سورة فصلت 041 - الدرس (8): تفسير الأيات (37 – 39)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة فصلت 041 - الدرس (8): تفسير الأيات (37 – 39)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 273 - مقبرة باب الساهرة2           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 11 - يد الله تعمل في الخفاء - د.عمر عبدالكافي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية-437-المسلم صاحب همة عالية-الشيخ صالح المعطان           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 392 - سورة المائدة 009 - 012           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي         

الشيخ/

New Page 1

     سورة فصّلت

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة فصلت ـ (الآية: 37 - 39)

07/01/2013 18:13:00

سورة فصلت (041)
 
الدرس (8)
 
تفسيرالآيات: (37- 39)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
         مع الدرس الثامن من سورة فصِّلت ، ومع الآية السابعة والثلاثين ، وهي قوله تعالى :
 
 وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿
 
 تذكيرٌ بما سبق :
 
     أيها الإخوة ، أولاً : حينما ذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين آمنوا بالله ، واستقاموا على أمره ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
       وبيَّنت لكم وقتها أن علامة صدق إيمانهم استقامتُهم ، هؤلاء الذين قَبِلوا الحق ، هناك مرتبةٌ أعلى من هذه المرتبة هم الذين نشروا الحق ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
         وبيَّنت لكم في الدرس الماضي أو قبل الماضي أن هؤلاء الذين دعوا إلى الله عزَّ وجل ، وطبَّقوا مضمون دعوتهم منطلقين من إيمانهم ، ومن إخلاصهم هم في قمة المجتمع البشري عند الله ، ولو كانوا عند الناس في أدنى درجة من درجات السُلَّم الاجتماعي ، هؤلاء الفريق الآخر .
       ثم يبيِّن ربنا سبحانه وتعالى لنا أن طريق إيمان هؤلاء ، وجوهر دعوة هؤلاء هو معرفتهم بالله عزَّ وجل ، إذا عرفت الله استقمت على أمره ، وإذا عرفت الله دعوت إليه .
       وطريق معرفة الله عزَّ وجل آياته ، لأن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ، ولكن خلق الكون ليكون الكون مظهراً لأسماء الله الحسنى وصفاته الفُضلى ، فإذا أردت أن تعرف عظمة الله عزَّ وجل ، علم الله ، رحمة الله ، خبرة الله ، قدرة الله ، إن أردت أن تعرف أسماء الله عزَّ وجل فهذا الكون ينطق ، وكل شيءٍ في الكون ينطق بوجود الله ، وبكمال الله ، وبوحدانيَّة الله .
        لذلك ربنا في سوره الكريمة كلَّما بيَّن حقيقةً بيَّن سببها ، أي إذا أردت أن تؤمن ، ومن ثمَّ تدعو فعليك بهذه الآيات ، لأنك إن فكَّرت فيها بدت لك عظمة الله عزَّ وجل .
     وكنت أقول دائماً : إن الكون أوسع بابٍ وأقصر طريق ، إذا أردت أن تقف أمام عظمة الله عزَّ وجل ، أما قدرة الله ، أما علم الله ، أمام رحمة الله ، أمام لطف الله فدونك الكون ، وحسبك الكون معجزة .
       إذاً : سياق هذه الآيات ، الآيات مترابطة ، ولو لم يبد لكم أدوات ربط ظاهرة ، في اللغة أدوات ربط ظاهرة ، لأنه كذا وكذا كان كذا وكذا ، وانطلاقاً من كذا نقول كذا ، هذه أدوات ربط ظاهرة ، ولكن مقاطع القرآن الكريم مترابطة أدقَّ الترابط ، مترابطة ومتناسقة أدقَّ التناسق .
        إذاً : بعد أن بيَّن لنا الفئة الأولى التي آمنت ، وكانت استقامتها علامة إيمانها ، والفئة الثانية التي دعت ، وكان عملها الصالح علامة صدقها في دعوتها ، بيَّن الله سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والدعوة إليه أساسه معرفة الله ، وطريق معرفة الله هذه الآيات الكونيَّة جاءت ..
 
 وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
 
﴿وَمِنْ
 
1 ـ النظر في الكون طريق لمعرفة الله :
 
        ومن هنا للتبعيض ، أي من بعض الآيات التي بثَّها الله في السماوات والأرض ، من بعض الآيات ، أما الحقيقة فإن الكون كلَّه بسماواته وأرضه، بمجرَّاته،بكازاراته ، بالكواكب الملتهبة ، بالكواكب المنطفئة ، بالأقمار ، بالأرض وبكل ما فيها من جبال ، من مسطَّحات ، من وديان ، من سهول ، من أنهار ، بحيواناتها ، بأسماكها ، بأطيارها ، بنباتاتها ، بأنسها ، بحقيقة الإنسان ، كل ما في الكون ينطق بوجود الله ، وبعظمة الله ، وبكمال الله ، ربنا يقول :
 
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ
 هل فكَّرت في هذا الليل ؟ يقول عليه الصلاة والسلام في بعض أقواله :
(( سبحان الله ، أين الليل إذا جاء النهار)) .
(من كنز العمال )
       كل شيء مظلم ، كل شيء ساكن ، يأتي النهار يتضح فيه كل شيء..
(( سبحان الله ، أين الليل إذا جاء النهار)) .
(من كنز العمال )
      أو أين النهار إذا جاء الليل ؟ الوحشة ، والخوف ، والقلق ، والسكون ، لو كنت في مكانٍ فسيح ، أو في غابةٍ ، أو في عُرض بحرٍ تأتي الشمس فتملأ الأرض ضياءً ، وحركةً ، ونشاطاً ، ونوراً ..
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ﴾
 
2 ـ الليل والنهار :
 
       لماذا هناك ليل وهناك نهار ؟ لأن هناك مصدرًا للضوء وهو الشمس ، لو أن الشمس انطفأت لما كان هناك ليلٌ ولا نهار ، إذا لم يكن هناك نهار فليس هناك ليل ، وبضدِّها تتميَّز الأشياء ، ومصدر الحرارة ، والطاقة ، والضوء ، والدفء من الشمس .
       إذاً : كلمة الليل تشير من طرفٍ خفي إلى الشمس ، وهذه الشمس وهذه الأرض ، لو أن هناك شمسًا وهناك أرضًا ، لولا هذه الدورة لما كان ليلٌ ونهار ، لو أن الأرض دارت هكذا على محورٍ موازٍ لمستوى دورانها حول الشمس ، لو دارت الأرض هكذا لما كان ليل ولا نهار ، نصفها المُقابل للشمس نهارٌ أبديٌ سرمدي ، ونصفها الآخر ليلٌ أبديٌ سرمدي ، لأن المحور ليس موازياً لمستوي دورانها حول الشمس كان الليل والنهار ..
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ ﴾
 
 تناسب الليل والنهار دليل على عظمة الخالق :
 
      لكن لو أن الأرض تدور كل ساعة دورة حول نفسها ، لكان الليل نصف ساعة واحدة ، لا نستريح ، نغلق المحلات ، ونأتي إلى البيت ، حتى يبدأ نهارٌجديد ، لو أن الأرض تدور حول نفسها كل خمسين ساعة دورة ، لصار الليل خمسا وعشرين ساعة ، فالإنسان إذا نام في وقت مبكِّر جداً ، واستيقظ الساعة الثانية عشرة يحتار ماذا يفعل ؟ فالناس كلهم نائمون ، لو كان الليل أطول من حاجة الإنسان للنوم أو أقلّ لاختلف نظام الأرض ، لكن سبحان الله ! طاقتك للعمل ثماني ساعات ، وحاجتك للنوم ثماني ساعات ، وثماني ساعات بين ذهاب وإياب ، وطعام وشراب ، وجلوس مع الأهل ، هذا تناسق تام بين سرعة دورة الأرض حول نفسها وجسم الإنسان ، هذا يؤكِّد أن الذي خلق الأرض بهذا الحجم ، وجعل سرعتها بهذه السرعة هو الذي خلق الإنسان .
        لو أن حجم الأرض كحجم القمر ، لكان وزن الإنسان على الأرض سُدس وزنه الحقيقي ، أي أن الذي وزنه ستين كيلوا سيزن عشرة كيلوات ، والوزن الخفيف أحياناً يكون مزعجًا جداً ، أي حركة صرنا في الهواء ، فوزنك يتناسب مع حجم الأرض ، لأن حجم الأرض يؤكِّد مستوى الجاذبيَّة ، فوزنك له علاقة بحجم الأرض ، وطول الليل له علاقة بسرعة الدوران حول نفسها .
 
3 ـ الفصول الأربعة :
 
       لو أن المحور هكذا عمودي على مستوى الدوران لانعدمت الفصول ، وإذا انعدمت الفصول انعدم النبات ، والنبات أحد أسبابه الفصول  .
       التأمُّل يضعنا أمام آياتٍ دالَّةٍ على عظمته ، فوزنك متعلِّق بحجم الأرض ، وطول الليل والنهار المتناسب أشد التناسب مع حاجتك للنوم والعمل متعلِّقٌ بسرعة دورة الأرض حول نفسها ، وميل المحور يجعل الفصول الأربعة ، ولولا هذا الميل لكان الصيف أبديا في نصف الكرة الأرضيَّة عند خط استوائها ، وفي طرفيها شتاءٌ أبدي ، أما بهذا الميل فالشمس عموديَّةٌ على قسمها الشمالي ، فإذا أصبحت في هذا المكان أصبحت عموديَّةً على قسمها الجنوبي ، إذاً : تبدَّل الصيف والشتاء والربيع والخريف يكون عبر مناطق الأرض .
       إنّ الإنسان بإمكانه إذا ذهب إلى قارة أمريكا ، بإمكانه وهو في شمال أمريكا أن يُعاين الثلوج المُتراكمة ، فإذا ركب الطائرة ، وطارت به إلى جنوب أمريكا يرى الناس يسبحون في البحار ، هناك صيف ، إذا كان عندنا شتاء ففي نصف الكرة الجنوبي صيف ، وحينما يكون عندهم الشتاء يكون عندنا الصيف .
     إذاً : لولا ميل هذا المحور ميلاً دقيقاً جداً لما كانت الفصول الأربعة ، فمن دورة الأرض حول نفسها ، وبمحورٍ غير موازٍ لمستوي دورانه حول الشمس يتشكَّل الليل والنهار ، ومن سرعة دورانها حول نفسها يتحدَّد طول الليل والنهار ، وميل محورها على العمود على مستوى دورانها يشكِّل الفصول الأربعة ، قال تعالى :
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
 
4 ـ الشمس والقمر :
     هذه الشمس التي تكبر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرَّة ، التي تزيد حرارتها عند سطحها على ستة آلاف درجة ، وقد تصل الحرارة في جوفها إلى بضعة ملايين درجة ، هذه الشمس التي يزيد طول لَهَبِهَا على مليون كيلو متر ، أحياناً في الكسوف التام يرسمون الشمس بأجهزة خاصَّة ، فإذا ألسنةُ لهبٍ تمتدُّ من محيطها ، هذه الألسنة يزيد طولها على نصف مليون كيلو متر إلى مليون كيلو متر ، وتكبُر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرَّة ، وتبعد عنها مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر ، يقطعها الضوء في ثماني دقائق ، ولا تنسوا أن من أبراج السماء برج العقرب ، ربنا قال :
 
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾
(سورة البروج)
       برج العقرب فيه نجوم كثيرة ، من هذه النجوم قلب العقرب ، هذا النجم الصغير يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، عندما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ قُلِ اِنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
(سورة يونس : من الآية 101)
       كيف تطيعه ؟ لابدَّ من أن تعرفه .
      مثل بسيط جداً : أنت الآن في حياتك الوظيفيَّة تندفع إلى تنفيذ الأمر بحسب نوع التوقيع ، قد يأمرك وأنت في الجيش عريف ، وهناك رقيب ، وهناك ملازم ، وهناك عقيد ، أما قائد الفرقة إذا أعطاك أمرا فإنّ استجابتك له تختلف ، هذا منطق الحياة ، كلَّما عظُم الآمر عظُم الأمر ، وعظمةُ الأمر من عظمة الآمر ، فإذا عرفت عظمة الآمر صار التطبيق سهلاً ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
(سورة فاطر : من الآية 28 )
       مرَّة قلت في بعض الدروس ، وأعيد هذا كثيراً : إنه بين الأرض وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئيَّة ـ اليوم احسبها بالآلة الحاسبة ـ كم تبلغ مسافة أربع سنوات ضوئَّية بالكيلو متر ؟ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو متر ، وبين الأرض والقمر ثانية ضوئيَّة واحدة ، في الدقيقة ضرب ستين ، في الساعة ضرب ستين ، في اليوم نضرب بأربع وعشرين ساعة ، في السنة ضرب ثلاثمائة وخمسة وستين ـ الثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربعة وعشرين ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، هذا ما يقطعه الضوء في سنة واحدة ـ هذا النجم الملتهب يبعد عنَّا أربع سنوات ضوئيَّة ، لو قسَّمت هذا الرقم على مئة كيلو متر وهو سرعة المركبة الأرضيَّة ، وقسَّمته على أربعة وعشرين ساعة ـ على يوم ـ ثم على ثلاثمائة وخمسة وستين لفوجئت أن هذه المسافة تحتاج أن تصل إلى هذا الكوكب الملتهب إلى خمسين مليون عام ، كل التاريخ الميلادي إلى اليوم ألف وتسعمائة وأربعة وتسعون ، كل التاريخ الميلادي وليس الهجري ، تحتاج خمسين مليون عام من أجل أن تصل إلى أقرب نجم ملتهب للأرض ، هذا هي أربع سنوات ضوئيَّة .
       ومجرَّة المرأة المسلسلة مليون سنة ضوئيَّة ، مليون ضرب خمسين مليون ؟ وأحدث مجرَّة تبعد عنَّا ستة عشرَ ألف مليون سنة ضوئيَّة ، اسمعوا الآية الكريمة :
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
(سورة الواقعة)
       هذه المسافات بين النجوم  ..
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
(سورة الواقعة)
      من معاني ( لو ) أنّها أداة حَض ، يقول لك أحدهم : لو تذهب معي ، أي اذهب معي ، لو تأكل معنا ، أي كل معنا ..
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
(سورة الواقعة)
       لو علمتم لعرفتم من هو الخالق ، ما معنى الله خالق الكون ؟ لذلك إذا عرفت الله حق المعرفة تعد للمليون قبل أن تعصيه ، الآن الناس لأتفه سبب يقول لك : أنا مضطر ، عندي أولاد ، يقع في كل المخالفات لأن عنده أولادا ، فهل غيرك ليس عنده أولاد ؟ وهل المستقيم ليس عنده أولاد ؟ لأنه لا يعرف الله عزّ وجل ، لو عرفه حقَّ المعرفة لو قُطِّع إرباً إرباً لا يعصيه ، لكن ما عرفه ، متى الحسرة والندامة ؟ حينما يأتي ملك الموت وقد ضيَّع الإنسان عمره سُدى ، وعندما يضيّع الإنسان عمره سُدى عندئّذٍ يعرف حقيقة هذه الحياة الدنيا  .
        إذاً:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
       الشمس والقمر منآيات الله الدالَّة على عظمته .
       لا أريد أن أطيل عليكم ، إلا أن مركز الثقل في هذه الآية:
 
﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
 
 لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
 
       أي أن هناك من يدَّعي أنه إذا عبد الشمس فهو يتقرَّب إلى الله بأعظم مخلوقاته ـ كان هذا قديماً ـ إذا عبدنا البقر نتقرَّب إلى الله بأنفع مخلوقاته لنا  ..
 
﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾
(سورة الزمر : من الآية 3)
 
1 ـ يجب أن تعبد الله وفق الشرع لا وفق الهوى :
      
فهذا الردُّ عليهم : أي ينبغي أن تعبد الله أنت لا وفق مزاجك ، ولا وفق تصوُّرك ، ولا وفق هوى نفسك ، إذا أردت أن تعبد الله فينبغي أن تعبده وفق ما أمرك به أن تعبده ، فالله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾
        إذا كنت تدَّعي أنك تعبد الله فعليك أن تسجد لله عزَّ وجل ، لذلك رأى الهنود أن البقرة من أفضل الحيوانات المعطاءة ؛ تعطيك الحليب ، والجبن ، واللحم ، لذلك عبدوها من دون الله ، والآن هناك في الهند أكبر قطيع بقر في العالم ، لأنه يمنع ذبحُه،يعبدون البقر من دون الله ، لو دخلت البقرة إلى أرقى المحلات ، وأكلت ما شاءت من أغلى أنواع الفاكهة ، يرى صاحب المحل أنه سعيدٌ أيَّما سعادة ، لأن هذا الإله الذي يعبده من دون الله دخل إلى دكَّانه وأكل من فواكه الدكَّان  .
        فلا تعرف قيمة هذا الدين العظيمإلا إذا قرأت عن الأديان الأرضيَّة الأخرى ، فبعض الهنود يضعون في أيام الأعياد روث البقر على أفخر أثاث بيوتهم ، لأن هذا من آثار إلههم ، وهناك من عبدوا الشمس .. قال تعالى واصفًا بلقيس ملكة سبأ:
﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾
(سورة النمل : من الآية 24)
        إذاً : ربنا عزَّ وجل يقول : يجب أن تعبدني وفق ما آمرك به لا وفق ما يتراءى لك أنت  .
﴿ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ﴾
 
2 ـ الكافر يقف عند النعمة والمؤمن يقف عند المنعِم :
 
        وهنا لابدَّ من وقفةٍ قصيرة ، الكافر يقف عند النِعمة ، والمؤمن ينتقل من النعمة إلى المُنعم ، لا شكَّ أن النعم معروفة عند أهل الكفر ، وعند أهل الإيمان ، عند الملحدين ، عند المشركين ، عند الفجَّار ، عند المؤمنين ، الشمس شمس ، والقمر قمر ، والهواء النقي هواء نقي ، والماء العذب الفرات عذب فرات ، والخيرات الوفيرة من الطعام والشراب هي خيرات وفيرة ، فليس هناك أي خلاف على النعم في الكون إطلاقاً ، اذهب إلى أي مكانٍ شئت ، إلى شرق الأرض وغربها ، إلى شمالها وجنوبها ، لا تجد فرقاً في النعم ، كل إنسان يحب بيتا واسعا ، مدفَّأ شتاءً ، مكيَّفا صيفاً ، الطعام ، الشراب ، الفواكه ، أنواع اللحومات ، المقبِّلات ، الشراب ، الفُرُش الوثيرة ، الأثاث الفخم ، التزينات ، النعم نِعم ، لكن المؤمن ينتقل من النعمة إلى المنعم ، والكافر يبقى عند النعمة يعبدها من دون الله ، هذا هو الفرق .
       ولو كانت بلاد لا تعبد فيها الشمس ، ولا تُعبد فيها الأبقار إلا أنه حينما نسعى لهذه النعم وننسى المنعم ، حينما نتنافس على هذه النعم ، وننسى منهج المنعم ، حينما نسعى إليها وكأنها هي كل شيء ومحطُّ الرحال ، هنا المشكلة ، المشكلة أن هذه النعم ينبغي أن نتجاوزها إلى المُنعم ، لو قرأت أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وأدعيته لوجدت أن كل نعمةٍ عزاها إلى الله عزَّ وجل ، فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل الخلاء يقول :
((الحَمْدُ لِلَّه الَّذي أذَاقَنِي لَذَّتَهُ ، وأبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ ، وَدَفَعَ عَنِّي أَذَاهُ )) .
( البيهقي في شعب الإيمان ، وابن أبي شيبة في المصنف )
       عرف هذه النعمة ؛ نعمة الطعام ، نعمة أنك أكلت طعاماً وشراباً ولم تأخذ سيروماً ، نعمة أن هذا الطعام والشراب لذيذ الطعم ، طيِّب المذاق ، مستساغ ، وهذه التفَّاحة شكلها ، ولونها ، وحجمها ، وقشرها ، ولبُّها ، وقِوامها ، ومضمونها مناسبٌ للجسم ، أذاقني لذَّته .
       وأبقى فيَّ قوَّته ، هذه الطعوم التي خلقها الله لنا تفيد أجسامنا ، طعام فيه كالسيوم ، وفيه فيتامين ، وفيه آزوت ، وفيه منغنيز ، هذه المياه معدنيَّة ، وهذه الفواكه فيها الأملاح الفلانيَّة ، وهذه مضادَّات حيويَّة ، وهذه فيتامينات ، أبقى فيَّ قوَّته .
      وأذهب عني أذاه ؛ هذه الفضلات خرجت ، ولو بقيت لكانت حياة الإنسان جحيماً .
      إذاً : لو قرأتم أدعية النبي عليه الصلاة والسلام لوجدتم هذا المعنى ، حتى إذا دخل بيته كان يقول:
((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا ، وَسَقَانَا ، وَكَفَانَا ، وَآوَانَا ، وَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُؤْوِي )) .
( الترمذي عن أنس )
        النقطة الدقيقة في هذا الدرس أن المؤمن ينتقل من الكون إلى المكوِّن ، ومن النظام إلى المنظِّم ، ومن التسيير إلى المسيِّير ، ومن الوجود إلى الموجد ، ومن النِعمة إلى المُنعم ، لا يقف عند الوجود ، لذلك جاء في الفاتحة :
 
﴿ الحَمْدً للهِ ﴾
 
 لا خلاف بين الناس في النعمةِ ، ولكن الخلاف في المنعِم :
 
       الخلاف ليس على النعمة ، لكن الخلاف إلى من تُعزَى هذه النعمة ، الحمد لله ، الحمد ليس فيه خلاف ، هناك نعمةٌ تستحق الحمد ، ولكن لمن ؟ لله ، الحمد لله رب العالمين ، ليس هناك خلافٌ على النعمة ، بل الخلاف في مصدر هذه النعمة ، إنه الله سبحانه وتعالى .
        إذاً:
﴿ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ﴾
       تطبيقاً لهذه الآية : لو أن أخاً مؤمناً مرض ابنه لا سمح الله ولا قدَّر ، وأخذه إلى طبيب ، وقد أجرى الله الشفاء على يد هذا الطبيب ، فالأخ المؤمن ينبغي أن يشكر الله سبحانه وتعالى أولاً ، لأنه مكَّن الطبيب من معرفة الداء وألهمه الدواء ، وسمح للدواء أن يفعل فعله ؛ أما أن تنسى الله سبحانه وتعالى ، وينصَّب كل الشكر على عمل هذا الطبيب فهذا شرك .
      لو وكَّلت محامياً وقد وفَّقه الله وأخذ لك الحكم ممن ظلمك ، ينبغي أن تشكر الله عزَّ وجل على أنه جعل القاضي يقتنع ، وألهم هذا المحامِي أن يرفع مذكِّرةً قويَّةً ، لولا أنّ الله أراد لما كان ما كان .
 
 النبي عليه الصلاة والسلام يردّ كل النعم إلى ربّه :
 
     كل النعم التي تساق إليك في الأعم الأغلب تساق على يد إنسان ، فالشرك أن تراها من هذا الإنسان ، والتوحيد أن تراها من الله عزَّ وجل ، لذلك بعد أن فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكَّة ، وانتهى من معركة حُنَيْن ، أذكر هذه القصَّة لكلمة واحدة قالها النبي عليه الصلاة والسلام ، جاءه أحد صحابته وهو سيدنا سعد بن معاذ قال : يا رسول الله ، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم ـ أي هم غاضبون ـ قال : " أين أنت منهم يا سعد ؟ " ، قال : " ما أنا إلا من قومي " ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اجمع لي قومك " ، فجمع الأنصار ، وقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام :
(( يا معشر الأنصار ، ما قالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها في أنفسكم )) .
(من كنز العمال : عن " أبي سعيد)
       طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الوقت ، وفي هذا المكان كان في قمة انتصاره ، الجزيرة العربيَّة من أقصاها إلى أقصاها دانت له ، مكَّة والمدينة وجميع القبائل دانت له بالخضوع بعد معركة حنين ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كغيره كان بإمكانه أن يُلغي وجودهم ، وبإمكانه أن يهدر كرامتهم ، لو قال عنهم : منافقون لانتهوا ، وبإمكانه أن يهملهم ، وبإمكانه أن يعاتبهم ، ويذكِّرهم بفضله عليهم ، لكنه لم يلغِ وجودهم ، ولم يهدر كرامتهم ، ولم يهملهم ، ولم يعاتبهم ، ولم يُذَكِّرهم بفضله عليه ، بل جمعهم ، وذكَّرهم بفضلهم عليه فقال :
(( يا معشر الأنصار لو شئتم لقلتم فصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فواسيناك ـ هذا الحق ، ذوبهم اللهمَّ صلّ عليه ـ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ؟ )) ، لم يقل : فهديتكم ، هنا التوحيد .
     يكون أحدنا ذا علم قليل فيتكلّم بكلمتين ، فتدمع عين السامع ، فيقول : أنا هديته، ولي فضل عليه ! أي فضل هذا ؟ النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد البشر قال : " ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ؟ " ، هذا التوحيد .
     أنا لا أقول هذا من باب التأدُّب ، لا ، هذه هي الحقيقة ، الله عزَّ وجل أوجدك ، نعمة الإيجاد ، نعمة الإمداد إذ جعلك من أم وأب وليس لقيط ، دلَّك عليه ، هيَّأ لك عملا ، أعطاك إمكانات خبرة ، إما علم ، أو صنعة ، أو مصلحة ، زوَّجك ، أمَّن لك بيتًا ، فهذا كله من فضل الله على الإنسان قال :
((ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى ، قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة ـ انظر إلى هذا الاسم أي مثل الخشخيشة ـ تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعون برسول الله إلى رحالكم ؟ " قال : فبكوا حتَّى أخضلوا لحاهم ، قال عليه الصلاة والسلام :
((فو الذي نفس محمد بيده ! لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار )) .
( كنز العمال عن أبي سعيد)
       قلت مرَّةً تعليقاً على هذه القصَّة في خطبة : كان الله في عون كُتَّاب السيرة أين يضعون هذه القصَّة ، مع حلم النبي أم مع رحمته ؟ أم مع وفائه أم مع حكمته ؟ شيء يحيِّر ، حكمة أم رحمة ، أم حلم أم وفاء ؟ هذا هو النبي اللهمَّ صلّ عليه .
       ذكَّرني هذا بقصَّة أخرى ، عندما أرسل أحد أصحابه ، وهو حاطب بن أبي بلتعة ، كتاباً إلى قريش قبيل فتح مكَّة يقول فيه : " إن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم " ، وهذا الكتاب في مقياس أمم الأرض قاطبةً ، وحكومات الأرض قاطبةً خيانةٌ عُظمى ، ويستحق صاحبه الإعدام ، فلمَّا أخبر الوحي النبي عليه الصلاة والسلام بهذا أرسل النبي أحد أصحابه ليأتوا بالكتاب من امرأة كانت في منتصف الطريق في مكان اسمه الروضة ، واستدعي حاطب بن أبي بلتعة ليُحقَّق معه ، ما كان من عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلا أن قال : " يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق " ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((أو ليس من أهل بدر " ، أي لم يهدر له عمله ، قال : " يا حاطب ، ما حملك على ما صنعت ؟ "  قال : " والله يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت ، ولكن أردت أن يكون لي صنيعةٌ عند قريش ، لأنه ليس لي عندهم أهلٌ يحمونني " ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( صدق ، ولا تقولوا له إلا خيراً )) .
( صحيح البخاري عن حصين )
       وعلَّق كُتَّاب السيرة على هذه الحادثة : بأن عمر نظر إلى الذنب فرآه خيانةً عُظمى ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى صاحب الذنب فرآه قد وقع ، وتعثَّر في لحظة ضعفٍ طارئة ، فأراد النبي أن يعينه على نفسه ، وأن ينهضه ، وأنهضه ، وحَسُنَ إسلامه ، وأرسله مندوباً شخصياً لبعض الملوك في المستقبل ، لذلك النبي كما قال بعض الشعراء :
وأجمل منك لم ترَ قد عيني      و أكمل منك لم تلد النساءُ
خُلِقت مبرَّأً من كل عـيبٍ      كأنَّك قد خُلقت كما تـشاءُ
***
       موطن الشاهد في هذه الآية أي أن المؤمن ينتقل من الكون للمكوِّن ، من النظام للمنظِّم ، من التسيير للمسيِّير ، من الوجود للموجد ، من النعمة إلى المُنعم ، كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ صباحاً أول ما يقول :
((الحمد لله الذي ردَّ إليَّ روحي ـ أيْ أنه استيقظ ، هناك ناس ينامون ولا يستيقظون ـ  وعافني في بدني ، وأذن لي بذكره )).
( الجامع الصغير عن أبي هريرة )
 
 تطبيق عملي للآية :
 
       إذاً : الآن كتطبيقٍ لهذه الآية : أية نعمةٍ ساقها الله إليك على يد إنسان لا تنسَ المنعم ، بل إن بعض المؤمنين إذا استفادوامن جهازٍ دقيق يقول : لولا أن عقل الإنسان قد مُكِّنَ من اختراعه لما اخترعه هذا الإنسان ، فهذا من نعمة الله أيضاً ، فالمؤمن دائماً يصل إلى الله حتى من خلال جهاز اخترعه إنسان ، القرود ما اخترعوا هذا الجهاز ، القضيَّة قضية ذكاء ، هناك حيواناتٌ عاشت آلاف السنين، وما اخترعت شيئاً ، معنى هذا أن الإنسان مهيَّأ ليبدع ، وهذا من ثمار عقل الإنسان .
     إذاً : هذا الذي يعظِّم كل من اخترع أو اكتشف ، الحقيقة التعظيم لله عزَّ وجل ، والدليل قوله تعالى حينما حدَّثنا عن الدواب قال:
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(8) ﴾
(سورة النحل)
        فهذا الذي لم يكن يعلمه من نزلت عليهم هذه الآيات ، الآن ظهرت وسائل المواصلات الأخرى كالطائرات وغيرها ، هذه أيضاً من إلهام الله عزَّ وجل ، بل إن الحدس الإبداعي قفزة في المجهول ، إشراقة ، هكذا يقول العلماء .
        إذاً : الملخَّص هنا أن الإنسان عليه أن يرى المنعم ، وقد ذكرت قصة النبي عليه الصلاة والسلام مع الأنصار من أجل كلمة واحدة وهي : (( ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله بي )) ، فأنت إذا عزوت الأمر كله لله فأنت على حق ، وإلا وقعت في شركٍ خفي وأنت لا تدري .
        قال:
﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾
 
 فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ
 
1 ـ كيف يستكبر العبد الضعيف عن عبادة ربِّه ؟!
 
       إن استكبروا ، أي أن الإنسان أحياناً لضعف تفكيره أو لجهله يستكبر عن عبادة ربِّه . أحد إخواننا الكرام كان طبيبا لامعا جداً توفَّاه الله عزَّ وجل ، فذهبت لتشييع جنازته ، فوجدت أشخاصا مهمِّين جداً يقفون خارج المسجد لا يصلون ، لا صلاة الجنازة ولا صلاة الظهر ، فعجبت وقلت : يا رب ، أهؤلاء يرون أنهم أكبر من أن يصلوا ؟ يستكبرون عن عبادة الله أم ماذا ؟ ربنا عزَّ وجل يقول في الحديث القدسي :
(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
( من صحيح مسلم عن أبي ذر )
 
2 ـ الملائكة طائعون غير مستكبرين :
 
       فلو أن كل الناس كفروا الله عزَّ وجل لا ينقص ملكه شيء ..
﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ﴾
عن أن يعبدوا الله ..
 ﴿ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ﴾
وهم الملائكة ..
﴿ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ ﴾
أي يصلون ..
﴿ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾
وهذا تعريضٌ بالضعاف الذين يعبدون الله عزَّ وجل ..
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾
 
  الاستدلال على البعث وهو غيب بالأرض المحسوسة :
 
 وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً
 
      الأرض في الشتاء يابسة ، الأشجار حطب ، معظم الأشجار تتعرَّى في الشتاء ، ويتوقَّف النُسُغ الصاعد والنازل ، فلو أمسكت غصناً وكسرته لوجدته حطبا ، خشبٌ يابس لا حياة فيه ، الأرض كذلك ، والأشجار كذلك..
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾
هنا وُصِفَت بأنَّها خاشعة ، السياق يقتضي ذلك ، في آية أخرى وصفَت بأنها هامدة ..
 
﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾
 
 فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
 
      أي بعد الربيع ترى المساحات الشاسعة كلُّها خضراء ، فإذا سرتَ في الطرقات وجدت أنواع الزهور التي تأخذ بالألباب ؛ من كل الألوان ، والأحجام ، والأشكال ، والتناسُقات ، والتداخلات ، فإذا مشى الإنسان في طريق ريفي في فصل الربيع يجد أن أنواع الأزهار لا تعد ولا تحصى على جوانب الطريق ، والمساحات الخضراء ومعها أزهار صفراء ، معها أزهار حمراء اللون ، بعض الأزهار معروفة ـ شقائق النعمان ـ
 
﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء ﴾
        وهذا الحطب اليابس الذي كان بالأمس حطباً يابساً ، تزهر هذه الشجرة ، فإذا هي ترتدي ثوباً قشيباً من الأزهار ، وتعلمون جمال الغوطة في الربيع في الشام
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾
       هذه آية ثانية ..
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ  ﴾
      أي أن هذا الماء جعلها تتحرَّك ، طبعاً تجد بذرة فيها رشيم ، فهذا الرشيم فيه حياة ، مع الرشيم محفظة غذاء وقشرة ، هذه هي البذرة ، ضع حبة فاصولياء ، أو حبة عدس ، أو حبة قمح على قطن وماء ، بعد أيام تجد أنه قد ظهر لهذه البذرة نتوءٌ صغير هو السويق ، ونتوءٌ آخر هو الجذير إلى أن تصبح هذه القمحة ، أو هذه العدسة أو الفاصولياء فارغة ، هذا الماء حرَّك الرشيم ، طبعاً الرطوبة والنور أحد أسباب نمو الرشيم ، لذلك بعض أنواع النِمال إذا أرادت النملة أن تخزِّن القمح تأكل الرشيم لئلا ينمو ، وهناك بعض أنواع الحبوب لها زوجان من الرشيمات ، تأكل الزوجين معاً لئلا تنمو ، فإذا جاء الماء تحرَّك هذا الرشيم ، الرطوبة مع النور والدفء أعطت الرشيم حركة ، وهناك في الأهرامات قمحٌ زُرِع فنبت ، أي أن الرشيم يبقى حياً ستة آلاف عام أحياناً ، لأن الرشيم فيه حياة ..
 
﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾
صار هناك حركة و نمو ، قال تعالى:
 
﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾
 
 النبات دليل على عظمة الله :
 
      بعض أنواع نباتات الزينة الغرام الواحد فيه سبعون ألف بذرة ، وكل بذرة لها رشيم ، ولها محفظة غذاء ، ولها جُذَير ، ولها غشاء ، الغذاء يكفي البذرة حتى ينشأ لها جُذَيْر ليمتص الغذاء من التربة ، قال :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾
       ظاهرة النبات من أعظم الآيات الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل ، يقول لك : هذه البذرة تصبح تينه ، هذه مشمشة ، هذه دراق ، أمسك البذرة أين مكتوب درَّاقة ؟ أين مكتوب دراق مخملي ؟ الدرَّاق أنواع ، ثلاثمائة نوع من العنب ، ثلاثة آلاف وخمسمائة نوع من القمح ، لا توجد فاكهة أو محصول إلا وله أنواع بالمئات أو بالألوف ، أمسك البذرة ، هذه البذرة مثلاً إنتاجها مبكِّر ، مقاومة للأمراض الفلانيَّة ـ شيءٌ جميل ـ إنتاجها مبكِّر ومديد ، ثمرتها قاسية ، لونها كذا ، تفَّاحيَّة الشكل ، قطرها كذا ، حامضية الطعم ، نسيجها كثيف ، ماؤها قليل ، تسمع أحياناً من شركات البذور اثنتي عشرة أو عشرين صفة للبذرة ، امسك البذرة ، أين توجد هذه الصفات ؟ لا ترى شيئاً ، ترى بذرة صغيرة .
       الله عزَّ وجل جعل البذرة كأنها مبرمجة برنامجا دقيقا جداً ، هذه البذرة تعطيك إنتاجا مبكِّرا أسعاره غالية ، هذه تعطيك إنتاجا مديدا ، هذه تعطي إنتاجا غزيرا ، هذه تعطي إنتاجا من نوع معيَّن ، فهذا علم قائم بذاته ، فظاهرة النبات من أعظم الآيات الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل ، وهذه البذور تتزواج أحياناً ، فتنتج بذورا هجينة ، نأخذ صفات هذا النبات مع صفات هذا النبات ، مع صفات هذا النبات ، بعض البذور تجرى لها عملية تهجين لها ثماني مرَّات ، ثماني حالات زواج بين نوعين من أنواع النبات حتى ظهرت هذه البذرة ..
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾
        بعض البذور تنتقل عبر الرياح ، في بعض الغابات زُرعت من قِبَل الله مباشرةً ، بذرة لها شكل حلزوني وقمع ، فتنغرس بعد سطح التربة باثنين سنتيمتر ، ثم تسير هذه البذور في الممر الحلزوني إلى أن تستقر في التراب ، وبعض الرَّعويات تُزرع بهذه الطريقة ، والإنسان لا يد له فيها إطلاقاً ، بعض أنواع البذور لا تنبت إلا إذا أكلتها الزرافة ، وأخرجتها مع روثها عندئذٍ تنبت ، فموضوع البذور عالم قائم بذاته ..
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾
 
 النتيجة الاستدلالية : إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى
 
    هنا نحن أمام آيتين : آيةٌ دالَّةٌ على عظمة الله ، وآيةٌ دالَّةٌ على اليوم الآخر ..
 
﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
     النبات أيها الإخوة كما قال الله عنه :
 
﴿ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 99)
        هناك نبات يعطيك الخشب ، فخشب الزان نبات ، وخشب الحور نبات ، هناك حوالي مئة نوع من الخشب ، كلها لاستعمال صناعي ، هناك نبات يعطيك أصبغة ، نباتيعطيك مطَّاطا ، نبات يعطيك أدوية ، نبات يعطيك أغذية ، أحياناً الغذاء يكون بالجذر ، أحياناً بالساق ، أحياناً بالأوراق ، أحياناً بالزهر ، أحياناً بالثمار ، هناك نبات مظلة ، هناك نبات تزييني ، هناك نبات حدودي ، هناك مسابح نبات ، الليف نبات ، الخُلَّة نبات ، السواك نبات ، القطن نبات ، نسيج ، الأدوية نبات ، المطَّاط نبات ، الفلين نبات ، الكاوتشوك نبات ، هذا ..
 
﴿ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 99)
      لو حاوَل أحدنا أن يحصيها ، إذا نظر ضمن بيته ففي غرفة الضيوف خشب زان ، النوافذ خشب كندي ، الكبريت خشب شوح طري ، يجد نبات كل شيء ، أربعة أخماس موجودات البيت أساسه نبات ، يرتدي ثيابا من قطن ، هذا من النبات ، النسيج أكثره نبات ، إذاً عندما قال ربنا :
 
﴿ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 99)
       هذه آية كبيرة جداً من آيات الله الدالَّة على عظمته .
     إذاً :
 
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
 
 خاتمة :
 
        موضوع النبات ، موضوع ورق النبات موضوع عظيم ، وقد قرأت مرَّة في مقالة أن أعظم معمل صنعة الإنسان يبدو تافهاً أمام الورقة ، هذه الورقة التي فيها يخضور ، وفيها طاقة شمسيَّة مخزونة ، وفيها يطلع النُسُغ الصاعد معه ثمانية عشر معدنا ، فيحدث تفاعل مع الشمس،ومع الآزوت ، ومع مادة اليخضور فيرجع نسغا نازلا يشكِّل الجذر ، والساق ، والأوراق ، والنبات ، ولا يوجد في عالم الصناعة سائل واحد يكون مرَّة صاجا ، ومرَّة خشبا ، ومرَّة بلاستيكا .. إلخ ، هذا غير معقول ، هذا النسغ النازل يصنع الجذر من جديد ، وينمّي الجذع ، وينمي الأوراق ، وينمي الثمار ، وهو سائل واحد ، ونحن نتكلَّم أشياء من بديهيَّات العلم ، من مستوى الدارس في الإعدادية ، وليس أكثر ، أما لو تعمَّقتم في العلم لرأيتم العجب العجاب .
      في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نبدأ بقوله تعالى:
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ﴾
بهذه الآيات الدالَّة على عظمته ..
﴿ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ﴾
والحمد لله رب العالمين
 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب