تسمية الفاتحة بعدة أسماء :
قال تعالى :
﴿ الحمد لله رب العالمين(2) ﴾
(سورة الفاتحة)
الآن نبدأ بالفاتحة ، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة ، لقوله :
(( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب .))
[متفق عليه عن عبادة بن الصامت]
شيء آخر سُميت الفاتحة بسورة الحمد لأنها مصدرة بالحمد لله رب العالمين ، وسميت فاتحة الكتاب لأن القرآن الكريم افتتح بها ، وسميت أم الكتاب ، وأم الشيء أصله ، ربنا عز وجل قال:
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (7) ﴾
(سورة آل عمران آية 7 )
آيات الفاتحة كلها آيات محكمات ، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة والسلام أم الكتاب ، وسُميت أم القرآن ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
((الحمد لله أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني .))
[الترمذي عن أبي هريرة]
سميت الشفاء ، لأنه عليه الصلاة والسلام قال :
(( في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء .))
[البيهقي عن عبد الله بن جابر]
سُميت الأساس ، أساس الكتاب القرآن ، يعني أساس الكتب السماوية القرآن ، وأساس القرآن الفاتحة ، وسُميت الوافية ، وسميت الكافية ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( أم القرآن عوض عن غيرها ، وليس غيرها عوضاً عنها .))
[الحاكم عن عبادة بن الصامت]
وقد ورد في تفسير القرطبي : " إن جميع القرآن فيها " .
أذكر حديثاً روى عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ أنّ الله أنزل مئة كتاب وأربعة كتب ، جمع سرّها في الأربعة ، وجمع سرّ الأربعة في القرآن ، وجمع سرّ القرآن في الفاتحة ، وجمع سرّ الفاتحة في هاتين الكلمتين : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها .))
[مسلم عن أنس بن مالك]
الحمد على النعمة أفضل من النعمة نفسها :
سأتلو عليكم حديثاً شريفاً يبعث في أنفسكم الطمأنينة هو :
((الحمدُ على النعمة أمانٌ لزوالها .))
[الديلمي عن عمر]
أية نعمة تحمد الله عليها لن تزول ، ولن تضيع ، وأن تقول الحمد لله على النعمة أمان من زوالها ، وهناك حديث دقيق جداً يقول الحسن : " ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها ." كيف ؟
يعني إذا أعطاك الله نعمة الصحة ، وكنت شديداً عتيداً قوياً نشيطاً كالحصان ، لا بد من سنوات تمضي وتمضي حتى يأتي الأجل ، ويموت الإنسان فأين هذه النعمة ؟ زالت ، لكنك إذا حمدت الله عليها ، وارتقت نفسك في مدارج الحمد ، وسَمَتْ سعدت بحمدك إلى الأبد ، إذاً الحمد على النعمة أفضل من النعمة نفسها قال الحسن : "ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها " .
لو أنك وهبت زوجةً صالحة ، فأعانتك على متاعب الحياة ، وحصنتك ، وسكنت إليها ، فلا بد من ساعة تفارقها ، أو تفارقك ، إما أن تفارقها أولاً ، وإما أن تفارقك أولاً ، لكنك إذا حمدت الله على نعمة الزوجة الصالحة فإنّ هذا الحمد تسعد بثوابه إلى أبد الآبدين .
الحمد لله على النعمة أمان من زوالها :
لذلك لقي أحدُهم شريحاً القاضي ، فقال : يا شريح كيف حالك في بيتك ؟ قال : منذ عشرين سنة لم أجد ما ينغص حياتي ، أو يعكر صفائي ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : خطبت امرأة من أسرةً صالحة ، فلما خلوت بها ، صليت ركعتين شكراً لله على نعمة الزوجة الصالحة ، فلما سلمت وجدتها تصلي بصلاتي ، وتسلم بسلامي ، وتشكر بشكري ، فلما دنوت منها قالت : على رسلك يا أبا أمية ، إني امرأة غريبة ، لا أعرف ما تحب ، ولا ما تكره ، فقل لي ما تحب حتى آتيه ، وما تكره حتى أجتنبه ، ويا أبا أمية لقد كان لك من نساء قومك من هي كفء لك ، وكان لي من رجال قومي من هو كفء لي ، ولكن كنت لك زوجة على كتاب الله وسنة رسوله ، فاتقِ الله فيّ ، وامتثل قوله تعالى :
﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) ﴾
(سورة البقرة)
قال : ثم قعدتْ ، يعني هذه الزوجة الصالحة تنتظر ردّ زوجها ، ذكرت هذه القصة للإفادة مما فيها من عِبر ، فالقاضي شريح ، حينما دخل على زوجته الصالحة صلى ركعتين صلاة الشكر ، إذاً الحمد على النعمة آمان من زوالها ، أية نعمة ، نعمة الصحة لن تزول ، يمتعك الله بسمعك ، وبصرك ، وعقلك ، وقوتك ما أحياك ، هل تغض الطرف عن محارم الله هذه العين لن تُفجع بها ، هل تمسك أذنك عن سماع أي صوت لا يرضي الله ، هذه الأذن لن تفجع بها ، هل ينطق لسانك بالحق ، ولا ينطق بالباطل ، هذا اللسان لن تُفجع به ، هذه الذاكرة ، تستخدمها لماذا ؟ بالحق أم بالباطل ؟ إن استخدمتها في حفظ كتاب الله ، وحفظ أحكام الله ، وحفظ الأحاديث الشريفة ، فإن الله سبحانه وتعالى لن يفجعك بها ، وهذه اليد ، وهذه القوة وغير ذلك من النعم ، فالحمد لله على النعمة أمان من زوالها .
كلمة الحمد لله أفضل عند الله من الدنيا وما فيها :
قال عليه الصلاة والسلام :
(( ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ))
[ابن ماجة عن أنس بن مالك]
العبد ماذا أعطي ؟ هذه الكلمة ، كلمة الحمد لله ، هذه الكلمة التي أعطاها العبد لربه أفضل عند الله مما أخذ ، لو أخذ بيتاً ثمنه خمسة ملايين ، وقال : يا رب لك الحمد ، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من هذا البيت ، لأن هذا البيت مصيره إلى الخراب ، لكن هذا الحمد يسعد به الإنسان إلى الأبد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك كله .))
[الديلمي وابن عساكر وابن النجار عن أنس]
الدنيا بحذافيرها يعني بيوتها الفخمة ، وبساتينها النضرة ، ومالها الوفير ، ونساءها الجميلات ، ومراكبها الفخمة ، كلمة الحمد لله يعني أنك تعرف الله ، وإذا عرفته عرفت كل شيء وإذا فتّه فاتك كل شيء ، لو أن الدنيا بحذافيرها بيدك وقلت : الحمد لله ، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من الدنيا وما فيها .
لذلك العلماء حاروا أيهما أفضل ، الحمد لله ، أم لا إله إلا الله ؟ هناك أقوال تقول : إن الحمد لله أفضل ، وبعضهم قال : لا إله إلا الله أفضل ، لكن كلمة الحمد لله هي الحمد الأولى في كتاب الله تبارك :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) ﴾
(سورة الفاتحة)
أما الحمد ، لمَ لم يقل الله عز وجل حمداً لله رب العالمين ، بل قال سبحانه : الحمد لله ؟ قالوا : هذه الألف واللام لاستغراق الحمد كله ، يعني الحمد كله بحذافيره كله ، وجزؤه ـ مهما كان حجمه ـ صغيره وكبيره لله عز وجل .
أرحم الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام :
لا يوجد جهة أخرى تستحق الحمد إلا الله ، أبداً ، أصغِ سمعك إلى قول ربنا عز وجل :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾
(سورة آل عمران)
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق ، لو جمعت رحمة أمهات الأرض منذ آدم إلى يوم القيامة لا تعادل رحمة النبي بأمته ، قال تعالى :
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) ﴾
(سورة التوبة)
(( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر ... ))
[أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أنس]
أما أرحم الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام ، يعني أرحم بك من نفسك ، ومع ذلك قال الله عز وجل :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾
(سورة آل عمران)
الرحمة كلها من الله والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي طرفاً منها :
قال ربنا عز وجل :
﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) ﴾
(سورة الكهف)
ما الفرق بين "رحمة" المُنكَرة في آية آل عمران ، و"الرحمة" المُعرَّفة في آية سورة الكهف ؟ قال هذه الرحمة الثانية ، هذه ليست أل التعريف ، إنما للاستغراق ، يعني الرحمة كلها من الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي طرفاً منها .
الآن الحمد كله لله ، ذكرت قصة قبل شهر أو أكثر أن الحَجَّاج أمر بضرب أعناق عشرة رجال ، فأذن المغرب ، وبقي رجل لم تضرب عنقه ، فقال لأحد وزرائه : خذه إلى بيتك وائت به غداً ، هذا الرجل في الطريق قال له : والله لم أخرج على طاعة الأمير ، وما آذيتُ أحداً من المسلمين ، فهل تأذن لي أن أذهب لأهلي فأوصي قبل أن أموت وأرى أولادي ، واكتب وصيتي ، فضحك هذا الوزير وقال : أو مجنون أنا ! فقال : عهداً لله إن أطلقتني لأعودَنَّ إلى بيتك قبل الفجر ، فما زال هذا الرجل يقنعه حتى سمح له ، فلما سمح له شعر بضيق لا يُحتمل ، قال : نمتُ أطول ليلة في حياتي ، لأنه سيموت مكانه غداً ـ مكان الرجل ـ إن لم يرجع ، ما إن أذن الفجر حتى طُرق الباب ، وجاء هذا الرجل الذي عاهده على أن يعود ، جاء ليموت ، فلما كان الغد ذهب به إلى الحجاج فقال له : سأنبئك بما حصل البارحة ، فلما أنبأه قال له الحجاج : أتحب أن أهبه لك ، قال : نعم ، قال: إذاً هو لك ، يعني ما دام عنده هذا الوفاء عَفَوْنا عنه ، فلما خرج قال له : يا هذا اذهب لوجهك ، فهذا الذي عُفي عنه لم يتكلم ، ولم ينظر إليه ، ولم يشكره ، ولم يقل كلمة ، إلا أنه توجه إلى السماء ، وقال : الحمد لله .
هذا الذي سعى بإطلاق سراحه وتخليصه من الموت المحتم تألم ! لو أنه شكرني ، قال : ثم جاءه بعد ثلاثة أيام و قال : أحمدك على عملك ، ولكنك حين قلت لي : اذهب لوجهك كرهت أن أحمد مع الله أحداً .
الحمد لله رب العالمين أساس معرفة العبد بربه :
الإنسان أحياناً يلوح له شبح مصيبة ، كأن يصاب بورم لم يعرف أهو خبيث أم غير خبيث ؟ أجرى تحليلاً ، فإذا هو ورم طبيعي ، أول شيء عليه أن يقول : الحمد لله رب العالمين ، ولا تحمد مع الله أحداً .
هناك التهاب في السحايا على وشك الوفاة مع الابن الأصغر ، فنجا من الموت بتوفيق الله وقدرته ، لا تقل : واللهِ إنّ الطبيب لا يفهم ، قال لي : اجرِ تحليلاً في وقت مبكر قل : الحمد لله رب العالمين ، فلذلك الحمد لله رب العالمين أساس معرفة العبد بربه ، هناك حديث دقيق جداً ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده .))
[عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عمرو]
قال بعضهم : الحمد حالة نفسية ، والشكر سلوك ، فليس هناك سلوك شاكر إلا على أساس حالة حمد ، فإذا لم يكن عند الإنسان حالة حمد فسلوكه باطل ، وهو في حالة نفاق ومداهنة :
(( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده .))
[عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عمرو]
الحمد أولاً والشكر ثانياً ، قال تعالى :
﴿ اعْمَلُوا آَلَ داود شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) ﴾
(سورة سبأ)
الشكر عمل ، ﴿ اعْمَلُوا آَلَ داود شُكْراً ﴾ ، أما الحمد فهو حالة نفسية ، أحياناً يقدم لك إنسان خدمة تحس أنك ممتن من أعماقك منه ، تعبر عن الامتنان أحياناً بخدمة ، أحياناً بكلمة طيبة ، أحياناً بقولك جزاك الله عني كل خير ، ولكن هذا الكلام أو هذه الخدمة أساسها حالة نفسية شعرت بها هذا هو الحمد .
نعمة الرضا أكمل نعمة :
أنت في الصلاة تصلي الفرض ، الفروض فقط في اليوم سبعة عشر ركعة ، ومثلها سنن ، يعني تقول : الحمد لله في الصلاة حوالي أربعين مرة ، هل أنت في مستوى هذه الآية ؟ يعني راض عن الله عز وجل ، راض عن صحتك ، عن دخلك ، عن ضيقك ، عن عملك ، راضٍ وأنت من أصحاب الدخل المحدود ، أم ترى نفسك دائماً أنك محروم ، إذا كان دخل الرجل محدوداً مثلاً يقضي عمره كله غير راضٍ ، بينما يجد بائع فلافل دخله خمسة آلاف وهو أميّ ، يقول صاحب الدخل المحدود : أنا حائز على شهادة ليسانس ، ودخلي فقط ألف ومائتان بالشهر تقريباً ، فهو دائماً غير راضٍ ، أما إذا كان مؤمناً وقال : الحمد لله رب العالمين ، فليس عنده حرمان أبداً ، إن نعمة الرضا أكمل نعمة ، لو جاءك مئة مليون في الشهر وأنت على ضلال فالنهاية إلى جهنم ، أما المؤمن فكلمة الحمد لله رب العالمين تدل على أنه راضٍ عن الله عز وجل : يا رب هل أنت راضٍ عني ؟ قال : يا عبدي هل أنت راض عني حتى أرضى عنك .
هل أنت راض عن الله عز وجل ؟ هل تقول الحمد لله من أعماقك ، من أعماق أعماقك ؟ أراضٍ ، وليس عندك إلا بنات فقط ، وليس عندك ولا ذكر واحد ، فهل أنت راضٍ ؟ هل رأيت حكمة الله عز وجل أنه يحبك على هذا ، ليس عندك أولاد إطلاقاً ، بل عقيم راض عن الله عز وجل ، عندك زوجة سيئة الخلق ، فهل أنت راض بها ؟ هل ترى أن الله شاءت حكمته أن تكون كذلك ؟ لك عمل محدود دخله ، أنت في مرض عضال مزمن بشكل مستمر تعاني من بعض الأمراض هل تقول الحمد لله رب العالمين ؟ هذه البطولة .
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتق الله البطل
***
الحمد لله في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في الرفعة والضعة ، في العز والذل ، الحمد لله على كل حال ، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ، المكروه نعمة ، لكنه نعمة باطنة .
الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نحمده وألا نحمد أحداً معه :
الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نحمده ، وأمرنا ألا نحمد أحداً معه كيف ؟ قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) ﴾
(سورة النجم)
مثلاً نراك تحاضر محاضراتٍ كثيرة عن زيد وعبيد ، وقد تكون مجانباً الحق في كثير مما تحاضر ، إذاً فإنه لا يستحق الحمد إلا الله ، وإذا سئلت تقول : الله أعلم بحاله ذلك علمي به ، وعن الصديق تقول : ذلك علمي به ، فإن بدل وغير فلا أعلم الغيب ، لم اختار سيدنا أبو بكر سيدنا عمر ؟ ألم يقل : لا أعلم من هو خير منه ؟ وقال : ذلك علمي به فإن بدل وغيّر فلا أعلم الغيب ، الله قال :
﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) ﴾
(سورة النجم)
هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله ، كان النبي عليه الصلاة والسلام عند صحابي متوفى ، كشف عن وجهه فقبله ، سمع امرأة تقول :
(( هنيئاً لك أبا السائب الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما يدريك يا أم معاذ ؟ أما هو فقد جاءه اليقين ولا نعلم إلا خيراً .))
[الطبراني عن سالم أبى النضر]
﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) ﴾
(سورة النجم)
الحمد أنواع وقد جُمع كل هذا في الفاتحة :
لذلك الحمد لله وحده ، أما البشر فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ، كانوا قديماً إذا كلفوا إنساناً ليزكي إنساناً آخر لزواج أو لشهادة يكتب : أعلم منه الصلاح والتقى ، والله أعلم ، معنى والله أعلم قد يكون غير ذلك ، قد يكون منافقاً ، والله أعلم ، فالإنسان ليس مكلفاً ليقيّم الآخرين ، وليس أهلاً لذلك ، ولا يملك الأداة الصحيحة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( احثوا في وجه المداحين التراب .))
[رواه ابن عياش عن عبد الله بن عمرو]
((إن الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
[(البيهقي عن أنس رضي الله عنه]
مثلاً رجل يشرب الخمر تقول عنه : أكابر ، أخلاقه عالية ، لبق جداً ، ما معنى قولك لبق جداً ؟ أيُّ لباقة هذه على شرب الخمر ، وعلى ترك الصلاة ؟ فهذا الذي يقوله الناس عن بعض الناس رغم شربهم للخمر ، ورغم تركهم للصلاة ، ورغم أكلهم للربا ، إنّ أخلاقه عالية ، لبق ، هذا كلام باطل :
((إن الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
[(البيهقي عن أنس رضي الله عنه]
العلماء قالوا : هناك حمد لذات الله ، وهناك حمد له لنعمة سبقت منه ، وهناك حمد له لنعمة ترجوها منه ، وهناك حمد له خوفاً منه ، إذاً الحمد أنواع ، وقد جُمع كل هذا في الفاتحة .
الحمد لله لذاته ، فالإنسان أحياناً تحمده من دون أن يصيبك من خيره شيء ، وقف موقفاً أخلاقياً أمامك من شخص آخر ، هذا الموقف الأخلاقي تحمده عليه ، مع أنك لست معنياً بهذا الموقف ، وقد ينعم عليه فتحمده ، الحمد لله لذاته ، رب العالمين لنعمه ، الرحمن الرحيم لما نطمع من رحمته ، مالك يوم الدين خوفاً منه .
الحمد في بادئ الأمر إنشاء وفي نهاية الأمر واقع ثابت :
بعضهم قال : ربنا عز وجل بدأ قرآنه الكريم بالحمد لله رب العالمين ، وآخر كلمة يقولها الناس وهم يدخلون الجنة :
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) ﴾
(سورة يونس)
أَمَرنا أن ننشئ الحمد كما هو الحال في الفاتحة ، وفي نهاية الحياة كان الحمد واقعاً كما في آية سورة يونس السابقة ، أحياناً يقول لك أحد الناس : اشكرني ، ويعاملك معاملة سوء ، أي شكر هذا ؟ أساء لك المعاملة ، ويطلب منك أن تحمده ، لكن ربنا عز وجل أمرك أن تحمده وبعد أن اتصلت به ، وسعدت بقربه تحمده ، تحمده على نعمه التي وقعت ، إذاً الحمد في بادئ الأمر إنشاء ، وفي نهاية الأمر واقع ثابت .
شيء آخر ، الحمد لله على أنه أوجدنا ، والحمد لله على أنه بث فينا الروح ، والحمد لله على أنه أمدنا بالطعام ، والشراب ، وكل ما نحتاج ، والحمد لله على أنه قومنا ، الأمراض ، والهموم ، والمتاعب ، والأحزان ، هذه كلها ألفاظ خفية من أجل التقويم ، هناك نعمة الإيجاد ، ونعمة الخلق ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الرزق ، ونعمة الحياة الروحية ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم .
نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم أربع نعم كبرى .
الله سبحانه وتعالى شعر بعجزنا عن حمده فعلمنا كيف نحمده :
هناك شيء آخر ، الحمد لله على ما أعطى ، أن تعرف أن هذه النعمة من الله عز وجل ، أن تعرف من أعطاك ، وأن ترضى بما أعطاك ، وألا تعصي الله فيما أعطاك ، هذا من معاني الحمد ، آخر شيء في الحمد ، مع أن هذه الآية تنقضي الأيام ، ولا ينقضي شرحها ، ولكنّ أخذَ القليل خيرٌ من تركِ الكثير :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) ﴾
(سورة الأنعام)
وقال :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) ﴾
(سورة الكهف)
إنّ نعمة الهدى كما في آية الكهف تعادل نعمة الخلق كما في آية الأنعام ، والحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض ولم يكن لغيره ، إن الإنسان لئيم ، فلو كان الأمر والخلق لغيره لمُنع الناس القطر ، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمنا أن نحمده الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض .
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، قالوا : جمعت هذه الآية نعمة الهدى ، ونعمة الإمداد ، وأكبر نعمة هي أن الله سبحانه وتعالى علمنا كيف نحمده :
((قال موسى : يا رب كيف شكرك ابن آدم ؟ فقال : علم أن ذلك مني فكان ذلك شكره .))
[الحكيم عن الحسن مرسلاً]
نحمد الله بطريقة علمنا إياها الله سبحانه وتعالى ، شعر بعجزنا عن حمده فعلمنا كيف نحمده .
الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين :
كلمة الحمد لله يقولها الناس في اليوم آلاف المرات ، كيف حالك ؟ يكون ملحداً ويقول : الحمد لله ، وهي من فلتات اللسان عنده ، لكن إذا وقفت على معانيها تماماً تذوب محبة لله على كل شيء ، فإذا كان فهمك عميقاً جداً تحمده على المصيبة :
(( إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه .))
[ورد في الأثر]
تعاني من مصيبة مزعجة ، ولعلمك برحمة الله ، وحكمته ، ولطفه ، وحرصه على هدايتك ، وحرصه على إسعادك ، ففي أثناء المصيبة تقول : الحمد لله رب العالمين على هذه المصيبة ، إنها عناية من الله ، وأحياناً يقسو المعلم على تلميذه كي يكون الأول في الصف ، فإذا صار الأول يحمده على قسوته لا على جوائزه ، نعم بحمده على قسوته ، كذلك إذا عرفت الله حق المعرفة تحمده على المصائب ، قال سيدنا علي كرم الله وجهه : " الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين " .
أعلى درجة في اليقين برحمة الله أن ترضى بمكروه القضاء ، القضاء الذي لا تحبه ، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ، والحمد لله تعني معرفة الله ، علامة أنك تعرفه ، وأنك تحمده ، تعرفه فتحمده ، أما إذا كنت لا تعرفه فلا تحمده .
والحمد لله رب العالمين