سورة فصلت (41)
الدرس (6)
تفسيرالآية (33)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس السادس من سورة فصِّلت ، ومع الآية الثالثة والثلاثين ، وهي قوله تعالى :
﴾ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
1 ـ المؤمن والداعية إلى الله حقيقة صفتُهما الاستقامة :
أيها الإخوة الكرام ، من خلال الآية السابقة والآية اللاحقة يتضح أن هناك مؤمنًا مستقيمًا ، وأن هناك داعيةً إلى الله ذا عملٍ صالح ، وأنه لن يكون الإنسان مؤمناً إلا إذا استقام على أمر الله ، ولن يكون داعيةً مخلصاً إلا إذا عمل صالحاً ، أي جسَّد بسلوكه ما دعا إليه بلسانه .
على كلٍ ، فبعض المفسِّرين يقولون حينما قال الله عزَّ وجل :
2 ـ كل كلام سوى الدعوة إلى الله لغوٌ باطلٌ :
كأن في هذه الآية إشارةً إلىأن كل كلامٍ لغوٍ أو باطلٍ ، أو كل كلامٍ يدعو إلى الرذيلة أو يدعو إلى إفساد ذات البَيْن ، أو أن كل كلامٍ يدعو إلى عبادة غير الله عزَّ وجل ، أو إلى أن أيّ كلامٍ يدعو إلى البعد عن دين الله عزَّ وجل هو كلامٌ باطلٌ لا قيمة له ، لكن الكلام الحَسَن هو أن تتعرَّف إلى الله عزَّ وجل ، وأن تدعو إليه . ففي هذه الآية إشارةٌ إلى بطلان كلامه ، وإلى تفاهة موضوعاته ، ثم يقول الله عزَّ وجل :
3 ـ لا رجلَ أحسنُ قولاً من الداعية الخاضع لله :
طبعاً هذا استفام تقريري ، أي ليس في الأرض كلِّها رجلٌ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله.
من خصائص الدعاة إلى الله :
1 ـ الاستجابة لأمر الله :
والحقيقة قبل أن تدعو إلى الله ينبغي أن تستجيب له ، فإذا استجبت له ، وطبَّقت أمره ، وانتهيت عما عنه نهى ، وأردت أن تنقل هذه المعرفة للآخرين الآن ترتقي إلى مستوى الدعوة إلى الله .
2 ـ الاهتداءُ وعدمُ ابتغاءِ الدنيا :
على كلٍ فهناك آيات كثيرة في كتاب الله تبيِّن شروط هؤلاء الدعاة إلى الله الصادقين ، فمن هذه الآيات :
﴿قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21) ﴾
(سورة يس)
فالذي يدعو إلى الله بصدق وإخلاص ، لا يرجو ثواباً ، ولا مديحاً مادياً ولا معنوياً ..
﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21) ﴾
3 ـ الصبرُ :
ومن خصائص الدعاة إلى الله الصادقين كما أشارت إليه هذه الآيات الكريمة :
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾
(سورة السجدة : من الآية 24)
فالذي لا يصبر على ابتلاء الله عزَّ وجل ليس أهلاً لأن يكون داعيةً إلى الله عزَّ وجل ، لابدَّ من أن يبتلى الداعية فيصبر ، ولابدَّ من أن تُكشف حقيقته فيصبر .
إذاً : عدم طلب الأجر ، والصبر علامةٌ وخصيصةٌ من خصائص الدعاة إلى الله الصادقين .
4 ـ الطاعةُ :
ثم إن الطاعة ..
﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾
(سورة البقرة : من الآية 124)
إذاً : التزام الأمر والنهي ، والصبر على ابتلاء الله عزَّ وجل ، والترفُّع عن الدنيا بكل أنواعها هذه خصائص الدعاة الصادقين .
5 ـ العلمُ مع التمحيص :
عنصر آخر من عناصر الدعوة إلى الله :
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 18)
أي إذا شهدت للناس بأسماء الله الحسنى ؛ عدالته ، ورحمته فهذا دليل العلم الصحيح ، أما إذا كان العقل نَصِّيَّاً ، أي دون أن تمحِّص النص ، ودون أن تدرسه ، وأن تجعله منسجماً مع مقاصد الشريعة ، نقلت ما سمعت دون تمحيص فهذا ليس علماً ، إنما هو نقلٌ ، وفي النقل صوابٌ وخطأ .
إذاً :
﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾
يجب أن تبيِّن للناس حقيقة الذات الكاملة ، ذات الأسماء الحسنى والصفات الفُضلى .
6 ـ خشيةُ اللهِ وحْدَه :
ومن آيات الله الأخرى التي تصف لنا الدعاة الصادقين هي قوله تعالى حينما يتحدَّثُ عن الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل ، فيقول في الآية الكريمة :
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ ﴾
(سورة الأحزاب : من الآية 39)
أي أن خشية هذا الداعية لله عزَّ وجل هي الصفة الجامعة المانعة ، لأن الداعية لو خشي غير الله عزَّ وجل فتكلَّم بالباطل إرضاءً لمن خشيه ، أو سكت عن الحق إرضاءً لمنخشيه ، فماذا بقي من تبليغه رسالات الله عزَّ وجل ؟
إذاً : الله عزَّ وجل في كتابه بيَّن هؤلاء الذين يدعون إلى الله ، أولاً : تطبيقهم لأمر الله ، ثانياً : صبرهم على ابتلاء الله ، ثالثاً : ابتغاؤهم وجه الله عزَّ وجل ، رابعاً : ترفُّعهم عن المكاسب الدنيويَّة ، خامساً : عدم خشيتهم من غير الله عزَّ وجل ، سادساً : معرفتهم بالله المعرفة الصحيحة .
إذاً : هذه الصفات التي جاءت في آياتٍ متفرِّقة من كتاب الله .
على كلٍ هنا :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
احذر أيها الداعيةُ أن يخالف قولُك فعلَك :
دعا إلى الله بلسانه ، وعمل صالحاً بسلوكه ، فالإنسان نقَّادٌ بارع ، فإذا نظر المدعوون إلى الداعي ، ورأوا مسافةً بين أقواله وأفعاله لم يعبؤوا بهذه الدعوة ، فتسقط من أعينهم ، أما إذا تطابقت الأفعال مع الأقوال ، وجاء الكلام مطابقاً للحال ، وكان السلوك موافقاً للتبليغ ، فهذه النقطة الدقيقة جداً التي إذا توافرت في الداعية حقَّق نجاحاً كبيراً ، ولذلك فمن بعض الدعاة الصادقين من ينصح زملاءه الدعاة : " احذر أن يراك المدعو على خلاف ما تدعوه " ، وهذا هو التوافق الدقيق .
الآية الأولى :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
خصيصة البيان بين الاستعمال الحسن والاستعمال السيّئ :
هنا علامة الإيمان الصادق ، استقامتك على أمر الله ، هنا علامة دعوتك الصادقة ، صلاح عملك ، فليس على وجه الأرض إطلاقاً إنسانٌ أنجح ، ولا أفلح ، ولا أكثر فوزًا ممن دعا إلى الله ، أي أن هذا النشاط الكلامي ، وهذا النطق الذي كرَّم الله به الإنسان ..
﴿الرَّحْمَانُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) ﴾
(سورة الرحمن)
فهذا الكلام ، وهذا الجهاز ، والحنجرة ، والرئتان ، واللسان ، ومخارج الحروف ، واللغة ، والمعلوماتوالقدرة البيانيَّة في الإنسان كيف يستخدمها ؟ وما المضمون الذي يستخدمها من أجله ؟ ما الأهداف ؟ فربنا عزَّ وجل يبيِّن أن البيان تلك الخصيصة التي خصَّ بها الإنسان ، البيان ..
﴿الرَّحْمَانُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) ﴾
فهذا البيان ، وتلك الخصيصة النادرة التي خصَّ الله بها الإنسان ، ما من موضوعٍ يسمو بها ، وما من نشاطٍ ترقى به ، وما من أسلوبٍ تفوز به كأن تدعو إلى الله .
إنّ آلة غالية جداً إن لم يكن مضمونها مضموناً ثميناً ، فعندئذٍ هذا المضمون التافه يشوِّه هذه الآلة ، فاللغة قوالب ، فإن وضِعَ في هذه القوالب مادَّةٌ رخيصةٌ قذرةٌ سيئةٌ هذه المادة أضرّت بالقالب ، أما إذا عُبِّئت هذه القوالب الثمينة بمضمون ثمين فهذا شيءٌ يسمو بها ، ويرقى بها .
هذه القدرة علىالبيان ، وهذه طلاقة اللسان ، البيان الذي خصَّ الله به الإنسان إنه ميزةٌ ثمينة كبيرة ، فإذا كان المضمون غيبةً ، ونميمةً ، وفسقاً ، وفجوراً ، وحديثاً تافهاً ، ولغواً ، وحديثاً عن الشهوات ، أو إيقاعاً بين الإخوة ، أو تأريثاً للأحقاد ، فكل هذه الموضوعات تزري بهذه القوة البيانيَّة التي أودعها الله بالإنسان .
اللسان طريق إلى الجنة أو "ريق إلى النار :
حينما تشعر أن كلامك جزءٌ من عملك ، أو أن من أعمالك كلامك ، " يا رسول الله أو نؤاخَذ بما نقول ؟ " قال عليه الصلاة والسلام :
((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ ، أوْ على مَناخِرهِم إلاَّ حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ )) .
( مسلم عن معاذ رضي الله عنه)
ألم يقل عليه الصلاة والسلام :
((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ )) .
( مسند أحمدعن أنس بن مالك)
ألم تقل السيدة عائشة رضي الله عنها لأختها صفيَّة : " قصيرة " فقال :
(( لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ )) .
( الترمذي عن عائشة )
ألم يقل الله عزَّ وجل :
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ﴾
(سورة إبراهيم : من الآية 24)
فبكلمة قد تُحْيي نفساً ، وإنك إن أحييت نفساً أحييت نفوساً ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ، وبكلمةٍ سيئةٍ قد تفسد نفساً ، وإذا أفسدتها أفسدت جيلاً ..
﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ(26) ﴾
( سورة إبراهيم )
أيها الإخوة .
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا فَيَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا )) .
(من سنن ابن ماجة عن أبي هريرة )
(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لا يُلْقِي لَهَا بَالا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ )) .
(من صحيح البخاري عن أبي هريرة)
(( الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ )) .
(من صحيح البخاري عن أبي هريرة)
بادئ ذي بدء يجب أن تعلم أن هذا اللسان قد يقودك إلى الجنَّة ، وقد يقود صاحبه إلى النار ..
احفظ لسانك أيها الإنســانُ لا يلـدغنَّك إنـه ثعـبانُ
كم في المقابرِ من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعانُ
***
قبل كل شيء من أكبر نشاطات الإنسان كلامه ؛ كلامه في البيت ، وفي الطريق ، ومع جيرانه ، وزملائه ، وفي لهوه ، وحُزنه ، وفرحه ، وسفره ، وفي بَيعه وشرائه ، ومع أصدقائه ، فالمؤمن أبرز ما فيه أنه منضبط اللسان ، كلماته موزونة ، وكلماته منضبطة بأمر الله ونهيه ، حتى إن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يتمنَّى أن تكون له رقبةٌ كرقبة الجمل ليزن الكلمة قبل أن تخرج على لسانه بمراحل فسيحة ، فكأن الله عزَّ وجل في قوله تعالى :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً﴾
تعريضٌ بالأأقوال السيئة : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً
معنى هذا أن هناك من يسيئ القول ، وهناك من يستخدم هذه القدرة البيانيَّة ، هذه الخصيصة التي خصَّ الله بها الإنسان ، فهناك من يستخدم في التعبير اللغة في غير ما وَضِعتْ له ، ودائماً وأبداً أقول لكم : الحظوظ التي خصَّها الله الإنسان ؛ البيان ، والذكاء ، والوسامة والغنى والصحة ، فهذه الحظوظ إما أن ترقى بك إلى أعلى عليين فهي درجاتٌ ، وإما هي دركاتٌ تهوي بها إلى أسفل سافلين .
إنّ الإنسان الذي أوتي طلاقة لسان فهذا يحاسب حساباً خاصَّاً ، كان من الممكن أن يرقى بقوَّته البيانيَّة وطلاقة لسانه إلى أعلى عليين ، هذا الذي أوتي مالاً كان من الممكن أن يرقى بماله إلى أعلى عليين ، هذا الذي أوتي قوّةً فبإمكانه أن يزيل بها المُنكر ، وأن يحقَّ بها الحق ، وكان من الممكن أن يرقى بها إلى أعلى عليين ، فالحظوظ التي ينالها الإنسان من الله عزَّ وجل يمكن أن ترقى به ويمكن أن تهوي به .
فأول معنى في هذه الآية ، كأن الله عزَّ وجل يعرِّض بالأقوال السيئة ، واللغو ، والحديث عن الدنيا ، والحديث في الموضوعات السخيفة ، وفي الموضوعات اليوميَّة ، والحديث الفارغ ، والكلام الذي لا طائل منه ..
﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) ﴾
(سورة المؤمنون )
كأن الله يزري بهؤلاء الذين يستخدمون هذه القدرة البيانيَّة في موضوعاتٍ لا ترضيه ، فكيف إذا استخدمت اللسان في الغيبة ، النميمة ، والفحش ، والبذاءة ، والسُباب ، والسخريَّة ، والتهكُّم ، والإفك ، والافتراء ، والإيقاع بين الناس ، وفي تأريث العداوة والبغضاء بينهم ، وفي شق الصفوف ، وكيف إذا استخدمت هذا ؟ كأن هناك كلامًا يسبِّب لصاحبه هلاكاً ، وهناك كلامًا يسبِّب لصاحبه خسارةً ، وهناك كلاما يرقى بصاحبه .
والكلام في المباحات ؛ ما اغتاب ، ولا نمّ ، لكنه تحدَّث في أمور الدنيا الزائلة ، في أمور لا تنتهي،ولا قيمة لها ، وهي ماضية ، وحجمها صغير ، وهناك أناسٌ كثيرون يمضون سهراتٍ طويلة في الحديث عن الدنيا ، في الحديث عن طعامها وشرابها ، في الحديث عن متعها المُباحة ، هذا الحديث ربَّما جرَّ لصاحبه إلى ضياع الوقت ، والوقت ثمين ، والإنسان بضعة أيَّام ، فكلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه ، ولكن أشرف حديثٍ ، وكلامٍ ، ودعوةٍ ، ونُطْقٍ أن تدعو إلى الله .
يمكن أن تدعوَ إلى الله بمثل هذا :
كلمة ( دعا ) واسعة جدا ، فيمكن أن تدعو إلى الله عزَّ وجل إذا بيَّنت آيات الله الكونيَّة ، هذه دعوةٌ إلى الله ، لأنك تضع أمام الناس عظمة الله من خلال خلقه ، تضعها بينأيديهم ، وكأنهم أمامَ عظمة الله عزَّ وجل ، فإذا بيَّنت للناس آيةً من آيات الله الكونيَّة الدالَّة على عظمته فهذه دعوةٌ إلى الله .
وإذا بيَّنت للناس آيةً قرآنيَّةً دقيقة المعنى ، دقيقة الأسلوب ، فيها حكمٌ دقيق ، وقانونٌ يسعد صاحبه ، فهذه دعوةٌ إلى اللهعزَّ وجل .
وإذا بيَّنت سنة نبيِّ الله صلى الله عليه وسلَّم ، وقد بيَّن القرآن ، فهذه دعوة إلى الله عزَّ وجل .
إذا بيَّنت الأحكام الفقهيَّة التفصيليَّة التي إذا طبَّقها الإنسان سعد في الدنيا والآخرة فهذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل .
وإذا قصصت على الناس قصَّة رجلٍ مؤمنٍ عظيمٍ طبَّق أمر الله فسعد في دنياه وأخراه فهذه دعوة إلى الله عزَّ وجل .
وكلام ربنا واسع ، كلام ربنا حمَّال أوجه ، فأنت إن بينت للناس آيةً كونيَّةً ؛ في الآفاق ، أو في أنفسهم ، أو آيةً قرآنيَّةً ، أو تكوينيَّةً ، وشيئاً منأفعال الله عزَّ وجل ، وربطته بالموعظة والعظة ، إذا بيَّنت سنة النبي ، وسيرته ، وأحكام الفقه ، وسيرة العلماء الصالحين الصادقين ، فكل هذه الموضوعات ترسِّخ في الإنسان حبَّ الله ، وحبَّ رسوله ، وحب شرعه ، ليس المطلوب أن تأخذ خطا واحدًا ، وأن تجعل كل الوقت فيه ، لكن نوِّع في كلامك ..
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾
إنّ الإنسان بحاجة إلى آيةٍ كونيَّةٍ تملأ عقله ، وبحاجةٍ إلى آيةٍ قرآنيَّةٍ تغذِّي فؤاده ، وبحاجةٍ إلى آيةٍ تكوينيَّةٍ ليفلسف أفعال الله عزَّ وجل ، فعل الله متوافقٌ مع حكمته ، ورحمته ، وعدالته ، وقدرته ، فالله جلَّ جلاله يبدو تارةً قوياً عزيزاً ، وتارةً رؤوفاً رحيماً ، وحينا حكيماً عليماً ، وحينا خبيراً ، فإذا ربطت أفعال الله بأسمائه فهذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل .
فأنا أعطيكم الخيارات الواسعة ، ثمّ أتحب أن تبيِّن عظمة الله من خلال خلقه ، هذه دعوة إلى الله ، أم تحب أن تبيِّن عظمة الله من خلال قرآنه ؟ فهذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل ، أتحب أن تبين عظمة الله من خلال أفعاله ؟ فهذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل ، أتحب أن تبيِّن عظمة الله من خلال عصمة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ؟ بيَّنت سنته القولية والفعلية فهذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل ، أتحب أن تقدِّم نماذج للمؤمنين الصادقين الذين تغلغل الإيمان في كيانهم جميعه ، فجعلهم أناساً متميزين بأخلاقهم ، وعلمهم ، ورهافة حسِّهم ؟ فهذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل ..
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾
أنا أعجب من إنسان مع أهله في بيته ، ومع أصدقائه في نزهاته ، بأفراحه ، وأحزانه النشاط الأول في كل هذه اللقاءات هو الكلام ، وهل سمعت أناساً يذهبون إلى نزهةٍ وهم صامتون ؟ مستحيل ، هل سمعت أناساً يُدعون إلى طعامٍ وهم صامتون ؟ كلُّهم يتكلَّم ، فهذا النشاط الأكبر والأول في حياة الإنسان الكلام أو الحديث ، وهذا النشاط إما أن ترقى به إلى أعلى عليين ، وإما أن يهوي الإنسان به إلى أسفل سافلين ، فكلمة لا تلقي لها بالاً يهوي بها الإنسان في جهنَّم سبعين خريفاً ، وكلمة من رضوان الله عزَّ وجل تهدي بها نفساً ، وهذه النفس تهدي الآخرين ، من خلال هذه الكلمة الطيِّبة رأيت مجتمعاً طيِّباً ، كيف أن بذرة التين التي لا تزيد على رأس دبوس قد تصنع غابةً ، فالبذرة تصنع الشجرة ، والشجرة تصنع الثمار ، والثمار فيها بذور ، والبذور تصنع أشجارًا ، وهكذا .
كأن الله سبحانه وتعالى يجذب نظرنا ، أيها الإنسان المكرَّم الذي أعطيتك هذا النشاط البياني ، القدرة على الكلام ، الحديث ، والتعبير عن أفكارك وعن مشاعرك ، والاتصال مع الآخرين اتصالا لغويا ، فهذا النشاط الأول أفضل استعمالٍ له أن تدعو إلى الله ، وأنت حرٌ في ذلك ، فأنت أمامك خيارت كثيرة ، خذ أي خط ؛ وخط العلم ، خط القرآن ، فالتجويد دعوة إلى الله ، والتفسير دعوة إلى الله ، واستنباط الأحكام الفقهيَّة من كتاب الله والحديث وعلم الحديث و متن الحديث وأصول الفقه وأحكام الفقه والفقه المُقَارن كلها دعوةٌ إلى الله ، فأي علمٍ ابتغيت به وجه الله ، وأردت أن تقرِّب الإنسان به إلى الله هو دعوةٌ إلى الله ، والتنويع أفضل .
أنا أعجب أيضا ممن يحضر مجالس العلم ، ويستمع خلال سنوات طويلة إلى دروس تفسير ، وحديث ، وسيرة ، وفقه ، كيف لا يستغلُّ هذه المعلومات التي حصَّلها في سنوات طويلة في الدعوة إلى الله مع أهله ؟ وأولاده ، وزوجته ، وإخوانه ، وأصدقائه ، وجيرانه ، ومع من هم دونه ، ومن هم فوقه ، مباشرةً ، بالواسطة ، بكتاب ، بشريط ..
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾
الدعوة إلى الله وهداية الناس خيرٌ من الدنيا وما فيها :
هذا الكلام كلام الصحابة الكرام كلام دقيق جداً ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب سيدنا علياً كرَّم الله وجهه ، وهذا كلام نسمعه كثيراً ، ولكن شتَّان بين أن نسمعه وأن نردِّه ، وبين أن نطبِّقه ، قال عليه الصلاة والسلام :
((يا علي لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً ـ وفي رواية ـ لأن يهدي الله بك قلب رجل واحد خيرٌ لك من الدنيا وما فيها )) .
((فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ)) .
( متفق عليه عن سهل بن سعد )
((خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس )).
هناك شركات تجاريَّة عالميَّة قرأت مرَّة عنها ، فائضها النقدي الذي لا تدري له استثماراً ألفا مليون دولار ، وبعض الدول فائضها التجاري سبعون مليار دولار ، فهذه الدنيا فيها أموال ، وفيها شركات ، وفيها معامل ، ومتنزَّهات ، وأماكن جميلة جداً ، وطائرات ، وبوارج ، ويخوت ، وتجارات ، فقد يكون عند أحدهم محل في شارع تجاري رئيسي ، يقول لك : المتر ثمنه نصف مليون ، محلي خمسون مترًا ، تجده يزهو به ، ولو عنده على الصفين محلات ، ولو كان له كل هذا الشارع على جنبيه بكل طوابقه ؛ المستودعات ، ومكان البيع ، والمكاتب على الصفين ، فهذه الدنيا فيها شركات لها رأسمال فلكي ، هذه هي الدنيا ، فإذا صدَّقت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول : (( يا علي ، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها )) .
تصوَّر هذه الشركات الكبرى في العالَم التي توازي ميزانيَّتها ميزانيات دول ، وهذه الفنادق الكبرى التي لها دخل فلكي ، لو أن لك أحد هذه الفنادق ، وهديت رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها ، دقِّقوا في كلام سيدنا رسول الله لأن هذا المال كلُّه ينتهي عند الموت ، لكن هداية هذا الإنسان تسعد به إلى أبد الآبدين .
إن هذا يعني أن الإنسان إذا بذل جهدًا ، واعتنى بأخيه ، وأكرمه ، وزاره ، وتفقَّد أحواله ، وأعطاه شريطا ، وأعطاه كتيِّبا صغيرا ، وفسَّر له آية كريمة ، وفسَّر له حديثا شريفا ، ودعاه إلى المسجد ، ودعاه إلى الدروس ، وقدَّم له هديَّة ، واستمال قلبه ، واعتنى بأولاده حتى مال إليك هذا الإنسان ، ومال إلى مسجدك ، ومال إلى دروسك ، وسمع الدروس ، وائتمر بأمر الله ، وانتهى عما نهى الله عنه فصار إنساناً مؤمناً ، والله الذي لا إله إلا هو هذه أعظم تجارة .
ألا ترى معي أن الذين يملكون الملايين ؛ ترك ألف وثمانمائة مليون ، ولكنه ترك معه الملهى فيه كل المنكرات ، ألا ترى أن هؤلاء الذين يملكون آلاف الملايين إذا ماتوا فقدوا كل شيء ، وأنهم قدموا على كل أنواع العذاب ؟ وأن الذي ترك هذه الدعوة إلى الله ، وتلك الهداية ، واحد فقط ـ (( يا علي ، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها )) ، أليس للإنسان أخ ؟ أو صديق ؟ أو جار ؟ أو ابن ؟ أو ابن ابن ؟ أو عنده بالمحل موظَّف ؟ أو إنسان يعمل تحت إمرته يمون عليه ؟ هذا الذي تنتفع بخبرته ، وتنتفع بجهده ، وتنتفع بعطائه ولا تنفعه بعلمك لقد خُنْتَهُ .
لو عندك معمل فيه ثمانون عاملا ، وهؤلاء العمال هم بيدك ، ودخلهم وإكرامهم بيدك ، ألا ينبغي أن تدلَّ هؤلاء على الله عزَّ وجل ؟ وأنت بوظيفتك ، وعملك ، وعيادتك ، ومكتبك ، وبيتك ، ودكَّانك وأنت واحد فقط ، اسع لهداية واحد هداية صحيحة ، قال له : أسْلِم ، قال : ماذا أقول ؟ قال له : والله لا أعرف ماذا تقول ، يجب أن تدلَّه على الله بشكلٍ صحيح ، أن تبني له أُسُسَاً فكريَّة و انفعاليَّة ، وسلوكيَّة ، فهذه هي الهداية ، وفاقد الشيء لا يعطيه .
حركةُ اللسان الدعوية يلزمها العلمُ والخلق الحسنُ :
أول شيءٍ اطلب العلم الصحيح ممن تثق بعلمه وإخلاصه ، واطلب الدليل ، ولا تقبل شيئاً من دون دليل ، واطلب التعليل ، واقرأ كتاب الله ، وافهمه وحاول أن تفهم هذا الكلام العظيم ، واقرأ سُنَّة رسول الله ، وسيرته واسأل عن الأحكام الفقهيَّة .
اطلب العلم أولاً ، فإذا طلبت العلم وسجَّلته ، وحفظته في كتيِّب ، أو شريط ، أو ورقة ، وكل علم ليسفي القرطاس ضاع ، فإذا سمعت العلم وسجَّلته ، لمجرَّد أن تسجِّله فقد حفظته ، فإذا حفظته ملكته ، فإذا ملكته نشرته ، بمناسبات ، أو بالنزهات ، أو بالاحتفالات ، ومن فضل الله هذه البلدة كل احتفال فيها فيه إلقاء كلمات ، وهذه دعوة إلى الله ، وهل سمعتم في هذه البلدةالطيِّبة عقد قِرانٍ من دون إلقاء كلمة ؟ أبداً ، الآن حتى في الأحزان ، والتعزيات هناك إلقاء كلمات ، وفي النُزهات ، وفي الاحتفالات أيضًا ، فمجال الدعوة إلى الله واسعٌ جداً .
المؤمن ـ أنا أقول هذا ، وأنا أعني ما أقول ، لا في الساعة ، ولا في الدقيقة ، بل في اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في القلب يعبِّر عن ذاته بالحركة نحو خدمة الخلق والدعوة إلى الحق ، لك حركتان : حركة في اللسان وحركة في اليد ، ودائماً تسعى لنفع الآخرين ، فالمؤمن يبني حياته على العطاء ، فأساس حياته العطاء ، والدلالة على الله عزَّ وجل ، يرقى بالناس بلسانه وبإحسانه ، إذاً هذا الكلام يعنينا جميعاً ، والله عزَّ وجل ذكر هذه الآية بأسلوبٍ مشوِّق ، أي ..
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ﴾
لم يقل : ادعوا إلى الله ، هذه الآية تقول :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ﴾
أي : ليس في عبادي جميعاً إنسانٌ أفضل ممن دعا إليَّ ، لكن قبل أن يدعو إليّ عليه أن يعرفني،وعليه أن يطيعني ، إذا عرفني وأطاعني ، ثم دعا إليَّ وفَّقته في دعوته ، والدعوة إلى الله لا تحتاج إلى ذكاء فقط ، ولا إلى علم فقط بل تحتاج إلى توفيق من الله عزَّ وجل ، لأنه : " ما أخلص عبدٌ مؤمنٌ إلى الله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودَّة والرحمة " .
قلوب العباد بيد الله ، فإذا عَلِم صدق عبادٍ جمعهم عليه ، وجذبهم إليه فالتفوا حوله ، وإذا علم كذب عبادٍ انفضوا من حوله ، ومع ذلك هناك آيةٌ قرآنيَّة دقيقةٌ جداً ، يقول الله عزَّ وجل مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلَّم ، وهو ـ كما أقول دائماً ـ سيِّد الخلق وحبيب الحق ، سيد ولد آدم النبي الأول ، الرسول المبلِّغ ، المعصوم الذي يوحى إليه ، يقول الله عزَّ وجل ، ومع كل هذه الخصائص ، وهذه الميزات ؛ ومع عصمتك ، وكرامتك ، وتفوُّقك ، وفرديَّتك :
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 159)
الداعية رأسماله الأخلاق العالية ؛ فرحمته ، وتواضعه ، وتسامحه ، أن يكون مع الناس في كل أحوالهم ، لا أن يترفَّع عنهم في برجٍ عاجي ، فالأنبياء يمشون في الأسواق ، عاشوا مع الخلق ، كيف يستطيع النبي أن يدلَّ الناس على الله إلا أن يكون معهم ؟ عاش معهم ، فالانسحاب من المجتمع ، والتقوقع ليس من صفات الدعاة الصادقين ..
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
والإمام الحسن رضي الله عنه كان إذا تلا هذه الآية :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
النبيُّ عليه الصلاة والسلام أولُ المَعْنِيِّين بهذه الآية :
قال : هذا رسول الله ، فالآية تشير إلى أنه رسول الله ، وهذا حبيب الله ، وهذا وليُّ الله ، وهذا صفوة الله ، وهذا خيرَة الله ، وهذا والله أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب إليه .
إذاً : بعض المفسِّرين فهم أن هذه الآية تعني رسول الله ، ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ؟ فأنتم أيها الكفَّار ـ يخاطب الله كفار مكَّة ـ الذين عارضتموه ، وكذَّبتموه ، وسفَّهتم دعوته ، ودعوتم إلى أصنامكم ، وإلى لهوكم ، وإلى طغيانكم ، وإلى ظلمكم ، أنتم أم هو ؟
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
الآية عامة لجميع المسلمين :
ومفسِّرون آخرون قالوا : هذه الآية عامَّةٌ في كل من دعا إلى الله، وبعضهم وسَّعها أكثر فأكثر فقال : هذه الآية تخصُّ كل مؤمن ، لأن المؤمن أحياناً يدعو إلى الله وهو ساكت ، قال له : عندك بيض طازج ؟ قال له : والله الذي عندي من يومين ، جاري أحضره الآن اذهب إليه ، شيءٌ يجذب النظر ، الصدق ، فقد يكون الرجل بائعا صغيرا لا يؤبه له يعلِّمك درساً في الصِدق، وهناك امرأةٌ أصابها جُذام ، فنهاها عمر أن تكون بين الناس لئلا تؤذيهم ، فاعتزلت الناس ، وقبعت في بيتها ، فلمَّا مات عمر رضي الله عنه قيل لها : اخرجي ، فالذي نهاكِ قد مات " ، قالت : " والله ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميِّتاً " .
يمكن أن تدعو إلى الله وأنت ساكت ، ولا كلمة ، باستقامتك ، بصدقك ، وتواضعك ، وامرأةٌ لها زوجٌ يملك مئات الملايين وليس على حق ، جرى خِلافٌ بينه وبينها فطلقها ثلاثاً وسافر ، وفي أثناء سفره توفَّاه الله ، فلمَّا جاءوا ليعطوها نصيبها من الميراث بمئات الملايين قالت : أنا مطلقَّة ، لقد طلقني قبل أن يسافر ، فأحياناً إنسانة صغيرة تعلِّمك درساً في الأخلاق ، والصدق ، والأمانة ، فالذي قال : تخصُّ كل مؤمن معه الحق ، لأن المؤمن مستقيم واستقامته طاهرة ، فاستقامة المؤمن لعفَّته ، غض بصره ، وحياءه ، وذمَّته الدقيقة ، وورعُه ، وسلوكه الظاهر هذا دعوة إلى الله .
لا يكن دورُك معاكسا لدور الداعية إلى الله !!!
أخطر شيء في الحياة أن يكون لك زِيٌ إسلامي ، أو وصفٌ إسلامي ، أو خلفيَّةٌ أو انتماءٌ إسلامي ، وأنت تؤذي الناس ، هذا الإنسان له دورٌ معاكسٌ للداعية إلى الله ، مُنَفِّرٌ من الله ، مُبْعِدٌ عن الله ، يقطع الناس عن الله،صار هناك من يدعو إلى الله ، وهناك من ينفِّر من الله ، هناك من يصل الناس بالله ومن يقطعهم عنه ، هناك من يحبِّب الله إلى عباده ، ومن يبغِّض الله إلى عباده ، لذلك أخطر شيء أن ترفع لافتةً إسلاميَّةً ، وأن تسيئ إلى الناس ..
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
1 ـ الإسلامُ حقيقةً لا شكلاً وكلاما :
أما : ﴿إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، أي أنك لا تتكلم بالعموميات ، والقيم الروحيَّة قل : أنا مسلم ، تمييع القيَم ، وجعلها تتسع لكل شيء ، هذه تعمية على الناس ، فلان لا يشرب الخمر ، فيتعلل بقوله : معدتي وأمعائي لا تتحمله ، قل : أنا مسلم لا أشرب الخمر ، بِسَذاجة ، فبيِّن أن هذه الأخلاق بسبب إسلامك ، لا تعزُ هذه الأخلاق إلى عادات أو تقاليد ، بل قل : أنا مسلم ، أنا أقف عند حدود الله لأني مسلم ، أمتنع عن قبض هذا المال لأني مسلم .
سمعت عن أحد الفلاسفة الفرنسيين الذين أسلموا حديثاً ـ روجيه جارودي ـ قال : قبل ثلاثين عاما في الحرب العالميَّة الثانية كُلِّف جندي مغربي أن يقتله لأنه أسير ، فأعلمه هذا الجندي أنه لا يقتله ، لأن إسلامه يمنعه من ذلك ، بقيت هذه الحادثة في نفسه ، واعتملت في فؤاده ثلاثين عاماً حتى نقلته إلى الإسلام ..
﴿وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
فإذا رأى الناس منك موقفاً شريفاً ، أو تصرُّفاً حكيماً ، أو تمنُّعاً عن طمعٍ مادي ، أو ترفُّعاً عن مكسبٍفيه شُبهَة لا تعز هذا إلى مزاجك ، ولا إلى طبعك ، ولا إلى تربيتك ، بل قل : هذا مما حرَّمه عليَّ الإسلام .
دائماً أبرز عظمة هذا الدين في سلوكك لتكون داعيةً إلى الله ، أما إذا قلت : هذه قيم روحيَّة عامة إذ عمَّمتها ، أو أخلاق ، أو هذه أخلاق بلدنا ، أو هذه أخلاق أسرتنا ، فأنت ضيَّعت الناس ، بل قل هذه أخلاق المؤمن ، وهذه أخلاق الإسلام ، الإسلام فعل كذا وكذا .
سمعت في بلد إسلامي أنه جاءت وزيرة زائرة ، فهناك موظَّف كبير لم يصافحها ، فغضبت أشدَّ الغضب ، فلمَّا طلبته : لمَ لمْ تصافحني ؟ قال : إن ديني يمنعني من ذلك ، قالت هذه الوزيرة البريطانيَّة : لو أن المسلمين أمثالك لكنَّا تحت حكمكم ، بيَّن لها : لم أصافح ، لأن ديني يمنعني من ذلك ، فعندما يقيم الإنسان شرع الله عزَّ وجل لا ينبغي أن يستحي به ، ولا ينبغي له أن يعزوه إلى عادات ، وتقاليد ، تربية ، أسرة ، أو بلد ، لا بل قل : هذا هو الإسلام ، لأن ديني يأمرني بذلك ، وينهاني عن ذلك ، ومن أجل أن تربط الحقائق بصاحب الحق ، وهذا معنى :
﴿دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
1 ـ علاقة الآية بما قبلها :
ما علاقة هذه الآية بالتي قبلها ؟ أي إذا كنت مسيئاً لا سمح الله فمهما ألقيت على الناس كلاماً رائعاً ، ومهما ألقيت عليهم حِكَمَاً رائعةً لطيفةً ، أو تفنَّنت في شرح النصوص ، أو تفنَّنت في تحليل النصوص ، مهما كانت التعليقات رائعةً كلُّها تسقط بسبب العمل السيئ ، بل إن صاحب العمل السيئ يكفر الناس بأقواله ولو كانت حقَّاً ، ولذلك وأنت تدعو إلى الله ..
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾
2 ـ الحسنة ترفع مستوى الدعوة إلى الله :
بالحسنة ترفع هذه الدعوة إلى القِمَم،وبالإساءة تضع هذه الدعوة في الأوحال ، فإذا أردت أن تضع دعوةً في الوحل فأسئ إلى الناس في أثناء الدعوة ، وإذا أردت أن ترفع دعوةً إلى القِمَم فكن محسناً ، وهذا معنى الآية الكريمة :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾
3 ـ إذا سقط الداعية سقط معه غيرُه :
أنت داعية ، وإنسان معروف بين أهلك ، وأنت مؤمن ، وإنسان معروف بالصلاح ، وإنسان معروف بانتمائك الديني ، وهويَّتك الإسلاميَّة ، وإنسان معروف بين مجتمعك أنك صاحب دين ، فإيَّاك أن تؤذي مخلوقاً ، لأن هذا الأذى يبطل دعوتك ، ويجعلها في الأوحال ، فقبل أن تُسيء إلى الناس ، وقبل أن تكذب ، وأن تأخذ ما ليس لك ففكِّر مليون مرَّة بأنك داعية ، وإذا سقطت سقطت معك الدعوة ، ألم يقل الإمام أبو حنيفة كرَّم الله وجهه لهذا الغلام الذي كاد يقع في حفرةٍ قال له : " يا غلام إيَّاك أن تسقط " ، فقال له الغلام : " بل أنت يا إمام إيَّاك أن تسقط ، إني إن سقطت سقطت وحدي ، وإنك إن سقطت سقط معك العالَم " .
