سورة الجاثية 045 - الدرس (7): تفسير الأيات (24 – 29)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الجاثية 045 - الدرس (7): تفسير الأيات (24 – 29)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الجاثية

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الجاثية ـ (الآية: 24 - 29)

09/05/2013 17:56:00

سورةالجاثية (045)
الدرس (7)
تفسير الآيات: (24 – 29)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
        الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 
       أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس السابع من سورة الجاثية ، ومع الآية الرابعة والعشرين ، وهي قوله تعالى :
     
﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾
 
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ
 
        المفترق الذي يفترق عنده المؤمن من الكافر هو هذا المُفْتَرَق ، الكافر يرى الدنيا كل شيء ، من سعد فيها فهو السعيد ، ومن كان شقيًّا فهو الشقي ، من غنى فهو الغني ، ومن افتقر فيها فهو الفقير ، إذا كانت الدنيا أكبر همِّ الإنسان ، أرادها من طريقٍ مشروعٍ أو غير مشروع ، أراد مالها من حلالٍ أو من حرام ، أراد المُتعة بطريقةٍ تُرضي الله أو لا ترضيه ، فلذلك أركان الإيمان خمسة ، الركنان الأساسيَّان اللذان وردا دائماً مقترنين هما : الإيمان بالله واليوم الآخر .
 
       أولاً : دنيا في القاموس هي دنيا ، وليست عُليا ، كلها متاعب ، لكنها أساس الدار الآخرة ، فيها ابتلاء الإنسان ، يُبتلى بالغنى كما يُبتلى بالفقر ، يُبتلى بالصحَّة كما يُبتلى بالمرض ، يُبتلى بالقوَّة كما يُبتلى بالضعف ، يُبتلى بإقبال الدنيا عليه كما يُبتلى بإدبارها عنه ، فهي دار ابتلاء وانقطاع ، الموت يأتي فيأخذ كل شيء ، ولا شيء إطلاقاً ، حتى خاتمه ، حتى الذهب الذي في أسنانه يُنْزَع ، حتى حاجاته الشخصيَّة ، أخصُّ خصوصيَّاته تؤخذ منه ، قد يكون مِلء السمع والبصر فيصبح في ثانيةٍ واحدة خبراً من الأخبار ، المرحوم فلان ، عميد الأسرة ، يملك الأموال الطائلة وغير الطائلة ، المنقولة وغير المنقولة ، البيوت ، البساتين ، القصور ، المركبات الفخمة ، في ثانيةٍ واحدة أصبح خبراً بعد أن كان مخبراً ، وفي الأثر :" الدنيا دار بلاءٍ وانقطاع ، والناس فيها في زمن هُدنة" .
 
        نحن في الدنيا الآن كل إنسان له حبل مُرخى ، بإمكانك أن تستقيم ، وقد لا ترى النتائج سريعة ، وبإمكانك أن لا تستقيم ، وقد لا ترى العقاب سريعًا ، بإمكانك أن تأكل المال الحرام إلى أمدٍ طويل دون أن تشعر أن هناك من يُحاسبك ، وبإمكانك أن تتقصَّى الحلال دون أن يزداد المال زيادة غير متوقَّعة ، بإمكانك أن تُطْلِق بصرك ولا أحد يُحاسبك ، وبإمكانك أن تغض البصر ، والله وحده يعلم أنك تطيعه ، بإمكانك أن تصلي ، بإمكانك أن لا تصلي ، بإمكانك أن تُحسِن ، بإمكانك أن تسيء ، أنت مخيَّر ، والعقاب يتأخَّر ، أو الجزاء يتأخَّر ، لو جاء الجزاء عقب السلوك لألغي الاختيار ، ولو أن إنسانًا أساء ، وجاءته الضربة الإلهيَّة مباشرة لامتنع عن الإساءة ، لا سموًّا ، ولا كمالاً ، ولا حبَّاً لله ، ولا تقرُّباً إليه ، ولكن خوفاً من الضربة ، إذًا ألغي الاختيار ، لا ، أنت لك أن تفعل ما تشاء ، ولك أن تُحسن ، ولك أن تسيء ، ولك أن تعطي ، ولك أن تمنع ، ولك أن تعتدي على أعراض الناس ، ولك أن تأكل مالهم ظُلماً وعدواناً ، ولك أن تقمعهم ، ولك أن تؤذيهم ، ولك أن تأخذ ما بأيديهم ، وكأنَّ الدنيا ليس فيها حساب ، أما إذا جاء الحساب ..
 
] فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ¯عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [.
(سورة المدثر9-10)
 
] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [.
(سورة إبراهيم42)
 
] إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [.
( سورة هود49 )
 
        المفترق الذي يفترق منه المؤمن والكافر هو هذا ، الكافر يرى الدنيا كل شيء ، المُتعة فيها هي كل شيء ، اللذَّة فيها كل شيء ، نساؤها كل شيء ، مالها كل شيء ، مناصبها كل شيء ؛ وأما المؤمن فيراها دنيا لا عُليا ، يراها ممرًا ، وليست مقراً ، يراها سببًا للآخرة ، لذلك فيها يتعرَّف إلى الله ، فيها يستقيم على أمره ، فيها يتقرَّب إليه ، إذا عمل فعمله طاعة لله ، يعمل ليكسب المال لينفقه في سبيل الله ، يتعلَّم ليكون علمه موظَّفاً في سبيل الله ، يتزوَّج ليأخذ بيد زوجته إلى الله ورسوله  ، ينجب الأولاد ليربِّيَهُم على طاعة الله .
 
       يوجد فرق كبير جداً بين حياة المؤمن وحياة الكافر ، المؤمن هادف في حياته ، المؤمن كل شيءٍ يسعده في الدنيا ، لأنه في الأصل سعيدٌ بربِّه ، مهما تكن حياته خشنة فهو سعيد،سعيدٌ في الصحَّة والمرض ، في الغنى والفقر ، في القوَّة والضعف ، قبل الزواج وبعد الزواج ، قبل العمل وبعد العمل ، قبل أن يكون مكتفياً ، وبعد أن يكون مكتفياً ، لأن سعادته لا تأتيه من الخارج ، بل تنبع من داخله ، تنبع سعادته من إقباله على الله ، من ابتغاء مرضاته،تنبع سعادته من طمأنينته أن الله يحبُّه ، تنبع سعادته من أنه يطبِّق المنهج الذي لا يُخطئ ، يطبِّق ما في القرآن ، لأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ، هذه سعادته ، فلذلك سر إخفاق الكفَّار أنهم ما رأوا في الدنيا إلا أنها كل شيء ، ما رأوها ممراً ، رأوها مقرَّاً ، ما رأوها دنيا ، رأوها عُليا ، ما رأوها فانية ، رأوها باقية ، لا تبقى لأحد ..
      
﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾
 
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا
 
        ما الذي يميتنا ؟ هكذا الحياة ؟! الدهر يميتنا ؟! من هو الدهر ؟ يقول لك : تقلُّبات الزمان ، قلَب لي الدهر ظهر المِجَنّ ، سَخِرَ القدر مني ، لي حظ ، أو ليس لي حظ ، هذا كلُّه كلام الشرك  ..
 
         عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
 
(( يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَسُبُّ الدَّهْرَ ، وَأَنَا الدَّهْرُ ، بِيَدِي الْأَمْرُ ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )) .
 
        لا يوجد في قاموس المؤمن دهر ولا حظ ، ولا الأيام طحنته ، ولا قلب الدهر له ظهر المِجَن ، ولا حظُّه سيِّئ ، لم يُعطَ حظًّا كما ينبغي ، هذا كله كلام لا معنى له إطلاقاً ..
       
﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾
 
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ
 
تفسير المؤمن للحدث
 
       من نعمة الله العظيمة على العبد القدرة على التفسير الصحيح ، الحدث يقع ، ويراه المؤمن والكافر ، لا يتفاوتان في رؤيته ، لكنَّهما يتفاوتان في تفسيره ، الله عزَّ وجل يسوق مصيبة لإنسان ، المؤمن يراها مَحْضُ رحمةٍ ، ومحض عدلٍ ، ومحض عنايةٍ مشدَّدة ، المؤمن يرى فحواها ، يرى مؤَدَّاها ، يرى الغاية النبيلة التي توخَّاها الله عزَّ وجل ، يرى من خلالها رحمة الله ، يرى من خلالها عدل الله ، يرى من خلالها حفظ الله له ، يرى من خلالها تربية الله له ؛ يأتي الكافر فيرى المصيبة سوء طالع ، سوء حظ ، قهر ، ظلم ، حظُّه سيئ ، محروم ، هكذا يرى الكافر ، لذلك :
      
﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾
 
  وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ
 
    ( الدهر ) اسم بلا مسمَّى ، كلمة بلا معنى ، شكل بلا مضمون ، محتوٍ بلا محتوى ،  دائماً الإنسان العاقل هو الذي ينفذ إلى أعماق الأمر ، أجمل كلمة في موضوع المصائب أن  من لم تُحدِث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر ، وإذا لم تنفعك المصيبة فمصيبتك أعظم ، لذلك آلاف الأشخاص اهتدوا عن طريق المصائب ..
 
      عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : اسْتَضْحَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا أَضْحَكَكَ ؟ قَالَ :
 
(( قَوْمٌ يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ مُقَرَّنِينَ فِي السَّلَاسِلِ )) .
[أحمد]
 
      من لم تنفعه لطائف الإحسان نفعته سلاسل الامتحان ، فإما أن تأتيه طوعاً ، وإما يحملك على أن تأتيه كرهاً ، لذلك بطولة المؤمن وهو في بحبوحة ، وهو في صحَّة ، وهو في رخاء يذكر الله عزَّ وجل ، ويُقْبِلُ عليه ، ويصطلح معه ، ويتوب إليه ، ويناجيه .
      
﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾
 
         يا ترى هل حرَّرت هذا العقل من الأوهام ، والظنون ، والخرافات ، من العقائد الزائغة ؟ ألا ينبغي أن يمتلئ هذا العقل باليقينيَّات ؟ بالقول الثابت ؟ يقول ربنا عزَّ وجل :
 
] يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [.
(سورة إبراهيم : آية 27)
 
       عقل المؤمن مليء بالحقائق ، مليء بالقوانين ، مليء بمعطيات صحيحة مطابقة للفطرة ، مطابقة للعقل ، مطابقة للنقل ، وإذا لم يحضر الإنسان مجالس علم ، وإذا لم يتعلَّم ، وإذا لم يطلب العلم من أهله ، وإذا ما قرأ كتاب الله ، وإذا ما فهم كتاب الله ، وإذا ما تدبَّر كلام الله أين يكون مصيره ؟ لابدَّ من أن يُخطئ .
 
      تصوَّر إنسانًا يقود سيَّارة في طرقاتٍ شديدة الانعطاف بلا ضوء ، بلا مصباح ، الحادث حتمي ، وكل إنسان ليس له نورٌ من الله إما بفهم كتابه ، وفهم سُنَّة نبيِّه ، أو ليس له نورٌ من الله باتصاله بالله فلابدَّ من أن يُخطئ .
 
      النور نوران ؛ نورٌ بياني ، ونورٌ إشراقي ، النور البياني هو أن تقرأ كتاب الله ، هذا حلال ، وهذا حرام ، هذا حقٌ ، وهذا باطل ، هذا يجوز ، وهذا لا يجوز ، هذا يرضي الله ، وهذا لا يرضيه ، أما النور الإشراقي فهو أن تتصل بالله ، تشعر أن هذا العمل لا يرضي الله ، تتكوَّن عندك أذواق عالية ، وكمالات إنسانيَّة ، يمتلئ قلبك رحمة ، يمتلئ إنصافًا ، أنت مع الحق ، ولو كان على نفسك ، مع الحق ، ولو كان ضدَّك .
 
      
﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾
 
  وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ
 
    إذاً ينبغي أن نحرِّر عقولنا من الظنون ، من الأوهام ، من الخرافات ، من الترُّهات ، من الدجل  .
      
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
 
مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
 
      هذا كلام تعجيزي ، لأن الإنسان إذا أراد الهداية فهذا القرار الداخلي الذي يتخذه الإنسان كل شيءٍ حوله يزيده إيماناً ، كأس الماء مثلاً ، هذالا تحتاج لكي تعرف الله أكثر من كأس ماء  ، من جعله عذباً فراتاً ؟ من جعله بهذه السيولة ؟ من جعله لا لون له ، ولا طعم ، ولا رائحة ؟ من جعله يتبخَّر في درجة أربع عشرة ؟ من خَزَّنه . 
 
]وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ[.
(سورة الحجر22)
 
       لو أردنا أن نخزِّن ماء لسنة فإننا نحتاج إلى بيتٍ بحجم بيتنا ، وهذا الماء يصبح آسناً ، انظر إلى الشروط الدقيقة التي خزَّن الله بها الماء .. صنعوا خزَّان للماء في جبل قاسيون ، وقد قلَّدوا تقليداً تخزين الماء الإلهي ، المستودع عمقه أربعمئة متر تحت الجبل .. هناك شروط صعبة جداً لتخزين الماء ، قال الله تعالى :
 
] وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [.
 
       يعطيك هذا النبع كل ثانية ستة عشر متراً مكعَّباً ، يكفي دمشق وما حولها ، كل ثانية ، تمتدُّ جذوره إلى حمص ، إلى ما تحت جبال لبنان ، إلى سيف البادية  ..
 
] وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ[.
 
       إذا أردت الهدى فكل شيءٍ يهديك ، رغيف الخبز يهديك ، العصفور يهديك ، بعض الطيور تقطع اثنين وعشرين ألف كيلو متر في رحلةٍ لها من القطب الشمالي إلى جنوب إفريقية ، هناك طيور تقطع ستة آلاف كيلو متر دون توقُّف ، هناك طيور تخزِّن في أجسادها من الدهون كوقودٍ يعينها على السفر الطويل ، إلى أن يصبح جسمها ذا وزنٍ مضاعف ، هناك طيور تحلِّق بسرعة مئة كيلو متر ، فالطير وحده آية من آيات الله ، قال تعالى :
 
] أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَانُ [.
( سورةالملك : آية 19)
 
       دعوة إلهيَّة ، هل فكَّرت في هذا الطير ؟ هل فكَّرت في ريشة الطير؟ هل فكرت في طيران الطير ؟ هذا عن الطير ، فماذا عن الأسماك ؟ البحار باب ثالث ، الجبال باب رابع ، الهواء باب خامس ، تجد طائرة وزنها ثلاثمئة وخمسين طنًا ، وتحمل أربعمئة وخمسين راكبًا بحاجاتهم وأمتعتهم ، وتحلِّق على ارتفاع أربعين ألف قدم ، ما الذي يحملها ؟ هذا الهواء الذي بيننا ، الهواء آية ، الماء آية ، الطير آية ، السمك آية ، الجبال آية ، تخزين المال آية ، تتبَّع الآيات الكونيَّة التي ذكرها الله في القرآن الكريم ، هذه موضوعات للتفكُّر ، وموضوعات للبحث ، فلذلك :
       
﴿ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ¯وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
 
مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
 
       نريد إنسانًا مات يقوم من قبره ليحدِّثنا أنه رأى النار ، ورأى الآخرة ، ورأى الجنَّة ، هذا أولاً طلب سخيف ، كل هذا الكون ألا يدلُّ على الله عزَّ وجل ؟ كل هذا الكون ألا يدلُّ على كماله ، على علمه ، على رحمته ، على عدله ، على أنه إلهٌ عظيم ؟ فعندما يتعامى الإنسان عن هذه الآيات الصارخة ، ويطلب شيئًا سخيفًا فهذا يدلُّ على صغر عقل هذا الإنسان .
 
       يروى من باب الطُرَف أن رجلاً طويل القامة ، عريض المنكبين ، ضخم الجثَّة ، يرتدي جُبَّةً وعمامة دخل إلى مسجد فيه مجلس علم لأبي حنيفة النعمان ، وأبو حنيفة كانت رجله تؤلمه فمدَّها بين إخوانه لعذر ، فلمَّا دخل هذا الرجل رفعها استحياءً من هذا الإنسان الغريب ، طبعاً الدرس عن صلاة الفجر ، بعد أن شرح الدرس ، وفصَّل ، وبيَّن ، وأحضر الأدلَّة ، رفع هذا الإنسان الغريب يده ، وقال : يا سيِّدنا ، كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر ؟ قال له : " عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفة رجله " ، لأن هذا سؤال سخيف جدًّا ، فالشمس والقمر والنجوم ، والسماء والمجرَّات ، وكأس الماء والهواء ، والثمار والحقول ، والمحاصيل مليون آية تدلُّ على عظمة الله ..
      
﴿ ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾
 
ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
 
        هذا طلب سخيف جداً ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يُطَالَب من قِبَل كفَّار مكَّة بآيات حسيَّة صارخة كقولهم : لو أنك فجَّرت الأرض  ينبوعاً ، لو أنَّك أزحت الجبال عن مكَّة ، لو أن كتاباً نزل من السماء نراه بأعيننا ، كفَّار مكَّة طالبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثل هذه المطالب ، وهي مطالب
 
 سخيفة جداً ،
 
 لذلك الله عزَّ وجل يواسي النبي صلّى الله عليه وسلّم  فيقول :
 
] لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ¯إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [.
( سورة الشعراء3-4)
 
       ثم يذكر للنبي الكريم كيف أن بنيإسرائيل رأوا البحر قد أصبح طريقاً يبساً ، وكيف رأوا العصا أصبحت ثعباناً مبيناً ، ثم إنهم أتَوا :
 
] عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [.
(سورة الأعراف : آية 138)
 
       يقول ربنا عزَّ وجل :
 
] إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ¯وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [.
(سورة الشعراء)
 
       ذكر الله في سورة الشعراء عشرات الأقوام الذين طالبوا أنبياءهم بآيات حسيَّة خارقةً للطبيعة ، والله استجاب لهؤلاء ، ومع ذلك لم يؤمنوا ، فهذا الذي يقول :
       
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
 
 وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
 
 
لا ينجو من عذاب الله إلا إذا أدخل يوم القيامة في حساباته اليوميَّة ، ولو سألت المسلم : هل أنت مؤمن بالله ؟ يقول لك : نعم ، أنا مؤمن بالله ، واليوم الآخر ، والكتاب ، والنبيين ، والملائكة ، والقدر خيره وشرِّه من الله تعالى ، تدقِّق في حياته فلا تجد في تعامله التجاري ، في بيته ، في خروج بناته ، في علاقته بزوجته ، في علاقته بجيرانه ، لا تجد أنه يُدخِل في حساباته اليوم الآخر ، يفعل ما يفعل ، يأخذ ما لا حقَّ له به ، يعتدي ، يظنّ أن الذكاء في كسب المال ، ولو كان حراماً ، واقتناص المتع ، ولو كانت حراماً ، العجيب أن الاعتراف القوي لا قيمة له أبداً ، الحقيقة أنك لا تجد في حياته اليوميَّة ما يُنْبِئ أنه مؤمن باليوم الآخر ، وحينما يعصي الإنسان الله معنى ذلك أن هذا اليوم خارج حساباته ، أما المؤمن فقبل أن يفعل أي شيء يفكِّر كيف سألقى الله بهذا العمل ؟ تجد شخصًا يَحْرِم بعض الورثة ظلماً وعدواناً ، وهو يصلي ، تجد شخصًا آخر يأخذ ما ليس له ، وهو يُصلي ، هذه النماذج المهزوزة ، هذه النماذج المُسْلِمَة غير الملتزمة تبعد الناس عن الدين ، لذلك :
      
﴿  قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
 
  قُلْ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
 
        لاحظ نفسك لا مع خالق البشر ، بل مع بشر مثلك ، إنسان أقوى منك أصدر قانونًا ، وعِلْمُ هذا الإنسان يطولك ، وقدْرته تطولك تستقيم معه ، استوردت بضاعة ، تذهب بصورة هذه الوثائق إلى الماليَّة ، الماليَّة طالبتك ببيان أرباحك ، هل تستطيع أن تخفي عنها هذا الشيء المستورد ؟ لا تقدر ، النسخة تذهب أصولاً إلى دوائر الماليَّة كي تحاسب ، فأنت مع إنسان مثلك أقوى منك لا تستطيع التفلُّت من قبضته ، لا من علمه ، ولا من قدرته ، فتستقيم معه ، لماذا لا تستقيم مع الله ؟ ألست في قبضته ؟ أليس مصيرك بيد الله ؟ أليست حواسُّك الخمس بيد الله ؟ أليس قلبك بيد الله ؟ أليست عظامك بيد الله ؟ أليست عضلاتك بيد الله ؟ أليس أولادك ، زوجك ، عملك ، رزقك بيد الله ؟ مادمت في قبضته ، وما دام مصيرك إليه فكيف تعصيه ؟ ألا تعتقد أن الذي يعصي الله هناك خلل في عقله ؟ وفي الأثر : " أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حبَّاً " .
      
﴿ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾
 
أي أنه أحياكمفي بطن أمهاتكم ، ثم أماتكم بعد أن انتهت آجالكم .
    
﴿ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
 
ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
 
      قرأتُ كتابًا يحتوي على مقالات طبيَّة ، حوالي مئة مقالة نُشِرَت تباعاً في مجلات طبيَّة ، مؤلفها جمعها في كتاب ، المقالات رائعة جداً ، كيف تحافظ على قِوامك ، صحَّة العينين ، صحَّة الجلد ... إلخ ، لكن الذي أدهشني بعد أن تصفَّحت الكتاب أن الذي ألَّف هذه المقالات مات ، هو ألَّف كل هذه المقالات فلمَ لمْ يحافظ على قِوامه ، وعلى صحَّته ، وعلى ، و على ؟ لأن كل مخلوقٍ يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت .
 
       معنى ذلك أنك طارئ على الحياة ، أتيت وسوف تغادر ، أتينا إلى الدنيا وسوف نغادرها ، اللذائذ تنقضي تبقى تبعاتها ، المتاعب تنقضي تبقى ثمارها .
 
     سمعت عن مطعمٍ يبيع الخمر ، أصدقاء صاحب المطعم نصحوه ووجَّهوه ، أخذوه إلى الحج ، وعاد من الحج ، وألغى بيع الخمر ، شيءٌ جميل ، بعد فترة حنَّ إلى بيع الخمر ، فعاد وباع الخمر ، وبعد سبعة عشر يوماً قضى نحبه ، وجاء الأجل .
 
    ثمة ملهى كبير فيه كل أنواع الموبقات ، كل أنواع المحرَّمات ، الذي أشاده وصمَّمه ، وخطَّط له بعد أن افتُتِح بأسبوع انتهى أجله ، وكل ما يجري فيه الآن وزره عليه .
 
 
] النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ[.
( سورة غافر46)
 
       الأعمال الصالحة متعبة ، لكنها تنقضي ، هذا الذي صلَّى الفجر في جماعة كل يوم ، هذا الذي غضَّ بصره عن محارم الله ، هذا الذي عُرِضَ عليه مال كثير فقال : مَعاذ الله ، الله كريم ، هذا الذي دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال : إني أخاف الله ربَّ العالمين ، هذا الذي تقصَّى الحلال ، طلب العلم ، جلس في مجالس العلم ، طبَّق الإسلام في بيته ، طبَّقه في عمله ، وضع تحت قدمه الدنيا وما فيها ، ركلها بقدمه وقال : الله هو الغني ، هذا إذا جاء أجله انتهت متاعبه ، وبقيت الجنَّة ، بقيت المكافأة ، بقي النعيم المقيم ..
 
 
] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه ¯ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه ¯ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ¯فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ¯ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ¯ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا
 
 بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[.
(سورة الحاقة19-23)
 
       المتاعب تنقضي ، جهاد النفس والهوى ينقضي ، غضّ البصر ينقضي ، الصبر على الطاعة ينقضي ، الصبر عن الشهوة ينقضي ، الصبر علىالبلاء ينقضي ، ويبقى النعيم المقيم ؛ واللذائذ المحرَّمة تنقضي ، والبيوت الفخمة نخرج منها إلى القبر ، وما مِن بيت مهما كان فخماً ، مهما كان واسعاً ، مهما كان مزيَّناً ، مهما اعتنى صاحبه به فلابدَّ لصاحبه من يوم يخرج منه بشكلٍ أفقي ، ولا يعود ، يشيَّع إلى مثواه الأخير ، سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله بيته لا يتَّسع لصلاته في الليل ونوم زوجته ، فكانت تُنَحّي نفسها جانباً حينما يصلي ، فما هذه الغرفة الضيّقة التي لا تتسع لصلاته ونوم زوجته ؟ هذه الدنيا لا شأن لها ، لو أنها شيءٌ عظيم لأعطاها للنبي الكريم .. قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ :
 
(( ... دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ ، فَجَلَسْتُ ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي
 
خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ ، وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ ، وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ ، قَالَ : فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ ، قَالَ : مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟
 
قُلْتُ : يَا نَبِيَّ ، اللَّهِ وَمَا لِي لَا أَبْكِي ، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى ، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
 
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفْوَتُهُ ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ ؟ فَقَالَ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ ، وَلَهُمْ الدُّنْيَا ؟ قُلْتُ : بَلَى ... )) .
[مسلم]
 
        اللذائذ تنقضي ، ويبقى عقابها ، والمتاعب تنقضي ، ويبقى ثوابها ، انظر في رمضان يأتي يوم العيد يُفطِر الناس جميعاً ، الذي صام ثلاثين يوماً انتهت متاعبه ، والذي أفطر في رمضان بقيت تبعة مسؤوليَّة إفطاره ، فاللذة تنقضي ، والمتعة تنقضي،والابتلاء ينقضي ، ويبقى الحساب الجزاء والعقاب .
 
        لسيدنا علي كلمة رائعة جداً ، يقول فيها : " فاعل الخير خيرٌ من الخير ، وفاعل الشر شرٌ من الشر " .
 
      هذا كلام عميق جداً ، هذا الذي ألقى قنبلة على هيروشيما ، وأزهق أرواح ثلاثمئة ألف إنسان بلحظة هم سيموتون عاجلاً أم آجلاً ، لكن بقي من هذا العمل وزره على صاحبه ، وفعْله هذا يشقى به إلى أبد الآبدين ، معنى هذا أن فاعل الشر شرٌ من الشر نفسه ، وأكبر شر في الأرض ينتهي مع يوم القيامة ، مرض عضال ينتهي مع الموت ، إنسان فقير مع الموت انتهى فقره ، إنسان معذَّب مع الموت ينتهي عذابه ؟ ويبقى العذاب الأبدي لفاعل الشر ، العمل الصالح تنتهي مشقَّته وأعباؤه ، ويبقى ثوابه وخيره إلى أبد الآبدين ، والعمل السيِّئ تنتهي لذَّته ، وتبقى تبعته ..
 
       
﴿ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ¯وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
 
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
  
   الله سبحانه وتعالى مالك الملك ، وملكيَّة الله عزَّ وجل غير ملكيَّة الإنسان ، الله يملكنا ملكاً وتصرُفاً ومصيراً ، أنت قد تملك ، ولا تستطيع أن تتصرَّف ، وقد تملك المنفعة ، ولا تملك الرقبة ، وقد تملك الرقبة والمنفعة ، ولا تملك المصير ، لكن الله سبحانه وتعالى إذا وصف نفسه بأنَّه مالك الملك فهو يملك خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً ..
       
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
 
     أي أنت من ملك الله ، معنى من ملك أنك لا تستطيع أن تتفلَّت من قبضته ، اعتقد ما شئت ، وافعل ما شئت ، لكنك في قبضته ، والآن أعطاك حريَّة اختيار ، جعلك مختاراً ..
        
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾
 
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ
 
       النظريَّات الباطلة ، السلوك الباطل ، الإنجاز الباطل ، كل شيء يخدم الشيطان ، يخدم الضلال ، وكل شيء ينتهي بك إلى الله ورسوله فهو حق ، كل شيء يقرِّبك من الله فهو حق ، كل شيء يقرِّبك من المعصية فهو باطل ؛ كتاب ، قصَّة ، حفلة ، لقاء ، نزهة ، كل شيء يقربك من المعصية فهو باطل ، كل شيء يقربك من الجنَّة والطاعة فهذا حق ، لذلك المبطل خاسر ، لو كان مستقلاًّ بوجوده عن الله ، قد نقول : هو ليس خاسراً ، لكن مادام وجوده بالله عزَّ وجل ، وهو في قبضة الله ، ومصيره إلى الله ، إذاً : إذا كان مبطلاً فهو خاسر ، لأنه سوف يُحاسَب ، الله قال تعالى :
 
] اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [.
(سورة فصلت : آية 40)
 
       كل شيء مسجَّل ، وكله تحاسب عنه ، فلذلك :
         
﴿  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾
 
        الإنسان العاقل دائماً يعيش  المستقبل ، لا يعيش الحاضر ، الحاضر دائماً يعيشه الأغبياء ، الحيوانات تعيش الحاضر ؟ الآن أمامه شهوة يقتنصها ، مكسب يأخذه ، لا يفكِّر بالأبعاد ، بالنتائج ، بالمصير ، دائماً العاقل يعيش المستقبل ، وغير العاقل يعيش الحاضر ، ماذا يوجد حوله من لذائذ يقترفها ليسعد نفسه حسب ظنَّه ، أما المؤمن فكما قيل: " إذا أردت إنفاذ أمرٍ فتدبَّر عاقبته " ..
 
       الله أعطانا عقلاً ، تصوَّر إنسانًا معه جهاز يكشف زيف النقود ، ويقبض مبلغًا ضخمًا بعملة صعبة ، والجهاز في جيبه ، والعملة مزوَّرة ، ولا يستعمله ؟ يكون أغبى الأغبياء ، والله عزَّ وجل أعطاك عقلاً يكشف لك الحق من الباطل ، الخير من الشر ، أنزل كتابًا ، عندك قرآن ، وعندك سنَّة ، وعندك علماء ، وعندك عقل ، وعندك تفكير فكيف تقع في شيءٍ يُهلِكك ؟
      
﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ﴾
 
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ
 
      لذلك الخسارة الحقيقيَّة لا يكتشفها الإنسان إلا بعد فوات الأوان ؟  محل تجاري كله حركة وبيع وشراء ، والمحل في طريق الهاوية ، أرباح معدومة ، ديون كثيرة ، رأس المال يتناقص ، فالإنسان العاقل يُدرِك أن المحل سينتهي قبل مدة طويلة ، أما الإنسان الغبي فمتى يشعر أنه على وشك الإفلاس ؟ حينما يُفلِس فقط ، هذا هو الفرق بين العاقل وغير العاقل  .
 
          العاقل يصلُ إلى الشيء قبل أن يصلَ إليه ، أحياناً تجد مركبة واقفة في الشمس ، على اليمين شمس ، وعلى اليسار ظل ، أنت تركب في ناحية الشمس ، لأنك تعلم أن الطريق من دمشق إلى حلب صباحاً تكون الشمس في ناحية الشرق ، والأيَّام صيف حارَّة ، والغرب فيه ظل ، أنت تجلس في الغرب ، على اليسار ، لأنك فكرت جيدا ، هذا العاقل ، الإنسان عندما يركب سيَّارة ، يركب طائرة ، ينتقي المستقبل ، أما الشيء الآني فلا يلتفت إليه ، فلذلك :
      
 
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ¯وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ﴾
 
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا
 
        أمم حاربت ، أمم انتصرت ، أمم قهرت غيرها ، هذه الأمم المبطلة التي بنت مجدها على أنقاض الآخرين  ، هذه تجثو يوم القيامة ذليلةً لتدفع ثمن ظلمها وانحرافها .
      
﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ﴾
إلى المنهج الذي جاءها فلم تعتبر به ..
       
﴿ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
 
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
 
        اليوم الآخر في هذه الآيات كلِّها ، هو المحور العام ، وكل شيءٍ تفعله مسجَّلٌ عليك ، وهناك حسابٌ دقيقٌ يوم القيامة ، وربما كرَّم الله المحسن تكريماً ـ كما يقولون ـ تشجيعياً لبقيّة المحسنين ، وربما عاقب الله المسيء عقاباً تحذيرياً لبقيَّة المسيئين ، ولكن الحساب الكامل الرصيد في الحساب الختامي .
 
] وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [.
(سورة آل عمران : آية " 185)
 
       لذلك العاقل هو الذي يجعل يوم القيامة هو الهدف ، ويُدخِل هذا اليوم في حساباته اليوميَّة ، كلَّما أعطى أو منع ، وصل أو قطع ، غضب أو حَلُم ، أي حركة أو أي سكنة ينظر أن الله هل يرضى عنه بها أو لا يرضى ؟
     
﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ¯هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
 
  هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ
 
       يضعون على أحدث الطرقات العامَّة جهاز رادار يصوِّر السيَّارات المخالفة ، وأحياناً تجيء المخالفة ، ويتنصل منها صاحبها ، يقال له : لا تتكلَّم بأي كلمة ، هذه الصورة ، أليست هذه مركبتك ؟ أليس هذا رقمها ؟ لقد رآها مصوَّرة ، فالمخالفة المصوَّرة تُسْكِت ، فربنا عزَّ وجل قال :
      
﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
 
  هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
 
       كل المعاصي مصوَّرة ، مسجَّلة ، بتواريخها ، بوقائعها ، بمكانها ، بزمانها ، بألوانها ، بملابساتها ، بخلفيَّاتها ، ببواعثها ، بأهدافها ، كلُّه مسجَّل وسوف يُعْرَض هذا على الإنسان يوم القيامة ، لذلك يقول :
 
] يَا وَيْلَتَنَا [.
 
       ما هذه القصَّة ؟!!
 
] مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا(49) [.
 
( سورة الكهف)
 
       أحياناً يكون الإنسان في سهرة ، وهو لا يدري أن كل هذه السهرة مسجَّلة ، كل شيء تكلَّمه مسجَّل ، إنه في الأخير يُصْعَق .
 
 
       والحمد لله رب العالمين
 
 
 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب