سورة الأعراف (007)
الدرس (41)
تفسير الآيات: (142 ـ 144)
استعداد سيدنا موسى للقاء الله بعد مشقة كبيرة مع فرعون
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
إغراق آل فرعون عبرة لمن جاء بعدهم :
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس الواحد والأربعين من دروس سورة الأعراف ، ومع الآية الثانية والأربعين بعد المئة ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ .
أيها الأخوة ، بعد أن نجى الله بني إسرائيل من فرعون الذي كان يقتّل أبناءهم ويستحيي نساءهم ، بعد أن نجاهم منه بمعجزة ، حينما تبعهم بالبحر ، فلما خرج موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام مع قومه إلى الضفة الثانية ، عاد البحر بحراً ، وأغرق الله آل فرعون ودمرهم ، وأصبح عبرة لكل طاغية .
بعد أن نجى الله قوم موسى من فرعون ، الذي تفنن في سفك دمائهم ، واستحياء نسائهم ، وإذلالهم ، الآن جاء طور آخر ، هذا الطور هو مجيء التشريع ، فقال تعالى : ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ .
الإجمال والتفصيل إن جاءا في آية واحدة حُلّ الإشكال :
أيها الأخوة ، ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ﴾ أي هناك وقت ، ومكان لإلقاء الكتاب على موسى الذي فيه منهج الله ، وفيه التعريف لماذا خلق الإنسان في هذه الدنيا ؟ ولكن قد يقول قائل هناك آية يقول الله عز وجل :
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ .
( سورة البقرة الآية : 51 ) .
وفي هذه الآية : ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ قال بعض علماء التفسير هناك إجمال ، وهناك تفصيل ، ففي الآية الأولى ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ هذه آية طابعها الإجمال ، وفي الآية الثانية ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ هذه آية فيها تفصيل ، فإذا جاء الإجمال والتفصيل معاً في آية واحدة حُل الإشكال ، ﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ .
لكن أحياناً تأتي آيات من نوع آخر يبدو أن هناك تناقض بينها ، من هذه الآيات :
﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ .
( سورة فصلت ) .
في يومين ، وفي أربعة أيام .
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ .
( سورة فصلت ) .
كم يوم أصبحوا ؟ ثمانية ، وفي معظم آيات القرآن الكريم :
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ .
( سورة هود الآية : 7 ) .
فقال هذا إجمال وتفصيل .
كلام الله كلام معجز وأي إشكال في القرآن الكريم على الإنسان أن يسأل عنه أهل الذكر :
قد يفهم هذا الإجمال والتفصيل معاً بالتداخل ، فقد تقول مثلاً وصلت إلى حمص في ساعتين ، وإلى حماة في ثلاث ساعات ، ماذا نفهم ؟ أن الزمن الذي استغرقته بالوصول إلى حمص داخل في حماة ، وصلت إلى حمص في ساعتين ، وإلى حماة في ثلاث ساعات ، هناك تداخل ، على كلٍ إن هذا الموضوع حينما نؤمن أن كلام الله كلام معجز وأن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، أي إشكال يبدو لك في القرآن الكريم هناك إجابة مقنعة مئة بالمئة ، ولكن قال تعالى :
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ .
( سورة النحل ) .
أهل الذكر أهل القرآن ، هناك ملمح آخر في قوله تعالى :
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ .
( سورة يونس الآية : 39 ) .
إذاً أنت ليس مسموح لك أن تتساءل ، أو أن تحكم قبل أن تسأل ، ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ ، ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ هناك إشكالات كثيرة جداً ، تبدو في الظاهر إشكالات ، يبدو في الظاهر مفارقات ، هي في الحقيقة آيات محكمات ولها شرح وتفصيل ، وتعليل رائع جداً .
ما من شيء عظيم يفوق أن تعرف الله عز وجل :
أيها الأخوة ، الموضوع الدقيق الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى قال ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ﴾ لقاء بين سيدنا موسى وبين ربه .
الإنسان أحياناً يعتز بلقاء مع ملك ، يعتز بلقاء مع إنسان كبير ، مع عالم جليل ، أما هنا اللقاء مع خالق السماوات والأرض ، أنا أذكر هذا المثل كثيراً كي أضع الحقيقة كاملة بين أيديكم :
الطفل الصغير إذا قال مرة : معي مبلغ عظيم ، كم تظنه ؟ طفل والده معلم ، وجاء العيد ، وانتهى العيد ، وقال لأخيه الكبير معي مبلغ عظيم ، أنا أقدره بمئتي ليرة ، كلمة عظيم من طفل تعني 200 ، فإذا قال مسؤول كبير في دولة عظمى تزمع أن تشن حرباً على بلد نفطي : أعددنا لهذه الحرب مبلغاً عظيماً ، الكلمة نفسها ، ما دامت هذه الكلمة صدرت من مسؤول كبير في دولة عظمى 200 مليون ، لا ، 200 مليار دولار ، كلمة عظيم من هذا الإنسان نقدرها بمئتي مليار ، الكلمة واحدة .
فإذا قال ملك الملوك ، ومالك الملوك ، فإذا قال قيوم السماوات والأرض ، فإذا قال خالقنا ، وربنا ، ومسيرنا :
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ .
( سورة النساء ) .
هل هناك من شيء عظيم يفوق أن تعرف الله .
(( ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء )) .
[ ورد في الأثر ] .
الإله العظيم الطريق إليه سهل جداً:
لذلك ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ﴾ أحياناً رمضان فرصة للقاء مع الله ، للقاء مع الله في الصلوات الخمس ، في صلاة الفجر ، في صلاة التراويح ، الحج فرصة للقاء مع الله عز وجل ، الصلوات الخمس فرصة للقاء مع الله عز وجل ، والآية التي تنظم هذه اللقاءات :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾ .
( سورة الكهف الآية : 110 ) .
يعني يستطيع مجند غر ، التحق لتوه في قطعة عسكرية تنتمي إلى لواء كبير أو إلى فرقة كبيرة ، مؤلفة من ثلاثة ألوية ، على رأس هذه الفرقة ، لواء أركان حرب ، هل يستطيع هذا المجند الغر أن يقابل هذا اللواء الذي يرأس ألوية ثلاثة ؟ في كل أنظمة العالم ، وفي كل جيوش العالم هذا الجندي الغر ، لا يستطيع مقابلة هذا اللواء الكبير ، لأن أمامه عريف ، على التسلسل يقابل العريف ، ثم عريف أول ، ثم مساعد ، ثم مساعد أول ، ثم ملازم ، ثم ملازم أول ، ثم نقيب ، ثم رائد ، ثم مقدم ، ثم عقيد ، ثم عميد ، ثم لواء ، بعدها في عماد ، هل يستطيع هذا الجندي أن يقابل أعلى رتبة مباشرة ؟ لا يستطيع ، إلا في حالة واحدة ، أن يكون ابن هذا اللواء الكبير يسبح وكان على وشك الغرق فألقى هذا الجندي بنفسه وأنقذه ، يدخل عليه من دون استئذان ، ويكرمه أعظم تكريم ، وقد يجلس إلى جانبه وقد يضيفه بنفسه ، أليس كذلك ؟ هذا المثل ضعوه بين أيديكم ، ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ .
أسعد إنسان من تجلى الله على قلبه بالأمن و الاستقرار :
أتحب أن تبكي في الصلاة ؟ أتحب أن يتجلى الله على قلبك ؟ أتحب أن تشعر أن الله يحبك ؟ أتحب أن تحس بالأمن ؟ أتحب أن تحس بالاستقرار ؟ أتحب أن تحس أن الله راضٍ عنك ؟ كل هذه المشاعر ثمنها العمل الصالح ، ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ .
ثمنها أن ترحم عباد الله ، ثمنها أن تنصحهم ولا تغشهم ، ثمنها ألا تبتز أموالهم ، ثمنها ألا تلقي الرعب في قلوبهم ، ثمنها أن ترحمهم ، أن تقدم لهم كل مساعدة ، إنهم عباد الله .
لذلك أيها الأخوة ، إن أردت ميقات الله عز وجل ، إن أردت خلوة مع الله ، إن أردت إقبالاً على الله ، إن أردت أن تستمد من الله العون ، والتوفيق ، والنصر ، والتأييد ، وأن يسعدك ، إن أردت أن تقول ليس في الأرض من هو أسعد مني ، إن أردت أن تشعر أنك متفوق ، وأن الله يحبك ، وأن كل من في الأرض بيد الله عز وجل ، وأنت مع الله ، كل من في الأرض من أقوياء بيد الله ، وأنت مع الله ، وإذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان عليك فمن معك .
كل إنسان بحاجة إلى شحنة روحية و خلوة مع الله عز وجل :
لذلك أيها الأخوة ، ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ﴾ سيدنا موسى استخلف أخاه هارون في قومه ، هو ذهب إلى المناجاة ، ذهب إلى الخلوة مع الله ، ذهب إلى ما يشبه غار حراء ، وأنا أقول لكم أيها الأخوة : كل مؤمن يحتاج إلى غار حراء ، أحياناً غرفته إذا جلس في هذه الغرفة ، وقرأ القرآن هذا يشبه غار حراء ، إذا ذكر الواحد الديان ، هذا يشبه غار حراء ، إذا ذكر الله باسمه ، أو بما دعا به النبي عليه الصلاة والسلام ، يعني لا بد لك من أن تشحن شحنة روحية .
وهذا الهاتف الجوال أكبر دليل على ذلك ، إن لم تشحنه تنطفئ الشاشة ، ويصمت وينتهي عمله .
وهذا المؤمن إن لم يشحن عندنا شحنات يومية ، خمس شحنات يومية ، الصلوات الخمس ، هذه الشحن بسيطة تكفي للصلاة التي تليها ، عندنا شحنة أطول شحنة أسبوعية ؛ شحنة خطبة الجمعة ، إذا أنت استطعت أن تدرك ركعتي الجمعة مع الإمام إياك أن تتوهم أنك أديت صلاة الجمعة ، لأن الله عز وجل حينما قال :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ .
( سورة الجمعة الآية : 9 ) .
قال علماء التفسير : ذكر الله هي الخطبة ، هذه عبادة تعليمية ، هذه العبادة التعليمية من خصائص هذا الدين العظيم ، ﴿ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ ، بل إن الذي يأتي مبكراً كأنه قدم جملاً (ناقة) ، والذي يأتي بعده كأنه قدم بقرة ، والذي يأتي بعده كأنه قدم شاة ، والذي يأتي بعده كأنه قدم دجاجة ، والذي يأتي بعده كأنه قدم بيضة ، هذا كله قبل أن يصعد الخطيب إلى المنبر قال : فإذا صعد الخطيب المنبر طوت الصحف ، يقول لك أنا لحقت ركعة الحمد لله ، شيء مضحك ! عبادة تعليمية أرادك الله أن تستمع إلى خطبة ، إلى موضوع ، موضوع متعلق بآخرتك بسلامتك ، بسعادتك ، بتألقك ، بالتوفيق ، بالنصر ، بالتأييد .
استخلاف سيدنا موسى لأخيه هارون في قومه :
لذلك أيها الأخوة ، ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ﴾ هو هيأ نفسه تهيئة كبيرة ، هيأ نفسه بالذكر ، هيأ نفسه بالتنقية من كل شيء ، من كل شائبة ، استخلف أخاه هارون ، و هارون رسول أيضاً ، والدليل لما التقى سيدنا موسى وهارون مع فرعون :
﴿ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ ﴾ .
( سورة طه الآية : 47 ) .
سيدنا هارون رسول ، سيدنا موسى أيضاً رسول ، فسيدنا موسى استخلف أخاه هارون ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ﴾ وكلتك بقومي ، بعد أن نجاهم الله عز وجل من فرعون .
﴿ وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ إذا قلت للصالح أصلح ، أي داوم على إصلاحك ، نبي كريم هو صالح ، صالح من الصالحين الكبار ، ﴿ وَأَصْلِحْ ﴾ يعني اسلك سبيل الصلاح الذي عُهد منك .
أما ﴿ وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه أن هناك مشكلة سوف تنشأ مع بني إسرائيل ، وأخوك مسؤول عنكم ، فقال له : ﴿ وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ .
تناسي قوم فرعون المعجزات الدالة على عظمة الله وطلبهم بأن يُجعل لهم إلهاً :
لكن الذي حصل أن سيدنا موسى ذهب إلى المناجاة (ولها حديث طويل بعد قليل) واستخلف أخاه هارون في قومه ، فلما نجا الله بني إسرائيل من فرعون الذي قتّل أبناءهم واستحيا نساءهم ، قدموا على قوم يعبدون العجل من دون الله .
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾ .
( سورة الأعراف الآية : 138 ) .
هذه الآيات الصارخة الدالة على عظمة الله ، كيف أن الله أغرق فرعون ، وما أدراك ما فرعون ، بقوته ، بجبروته ، بمن حوله ، بأسلحته ، دمره كمعجزة ، كيف أن الله جعل البحر طريقاً يبساً ، كيف أن عصا سيدنا موسى ألقاها :
﴿ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴾ .
( سورة الأعراف ) .
كيف أن هذا الثعبان أكل كل ما صنعه السحرة والمفسدون ، كيف يتناسى هؤلاء كل هذه المعجزات ، ويقولون لسيدنا هارون : ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾ ، ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ .
إن لم ترحم من حولك لست مؤهلاً أن تقودهم :
بالمناسبة : انظر إلى الكلام ما أدقه ، ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ ﴾ أنت أخي ، ما معنى أنت أخي ؟ قال فيها تحنن ، أنت ابني تقول أحياناً ، أنا ابنك يا أبتِ ، هذا كلام فيه تحنن ، فسيدنا هارون رسول ، وأخ لسيدنا موسى ، علاقة القرابة تبدو قوية جداً ، بدأ بأخوته ، ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ﴾ أن تنوب عني بإشراف عليم ، ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ﴾ ماذا تعني كلمة قومي ؟ فيها انتماء .
حينما جاء ملك الجبال النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف وقال له : أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين ، ماذا قال النبي الكريم ؟
(( اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون )) .
ما الذي يحدث الآن ؟ إنسان يسافر لبلد غربي ويعود وقد انسلخ من أمته متخلفون ! كأنه هو من طينة أخرى ، كأنه صار من ذهب وهؤلاء من طين ، هذا الانسلاخ من بعض شباب المسلمين إذا سافروا إلى الغرب ينعتقون من دينهم ، ومن أمتهم ، ومن واقعهم ، ويستعلون عليه ، سيد الخلق وحبيب الحق ، قال : (( اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون )) .
دقق في هذا الكلام : ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ ﴾ يعني أنت أخي وشريكي في الرسالة ، قال له : ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ﴾ في قومي ، هم عزيزون عليّ ، وما لم يكن الذين حولك عزيزين عليك أنت لست مؤهلاً أن تقودهم ، أساس القيادة تحتاج إلى حب ، أساس القيادة تحتاج إلى رحمة ، إن لم ترحم من حولك أنت لست مؤهلاً أن تقودهم ، أنا أقول هذا الكلام لأي منصب قيادي ، أنت معلم إن لم تحب طلابك لن تعلمهم ، أنت مدير مستشفى إن لم تحب الأطباء والممرضين ، وتراهم أسرة واحدة لن تحسن قيادتهم ، الأساس هو الرحمة ، الأساس هو الحب ، ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي ﴾ قومي عزيزون عليّ .
التشريع الإلهي لا يزيد عن كلمتين ؛ افعل أو لا تفعل :
أما سيدنا موسى هو الآن يعد نفسه للقاء الله عز وجل .
بالمناسبة : سوف يأتي في هذا الميقات تشريع إلهي ، وينبغي أن نعلم علم اليقين أن التشريع الإلهي لا بد من كلمتين ، افعل ، فعل أمر ، ولا تفعل فعل مسبوق بنهي ، فالقرآن الكريم من دفته إلى دفته ، الأوامر والنواهي لا تزيد عن افعل ، ولا تفعل .
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ .
( سورة لأنعام الآية : 72 ) .
افعل .
﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ .
( سورة الحجرات الآية : 12 ) .
لا تفعل ، منهج الله عز وجل لا يزيد عن كلمتين ، افعل ، ولا تفعل ، ويجب أن توقن وأن تعلم علم اليقين أن كل شيء أمرك الله أن تفعله أنت قادر على أن تفعله ، وتستطيع أن تفعله .
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ .
( سورة البقرة الآية : 286 ) .
وأن كل شيء نهاك الله عنه أنت قادر على أن تنتهي عنه ، وباستطاعتك أن تبتعد عنه ، لقوله تعالى : ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ .
لذلك أي دعوة من أي مؤمن أنا لا أستطيع ، نقول له : لا ، الاستطاعة لست أنت الذي تحددها ، الذي يحددها هو الله عز وجل ، ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ .