سورة الكهف 018 - الدرس (4): تفسير الآيات (21 – 31) ، كل عمل له ثمن

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات

"> سورة الكهف 018 - الدرس (4): تفسير الآيات (21 – 31) ، كل عمل له ثمن

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات

">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الكهف

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة الكهف - (الآيات: 21 - 31)

04/05/2011 15:14:00

تفسير سورة الكهف (018)
الدرس (4)
تفسير الآيات (21 – 31)
كل عمل له ثمن
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
      الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ...
       أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الرابع من سورة الكهف ، قال تعالى :
 
 
﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ
قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾
دلالة الفعل ( أعثرنا )
 
كلمة ( أعثرنا ) أساسها عثرنا ، وهذا الفعل له استعمال دقيق : 
تقول : عثرت عليه ، وعثرت به ، عثرت عليه بعد بحث طويل ، وعثرت به مصادفة ، أما أعثر هذا فنقل هذا الفعل من صيغة اللازم إلى صيغة المتعدي ، يعني إذا بحثت عن الشيء، ثم وصلت إليه فقد عثرت عليه ، وإذا وجدته مصادفة فقد عثرت به ، فإذا دللت عليه إلى جهة أخرى فقد أعثرت عليه ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الظروف كي يعرف الناس أن في هذه المغارة أناساً مضى على نومهم فيها ثلاثمئة عام ، هذا الموضوع يقودنا إلى موضوع آخر ، وهو أن الإنسان بحسب العادة لا يألف أن يبقى الإنسان كما هو مدة طويلة ، لكن هذا بحسب العادة ، قد تقول : إنه يبقى الإنسان ثلاثمائة ألف عام دون أن يصيب جسده تلف ، أو فناء ، هذا ممتنع عادةً ، ولكنه ليس ممتنعاً عقلاً ، لأن الله على كل شيء قدير .
علاقة السبب بالمسبب علاقة شكلية
 
ولذلك قال علماء التوحيد : علاقة السبب بالمسبب علاقة شكلية ، بمعنى أن الحكم العادي هو شيئان تلازم وجودهما ، وعدمهما ، وليس أحدهما علةً كافية لخلق الآخر .
                فمن دون طعام ولا شراب يقي اللهُ الإنسان من التلف ، والفناء ، فالله عز وجل على كل شيء قدير ، ودائماً وأبداً هذه عقيدة أهل السنة والجماعة ، أن الأمور تقع عندها لا بها ، ما معنى عندها لا بها ، الأمر يقع عند وجود الإرادة الإلهية ، لا بالسبب ، والسبب وحده غير كافٍ لحصول النتيجة ، لكن هناك ترافق شكليٌ بين السبب والنتيجة .
من لوازم الشبع تناول الطعام ، تناول الطعام سبب لحدوث الشبع ، وهي علاقة سبب بنتيجة ، لكن الحقيقة في علم التوحيد أن الله عز وجل قادر على أن يخلق حالة الشبع من دون طعام ، والنار تحرق ، هكذا العادة ، ولكن الله عز وجل قادر على إيجاد نار ملتهبة لا تحرق .
] قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [.
( سورة الأنبياء : 69 )
الصورة الأولى : الإعجاز العددي :
لذلك : المعجزة الأولى ، الإعجاز في قوله تعالى :
 
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ﴾
هذا إعجاز رياضي .
الصورة الثانية : التقليب ذات اليمين وذات الشمال :
الشيء الثاني :
 
﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾
الصورة الثالثة : حفظ الأجسام ثلاثمئة وتسع سنين :
والإعجاز الثالث : هو أن الله عز وجل حفظ هذه الأجسام كما هي عليه ساعة نومها مدة ثلاثمئة عام .
       ولذلك لما يسمع الإنسان أن فلانًا بقي في قبره سنوات طويلة دون أن يفنى ، قد يكون صالحاً ، وقد يكون ولياً لله عز وجل ، فليس شرطاً أن تفنى الأجساد بعد الموت ، هكذا العادة ، ولكن هناك استثناءات ، لأن حصول السبب غير كاف لحدوث النتيجة ، لابد من إرادة الله عز وجل ، إذا أراد الله كانت النتيجة بلا سبب .
       فهذه القصة دليل على أن في الحياة أشياء ممكنة عقلاً ، وهناك أشياء مستحيلة الوقوع ، وهناك واجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى :
 
﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
 
لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
 
إذا وعد الله عز وجل عباده بالبعث بعد الموت فهذا دليل على أن الله على كل شيء قدير .
 
﴿ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾
كأن هناك فريقين ، فريق ليس مؤمناً بهم ، وفريق على ملتهم .
 
﴿ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ﴾
 
 
أغلقوا باب الكهف ، وانتهى الأمر .
 
