     إذا ركب الرجل قطار الزبداني ، انطلق من محطة الحجاز ، دخل في منطقة الوادي ، بعد هذا وقف القطار تفضلوا بالنزول ، آخر المحطَّة ، ما دمنا متحرِّكين والهدف ثابت فكل متوَّقعٍ آت ، فربنا عزَّ وجل سمَّى يوم القيامة يوم الآزفة ، لأنها تأتي قريباً ، أحياناً تجد نعيًا واحدا على الجدران ، انتهى ، كتاب وانطوى ، قصَّة وانتهت ، كان شخصا صار خبرا على الجدران ، انتهى ، وبقي عمله ، الآن الموت ، البرزخ ، ثم يوم القيامة ، فالإنسان لا يغتر بالدنيا ..
 
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ﴾
سُمِّيَت الآزفة لأنها قريبةٌ جداً ..
 
﴿ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ﴾
 
2 ـ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ
 
من شدَّة الخوف ..
﴿ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾
 
3 ـ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ
 
     ما من إنسان له معك علاقةً حميمة بإمكانه أن ينقذك ، وليس هناك شفيعٌ يشفع لك عند الله عزَّ وجل في العمل السيئ الذي اقترفته ، انظر للآية فما أوضحها ..
 
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾
     لو أن إنسانًا ـ كما أقول هذا كثيراً ـ استطاع أن ينتزع من فم النبي عليه الصلاة والسلام حكماً لصالحه ، وهو ليس محقًّا ، لا ينجو من عذاب الله ـ انتزعه من رسول الله ـ فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا )) .
[ متفق عليه ]
       لا تنجو ، فلا أحد يتَّكئ على أشخاص ، ولا على نَسَب ، ولا على قرابات ، نصيحةٌ لوجه الله ، إيَّاك أن تعتمد على نسب ، ولا على قرابة ، ولا على ولاء ، ولا على اتصال ، لو أن لك صلةً بالنبي عليه الصلاة والسلام ما بعدها صلة ، وانتزعت من فمه الشريف حكماً لصالحك ، ولست محقًّا بكلامك لا تنجو من عذاب الله ، فما قولك ؟
 
﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾
 
      عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا ، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ ، وَيَعْرِفُونِي ، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، فَأَقُولُ : إِنَّهُمْ مِنِّي
 
 ، فَيُقَالُ : إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ، فَأَقُولُ : سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي )) .
[ متفق عليه ]
      عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ ، وَلَيُرْفَعَنَّ مَعِي رِجَالٌ مِنْكُمْ ، ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي ، فَأَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَصْحَابِي فَيُقَالُ : إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ )) .
[ متفق عليه ]
      فكذلك الآن في الدنيا إذا تلبَّس إنسان بمشكلة كبيرة فيها مساس بأشياء كبرى في حياتنا ، تجد أن كل الوسطاء ينسحبون ، يقولون لك : لا نقدر ، هذه شيء فوق طاقتنا  ، وهذا في الدنيا ، كموضوع مخدِّرات أو غيره ، فالكل ينسحبون ، يجب أن يلقى العقاب العادل ، فكيف مع الواحد الديان ؟
 
﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾
 
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب