سورة فصلت (041)
الدرس (8)
تفسيرالآيات: (37- 39)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
مع الدرس الثامن من سورة فصِّلت ، ومع الآية السابعة والثلاثين ، وهي قوله تعالى :
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ ﴿
تذكيرٌ بما سبق :
أيها الإخوة ، أولاً : حينما ذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين آمنوا بالله ، واستقاموا على أمره ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
وبيَّنت لكم وقتها أن علامة صدق إيمانهم استقامتُهم ، هؤلاء الذين قَبِلوا الحق ، هناك مرتبةٌ أعلى من هذه المرتبة هم الذين نشروا الحق ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
وبيَّنت لكم في الدرس الماضي أو قبل الماضي أن هؤلاء الذين دعوا إلى الله عزَّ وجل ، وطبَّقوا مضمون دعوتهم منطلقين من إيمانهم ، ومن إخلاصهم هم في قمة المجتمع البشري عند الله ، ولو كانوا عند الناس في أدنى درجة من درجات السُلَّم الاجتماعي ، هؤلاء الفريق الآخر .
ثم يبيِّن ربنا سبحانه وتعالى لنا أن طريق إيمان هؤلاء ، وجوهر دعوة هؤلاء هو معرفتهم بالله عزَّ وجل ، إذا عرفت الله استقمت على أمره ، وإذا عرفت الله دعوت إليه .
وطريق معرفة الله عزَّ وجل آياته ، لأن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ، ولكن خلق الكون ليكون الكون مظهراً لأسماء الله الحسنى وصفاته الفُضلى ، فإذا أردت أن تعرف عظمة الله عزَّ وجل ، علم الله ، رحمة الله ، خبرة الله ، قدرة الله ، إن أردت أن تعرف أسماء الله عزَّ وجل فهذا الكون ينطق ، وكل شيءٍ في الكون ينطق بوجود الله ، وبكمال الله ، وبوحدانيَّة الله .
لذلك ربنا في سوره الكريمة كلَّما بيَّن حقيقةً بيَّن سببها ، أي إذا أردت أن تؤمن ، ومن ثمَّ تدعو فعليك بهذه الآيات ، لأنك إن فكَّرت فيها بدت لك عظمة الله عزَّ وجل .
وكنت أقول دائماً : إن الكون أوسع بابٍ وأقصر طريق ، إذا أردت أن تقف أمام عظمة الله عزَّ وجل ، أما قدرة الله ، أما علم الله ، أمام رحمة الله ، أمام لطف الله فدونك الكون ، وحسبك الكون معجزة .
إذاً : سياق هذه الآيات ، الآيات مترابطة ، ولو لم يبد لكم أدوات ربط ظاهرة ، في اللغة أدوات ربط ظاهرة ، لأنه كذا وكذا كان كذا وكذا ، وانطلاقاً من كذا نقول كذا ، هذه أدوات ربط ظاهرة ، ولكن مقاطع القرآن الكريم مترابطة أدقَّ الترابط ، مترابطة ومتناسقة أدقَّ التناسق .
إذاً : بعد أن بيَّن لنا الفئة الأولى التي آمنت ، وكانت استقامتها علامة إيمانها ، والفئة الثانية التي دعت ، وكان عملها الصالح علامة صدقها في دعوتها ، بيَّن الله سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والدعوة إليه أساسه معرفة الله ، وطريق معرفة الله هذه الآيات الكونيَّة جاءت ..
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
﴿وَمِنْ ﴾
1 ـ النظر في الكون طريق لمعرفة الله :
ومن هنا للتبعيض ، أي من بعض الآيات التي بثَّها الله في السماوات والأرض ، من بعض الآيات ، أما الحقيقة فإن الكون كلَّه بسماواته وأرضه، بمجرَّاته،بكازاراته ، بالكواكب الملتهبة ، بالكواكب المنطفئة ، بالأقمار ، بالأرض وبكل ما فيها من جبال ، من مسطَّحات ، من وديان ، من سهول ، من أنهار ، بحيواناتها ، بأسماكها ، بأطيارها ، بنباتاتها ، بأنسها ، بحقيقة الإنسان ، كل ما في الكون ينطق بوجود الله ، وبعظمة الله ، وبكمال الله ، ربنا يقول :
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾
هل فكَّرت في هذا الليل ؟ يقول عليه الصلاة والسلام في بعض أقواله :
(( سبحان الله ، أين الليل إذا جاء النهار)) .
(من كنز العمال )
كل شيء مظلم ، كل شيء ساكن ، يأتي النهار يتضح فيه كل شيء..
(( سبحان الله ، أين الليل إذا جاء النهار)) .
(من كنز العمال )
أو أين النهار إذا جاء الليل ؟ الوحشة ، والخوف ، والقلق ، والسكون ، لو كنت في مكانٍ فسيح ، أو في غابةٍ ، أو في عُرض بحرٍ تأتي الشمس فتملأ الأرض ضياءً ، وحركةً ، ونشاطاً ، ونوراً ..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ﴾
2 ـ الليل والنهار :
لماذا هناك ليل وهناك نهار ؟ لأن هناك مصدرًا للضوء وهو الشمس ، لو أن الشمس انطفأت لما كان هناك ليلٌ ولا نهار ، إذا لم يكن هناك نهار فليس هناك ليل ، وبضدِّها تتميَّز الأشياء ، ومصدر الحرارة ، والطاقة ، والضوء ، والدفء من الشمس .
إذاً : كلمة الليل تشير من طرفٍ خفي إلى الشمس ، وهذه الشمس وهذه الأرض ، لو أن هناك شمسًا وهناك أرضًا ، لولا هذه الدورة لما كان ليلٌ ونهار ، لو أن الأرض دارت هكذا على محورٍ موازٍ لمستوى دورانها حول الشمس ، لو دارت الأرض هكذا لما كان ليل ولا نهار ، نصفها المُقابل للشمس نهارٌ أبديٌ سرمدي ، ونصفها الآخر ليلٌ أبديٌ سرمدي ، لأن المحور ليس موازياً لمستوي دورانها حول الشمس كان الليل والنهار ..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ ﴾
تناسب الليل والنهار دليل على عظمة الخالق :
لكن لو أن الأرض تدور كل ساعة دورة حول نفسها ، لكان الليل نصف ساعة واحدة ، لا نستريح ، نغلق المحلات ، ونأتي إلى البيت ، حتى يبدأ نهارٌجديد ، لو أن الأرض تدور حول نفسها كل خمسين ساعة دورة ، لصار الليل خمسا وعشرين ساعة ، فالإنسان إذا نام في وقت مبكِّر جداً ، واستيقظ الساعة الثانية عشرة يحتار ماذا يفعل ؟ فالناس كلهم نائمون ، لو كان الليل أطول من حاجة الإنسان للنوم أو أقلّ لاختلف نظام الأرض ، لكن سبحان الله ! طاقتك للعمل ثماني ساعات ، وحاجتك للنوم ثماني ساعات ، وثماني ساعات بين ذهاب وإياب ، وطعام وشراب ، وجلوس مع الأهل ، هذا تناسق تام بين سرعة دورة الأرض حول نفسها وجسم الإنسان ، هذا يؤكِّد أن الذي خلق الأرض بهذا الحجم ، وجعل سرعتها بهذه السرعة هو الذي خلق الإنسان .
لو أن حجم الأرض كحجم القمر ، لكان وزن الإنسان على الأرض سُدس وزنه الحقيقي ، أي أن الذي وزنه ستين كيلوا سيزن عشرة كيلوات ، والوزن الخفيف أحياناً يكون مزعجًا جداً ، أي حركة صرنا في الهواء ، فوزنك يتناسب مع حجم الأرض ، لأن حجم الأرض يؤكِّد مستوى الجاذبيَّة ، فوزنك له علاقة بحجم الأرض ، وطول الليل له علاقة بسرعة الدوران حول نفسها .
3 ـ الفصول الأربعة :
لو أن المحور هكذا عمودي على مستوى الدوران لانعدمت الفصول ، وإذا انعدمت الفصول انعدم النبات ، والنبات أحد أسبابه الفصول .
التأمُّل يضعنا أمام آياتٍ دالَّةٍ على عظمته ، فوزنك متعلِّق بحجم الأرض ، وطول الليل والنهار المتناسب أشد التناسب مع حاجتك للنوم والعمل متعلِّقٌ بسرعة دورة الأرض حول نفسها ، وميل المحور يجعل الفصول الأربعة ، ولولا هذا الميل لكان الصيف أبديا في نصف الكرة الأرضيَّة عند خط استوائها ، وفي طرفيها شتاءٌ أبدي ، أما بهذا الميل فالشمس عموديَّةٌ على قسمها الشمالي ، فإذا أصبحت في هذا المكان أصبحت عموديَّةً على قسمها الجنوبي ، إذاً : تبدَّل الصيف والشتاء والربيع والخريف يكون عبر مناطق الأرض .
إنّ الإنسان بإمكانه إذا ذهب إلى قارة أمريكا ، بإمكانه وهو في شمال أمريكا أن يُعاين الثلوج المُتراكمة ، فإذا ركب الطائرة ، وطارت به إلى جنوب أمريكا يرى الناس يسبحون في البحار ، هناك صيف ، إذا كان عندنا شتاء ففي نصف الكرة الجنوبي صيف ، وحينما يكون عندهم الشتاء يكون عندنا الصيف .
إذاً : لولا ميل هذا المحور ميلاً دقيقاً جداً لما كانت الفصول الأربعة ، فمن دورة الأرض حول نفسها ، وبمحورٍ غير موازٍ لمستوي دورانه حول الشمس يتشكَّل الليل والنهار ، ومن سرعة دورانها حول نفسها يتحدَّد طول الليل والنهار ، وميل محورها على العمود على مستوى دورانها يشكِّل الفصول الأربعة ، قال تعالى :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
4 ـ الشمس والقمر :
هذه الشمس التي تكبر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرَّة ، التي تزيد حرارتها عند سطحها على ستة آلاف درجة ، وقد تصل الحرارة في جوفها إلى بضعة ملايين درجة ، هذه الشمس التي يزيد طول لَهَبِهَا على مليون كيلو متر ، أحياناً في الكسوف التام يرسمون الشمس بأجهزة خاصَّة ، فإذا ألسنةُ لهبٍ تمتدُّ من محيطها ، هذه الألسنة يزيد طولها على نصف مليون كيلو متر إلى مليون كيلو متر ، وتكبُر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرَّة ، وتبعد عنها مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر ، يقطعها الضوء في ثماني دقائق ، ولا تنسوا أن من أبراج السماء برج العقرب ، ربنا قال :
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾
(سورة البروج)
برج العقرب فيه نجوم كثيرة ، من هذه النجوم قلب العقرب ، هذا النجم الصغير يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، عندما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ قُلِ اِنْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
(سورة يونس : من الآية 101)
كيف تطيعه ؟ لابدَّ من أن تعرفه .
مثل بسيط جداً : أنت الآن في حياتك الوظيفيَّة تندفع إلى تنفيذ الأمر بحسب نوع التوقيع ، قد يأمرك وأنت في الجيش عريف ، وهناك رقيب ، وهناك ملازم ، وهناك عقيد ، أما قائد الفرقة إذا أعطاك أمرا فإنّ استجابتك له تختلف ، هذا منطق الحياة ، كلَّما عظُم الآمر عظُم الأمر ، وعظمةُ الأمر من عظمة الآمر ، فإذا عرفت عظمة الآمر صار التطبيق سهلاً ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
(سورة فاطر : من الآية 28 )
مرَّة قلت في بعض الدروس ، وأعيد هذا كثيراً : إنه بين الأرض وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئيَّة ـ اليوم احسبها بالآلة الحاسبة ـ كم تبلغ مسافة أربع سنوات ضوئَّية بالكيلو متر ؟ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو متر ، وبين الأرض والقمر ثانية ضوئيَّة واحدة ، في الدقيقة ضرب ستين ، في الساعة ضرب ستين ، في اليوم نضرب بأربع وعشرين ساعة ، في السنة ضرب ثلاثمائة وخمسة وستين ـ الثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربعة وعشرين ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، هذا ما يقطعه الضوء في سنة واحدة ـ هذا النجم الملتهب يبعد عنَّا أربع سنوات ضوئيَّة ، لو قسَّمت هذا الرقم على مئة كيلو متر وهو سرعة المركبة الأرضيَّة ، وقسَّمته على أربعة وعشرين ساعة ـ على يوم ـ ثم على ثلاثمائة وخمسة وستين لفوجئت أن هذه المسافة تحتاج أن تصل إلى هذا الكوكب الملتهب إلى خمسين مليون عام ، كل التاريخ الميلادي إلى اليوم ألف وتسعمائة وأربعة وتسعون ، كل التاريخ الميلادي وليس الهجري ، تحتاج خمسين مليون عام من أجل أن تصل إلى أقرب نجم ملتهب للأرض ، هذا هي أربع سنوات ضوئيَّة .
ومجرَّة المرأة المسلسلة مليون سنة ضوئيَّة ، مليون ضرب خمسين مليون ؟ وأحدث مجرَّة تبعد عنَّا ستة عشرَ ألف مليون سنة ضوئيَّة ، اسمعوا الآية الكريمة :
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
(سورة الواقعة)
هذه المسافات بين النجوم ..
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
(سورة الواقعة)
من معاني ( لو ) أنّها أداة حَض ، يقول لك أحدهم : لو تذهب معي ، أي اذهب معي ، لو تأكل معنا ، أي كل معنا ..
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
(سورة الواقعة)
لو علمتم لعرفتم من هو الخالق ، ما معنى الله خالق الكون ؟ لذلك إذا عرفت الله حق المعرفة تعد للمليون قبل أن تعصيه ، الآن الناس لأتفه سبب يقول لك : أنا مضطر ، عندي أولاد ، يقع في كل المخالفات لأن عنده أولادا ، فهل غيرك ليس عنده أولاد ؟ وهل المستقيم ليس عنده أولاد ؟ لأنه لا يعرف الله عزّ وجل ، لو عرفه حقَّ المعرفة لو قُطِّع إرباً إرباً لا يعصيه ، لكن ما عرفه ، متى الحسرة والندامة ؟ حينما يأتي ملك الموت وقد ضيَّع الإنسان عمره سُدى ، وعندما يضيّع الإنسان عمره سُدى عندئّذٍ يعرف حقيقة هذه الحياة الدنيا .
إذاً:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
الشمس والقمر منآيات الله الدالَّة على عظمته .
لا أريد أن أطيل عليكم ، إلا أن مركز الثقل في هذه الآية:
﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾
لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
أي أن هناك من يدَّعي أنه إذا عبد الشمس فهو يتقرَّب إلى الله بأعظم مخلوقاته ـ كان هذا قديماً ـ إذا عبدنا البقر نتقرَّب إلى الله بأنفع مخلوقاته لنا ..
﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾
(سورة الزمر : من الآية 3)
1 ـ يجب أن تعبد الله وفق الشرع لا وفق الهوى :
فهذا الردُّ عليهم : أي ينبغي أن تعبد الله أنت لا وفق مزاجك ، ولا وفق تصوُّرك ، ولا وفق هوى نفسك ، إذا أردت أن تعبد الله فينبغي أن تعبده وفق ما أمرك به أن تعبده ، فالله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾
إذا كنت تدَّعي أنك تعبد الله فعليك أن تسجد لله عزَّ وجل ، لذلك رأى الهنود أن البقرة من أفضل الحيوانات المعطاءة ؛ تعطيك الحليب ، والجبن ، واللحم ، لذلك عبدوها من دون الله ، والآن هناك في الهند أكبر قطيع بقر في العالم ، لأنه يمنع ذبحُه،يعبدون البقر من دون الله ، لو دخلت البقرة إلى أرقى المحلات ، وأكلت ما شاءت من أغلى أنواع الفاكهة ، يرى صاحب المحل أنه سعيدٌ أيَّما سعادة ، لأن هذا الإله الذي يعبده من دون الله دخل إلى دكَّانه وأكل من فواكه الدكَّان .
فلا تعرف قيمة هذا الدين العظيمإلا إذا قرأت عن الأديان الأرضيَّة الأخرى ، فبعض الهنود يضعون في أيام الأعياد روث البقر على أفخر أثاث بيوتهم ، لأن هذا من آثار إلههم ، وهناك من عبدوا الشمس .. قال تعالى واصفًا بلقيس ملكة سبأ:
﴿ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾
(سورة النمل : من الآية 24)
إذاً : ربنا عزَّ وجل يقول : يجب أن تعبدني وفق ما آمرك به لا وفق ما يتراءى لك أنت .
﴿ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ﴾
2 ـ الكافر يقف عند النعمة والمؤمن يقف عند المنعِم :
وهنا لابدَّ من وقفةٍ قصيرة ، الكافر يقف عند النِعمة ، والمؤمن ينتقل من النعمة إلى المُنعم ، لا شكَّ أن النعم معروفة عند أهل الكفر ، وعند أهل الإيمان ، عند الملحدين ، عند المشركين ، عند الفجَّار ، عند المؤمنين ، الشمس شمس ، والقمر قمر ، والهواء النقي هواء نقي ، والماء العذب الفرات عذب فرات ، والخيرات الوفيرة من الطعام والشراب هي خيرات وفيرة ، فليس هناك أي خلاف على النعم في الكون إطلاقاً ، اذهب إلى أي مكانٍ شئت ، إلى شرق الأرض وغربها ، إلى شمالها وجنوبها ، لا تجد فرقاً في النعم ، كل إنسان يحب بيتا واسعا ، مدفَّأ شتاءً ، مكيَّفا صيفاً ، الطعام ، الشراب ، الفواكه ، أنواع اللحومات ، المقبِّلات ، الشراب ، الفُرُش الوثيرة ، الأثاث الفخم ، التزينات ، النعم نِعم ، لكن المؤمن ينتقل من النعمة إلى المنعم ، والكافر يبقى عند النعمة يعبدها من دون الله ، هذا هو الفرق .
ولو كانت بلاد لا تعبد فيها الشمس ، ولا تُعبد فيها الأبقار إلا أنه حينما نسعى لهذه النعم وننسى المنعم ، حينما نتنافس على هذه النعم ، وننسى منهج المنعم ، حينما نسعى إليها وكأنها هي كل شيء ومحطُّ الرحال ، هنا المشكلة ، المشكلة أن هذه النعم ينبغي أن نتجاوزها إلى المُنعم ، لو قرأت أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وأدعيته لوجدت أن كل نعمةٍ عزاها إلى الله عزَّ وجل ، فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل الخلاء يقول :
((الحَمْدُ لِلَّه الَّذي أذَاقَنِي لَذَّتَهُ ، وأبْقَى فِيَّ قُوَّتَهُ ، وَدَفَعَ عَنِّي أَذَاهُ )) .
( البيهقي في شعب الإيمان ، وابن أبي شيبة في المصنف )
عرف هذه النعمة ؛ نعمة الطعام ، نعمة أنك أكلت طعاماً وشراباً ولم تأخذ سيروماً ، نعمة أن هذا الطعام والشراب لذيذ الطعم ، طيِّب المذاق ، مستساغ ، وهذه التفَّاحة شكلها ، ولونها ، وحجمها ، وقشرها ، ولبُّها ، وقِوامها ، ومضمونها مناسبٌ للجسم ، أذاقني لذَّته .
وأبقى فيَّ قوَّته ، هذه الطعوم التي خلقها الله لنا تفيد أجسامنا ، طعام فيه كالسيوم ، وفيه فيتامين ، وفيه آزوت ، وفيه منغنيز ، هذه المياه معدنيَّة ، وهذه الفواكه فيها الأملاح الفلانيَّة ، وهذه مضادَّات حيويَّة ، وهذه فيتامينات ، أبقى فيَّ قوَّته .
وأذهب عني أذاه ؛ هذه الفضلات خرجت ، ولو بقيت لكانت حياة الإنسان جحيماً .
إذاً : لو قرأتم أدعية النبي عليه الصلاة والسلام لوجدتم هذا المعنى ، حتى إذا دخل بيته كان يقول:
((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا ، وَسَقَانَا ، وَكَفَانَا ، وَآوَانَا ، وَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِيَ لَهُ وَلاَ مُؤْوِي )) .
( الترمذي عن أنس )
النقطة الدقيقة في هذا الدرس أن المؤمن ينتقل من الكون إلى المكوِّن ، ومن النظام إلى المنظِّم ، ومن التسيير إلى المسيِّير ، ومن الوجود إلى الموجد ، ومن النِعمة إلى المُنعم ، لا يقف عند الوجود ، لذلك جاء في الفاتحة :
﴿ الحَمْدً للهِ ﴾
لا خلاف بين الناس في النعمةِ ، ولكن الخلاف في المنعِم :
الخلاف ليس على النعمة ، لكن الخلاف إلى من تُعزَى هذه النعمة ، الحمد لله ، الحمد ليس فيه خلاف ، هناك نعمةٌ تستحق الحمد ، ولكن لمن ؟ لله ، الحمد لله رب العالمين ، ليس هناك خلافٌ على النعمة ، بل الخلاف في مصدر هذه النعمة ، إنه الله سبحانه وتعالى .
إذاً:
﴿ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ﴾
تطبيقاً لهذه الآية : لو أن أخاً مؤمناً مرض ابنه لا سمح الله ولا قدَّر ، وأخذه إلى طبيب ، وقد أجرى الله الشفاء على يد هذا الطبيب ، فالأخ المؤمن ينبغي أن يشكر الله سبحانه وتعالى أولاً ، لأنه مكَّن الطبيب من معرفة الداء وألهمه الدواء ، وسمح للدواء أن يفعل فعله ؛ أما أن تنسى الله سبحانه وتعالى ، وينصَّب كل الشكر على عمل هذا الطبيب فهذا شرك .
لو وكَّلت محامياً وقد وفَّقه الله وأخذ لك الحكم ممن ظلمك ، ينبغي أن تشكر الله عزَّ وجل على أنه جعل القاضي يقتنع ، وألهم هذا المحامِي أن يرفع مذكِّرةً قويَّةً ، لولا أنّ الله أراد لما كان ما كان .
النبي عليه الصلاة والسلام يردّ كل النعم إلى ربّه :
كل النعم التي تساق إليك في الأعم الأغلب تساق على يد إنسان ، فالشرك أن تراها من هذا الإنسان ، والتوحيد أن تراها من الله عزَّ وجل ، لذلك بعد أن فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكَّة ، وانتهى من معركة حُنَيْن ، أذكر هذه القصَّة لكلمة واحدة قالها النبي عليه الصلاة والسلام ، جاءه أحد صحابته وهو سيدنا سعد بن معاذ قال : يا رسول الله ، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم ـ أي هم غاضبون ـ قال : " أين أنت منهم يا سعد ؟ " ، قال : " ما أنا إلا من قومي " ، فقال عليه الصلاة والسلام : " اجمع لي قومك " ، فجمع الأنصار ، وقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام :
(( يا معشر الأنصار ، ما قالة بلغتني عنكم ، وجدة وجدتموها في أنفسكم )) .
(من كنز العمال : عن " أبي سعيد)
طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الوقت ، وفي هذا المكان كان في قمة انتصاره ، الجزيرة العربيَّة من أقصاها إلى أقصاها دانت له ، مكَّة والمدينة وجميع القبائل دانت له بالخضوع بعد معركة حنين ، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كغيره كان بإمكانه أن يُلغي وجودهم ، وبإمكانه أن يهدر كرامتهم ، لو قال عنهم : منافقون لانتهوا ، وبإمكانه أن يهملهم ، وبإمكانه أن يعاتبهم ، ويذكِّرهم بفضله عليهم ، لكنه لم يلغِ وجودهم ، ولم يهدر كرامتهم ، ولم يهملهم ، ولم يعاتبهم ، ولم يُذَكِّرهم بفضله عليه ، بل جمعهم ، وذكَّرهم بفضلهم عليه فقال :
(( يا معشر الأنصار لو شئتم لقلتم فصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، ومخذولا فنصرناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فواسيناك ـ هذا الحق ، ذوبهم اللهمَّ صلّ عليه ـ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ؟ )) ، لم يقل : فهديتكم ، هنا التوحيد .
يكون أحدنا ذا علم قليل فيتكلّم بكلمتين ، فتدمع عين السامع ، فيقول : أنا هديته، ولي فضل عليه ! أي فضل هذا ؟ النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد البشر قال : " ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ؟ " ، هذا التوحيد .
أنا لا أقول هذا من باب التأدُّب ، لا ، هذه هي الحقيقة ، الله عزَّ وجل أوجدك ، نعمة الإيجاد ، نعمة الإمداد إذ جعلك من أم وأب وليس لقيط ، دلَّك عليه ، هيَّأ لك عملا ، أعطاك إمكانات خبرة ، إما علم ، أو صنعة ، أو مصلحة ، زوَّجك ، أمَّن لك بيتًا ، فهذا كله من فضل الله على الإنسان قال :
((ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ قالوا : بلى ، قال : ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة ـ انظر إلى هذا الاسم أي مثل الخشخيشة ـ تألفت بها قوما ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعون برسول الله إلى رحالكم ؟ " قال : فبكوا حتَّى أخضلوا لحاهم ، قال عليه الصلاة والسلام :
((فو الذي نفس محمد بيده ! لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار )) .
( كنز العمال عن أبي سعيد)
قلت مرَّةً تعليقاً على هذه القصَّة في خطبة : كان الله في عون كُتَّاب السيرة أين يضعون هذه القصَّة ، مع حلم النبي أم مع رحمته ؟ أم مع وفائه أم مع حكمته ؟ شيء يحيِّر ، حكمة أم رحمة ، أم حلم أم وفاء ؟ هذا هو النبي اللهمَّ صلّ عليه .
ذكَّرني هذا بقصَّة أخرى ، عندما أرسل أحد أصحابه ، وهو حاطب بن أبي بلتعة ، كتاباً إلى قريش قبيل فتح مكَّة يقول فيه : " إن محمداً سيغزوكم فخذوا حذركم " ، وهذا الكتاب في مقياس أمم الأرض قاطبةً ، وحكومات الأرض قاطبةً خيانةٌ عُظمى ، ويستحق صاحبه الإعدام ، فلمَّا أخبر الوحي النبي عليه الصلاة والسلام بهذا أرسل النبي أحد أصحابه ليأتوا بالكتاب من امرأة كانت في منتصف الطريق في مكان اسمه الروضة ، واستدعي حاطب بن أبي بلتعة ليُحقَّق معه ، ما كان من عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلا أن قال : " يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق " ، فقال عليه الصلاة والسلام :
((أو ليس من أهل بدر " ، أي لم يهدر له عمله ، قال : " يا حاطب ، ما حملك على ما صنعت ؟ " قال : " والله يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت ، ولكن أردت أن يكون لي صنيعةٌ عند قريش ، لأنه ليس لي عندهم أهلٌ يحمونني " ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( صدق ، ولا تقولوا له إلا خيراً )) .
( صحيح البخاري عن حصين )
وعلَّق كُتَّاب السيرة على هذه الحادثة : بأن عمر نظر إلى الذنب فرآه خيانةً عُظمى ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى صاحب الذنب فرآه قد وقع ، وتعثَّر في لحظة ضعفٍ طارئة ، فأراد النبي أن يعينه على نفسه ، وأن ينهضه ، وأنهضه ، وحَسُنَ إسلامه ، وأرسله مندوباً شخصياً لبعض الملوك في المستقبل ، لذلك النبي كما قال بعض الشعراء :
وأجمل منك لم ترَ قد عيني و أكمل منك لم تلد النساءُ
خُلِقت مبرَّأً من كل عـيبٍ كأنَّك قد خُلقت كما تـشاءُ
***
موطن الشاهد في هذه الآية أي أن المؤمن ينتقل من الكون للمكوِّن ، من النظام للمنظِّم ، من التسيير للمسيِّير ، من الوجود للموجد ، من النعمة إلى المُنعم ، كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ صباحاً أول ما يقول :
((الحمد لله الذي ردَّ إليَّ روحي ـ أيْ أنه استيقظ ، هناك ناس ينامون ولا يستيقظون ـ وعافني في بدني ، وأذن لي بذكره )).
( الجامع الصغير عن أبي هريرة )
تطبيق عملي للآية :
إذاً : الآن كتطبيقٍ لهذه الآية : أية نعمةٍ ساقها الله إليك على يد إنسان لا تنسَ المنعم ، بل إن بعض المؤمنين إذا استفادوامن جهازٍ دقيق يقول : لولا أن عقل الإنسان قد مُكِّنَ من اختراعه لما اخترعه هذا الإنسان ، فهذا من نعمة الله أيضاً ، فالمؤمن دائماً يصل إلى الله حتى من خلال جهاز اخترعه إنسان ، القرود ما اخترعوا هذا الجهاز ، القضيَّة قضية ذكاء ، هناك حيواناتٌ عاشت آلاف السنين، وما اخترعت شيئاً ، معنى هذا أن الإنسان مهيَّأ ليبدع ، وهذا من ثمار عقل الإنسان .
إذاً : هذا الذي يعظِّم كل من اخترع أو اكتشف ، الحقيقة التعظيم لله عزَّ وجل ، والدليل قوله تعالى حينما حدَّثنا عن الدواب قال:
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(8) ﴾
(سورة النحل)
فهذا الذي لم يكن يعلمه من نزلت عليهم هذه الآيات ، الآن ظهرت وسائل المواصلات الأخرى كالطائرات وغيرها ، هذه أيضاً من إلهام الله عزَّ وجل ، بل إن الحدس الإبداعي قفزة في المجهول ، إشراقة ، هكذا يقول العلماء .
إذاً : الملخَّص هنا أن الإنسان عليه أن يرى المنعم ، وقد ذكرت قصة النبي عليه الصلاة والسلام مع الأنصار من أجل كلمة واحدة وهي : (( ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله بي )) ، فأنت إذا عزوت الأمر كله لله فأنت على حق ، وإلا وقعت في شركٍ خفي وأنت لا تدري .
قال:
﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ
1 ـ كيف يستكبر العبد الضعيف عن عبادة ربِّه ؟!
إن استكبروا ، أي أن الإنسان أحياناً لضعف تفكيره أو لجهله يستكبر عن عبادة ربِّه . أحد إخواننا الكرام كان طبيبا لامعا جداً توفَّاه الله عزَّ وجل ، فذهبت لتشييع جنازته ، فوجدت أشخاصا مهمِّين جداً يقفون خارج المسجد لا يصلون ، لا صلاة الجنازة ولا صلاة الظهر ، فعجبت وقلت : يا رب ، أهؤلاء يرون أنهم أكبر من أن يصلوا ؟ يستكبرون عن عبادة الله أم ماذا ؟ ربنا عزَّ وجل يقول في الحديث القدسي :
(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
( من صحيح مسلم عن أبي ذر )
2 ـ الملائكة طائعون غير مستكبرين :
فلو أن كل الناس كفروا الله عزَّ وجل لا ينقص ملكه شيء ..
﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ﴾
عن أن يعبدوا الله ..
﴿ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ﴾
وهم الملائكة ..
﴿ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ ﴾
أي يصلون ..
﴿ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾
وهذا تعريضٌ بالضعاف الذين يعبدون الله عزَّ وجل ..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾
الاستدلال على البعث وهو غيب بالأرض المحسوسة :
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً
الأرض في الشتاء يابسة ، الأشجار حطب ، معظم الأشجار تتعرَّى في الشتاء ، ويتوقَّف النُسُغ الصاعد والنازل ، فلو أمسكت غصناً وكسرته لوجدته حطبا ، خشبٌ يابس لا حياة فيه ، الأرض كذلك ، والأشجار كذلك..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾
هنا وُصِفَت بأنَّها خاشعة ، السياق يقتضي ذلك ، في آية أخرى وصفَت بأنها هامدة ..
﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾
فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
أي بعد الربيع ترى المساحات الشاسعة كلُّها خضراء ، فإذا سرتَ في الطرقات وجدت أنواع الزهور التي تأخذ بالألباب ؛ من كل الألوان ، والأحجام ، والأشكال ، والتناسُقات ، والتداخلات ، فإذا مشى الإنسان في طريق ريفي في فصل الربيع يجد أن أنواع الأزهار لا تعد ولا تحصى على جوانب الطريق ، والمساحات الخضراء ومعها أزهار صفراء ، معها أزهار حمراء اللون ، بعض الأزهار معروفة ـ شقائق النعمان ـ
﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء ﴾
وهذا الحطب اليابس الذي كان بالأمس حطباً يابساً ، تزهر هذه الشجرة ، فإذا هي ترتدي ثوباً قشيباً من الأزهار ، وتعلمون جمال الغوطة في الربيع في الشام
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾
هذه آية ثانية ..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ ﴾
أي أن هذا الماء جعلها تتحرَّك ، طبعاً تجد بذرة فيها رشيم ، فهذا الرشيم فيه حياة ، مع الرشيم محفظة غذاء وقشرة ، هذه هي البذرة ، ضع حبة فاصولياء ، أو حبة عدس ، أو حبة قمح على قطن وماء ، بعد أيام تجد أنه قد ظهر لهذه البذرة نتوءٌ صغير هو السويق ، ونتوءٌ آخر هو الجذير إلى أن تصبح هذه القمحة ، أو هذه العدسة أو الفاصولياء فارغة ، هذا الماء حرَّك الرشيم ، طبعاً الرطوبة والنور أحد أسباب نمو الرشيم ، لذلك بعض أنواع النِمال إذا أرادت النملة أن تخزِّن القمح تأكل الرشيم لئلا ينمو ، وهناك بعض أنواع الحبوب لها زوجان من الرشيمات ، تأكل الزوجين معاً لئلا تنمو ، فإذا جاء الماء تحرَّك هذا الرشيم ، الرطوبة مع النور والدفء أعطت الرشيم حركة ، وهناك في الأهرامات قمحٌ زُرِع فنبت ، أي أن الرشيم يبقى حياً ستة آلاف عام أحياناً ، لأن الرشيم فيه حياة ..
﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾
صار هناك حركة و نمو ، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾
النبات دليل على عظمة الله :
بعض أنواع نباتات الزينة الغرام الواحد فيه سبعون ألف بذرة ، وكل بذرة لها رشيم ، ولها محفظة غذاء ، ولها جُذَير ، ولها غشاء ، الغذاء يكفي البذرة حتى ينشأ لها جُذَيْر ليمتص الغذاء من التربة ، قال :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾
ظاهرة النبات من أعظم الآيات الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل ، يقول لك : هذه البذرة تصبح تينه ، هذه مشمشة ، هذه دراق ، أمسك البذرة أين مكتوب درَّاقة ؟ أين مكتوب دراق مخملي ؟ الدرَّاق أنواع ، ثلاثمائة نوع من العنب ، ثلاثة آلاف وخمسمائة نوع من القمح ، لا توجد فاكهة أو محصول إلا وله أنواع بالمئات أو بالألوف ، أمسك البذرة ، هذه البذرة مثلاً إنتاجها مبكِّر ، مقاومة للأمراض الفلانيَّة ـ شيءٌ جميل ـ إنتاجها مبكِّر ومديد ، ثمرتها قاسية ، لونها كذا ، تفَّاحيَّة الشكل ، قطرها كذا ، حامضية الطعم ، نسيجها كثيف ، ماؤها قليل ، تسمع أحياناً من شركات البذور اثنتي عشرة أو عشرين صفة للبذرة ، امسك البذرة ، أين توجد هذه الصفات ؟ لا ترى شيئاً ، ترى بذرة صغيرة .
الله عزَّ وجل جعل البذرة كأنها مبرمجة برنامجا دقيقا جداً ، هذه البذرة تعطيك إنتاجا مبكِّرا أسعاره غالية ، هذه تعطيك إنتاجا مديدا ، هذه تعطي إنتاجا غزيرا ، هذه تعطي إنتاجا من نوع معيَّن ، فهذا علم قائم بذاته ، فظاهرة النبات من أعظم الآيات الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل ، وهذه البذور تتزواج أحياناً ، فتنتج بذورا هجينة ، نأخذ صفات هذا النبات مع صفات هذا النبات ، مع صفات هذا النبات ، بعض البذور تجرى لها عملية تهجين لها ثماني مرَّات ، ثماني حالات زواج بين نوعين من أنواع النبات حتى ظهرت هذه البذرة ..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾
بعض البذور تنتقل عبر الرياح ، في بعض الغابات زُرعت من قِبَل الله مباشرةً ، بذرة لها شكل حلزوني وقمع ، فتنغرس بعد سطح التربة باثنين سنتيمتر ، ثم تسير هذه البذور في الممر الحلزوني إلى أن تستقر في التراب ، وبعض الرَّعويات تُزرع بهذه الطريقة ، والإنسان لا يد له فيها إطلاقاً ، بعض أنواع البذور لا تنبت إلا إذا أكلتها الزرافة ، وأخرجتها مع روثها عندئذٍ تنبت ، فموضوع البذور عالم قائم بذاته ..
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ﴾
النتيجة الاستدلالية : إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى
هنا نحن أمام آيتين : آيةٌ دالَّةٌ على عظمة الله ، وآيةٌ دالَّةٌ على اليوم الآخر ..
﴿ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
النبات أيها الإخوة كما قال الله عنه :
﴿ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 99)
هناك نبات يعطيك الخشب ، فخشب الزان نبات ، وخشب الحور نبات ، هناك حوالي مئة نوع من الخشب ، كلها لاستعمال صناعي ، هناك نبات يعطيك أصبغة ، نباتيعطيك مطَّاطا ، نبات يعطيك أدوية ، نبات يعطيك أغذية ، أحياناً الغذاء يكون بالجذر ، أحياناً بالساق ، أحياناً بالأوراق ، أحياناً بالزهر ، أحياناً بالثمار ، هناك نبات مظلة ، هناك نبات تزييني ، هناك نبات حدودي ، هناك مسابح نبات ، الليف نبات ، الخُلَّة نبات ، السواك نبات ، القطن نبات ، نسيج ، الأدوية نبات ، المطَّاط نبات ، الفلين نبات ، الكاوتشوك نبات ، هذا ..
﴿ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 99)
لو حاوَل أحدنا أن يحصيها ، إذا نظر ضمن بيته ففي غرفة الضيوف خشب زان ، النوافذ خشب كندي ، الكبريت خشب شوح طري ، يجد نبات كل شيء ، أربعة أخماس موجودات البيت أساسه نبات ، يرتدي ثيابا من قطن ، هذا من النبات ، النسيج أكثره نبات ، إذاً عندما قال ربنا :
﴿ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 99)
هذه آية كبيرة جداً من آيات الله الدالَّة على عظمته .
إذاً :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
خاتمة :
موضوع النبات ، موضوع ورق النبات موضوع عظيم ، وقد قرأت مرَّة في مقالة أن أعظم معمل صنعة الإنسان يبدو تافهاً أمام الورقة ، هذه الورقة التي فيها يخضور ، وفيها طاقة شمسيَّة مخزونة ، وفيها يطلع النُسُغ الصاعد معه ثمانية عشر معدنا ، فيحدث تفاعل مع الشمس،ومع الآزوت ، ومع مادة اليخضور فيرجع نسغا نازلا يشكِّل الجذر ، والساق ، والأوراق ، والنبات ، ولا يوجد في عالم الصناعة سائل واحد يكون مرَّة صاجا ، ومرَّة خشبا ، ومرَّة بلاستيكا .. إلخ ، هذا غير معقول ، هذا النسغ النازل يصنع الجذر من جديد ، وينمّي الجذع ، وينمي الأوراق ، وينمي الثمار ، وهو سائل واحد ، ونحن نتكلَّم أشياء من بديهيَّات العلم ، من مستوى الدارس في الإعدادية ، وليس أكثر ، أما لو تعمَّقتم في العلم لرأيتم العجب العجاب .
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نبدأ بقوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا ﴾
بهذه الآيات الدالَّة على عظمته ..
﴿ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ﴾
والحمد لله رب العالمين