﴿ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ﴾
 
الوعد بالتمكين في الأرض :
 
هؤلاء الذين على دينهم ، وقد مكنوا في الأرض .
وبالمناسبة ربنا سبحانه وتعالى يقول :
] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [.
( سورة النور : 55 )
التمكين في الأرض ، وعد إلهي محقق الوقوع ، في آية ثانية :[وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] .
( سورة آل عمران : 139 )
       هذا كلام رب العالمين ، أنتم الأعلون ، الأعلون في عقيدتكم ، عقيدتكم هي الصحيحة ، أنتم على الحق ، أنتم الأعلون ، بالنسبة لكل من فكر في موضوع ما ، أنتم الذين اعتقدتم الحقيقة الصحيحة التي تؤكدها الوقائع اليومية ، أنتم الأعلون ، أعلون في عقيدتكم ، أعلون في أخلاقكم ، أعلون في مكانتكم ، أعلون في سمعتكم .
 
﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ ﴾
هذا الفريق الذي قال :
 
﴿ ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ﴾
كأنهم ليسوا على ملتهم .
 
﴿ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾
 
النهي عن اتخاذ القبور مساجد والحكمة من ذلك :
 
النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن تجعل القبور مساجد ، لماذا ؟ لئلا يصلى إليها ، ولئلا يتخذ القبر قبلة للمصلين ، ولئلا يعبد صاحب هذا القبر من دون الله ، ولئلا تنشأ وثنية هي في الأصل قبر لرجل صالح ، النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أن تتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ، وفرق بين أن تصلي لله عز وجل ، وأن تصلي للقبر ، فلا يمنع إذا دخلت مسجداً فيه قبر لصالح ، وليس القبر في جهة القبلة ، وأنت لا تصلي له ، إنما تصلي لله عز وجل ، فالأمر دقيق ، هناك أناس يؤكدون أن الدخول لمسجد فيه قبر لا يجوز ، لكن الذي لا يجوز أن تصلي لصاحب هذا القبر ، هذا الذي لا يجوز ، أن تتجه إليه ، وأن تعظمه من دون الله ، أما إذا كنت متجهاً لله عز وجل ، وإذا كنت تصلي لله عز وجل ، فهذا لا يمنع .
لذلك :
 
﴿ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ﴾
       والحقيقة كلمة ( مسجد ) لها استعمال دقيق في القرآن ، المسجد المكان الذي يذكر فيه اسم الله عز وجل ، بدليل قوله تعالى :
] وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [.
( سورة الجن : 18 )
       من هذه الآية يفهم أنه لا يجوز أن تدعو إلا إلى الله عز وجل ، هذا المنبر منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا المكان مكان مقدس ، لا ينبغي أن تطرح فيه قضية تمس زيداً ، أو عبيداً ، أو جهةً ، أو ملةً ، أو نحلةً .
] وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [.
( سورة الجن : 18 )
      لا ينبغي أن يذكر في المسجد إلا اسم الله عز وجل ، والدليل هذه الآية ، فكلمة مسجد تعني المكان الذي يذكر فيه اسم الله ، يعني هذا اسم نوع ؛ أي مكان على مر الدهور والعصور ، يذكر فيه اسم الله هو عند الله مسجد ، وهناك ما يؤكد فيه اسم الله .
] سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [.
( سورة الإسراء : 1 )
إذاً : لم يكن مسجداً .
] إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [، هي لما سيكون ، فالمسجد مكان العبادة ، مكان الذكر .
الآن ننتقل إلى موضوع دقيق :
 
﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ﴾
 
العبرة من القصة العبرة والإيمان لا الأحداث والجزئيات :
       
هذه النقطة في القصة تشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يقف عند الجزئيات التي لا علاقة لها بمغزى القصة ، دائماً يجب أن تعرف ماذا يريد المتكلم ، يريد أن يؤكد هذا المعنى ، ابقَ في هذا المعنى ، فإذا انحرفت أنت بجزئيات ، وتفصيلات لا علاقة لها بهذا المعنى ، فهذا نوع من سوء الفهم ، ونوع من الغفلة عن المغزى الذي هو أساس القصة ، فأن يكونوا ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة ، أو ستة ، أو سبعة  ما المغزى من ذلك ؟ هذه الأرقام لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تعمق فهمنا للقصة ، المراد منها أن هؤلاء الفتية آمنوا بربهم ، وزادهم الله هدى ، والمراد من هذه القصة ، كن كأصحاب الكهف ، إذا رأوا فساداً عريضاً ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، وانغماسا في الملذات ، ونفاقاً ، وزيفاً ، واستخفافاً بالقيم الخلقية ، إذا رأيت مجتمعاً فاسداً فاعتزله ، وانج بدينك .
المغزى من هذه القصة : أن تؤمن بعلم الله تعالى .
المغزى من هذه القصة : أن تؤمن بقدرة الله تعالى .
المغزى من هذه القصة : أن تؤمن بكرامات الأولياء .
المغزى من هذه القصة : أن يكون هؤلاء أصحاب الكهف في محنتهم ، وفي الحياة الفاسدة التي عاشوا فيها ، وفي لجوئهم إلى الكهف قدوةً لك .
       هناك أشياء كبيرة جداً ، هي الأهداف الكبرى التي أرادها الله سبحانه وتعالى من هذه القصة ، فكيف ينحرف فهم الناس لهذه القصة إلى وقوع في خلافٍ وأخذٍ ، وردٍ ، وتشددٍ ، واستخفافٍ ، ومماحكةٍ  ونقاشٍ ، وجدالٍ ، في موضوع عددهم ؟ هذا الذي لا يريده الله عز وجل ؛ أن تبقى في الجزئيات ، أن تبقى في القشور ، أو في السفاسف ، أو في أشياء لا تقدم ولا تؤخر ، أن تمضي كل وقتك في قشور الدين لا في لبه ، هذا الذي لا يعرف جوهر الدين ينشغل بما حول الدين ، يعني طوال حياته يناقش الناس ، ويحاججهم تارةً  ، ويسألهم  ويستفتيهم ، ويرد عليهم ، في أمور خارجية لا تمس جوهر الدين ، وربنا عز وجل في آيات كثيرة أشار إلى جوهر الدين قال تعالى :
] بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [.
( سورة الزمر : 66 )
وقال :
] وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [.
( سورة مريم : 31 )
وقال :
] قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [.
( سورة الكهف : 110 )
هذا جوهر الدين ، دائماً في المركبة محرك ، وفيها أشياء تزينية ، إذا نسيت المحرك ، وصيانته ، احترق ، وأنت في غفلة عنه ، وترعى ، وتعتني بهذه الأشياء التزيينية ، فأنت لا تعرف حقيقة هذه المركبة ، في الدين أشياء جوهرية ، وأشياء ثانوية ، فإذا أبعد الله عبداً عن الهدى تعلق بالسفاسف ، وفي الأثر :
(( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها )) .
[ الجامع الصغير عن سهل بن سعد بسند صحيح]
 
﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ﴾
 
إبهام عدد الفتية لعدم الفائدة في الذكر :
 
عددهم لا يقدم ولا يؤخر ، الله يعلم عدتهم ، كان من الممكن أن يقول الله عز وجل : هم ثمانية ، وانتهى الأمر ، هم سبعة ، هذا تعليم لنا ، درس لنا ، يجب أن تضع يدك على جوهر الأشياء ، وعلى جوهر الدين ، فإن كنت تاجراً فيجب أن تضع يدك على جوهر التجارة ، هي الربح ، وإن كنت صانعاً ، فالإتقان ، وإن كنت في موضوع الدين فالاستقامة على أمر الله .
 
من التعريفات الجامعة المانعة :
 
1 - الدين النصيحة :
       في الحديث تعريف جامع مانع للدين ، فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَامَّتِهِمْ )) .
[مسلم]
تعريف جامع مانع ، الدين كله نصيحة ، فإذا تخليت عن النصيحة لست ديِّناً ، وانتهى الأمر ، ولو صليت ، وصمت ، وزعمت أنك مسلم ، لمجرد أن تخون إنساناً  في نصيحة استنصحك بشيء ، فأشرت عليه بما لا تفعله لنفسك ، أشرت عليه بخلاف النفع ، وخلاف الحقيقة ، وخلاف الفائدة ، وخلاف الجودة ، إذا أشرت عليه بشيء لا ترضاه لنفسك فلست ديِّناً ، الدين النصيحة ، رأس الدين الورع ، الورع أساس الدين ، من لم يكن له ورع يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله ، ورأس الحكمة مخافة الله .
         هذه التعريفات الجامعة والمانعة هي أساس الدين ، الدين المعاملة ، هذا قول ، من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته .
2 - الدين المعاملة :
       قال له : هل حككته بالدرهم والدينار ؟ قال : لا : قال : هل جاورته ؟ قال لا ، قال : هل سافرت معه ؟ قال لا : قال : أنت لا تعرفه .
فإذا قرأت القرآن فابحث عن هذه التعريفات الجامعة المانعة ، فمن أجل أن نفهم هذه الآية ، لا يعنينا أن يكونوا ثلاثة ، أو أربعة ، أو خمسة ، أو ستة ، أو سبعة ، أو ثمانية ، هذا الرقم لا يقدم ولا يؤخر .
        مرة ضربت مثلاً كنت حريصاً على توضيحه ، إن مدرساً أراد أن يعطي طلابه في الثانوية التجارية درساً في أصول التجارة ، فروى لهم قصة عن رجل اشترى محلاً تجارياً ، في مكان عليه ازدحام شديد ، واختار بضاعةً أساسيةً في حياة الناس ، واختارها من أجود الأنواع ، وجعل سعرها معتدلاً ، وباع نقداً ، وكان لطيفاً ، فربح أرباحاً طائلة ، واشترى بيتاً ، وعاش حياةً كريمةً ، في بحبوحة ويسر ، فأنا أريد أن أنبه هذا الطالب إلى أن أهم ما في التجارة الموقع ، ونوع البضاعة ، وجنس البضاعة ، والسعر المناسب ، والمعاملة الطيبة ، والبيع النقدي هي عناصر ربح في التجارة ، فقال أحد الطلاب لهذا الأستاذ : هذا الذي تحدثنا عنه أهو أبيض ، أم أسمر اللون ؟ يا أخي لا علاقة في كونه أبيض ، أو أسمر ، طويلا ، أو قصيرًا ، هذه الجزئيات ليست لها علاقة في القصة ، القصة هادفة ، هدفها أن نعلمك أصول التجارة ، وأن نعلمك أن التجارة قد تربح من خلالها إذا طبقت هذه الشروط ، تقول لي : ما لون هذا التاجر ؟ أين يسكن ؟ ما نوع الثياب التي يرتديها ؟ ما لون الطلاء في دكانه ؟ هذه أشياء جزئيات ليس علاقة بالقصة إطلاقاً .
       هذا الذي أريد أن أوضحه لكم لما ذكر ربنا عز وجل ذكر أقوال الناس ، واختلافهم في عدد هؤلاء الذين سموا أهل الكهف ، هو أراد أن يبين هذه الأشياء لا قيمة لها ، لذلك بعد هذا النقاش الطويل لم يذكر ربنا عز وجل عددهم ، لأنه لا جدوى من ذكر العدد ، والعبرة أن تكون كهؤلاء الفتية .
 