أنا لا أرى غضاضةً في أن جزءاً من خيبة المسلمين ، من تخلُّفهم ، ومن ضعفهم أن حياتهم افتقدت المُثُلَ العُليا ، لأن المثل الأعلى له أهمية كبرى فما أهميته ؟ هو يعطيك الحقيقة مع البرهان عليها ، فيجب أن يكون في حياتك إنسان تثق بإخلاصه،ونزاهته ، وورعه ، وصدقه ، وليس له مصالح أبداً ، هذا الإنسان هو الذي يُنَمِّي فيك الخير ، وينمي فيك العطاء ، وهو القدوة الحسنة .
4 ـ هؤلاء الدعاة حقيقةً :
وجود النبي عليه الصلاة والسلام كان لأصحابه مثلاً أعلى ، كان معهم في سرَّائهم وضرَّائهم ، وكان مع أصحابه في سفر ، أرادوا أن يعالجوا شاةً فقال أحدهم : " عليَّ ذبحها ، وقال الثاني : عليَّ سلخها ، وقال الثالث : عليَّ طبخها " . فقال عليه الصلاة والسلام :
(( وعليَّ جمع الحطب " ، قالوا : " نكفيك يا رسول الله " ، قال : " أعلم ذلك ولكن الله يكره أن يرى عبده متميِّزاً على أقرانه )) .
( ورد في الأثر )
انتهى الأمر .
سيدنا الصديق ، ركب أسامة بن زيد الناقة ، وقد عيَّنه الرسول قائداً للجيش ، ومشى الصديق ، الشيخ الوقور ، خليفة المسلمين في ركابه ، قال: << يا خليفة رسول الله ، لتركبن أو لأنزلن " ، قال : " والله لا ركبت ولا نزلت ، وما عليَّ أن تَغْبَرَّ قدمايَ ساعةً في سبيل الله >> .
وسيدنا الصديق قبل أن يكون خليفة المسلمين وله جارةً يحلب لها الشياة ـ وهكذا من عادته ـ فلمَّا أصبح خليفةً توقَّعت هذه الجارة أن هذه الخدمة قد انقطعت ، لأنه ليس متفرِّغاً لمثل هذا العمل ، وفي صبيحة اليوم الأول من تولِّيه هذا المنصب طُرِقَ الباب ، وقالت : " يا بنيَّتي افتحي الباب " ، قالت : " جاء يا أمي حالب الشاة " ، جاء ليحلب لها الشياه ، فهذا الدين عظمته بالتطبيق .
والله أنا دائماً أقول : لو أن صحابة رسول الله فهموا الدين كما نفهمه نحن ، والله الذي لا إله إلا هو ما خرج الإسلام من مكَّة المكرَّمة ، لكنه أنه وصل إلى الآفاق ، وإلى المشارق والمغارب بفضل هذه الأخلاق الرفيعة ، والآن لا سبيل إلى أن نعود إلى ما كنا عليه إلا بتمسُّكنا ، فالناس سمعوا كلاماً ، ومحاضرات ، وكتبا ، وهم الآن بحاجة إلى مطبِّقين ، وإلى مُثُل عُليا ، وإلى أناس يطبِّقون ما يقولون ، فهذه الآية دقيقة جداً ، وتعني كل مؤمن .
5 ـ إنْ لم تكن داعية بلسانك فكن داعية بحالك وخلقك :
أول معنى : تعني رسول الله ، والمعنى الثاني : تعني كل داعية ، والمعنى الأعم والأشمل : تعني كل مؤمن ، وأنت إن لم يكن عندك طلاقة لسان ، ولم تقرأ كثيراً ، فكن صادقاً ، كن صادقاً في مهنتك ، وفي حرفتك ، وبيعك ، وشرائك ولا تكذب ، ولا تغشَّ الناس فتصبح داعيةً ، وأنت لا تدري ، وسيقول عنك الناس : فلان لا يكذب ، وهو صاحب دين ، وفلان أخلاقه عالية ، وكلمته كلمة ، وهو عفيف يؤمن على الروح ، وهذه هي الدعوة لله عزَّ وجل ، وبإمكانك من خلال استقامتك وعملك الصالح أن تكون داعيةً إلى الله ، وبإمكانك ـ وهذا أرقى ـ أن تدعو إلى الله بعملك ولسانك .
بينما أن هذه الآية كانت تخصُّ النبي عليه الصلاة والسلام ، إذا بها تخصُّ كل داعيةٍ ، ثم هي تخصُّ كل مؤمنٍ ، فإذا وفَّقك الله عزَّ وجل في كل العمر إلى هداية إنسانٍ هداية صحيحة دقيقة فقد وفِّقت إلى كل شيء ، وهذه الدنيا كلها لا تلتفت إليها ، لأنك تخسرها عند الموت جميعها مهما حصَّلت منها ..
﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {34} وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾
هذه الآيات إن شاء الله نعود إليها في الدرس القادم.
والحمد لله رب العالمين