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾
العبرة أن تعتزل الناس الفسقة كما اعتزل هؤلاء .
العبرة أن تتكل على الله عز وجل كما اتكل هؤلاء .
العبرة أن تحب الله أكثر من كل شيء ، كما أحب الله هؤلاء الفتية .
العبرة أن يكون هؤلاء الفتية قدوة لك في حياتك .
لذلك هذا الذي أتمناه عليكم ، وعلى نفسي ، كلما تتلون قصة في كتاب الله أن نقف عند مغزاها .
سيدنا يوسف له قصة طويلة ، بل هي أطول قصة في القرآن ، ما مغزاها ؟
] وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [.
( سورة يوسف : 21 )
الفعل فعله ، لا إله إلا هو ، لا معطي إلا الله ، لا مانع إلا الله ، لا معز إلا الله ، لا مذل إلا الله ، لا مغني إلا الله ، لا رافع إلا الله ، لا خافض إلا الله .
       هذا هو المغزى ، أما أن نخرج عن فهمنا لهذه القصة لأشياء ؛ يا ترى سيدنا يوسف هل تزوج هذه المرأة التي راودته عن نفسها بعد أن مكنه الله في الأرض ؟ لا أعرف والله ، ولا ينبغي أن أعرف ، ولا أريد أن أعرف ، لأن الذي سكت الله عنه أنا أسكت عنه أيضاً ، لا جدوى منه .
 
﴿ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ ﴾
لا تجادل فيهم ، ولا تأخذ نقاشاً حول العدد ، بل خذ نقاشاً حول المغزى .
 
﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾
 
من استنباطات الآية : عدم استفتاء أهل الكتاب :
 
ولذلك : استنبط العلماء من هذه الآية أنه لا ينبغي أن تتوجه إلى أهل الكتاب كي تستفتيهم ، أو أن تأخذ منهم المعلومات ، أو أن تذهب إلى أهل الكتاب ، وإلى كتبهم التي حرفوها لتأخذ منها شيئاً يفيدك في فهم كتاب الله ، لا .
 
﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾
 
المماراة والمجادلة :
       
وقال بعض العلماء : المنهي عنه المماراة ، معنى المماراة المجادلة ، لا تجادل فيهم .
 
﴿ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً﴾
أيْ سألت عن هذه القصة سؤالاً عابراً ، إما أن تخوض في خلافاتها الشكلية فهذا منهي عنه .
 
﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ¯إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾
 
مشيئة الله نافذة في الخلق :
 
       من هنا يستنبط في علم العقيدة أن الفعل لله ، لك الإرادة ، ولك الكسب ، لكن الفعل لا يقع إلا بأمر الله ، وهذا معنى قوله تعالى :
] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [.
( سورة محمد : 19 )
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾
 
وجوب الذكر بعد النسيان : وَاذْكُرُ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ
 
قلت لكم في الدرس الماضي : إن أحد الأنبياء العظام سأل الله عز وجل فقال : يا رب كيف أذكرك ؟ أو كيف أشكرك ؟ قال : تذكرني ، ولا تنساني ، إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني .
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾
       والنبي معصوم عن الخطأ في الاعتقاد ، والتبليغ ، والسلوك ، والمؤمن محفوظ ، وليس معنى كونه محفوظًا أنه لا يخطئ ، ولكن المعنى أنه لا يضره خطؤه ، بمعنى أنه يذكر الله إذا نسي ، ويتوب إليه ، والله سبحانه وتعالى يعفو عنه  :
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾
الإنسان ينسى ، إذا تذكرت فاذكر ، وإذ شعرت نفسك غافلاً فاذكر الله عز وجل .
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ﴾
المؤمن مذنب تواب ، كثير التوبة ،
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [.
( سورة التحريم : 8 )
للهُ أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، و الظمآن الوارد ، فإن تابوا فأنا حبيبهم ، وإذا لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، إذا تبت إلى الله عز وجل توبة نصوحاً فأنت حبيب الله إذاً :
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾
ودائماً ينسى الإنسان ، ويستمر على هذا النسيان ، ويصر على هذا النسيان ، وهنا الخطأ ، لو جئتني بملء السماوات والأرض ذنوباً غفرتها لك ولا أبالي :
] قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [.
( سورة الزمر : 53 )
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾
نسيت ، وأعترف بخطئك ، وإذا أسأت فأحسن ، الحديث الشريف عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا ، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ )) .
[الترمذي ، وأحمد]
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾
 
النسيان من طبيعة البشر عامة :
 
والنسيان من طبيعة البشر ، اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر ، وأرضى كما يرضى البشر ، وفي قول : وأنسى كما ينسى البشر ، والإنسان أحياناً يغفل عن شيء ، وبسرعة يذكره ، لكن نسيان رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوع آخر ، نسيان تشريعي لا نسيان مقصود ، والنبي الكريم مرة صلى الظهر ركعتين ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
(( صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ : الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَقَصَتْ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ )) .
[متفق عليه]
لم تقصر ولم أنسَ ، لكن تشريعاً .
 
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ﴾
كلما بلغت مرتبة ، وظننت أن هذه المرتبة جيدة جداً ، هناك مرتبة أرقى  فالمغبون من تساوى يوماه ، فمن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، لا بد أن تلاحظ أنك في زيادة ، تنتقل من حال إلى حال ، ومن مقام إلى مقام ، ومن استقامة إلى استقامة ، ومن إحسان إلى إحسان ، ومن قرب إلى أقرب ، لابد من الشعور بالزيادة ، فمن لم يكن في زيادة والزمن ماشٍ ، فهو في نقصان .
فالطالب الذي درس إلى الصف الثاني في  الجامعة ، ولم يكمل فما زاد ، بل هو في نقصان ، لأن كل من حوله سوف يَصِلون إلى درجات عليا ، إذاً هو نقصَ عنهم ، فمن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، والمغبون من تساوى يوماه .
 
 
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ¯قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
 
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ﴾
 
 
مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ
 
فإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له ، لا ملجأ منه إلا  إليه ، وإذا اعتمدت على مالك ، فالله عز وجل قادر على أن يسوق للإنسان مصيبة لا تحلها الأموال الطائلة ، ولو اعتمدت على جاهك فهو قادر أن يسوق للإنسان مصيبة لا يحلها هذا الجاه ، أي شيء تعتمد عليه من دون الله ، فلا بد من أن الله عز وجل يكشف لك أن هذا أحد أنواع الشرك ، وأن الله عز وجل يؤدب كل إنسان اعتمد على جهة ما .
 
﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾
 
أيها المسلم ، لِتَكُنْ لك نظرة صحيحة : أَبْصِرْ بِهِ
 
أبصر به ، هذه الباء للاستعانة ، أي أبصر مستعيناً بنوره ، ولا تستضئ بنور المشركين ، ولا تنظر إلى الدنيا بمنظار الكفرة ، أن هذه الدنيا هي كل شيء ، فالسعيد فيها من كان غنياً ، والسعيد من استغل كل أوقاته في المتع ، والملذات ، وتناول أطيب الطعام ، والانغماس في كل المباهج ، لا ! لا تنظر إلى الدنيا بمنظار الكفرة ، انظر إليها بنور الله تَرَهَا دنية ، زائلة ، انظر إلى كل شيء بمنظار الله عز وجل ، بنور الله ، إذا نظرت إلى المال الحرام بنور الله تراه ناراً ، وإذا نظرت إلى المال الحرام بمنظار المشركين تراه مغنماً .
 
﴿ أَبْصِرْ بِهِ﴾
لتكن لك رؤية صحيحة ، فسيدنا يوسف حينما دعته هذه المرأة أبصر بالله :
] قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [.
( سورة يوسف : 23 )
ولو نظر إلى هذا العمل بمنظار أهل الكفر لرآه غنيمة لا تفوقه غنيمة .
 
﴿ أَبْصِرْ بِهِ ﴾
أي انظر بنور الله ، فإذا كنت متصلا بالله عز وجل ، عندئذ تستطيع أن تبصر به ، وتصبح لك رؤية صحيحة ، بهذه الرؤية تتخذ بها قراراً صحيحاً ، تسعد في الدنيا والآخرة .
 
﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾
 
أيها المسلم ، استمع إلى الحق : وَأَسْمِعْ
 
أيضاً استمع للحق الذي من عنده ، لا تستمع إلى أقوال الناس ، وإلى أقوال المرجفين ، وإلى أقوال المشركين ، فأحياناً يسمع الإنسان أقوال الناس فيقول : لا أمل ، انفجار سكاني بالعالم  ، فالمواد الغذائية قليلة ، والعالم مقبل على كارثة كبرى ، على حروب ، إنها أفكار سوداوية ، تثبط عزيمته ، وهكذا يقول لك الكفار : لا إله ، بل مواد محدودة ، تزايد سكان كبير جداً ، فالأمر من سيئ إلى أسوأ .
 
علاقة صحة النظر بالاطمئنان والأمل :
 
وإذا نظرت إلى أية أزمة ، وإلى أية مشكلة بنظر أهل الدنيا تزداد انقباضاً ، وتشاؤماً ، وسوداوية ، لكن إذا نظرت إلى أية مشكلة بنور الله عز وجل ، تقرأ الآية الكريمة :
] مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [.
( سورة النحل : 97 )
انتهى الأمر ، هذا وعد إلهي .
] أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [.
( سورة الجاثية : 21 )
وإذا أصيب أحد بمرض ، ونظر إلى هذا المرض بمنظار الأطباء فقط غير المؤمنين ، يعطونه يأساً ، لا يوجد دواء ، فهذا المرض ليس له دواء ، أما إذا قرأت قوله تعالى :
] وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [.
( سورة الشعراء : 80 )
يدخل إلى قلبك شعاع الأمل ، والله سبحانه وتعالى عند حسن ظن عبده به ، أنا عند حسن ظن عبدي بي ، فليظن بي ما يشاء ، في كل قضية ، الزواج انظر له بمنظار أهل الدنيا ، الزواج متعه ، لذلك يجب أن تختارها جميلة ، وإلا ما أفلحت في نظرهم ، وبعد أن تختار هذه الجميلة ، تريك النجوم ظهراً ، هذه الجميلة ، عندئذ تنكر الجمال كله ، وتبحث عن المرأة الصالحة ، تنكح المرأة لجمالها ، من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، لجمالها فقط ، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءة ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، فعليك بذات الدين تربت يداك ، بزواجك إذا نظرت إلى الزواج بنور الله بحثت عن المرأة الصالحة ، وإذا نظرت في تجارتك بنور الله بحثت عن الربح الحلال ، وبقية الله خير لكم ، لم تبحث عن ربح كثير حرام ، بل عن ربح حلال قليل ، أي موضوع في الحياة إذا نظرت إليه بنور الله أخذت منه موقفاً آخر ، بنور الله .
     عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا )) .
[الترمذي وابن ماجه]
يعيش ناعم البال ، فراحة البال لا تقدر بثمن ، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه ، أخذ من حتفه وهو لا يشعر ، وخذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها هماً من أصبح وأكبر همه الدنيا ، جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له   ومن أصبح وأكبر همه الآخرة ، جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة .
المشكلة أن تنظر إلى الشيء بنور الله ، ولن تستطيع أن تنظر إلى الشيء بنور الله إلا إذا كنت مع أهل الله ، سألتهم فأجابوك ، تنورت بهم فأناروا لك الطريق ، بحثت معهم هذا الموضوع فأعطوك حكم الله عز وجل ، لذلك :
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [.
( سورة التوبة : 119 )
كن معهم ، لا تعش وحدك ، هناك وساوس ، وسوداوية ، وشرك ، ووقوع في مزالق المعاصي ، ووحشة ، وانقباض ، الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب .
 
﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
 
عليكم بالاطمئنان فإنه لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً
 
أي ليس مع الله جهة أخرى لها علاقة في تسيير الحياة ، لا إله إلا الله .
 
﴿ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
] وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [ .
( سورة الرعد : 41 )
حكمه قطعي .       
] لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [ .
 
﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾
 
معنى : مِن كِتَابِ رَبِّكَ
 
القواعد والأصول العامة :
بعض المفسرين أشاروا إلى أن الكلمات هنا معناه بعض الآيات القرآنية تأتي على شكل قوانين ، وقواعد ثابتة ، وأصول ، مثلاً :
] فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [.
( سورة طه : 123 )
هي أصل .
] كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ[  .
( سورة يونس : 33 )
ما دام الإنسان متلبساً بالفسق فلن يؤمن ، ينحاز في أفكاره مع الكفرة بشكل أو بآخر .
] مَنْ عَمِلَ صَالِحًا [، هي من كلمات الله ، ] مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً[ .
( سورة النحل : 97 )
من كلمات الله أيضاً :
] وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [.
( سورة طه : 124 )
من كلمات الله :
] وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [ .
( سورة التوبة : 37 )
من كلمات الله :
]وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [.
( سورة التوبة : 109 )
من كلمات الله :
]وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [.
( سورة التوبة : 80 )
كلمات الله تلك القواعد الأساسية ، هذه الآيات التي تأخذ شكل قوانين علاقات ثابتة .
 
﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾
 
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا
 
أي ملجأً ، فلو التجأت إلى أقوى قوة في الأرض ، فلن تغني عنك من الله شيئاً ، ولو التجأت إلى مالك ، فلن يغني عنك مالك شيئاً .
]وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ  * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ   * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [.
( سورة الحاقة : من 25 إلى 31 )
وفي آية أخرى :
] ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [ .
( سورة الدخان : 49 )
كنت في الدنيا تدعي أنك عزيز ، كريم ، ذق العذاب الآن .
 
﴿  وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾
آية دقيقة جداً ، الأسس التي ذكرها الله في هذا الكتاب ، ثابتة لا تلغى ، ولا تعدَّل ، ولا تبدل ، ولا يوقف تنفيذها ، ولا يضاف عليها ، ولا يحذف منها ، إنها ثابتة .
 
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾
 
الصبر مع المؤمنين الضعفاء الفقراء :
 
كن مع هؤلاء ، هذه الآية في ظاهرها موجهة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وفي حقيقتها موجهة إلينا بالتبعية ، يعني أيها  المؤمن :
 
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾
       قد تجلس في مسجدٍ لتستمع إلى درس في التفسير ، طبعاً الجلوس على الأرض ، قد تُدْعى إلى سهرةٍ ممتعةٍ ، فالجلوس على أريكة فخمة ، وتتناول ما لذا وطاب ، وقد تكون هذه السهرة مختلطة ، وقد يكون فيها منكر ، وقد تكون هذه السهرة محببة إلى النفس ، وربنا عز وجل يقول :
 
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾
اجلس في مجالسهم ، وخلِّ حظك مهما قدموك وراء .
ما لذة العيش إلا صحبة الفقراء         هم السلاطين والسادات والأمراء
فاصحبهم وتأدب في مجالسهم           و خلِّ حـظك مهما قدموك وراء
 
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ﴾
فما أوضح أن ينطلق الإنسان من بيته ليأتي إلى مسجد ليس فيه طعام ، ولا شراب ، ولا مكافأة ، ولا تعويض ، ولا أجر ، ولا مدح ، ولا كتاب ثناء ، ولا ترقية ، لا شي ، لكن الله عز وجل هو الذي يتولى الجزاء الأوفى .
 
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾
 
يدعون ربهم صباحاً ومساء .
] بُكْرَةً وَأَصِيلًا [.
( سورة الفرقان : 5 )
] قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [ .
( سورة أل عمران : 191 )
يدعون ربهم دائماً .
] اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [.
( سورة الأحزاب : 41 )
 
﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾
 
الإخلاص في العمل :
 
إلهي أنت مقصودي ، ورضاك مطلوبي .
] الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [.
( سورة القيامة : 14 ـ 15 )
       الإنسان أحياناً يبتغي بهذا المجيء السمعة ، له مصلحة ، إذا جاء للمجلس ليصير له زبائنُ كثيرون ، يروجون تجارته ، وكل إنسان يعلم لماذا هو هنا الآن ، طوبى لمن كانت نيته خالصه لوجه الله عز وجل .
] إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [.
( سورة الإنسان : 9 )
من علامات الإخلاص ، أن يكون الله وحده ، أو أن يكون وجه الله هو مبتغاك ، ولا مبتغى لك سواه .
 
﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾
 
علامة أهل الحق : كثرة الذكر والإخلاص :
 
هؤلاء أهل الحق لهم علامتان ، يكثرون ذكر الله ، ويبتغون وجه الله ، برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله ، الإكثار من ذكر الله صباحاً ومساءً .
] قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [.
( سورة أل عمران : 191 )
والنية والابتغاء مرضاة الله عز وجل .
 
﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾
 
الحياة الدنيا زهرة ذابلة :
 
لا تلتفت إلى غيرهم ، لا تتجاوزهم إلى سواهم ، لا تدع مجالسهم .
 
﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
       الإنسان أحياناً يؤثر أن يبقى مع زوجته في غرفة دافئة ، يدير حديثاً عذباً ، يستمتع بأشياء معينة ، على مجلس علم ، الله سبحانه وتعالى هكذا يأمرك :
 
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾
لا تتركهم ، ولا تتجاوزهم ، ولا تزهد في صحبتهم ، ولا  في مجالسهم ، ولا تؤثر الدنيا عليهم ، لا تؤثر مجلساً ليس فيه ذكر الله  على مجلس فيه ذكر الله ، ما من قوم اجتمعوا في مجلس لم يذكروا الله فيه إلا قاموا عن أنتن من جيفة ، عن أنتن من جيفة حمار ، وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( ... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ )) .
[مسلم]
حِلق الذكر رياض الجنة .
 
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾
 
إيّاك وطاعة الغافل :
 
إنسان غافل ، لا يصلي ، يا أخي أنا معي قرشان بالفائدة أربح ، إنه ربح مضمون !
 
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾
أخي جاءني خاطبان لابنتي ، واحد دينه رقيق ، لكن ما شاء الله كله غني ، والثاني صاحب دين فقير ، دع هذا الفقير ، وأعط الأول .
 
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
حياته فوضوية ، بلا قيم حياته ، وبلا انضباط ، ولا هدف ، حياته عابثة .
 
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾
 
معنى : أَغْفَلْنَا
 
معنى أغفلنا ؛ وجدناه غافلاً بالضبط ، لا تتهم الله عز وجل فلا تقل : إنه جعله غافلاً لا ، هكذا في القرطبي ، ورد :
 
﴿ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ ﴾
وجدناه غافلاً ، وجدنا قلبه غافلاً عن ذكرنا .
 
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾
 
الغافل يتبع هواه :
 
المؤمن يتبع الحق ، وغير المؤمن يتبع الهوى ، فإما أن يقودك الهوى ، وإما أن تقوده ، ونفسك إما أن تسيرك ، وإما أن تسيرها ، إما أن يكون العقل رائدك ، وإما أن يكون الهوى رائدك .
] أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [.
( سورة الفرقان : 43 )
 
﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
هؤلاء :
 
﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾
أما هؤلاء فقد :
 
﴿ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ¯وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ﴾
الإنسان مخير .
 
﴿ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾
الحقيقة :
 
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ﴾
 
الإنسان مخيَّر :
 
المؤمن مخير .
 
﴿ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
 
لكن للكفر جزاء ، وللإيمان جزاء ، أنت هنا مخير، لأنك في دار التكليف ، أما أنه لابد له من يوم الجزاء ، من يوم الدين  استمعوا إلى يوم الدين .
 
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾
 
جزاء الكفار : نَارً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا
 
معنى السرادق :
 
السرادق في الأساس سقف في فناء الدار ، سقف فقط ، مكان محميٌّ من الشمس ، هذا هو السرادق ، أما في هذه الآية فالسرادق هو الدخان الذي يعلو لهيب النار ، فلو نظرت إلى فرن يستخدم وقوداً غير الوقود السائل فسحابة من الدخان الكثيف تعلو جو الفرن ، وهذه السحابة من الدخان الكثيف هي السرادق في النار .
 
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾
ماء مغلي  .
 
﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾
هذا إذا ظلم الإنسان .
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾
 
إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً
 
         واللهِ لزوال الكون أهون على الله من أن يضيع على مؤمن عمله الصالح البر لا يبلى ، والذنب لا ينسى ، والديان لا يموت ، اعمل كما شئت كما تدين تدان .
         هناك شاب ناشئ جمّد مبلغ ثمانية آلاف ليرة ، والده فقير ، ووالدته أصيبت بحادث ، تحتاج إلى مبلغ لإصلاح أسنانها ، وقد هيأ مبلغه ذاك الزواج ، فلما رأى أمه هكذا ، أنفق المال كله من أجل معالجة أمه ، وبعد سنوات عدة ، بقدرة قادر هيِّئ له منزل ، وفرش هذا المنزل ، وزوجة ، قلت : سبحان الله ، كل هذا العطاء لأنه فادى بماله من أجل أمه
 
﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾
 
أحدهم مد سجاداً بالمسجد ، وآخر نظف مسجدًا ، وثالث قدم شيئاً لمسجد ، ورابع هدى إنساناً ، سهر معه سهرة ، فعاونه ، وأقرض مبلغاً من المال ، يا أخي نقصت قيمة المال ، أقرضناه بكذا ، صار بكذا ، ربع المبلغ نقص بعد ما رده لي .
] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [.
( سورة البقرة : 245 )
 
﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾
      ليس الخبز وحده يحيي الإنسان ، وليس الربح كله مالاً ، لو أقرضت إنساناً وبعد فترة فالقيمة الشرائية لهذا المبلغ تناقصت ، فهل خسرت أنت ؟ في نظر أهل الدنيا خسران ، يقولون : إنه أحمق ، أقرضَ أمواله ، ولما استردها راح نصف قيمتها .
 
﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾
ثق بالله عز وجل ، إذا كنت مع الله عز وجل فلن يخلف وعده معك .
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ¯أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾
إنك لا تعرف قيمة هذا الاتجاه استقامتك ، وتحريك للحلال ، وخوفك من الله ، وفهم كتاب الله ، وتطبيق كتاب الله  وحضور مجالس العلم إلا بعد أن تحس أنك فزت في الدنيا والآخرة ، أي فزت بسعادة الدارين .
لذلك كان الإنسان مخيرا .
 
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ﴾
لكن :
 
﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾
أما المؤمنون :
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾
ربنا عز وجل يعجب ! يقول :
]أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [.
( سورة القلم : 35 )
وهل من المعقول لمسلم مستقيم ، له استقامته ، له عمله الصالح ، له فهمه للدين ، أيعقل أن يُعامل كما يُعامل المجرم المنحرف العاصي ؟!!
] سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [.
( سورة الأنعام : 136 )
 
 
والحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب