سورة المؤمنون 023 - الدرس (8): تفسير الآيات (093 – 118)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة المؤمنون 023 - الدرس (8): تفسير الآيات (093 – 118)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة المؤمنون

New Page 1

تفسـير القرآن الكريم ـ سـورة المؤمنون- (الآيات: 093 - 118)

06/07/2011 18:30:00

تفسير سورة المؤمنون (023)
الدرس (8)
تفسير الآيات (93 – 118)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

بسم الله الرحمن الرحيم
 
        الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
        أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الثامن والأخير من سورة المؤمنون ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
 
 
﴿  قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
إنه مشهد يومٍ عظيم :
        هذه الآيات وحتى نهاية السورة تري مشهداً لما سيحْصُل ، وهذا من رحمة الله بنا ، فمن تقريب هذه الفكرة أن بعض ملوك اليابان أرسل إلى بلاد الغرب طائفةً من الطُلاَّب ليحصلوا تعليمهم العالي ، بعضهم انغمس في اللهو ، وما لا علاقة له بالدراسة ، ولم يحرز النجاح المطلوب ، فلما عاد إلى بلده شَكَّل ملك اليابان محكمةً ، وحاكم هؤلاء الطُلاب وأعدمهم ؛ فلو أنه أرسل وجبةً أخرى ، وأعلمهم مصيرهم إن لم يدرسوا الدراسة المطلوبة فهذا الإعلام المسبق سيكون رحمةً بهم .
        فنحن لو أطلعنا إنساناً يُدَخِّن أريناه صوراً دقيقةً لآفات الدُخان ،  فلو فَكَّر وأحكم عقله في الموضوع لامتنع من تلقاء ذاته عن شرب الدُخان مثلاً .
        الآن أمامنا مجموعة آيات تُمَثِّل مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، هذا المشهد يبين وضع المذنب المُقَصِّر ، وكيف أن النار تلفح وجهه ، وكيف يقول وهو يتلقَّى العذاب ، وما هي أُمْنِيَّاتُه ، فهذه المشاهد لا بدَّ أن يصل إليها كل كافر ، فقد عرضها ربنا في وقتٍ مبكر ، ونحن في الدنيا رحمةً بنا، يقول الله سبحانه وتعالى يُعَلِّمُ النبي عليه الصلاة والسلام كيف يدعو ربَّه :
 
﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
        هؤلاء الكُفَّار يتوعَّدهم الله سبحانه وتعالى بالهلاك ، فيا رب إذا أريتني بأم عيني هلاك الكفار فلا تجعلني بينهم ، لا تجعلني منهم ، اجعلني بعيداً عنهم لئلا يُصيبني ما توعدتهم به ..
 
﴿إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴾
        الإنسان أحياناً بدافع من رغبته قد يكون له قريب ، قد يكون له صديق منحرف ، معتدٍ ، مغتصب ، لـه انحرافاته الخطيرة ، ويزداد قوةً ، ومَنَعَةً ، وشأناً و .. و .. فالإنسان يقول : يا ربي ما تفسير هذه القصة ، ألا تعاقبه ؟ اطمئن ، فلا بدَّ أن يعاقبه الله عزَّ وجل ؛ إن عاجلاً أو آجلاً ، فإيَّاك أن تتسرع في طلب العقاب ، فربنا عزَّ وجل يقول :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
( سورة الأنعام )
        هذه ( ثم ) للتراخي ، للترتيب على التراخي ، وفي آية ثانية :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾
( سورة النمل )
        ربنا سبحانه وتعالى إما أن يبطش بالكافر مباشرةً بعد انحرافه ، وإما أن يؤخِّرَهُ لحكمةٍ بالغة ، فأنت أيها المؤمن لا تستعجل عقاب الله سبحانه وتعالى ، فإما أن يأتي وتراه رأي العين ، وإما أن لا يأتي ، ولا بدَّ أن يُنزل الله عقابه بالكافر ، إن لكل سيئةٍ عقاباً ، وإن لكل حسنةٍ ثواباً ، فالإنسان أحياناً يرى شخصاً منحرفاً ، معتدياً ، ظالماً يُسْرِعُ الله سبحانه وتعالى ، ويعاقبه عقاباً أليماً ويبطش به ، هذه تُغَطِّيها تلك الآية :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾
( سورة النمل )
        وأحياناً أُخرى قد ينحرف الإنسان ، وقد يطغى ، وقد يبغي ، وقد يأخذ ما ليس له ، وقد يعتدي ، وقد يغتصب ، وقد يستعلي ، وقد يتكبَّر ، والله سبحانه وتعالى يُرْخي له الحبل ، ولكنه إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ ..
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
( سورة البروج )
        فأنت أيها المؤمن لا ينبغي أن تتمنى ، ولا أن تنتظر ، ولا أن تترقب ، ولا أن تستعجل ، من صفات المؤمن أنه لا يستعجل ما أخَّره الله ، ولا يستبطئ ما عَجَّله الله سبحانه وتعالى ، أنت عبد .
أَعْظِمْ به مِن دعاءٍ ‍‍‍‍!!!
        فالله سبحانه وتعالى يُعَلِّمُ النبي عليه الصلاة والسلام ، يعلمه أن يدعو بهذا الدعاء قال :
 
﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
        أي يا رب إذا أردت أن تُنْزِل عقابك بهؤلاء المنحرفين لا تجعلني بينهم لئلا يُصيبَني ما يصيبهم ، وطبعاً هذا تحصيل حاصل ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة الأنبياء )
 
﴿  وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
قدرة الله لا يعتريها عجزٌ :
        الوعد الإلهي كأنَّه واقع ، ولكن كما يقولون قضية زمن ..
 
﴿  وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴾
        الإنسان قائم بالله عزَّ وجل ، لو أن الله سبحانه وتعالى قَطَعَ عنه الإمداد لحظةً واحدة لأصبح جثةً هامدة ، لو أنه جَمَّدَ نقطةً من دمٍ في بعض شرايين دماغه لأصبح مشلولاً ، في مكانٍ آخر لأصبح مجنوناً ، في مكانٍ ثالث لفقد السمع ، في مكان رابع لفقد البصر ، في مكان خامس لفقد الذاكرة، فالإنسان ضعيف .
        أخ كريم توفِّي ـ رحمه الله تعالى ـ خرج من معمله إلى بيته لم يعرف أين بيته ، بقي ساعةً ونصف يجوب في سيارته أطراف المدينة إلى أن ذهب إلى بيت ابنه قال له : يا بني أين بيتي ؟ يوجد فقد ذاكرة كُلي ، وفقد ذاكرة جُزئي ، فالإنسان تحت ألطاف الله عزَّ وجل ، فأي جهاز ، أو أي غدة ، أو أي مكان في جسمك معرض لنمو عشــوائي ـ مرض خبيث ـ أو قصور مفاجئ في وظيفة الكليتين ، أمامه متاعب لا حصر لها ، فالإنسان وأعضاؤه بيد الله عزَّ وجل ، وكذا أهله ، وأولاده ، وماله كلُّ شيءٍ بيد الله عزَّ وجل ..
 
﴿  وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
من صفات المؤمن : مقابلة السيئة بالإحسان :
        هذا حال المؤمن يُقابل السيِّئة بالإحسان ، يقابل الإساءة بالإحسان..
 
﴿  ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
( سورة المؤمنون : آية " 96 " )
        في آية أخرى :
 فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾﴿ 
( سورة فصلت )
        أحد الأصحاب الكرام تكلّم معه رجل بكلامٍ مُقْذع فقال ببساطةٍ وبهدوءٍ : يا أخي إن كنت مخطئاً غفر الله لي ، وإن كنت أنت غفر الله لك .
 
 
﴿  ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
( سورة آل عمران )
        يجب أن تَكْظُمُ غيظك ، وأن تعفو عن الناس وأن تُحسن إليهم ..
 
﴿  نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾
نحن أعلم بما يصفون
        هؤلاء المعارضون ، هؤلاء المشكِّكون ، هؤلاء الجاحدون الذي يصدُّون عن سبيل الله ، يحيكون لك ما يحيكون ، يدبِّرون ما يدبرون ، يمكرون ما يمكرون هؤلاء نعلمهم نحن ، أعلم بك منهم ، كفاك طمأنينةً أن الله يعلم ما يفعلون ، أن الله محيطٌ بأفعالهم ، محيطٌ بمكرهم ، محيطٌ بكيدهم ، يدُ الله فوق أيديهم .
 
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾
        بما يصفونك يا محمد ، أنت رسول ، ويصفونك بأنَّك لست برسول ، معلمٌ مجنون ، ساحرٌ ، كاهنٌ ، شاعرٌ ..
 
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾
( سورة المؤمنون )
معنى : همزات الشياطين :    
        الهَمْز  بعضهم قال : الوسوسة ، وبعضهم قال : ساعة الغضب التي يُصْبِحُ فيها الإنسان كالحيوان بدافعٍ من وساوس الشياطين .
 
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾
الاستعاذة بالله لتلافي وسوسة الشيطان :
        ليس للإنسان من طريقةٍ يتلافي فيها وساوس الشياطين إلا أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هذه أجدى دواء للوساوس ، كلَّما نابك وسوسةٌ قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، اقرأ المعوذتين ..
 قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ*مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ*وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ*وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ              فِي الْعُقَدِ*وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾﴿    
( سورة الفلق )
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ*إِلَهِ النَّاسِ*مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
( سورة الناس )
        الاستعاذة بالله ، طبعاً لا يكفي أن تقول بلسانك أعوذ بالله الأمر أعقد من ذلك ، لا بدَّ من أن تلتجئ إلى الله ، لا بدَّ أن تقبل عليه ، لا بدَّ من أن تحتمي بجنابه ، لا بدَّ من أن تستجير به ، إذا فعلت ذلك أجارك الله ، وأعاذك ، وأنقذك ، وأغاثك .
مِن مشاهد يوم القيامة :
سكرات الموت :       
        أما مشاهد يوم القيامة فقد بدأت الآن .
 
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
        بعضهم قال : إن الإنسان إذا جاءه الموت لا بدَّ أن يعرف مقامه في الآخرة ، إما أن يرى مقامه في جنةٍ عرضها السماوات والأرض ، وإما أن يرى مكانه في النار ، في دركات النار ، لذلك حينما يُشْرِفُ الإنسان على الموت يعرف مكانه في الآخرة ، إما في جنةٍ يدوم نعيمها ؛ أو في نارٍ لا ينفد عذابها .
 
﴿  حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
( سورة المؤمنون : آية " 99 " )
﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾
( سورة الجمعة : آية " 8 " )
        تفرون منه .. أي كأنَّه يلحقكم .. فإنَّه ملاقيكم ، فالإنسان أحياناً يفاجأ ، يكون متوقعاً أن يموت من هذا المرض ، يعتني بصحته عنايةً بالغة ، فإذا هو يفاجأ بأنه يموت بحادث ، وهذا وقع كثيراً ، فالإنسان لا يعرف كيف يموت ، يا ترى يموت بمرض ، بحادث ، الله أعلم ..
ولست أبالي ، حين أُقتل مسلماً         على أي جنبٍ ألقى في الله مصرعي
***
من لم يمُت بالسيف مات بغيره       تنـوَّعت الأسـباب والمـوت واحد
أجمل ساعةٍ في حياة المؤمن ساعة لقاء ربه :
        حينما يكون الإنسان مع الله عزَّ وجل فهو في سعادةٍ ما بعدها سعادة ، النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الغزوات تفقَّد أحد أصحابه ، واسمه الربيع فقال : أين الربيع ، فندب أحد أصحابه يبحث عنه في أرض المعركة ، أحد أصحاب النبي الكريم ، توجَّه إلى أرض المعركة يبحث عن الربيع بين القتلى والجرحى ، فإذا هو بين القتلى لكنه لم يمت بعد أي في النزع الأخير ، فقال : إن النبي عليه الصلاة والسلام يُقْرِئك السلام ، وقد بعثني أبحث عنك ، فهل أنت يا ربيع بين الأموات أم بين الأحياء ؟ فقال الربيع : إنني من الأموات ولكن أَقْرِئ رسول الله مني السلام وقل له : جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبياً عن أمته .
        هذه حاله ، هو في أرض المعركة يلقى النَزْعَ الأخير وحاله من أسعد الحالات ، فالإنسان ليكن عمله في الدنيا عملاً طيباً بحيث لو جاءه الموت ، قال كما قال سيدنا بلالٌ رضي الله عنه ، حينما قالت له ابنته : وا كربتاه يا أبت قال : لا كرب على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبة ؛ محمداً وصحبه .
        أنا الذي أتصوره أن أجمل ساعةٍ من ساعات حياة المؤمن حينما يَلْقى الله عزَّ وجل .. بل الرفيق الأعلى .. ينبغي أن يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود ، هو اليوم المنتظر ، لذلك قالوا : الموت تحفةُ المؤمن ..
 
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
الموت هو اليقين :
قال ربنا عزَّ وجل :
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
( سورة الحجر )
        اليقين هو الموت ولم يقل الله عزَّ وجل : واعبد ربك حتى يأتيك الموت ، قال : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾
        الموت سُمِّيَ يقيناً لتَيَقُّنِ وقوعه .. كل مخلوقٍ يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، الليل مهما طال فلا بدَّ من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلا بدَّ من نزول القبر ..
        لذلك البطل هو الذي يَعُدَّ لهذه الساعة العُدَّة ، هو الذي يعمل الصالحات ، هو الذي يستقيم على أمر الله ، هو الذي يتعرَّف إلى الله في الرَّخاء ، هو الذي يَحْضُر مجالس العلم ليتعرف إلى الله ويطبِّق ما فيها من قواعد ، من شرائع ، من مواعظ، من حكم ، من أوامر ، من نواهٍ .
        سمِّي الموت يقيناً لشيءٍ آخر ، هو أن كل شيء سمعته في الدنيا يصبح عند الموت يقيناً ، نقول الآن : في جنة ، وفي نار ، وفي حساب، في صراط ، وفي عذاب ، وفي ملائكة ، وفي زبانية ، وفي جهَنَّم ، هذا الكلام كله من الغيبيات ، عند الموت تصبح هذه الأخبار حقائق ، سمي الموت يقيناً لتيقُّن وقوعه ، وسمي الموت يقيناً لأن كل شيءٍ فيه يصبح يقيناً ، 
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ  كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾
( سورة الإسراء )
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ
( سورة ق )
 
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾
( سورة المؤمنون )
ليتني أعود ، ولاتَ ساعة مندَم :
        لآن نَدم ..
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾
( سورة الزمر : آية " 56 " )
        ا ليتني أعود إلى الدنيا فأستقيم على أمر الله ، يا ليتني أعود إلى الدنيا فأعمل الصالحات ، يا ليتني أعود إلى الدنيا فأتعلَّم كتاب الله ،  يا ليتني أعود إلى الدنيا فأجعل بيتي إسلامياً كما أراد الله عزَّ وجل ، يا ليتني أعود إلى الدنيا لأُحرر دخلي من الحرام ، يا ليتني أعود إلى الدنيا لأُنفق المال فيما يُرضي الله ..
 
﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ
        تركت أموالاً يا ربِّ ، لعلي أعود إلى الدنيا فأنفقها في طاعتك ، تركتها لأولادي ، فأولادي صرفوها ، وأنفقوها في معصية الله ، فأغلب الظن أن الإنسان إذا ترك أموالاً طائلة ، ولم يترك ذريةً صالحة أغلب الظن أن هذه الأموال تُنْفَق على المعاصي ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يصف المؤمن ، حينما يوضع في النعش بأن روحه ترفرف فوق النعش وتقول : " يا أهلي يا ولدي ، لا تلعبَن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلَّ وحرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم ، والتبعةُ علي " ..
 
﴿  حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾
        يقول بعضهم : إن الميِّت يُخاطب الملائكة الذين قبضوا روحه ، وكلمة رب اعتراضية ، كما لو أن الأب أخذ ابنه ليضربه فالطفل ينادي أمه .. ينادي إنسان آخر يظن أنه سَيُخَلِّصه .. قال : أي يا رب ، أرجعوني أيها الملائكة كما كنت في الدنيا ..
 
﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ
لعلي أعمل صالحا فيما تركت
        لعل هذا المال الذي تركته أنفقه في طاعة الله ، لعل هذا البيت الذي تركته أُسكنه من يرضي الله عزَّ وجل ـ فطبعاً في دخول كبيرة جداً من البيوت ، لكن لا ترضي الله عزَّ وجل ، كل يوم ثلاثة آلاف ليرة ، لو أجرته إلى مؤمن ـ دخول لا ترضي الله عزَّ وجل ، وتجارات لا ترضي الله ، وحفلات لا ترضي الله ، وسـهرات لا ترضي الله ..
 
﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا
الجواب زجر وردع وخزي :
        كلاَّ أداة نفيٍ وردعٍ ، هذا لن يحصل ، هذا بعد فوات الأوان ، هذا لن يكون ..
 
﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
        ي أن هذه الكلمة التي قالها لا تُقَدِّمُ ولا تؤخِّر ، ولا تنفع ، ولا تُجدي ، ولا تؤثِّر ، وليس لها أي مفعول ، إنها كلمة هو قائلها ، إذا كان ساقوا مجرماً إلى الإعدام بعد أن صدر الحكم بإعدامه ، وتصدَّق الحكم ، وهو مرتكب جريمة ، إذا قال : خلصوني ، سامحوني ، اتركوني ، نقول له : هذه كلمة لا تقدم ولا تؤخر ، ولا تجدي ، ولا تفعل شيئاً إنها كلمةً هو قائلها، فالإنسان لا ينبغي أن يُهْمِل أمر دينه في الدنيا حتى يأتي عليه يوم يتمنَّى أن يرجع إلى الدنيا ويقال له :
 
﴿  كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
        هذه هي المشكلة ، نحن الآن في الحياة الدنيا ، ومادام القلب ينبض فالباب مفتوح ، باب التوبة مفتوح ، باب الرُقِي مفتوح ، باب المغفرة مفتوح ، باب الإصلاح مفتوح ، كل شيءٍ مفتوح الآن ، حتى إذا جاء الموت أُغلقت الأبواب ، وخُتِمَت الأعمال ، وجَفَّت الصحف ، ورفعت الأقلام ، وانتهى كل شيء ، وأصبح الإنسان رهينَ عمله ..
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ*إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ*فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ*عَنْ الْمُجْرِمِينَ
( سورة المدثر )
 
﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
حياة البرزخ :
        هذا البرزخ ..
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾
( سورة غافر )
        من ستة آلاف عام ، وفي كل عام ثلاثمئة وخمسة وستين يوما ، وكل يوم مرتان ، يُعْرضون على النار ..
﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾
        هذا هو البرزخ ، البرزخ إما أن يكون روضةً من رياض الجنة ، وإما أن يكون حفرةً من حُفَرِ النار ، الإنسان بين الموت وبين يوم القيامة هناك مرحلةٌ تسَمَّى البرزخ ، لكن بعضهم قال : يا ترى هو من ورائهم أم من أمامهم ؟ المفروض من أمامهم البرزخ ، الآن مات وأمامه برزخ ، قال بعضهم : كلمة من ورائهم تعني الإحاطة ..
﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
( سورة الكهف )
        أي محاطين ، بعد أن يموت الإنسان لا يوجد حل آخر .
 
﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ
        أي محيطٌ بهم برزخ إلى يوم يبعثون .
 
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
نسَبَ يومَ القيامة ولا خُلّة ولا سؤال :
        ي أن هذه النفوس التي خلقها الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ أرادها ، جعل نظام الأسرة ، جعل نظام الزوجين ، هذا أبٌ ، وهذه أم ، وهؤلاء أولادهما ، الأولاد يتزوجون ، هذا صهر ، وهذه صهر ، وهذا ابن أخ ، وهذا ابن أخت ، وهذه عمة ، وهذه خالة ، هذه العلائق النسبيَّة جعلها الله في الدنيا كي يكتسب الإنسان بها العمل الصالح ، يكون الطفل صغيراً يحتاج إلى رعاية ، إلى عناية ، إلى توجيه ، إلى تربية ، فأن يكون للإنسان أب ، وأم ، وزوجة وأخ ، وأخت ، وعم ، وخال ، وعمة، وخالة ، وابن أخ ، وابن أخت ، وابن خالة ، وابن عمَّة ، هذه العلاقات النسبية جعلها الله في الدنيا كي نتواصل ، كي نتراحم ، كي نكسب الأعمال الصالحة ، كي يُعين الابن أباه حينما يكبر ، وكي يعين الأب ابنه حينما يكون صغيراً ، لكن انتهى العمل بقي الجزاء ، لذلك ليس في يوم القيامة جزاء ، ليس هناك أنساب .
        يبدو أن السيدة عائشة رضي الله عنها ، سألت النبي عليه الصلاة والسلام قالت : أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : لا يا أم المؤمنين ، إن أحداً لا يعرف أحداً يوم القيامة .. لكن فيما سوى هذه المواضع الثلاث ؛ على الصراط ، وإذا الصحف نشرت ، وعند الميزان ، في هذه المواقف الثلاثة لهول الموقف لا يعرف أحدٌ أحداً يوم القيامة .. وفيما سوى ذلك ربما وقعت عين الأم على ابنها ، تقول له: يا بني جعلت لك صدري سقاءً ، وبطني وعاءً ، وحجري وطاءً فهل من حسنةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم ؟ فيقول : يا أماه ليتني أستطيع ذلك ، إنما أشكو مما أنت منه تشكين ..
 
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾
        لا أنساب ، ولا تساؤل ، هنا التساؤل بمعنى السؤال ، الإنسان أحياناً يسأل أباه أن يعطيه مالاً ، والأب أحياناً يسأل ابنه أن يعطيه مالاً ، والأخ يسأل أخاه بيتاً ..
 
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
( سورة المؤمنون )
الناس يوم القيامة فريقان :
الفريق الأول : فمن ثقلت موازينه :
        أعماله الطيبة كثيرة ، له استقامته في الدنيا ، له أعمال الخير ، يدلُّ على الخير ، يتصدَّق بماله ، يدل الضال في أرض الضلالة ، يفرغ من دلوه في إناء المستسقي ، يميط الأذى عن الطريق ، يعود المريض ، ينفق من ماله ، يرد لهفة الملهوف ، مثل هؤلاء الأشخاص موازينهم ثقيلة، دعا إلى الله ، جعل الله هداية بعض الناس على يديه ، هذه الدعوة تحتاج إلى وقتٍ ، وإلى جهدٍ ، وإلى صبرٍ ، وإلى تَحَمُّلٍ ، هذه الأعمال الطيبة تجعل موازينه ثقيلة :
 
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
        ي إنهم أفلحوا في الدنيا ، وحققوا الهدف من خلقهم ، وفازوا بها، وجعلوها جسراً إلى الآخرة :
 
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
( سورة المؤمنون : آية " 103 " )
الفريق الثاني : ومن خفت موازينه :
        أكبر خسارةٍ أن تخسر نفسك .. رأس مالك نفسك ، فإذا خسرتها خسرت كل شيء ، وإذا ربحتها ربحت كل شيء ، تربح نفسك إذا عرَّفتها بربها ، تربح نفسك إذا دللتها على الله عزَّ وجل ، إذا ألزمتها سبيل الاستقامة ، إذا حملتها على فعل الخيرات ، هكذا تربح نفسك ، وإلا تخسرها :
 
﴿  وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
        أعماله قليلة ، كل وقته وجهده لمصالحه ، لكسب المال ، للتمتع بالدنيا ، لتوسعة البيت ، لتزيينه ، للذهاب إلى النزهات ، لإقامة الولائم ، للانغماس في الملذَّات ، لا يعنى بأمر الله كثيراً ، لا يهتم أكان في طاعةٍ أم في معصية ؟ أكان فيما يرضي الله أم فيما يبغضه ؟ لكن الذي يعنيه أنه يحقق رغبته ، يلَبِّي شهوته ، يُمتع نفسه ، يقول لك : الدنيا لا يوجد فيها شيء ، خذ منها قدر ما تستطيع ، هكذا شعار بعض الناس  ، وكما قال الشاعر :
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي    فدعني أبادرها بما ملكت يدي
        متع نفسك ، الآن أنت شاب ولك الدنيا بلذائذها ، ولا تضيع مباهجها، وعندما تصل إلى الله يفرجها الله ـ يقولها ساخراً ـ بعض الناس هكذا يقولون ..
 
 
﴿  فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
        الإنسان يخسر بيتا أحياناً ، يخسر سيارة ، أحياناً يخسر رأس ماله كله ، أحياناً يخسر أولاده ، هذه مصائب كثيرة ، لكن رأس مالك أنت، فأنت رأس مالك فإذا خسرت نفسك أعدَّ الله لك حياةً أبديةٍ فخسرت هذه الحياة الأبدية وكان المكان في عذابٍ أليم ، هذه أكبر خسارة ، لذلك :
((الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني)) .
( الترمذي ، ابن ماجه عن شداد بن أوس )
 
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾
مشهد عظيم : لفحةٌ من عذاب جهنم :
        تأتيه لفحةٌ من لهيب النار :
 
﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
 
        إذا نظرت إلى رأس غنم مشوي تراه مكَشِّراً ، وأسنانه ظاهرة ، حينما احترق جلده ، انكمشت عضلات جلده فكَشَّر عن أنيابه .
معنى : كالحون :
        معنى كالح : حينما تأتيه لفحة النار ينكمش جلده فتظهر أسنانه بشكلٍ قبيح :
 
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾
صورة من الخزي : عتاب الله للكافرين :
        اسمعوا العتاب الإلهي :
 
﴿أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
( سورة المؤمنون : آية " 105 " )
        آيات القرآن ألم تكن تتلى علينا ؟ بلى والله ، تتلى علينا صباحاً ومساءً ، القرآن أليس بين أيدينا ؟ ألا نسمعه صباح مساء ؟ ألم نسمع تفسيره ؟ ما موقفنا منه ؟
 
﴿أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
        الآيات الكونية أليست ظاهرةً جلية ؟ هذه الشمس من أوقدها ؟ وهذا القمر من جعله في هذه المعارج والمواقع ؟ وهذه الأمطار من أرسلها ؟ وهذه الرياح من صرَّفها ؟ وهذه البحار من أوجدها ؟ وتلك الجبال من أقامها ؟ وهذه الحيوانات من خلقها ؟ وهذا الطعام الذي تأكله من أعدَّه لك ؟
 
﴿أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
        عندنا آيات كونية ، ويوجد آيات قرآنية ، فالآيات الكونية تتلو نفسها علينا صباح مساء ، هذا كأس الماء هو آيةٌ من آيات الله ، طفلك الذي أمامك آيةٌ من آيات الله ، الفاكهة التي تأكُلها آيةٌ من آيات الله ، الهواء الذي تستنشقه آيةٌ من آيات الله ، وآيات القرآن الكريم :
 
﴿أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
        يقول لك : أخي هذا القرآن للأموات وليس للأحياء ، يقرأ على الأموات ، وفي مناسبات الموت ، الآن دعنا في سرور ، إذا ذكرت لهم آية أو حديثاً عن الآخرة تشاءموا ، دعنا في سرور ..
 
﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا
( سورة المؤمنون : آية " 106 " )
الاعتراف سيد الأدلة : غلبتْ علينا شِقوتنا ومنا قوما ضالين :
        الشِقْوَة أضيفت إليهم ، فالشقوة هنا تعني الشهوة ، سماها الله شقوة لأن الشهوة تؤدي إلى الشقوة : " ألا يا ربًّ شهوة ساعةٍ أورثت حزناً طويلاً".. فلأن هذه الشهوة تؤدي إلى الشِقوة سماها الله شِقوة :
 
﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا
        إننا آثرنا شهواتنا على طاعة ربنا ، نحن مخيَّرون ، اخترنا شهواتنا على طاعة ربنا ، آثرنا حظوظ أنفسنا ، آثرنا المُتَع الرخيصة يا رب ، هكذا ..
 
﴿غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
        لم نبحث عن الحق ، الحق كان جلياً ، كان واضحاً ولكن تعامينا عنه ، ما بحثنا عنه ، لم نعبأ به ، بحثنا عن الدنيا ، عن الدرهم والدينار:
 
﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾
( سورة المؤمنون )
لا كلام ولا اعتذار :
        إذا طلب منك طلباً لا يُعْقَل أن يحَقق ، لا تقول له : لا ، بل تقول له: اخرج من هنا :
 
﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾
( سورة المؤمنون )
 
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾
( سورة الأنبياء )
        ما هذه أخرجنا منها ؟ كنتم في الدنيا وعمرتم فيها عمراً كافياً :
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾
( سورة فاطر : آية " 37 " )
        عمرت في الدنيا ثمانين عاماً ، سبعين عاماً ، ستين عاماً ، بخريفها وصيفها وشتائها وربيعها ، ستون مرة أكلت فواكه الصيف ، وستون مرة أكلت فواكه الشتاء ، ورأيت الرياح ، والأمطار ، والثلوج ، والربيع ، والخريف ، وجاءك أولاد ، كبروا أولادك ، وزوَّجتهم ، وجاء الأحفاد ، عُمِّرت ما يكفي للتذَكُّر ..
 
﴿  وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
( سورة فاطر  )
        الله عزَّ وجل أرسل الأنبياء ، وأنزل القرآن الكريم ، وسخَّر العلماء ، وأرسل بعض المصائب حتى يُذَكِّرنا ، وجعل الشيب ، جعل ضعف البصر ، وضعف السمع ، وضعف القوى ، يقول لك : أنا لم أكن هكذا ، كنت أنشط من ذلك ، ربنا عزَّ وجل بأسلوب لطيف قال لك : يا عبدي اللقاء قَرُب فانتبه ، هيئ نفسك :
 
﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾
احذر الطريق مسدود :
        هذا كلام لا يُجْدي ، تكلمنا من درسين سابقين : لا تصل إلى طريق مسدود يكون حائلاً بينك وبين الله ، قل :
 
﴿أَخْرِجْنَا مِنْهَا
( سورة المؤمنون : آية " 107 " )
        وقل :
 
﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً
( سورة المؤمنون )
        وقل :
﴿ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة الأنعام : آية " 27 " )
        وقل :
 يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ﴾﴿ 
( سورة الزمر : آية " 56 " )
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾
( سورة الفرقان : آية " 27 " )
هذا الكلام لا يجدي :
 
﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ 
( سورة المؤمنون )
        يعني ابتعدوا ، ولا تكلموني :
 
﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
 
الجزاء من جنس العمل : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ
        أحياناً ينشأ الشاب في طاعة الله فيسخر منه إخوانه ، أصدقاؤه ، أقاربه ، قد يسخر منه أبوه وإخوته في البيت ، يقولون له : تَشَيَخ ، لم يعد يفهم شيئاً ، ابتعد عن سهراتنا ، طمس قلبه ، لم يعد يرى شيئاً :
 
﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾
        كنتم تظنون أنكم أنتم الأذكياء وهم الأغبياء ، كنتم تظنون أنكم أنتم الرابحون وهم الخاسرون ، كنتم تظنون أنكم أنتم الفائزون ، وهم المخففون، كنتم تظنون أنكم أنتم الذين تعرفون كيف تكون الحياة وهم لا يعرفون :
 
 
 
﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ *فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾
        كانت السُخْرِيَة عليهم قد أنستكم ذكر الله عزَّ وجل ، تمضون أوقاتكم في الحديث عنهم ، يقول لك : محدود ، وتقولون ورعهم غباء ، وإحجامهم عن مباهج الدنيا ضيق أفق ، وخوفهم من الله عزَّ وجل حالة مرضية ، واستقامتهم تشدد ..
 
﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾
        وهذا يحصل ، المؤمن دائماً أهل الكفر والضلال والبغي والعدوان يسخرون منه ، لذلك في بعض الأحاديث :
((اطلعت على أهل الجنة فرأيت عامة أهلها من البُله)) .
( الجامع الصغير عن أنس بسند ضعيف )
        والحديث غريب ، لكن بعضهم وجهه توجيهاً رائعاً ، أي هؤلاء الذين أحجموا عن المال الحرام خوفاً من الله عزّ وجل هم في نظر الناس بُلْه ، الذين أحجموا عن المال الحرام خوفاً من الواحد الديَّان يتهمهم الناس بأنهم بُله ، إنهم بُلهٌ في نظر البُله :
 
﴿وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
        هؤلاء الذين انغمسوا في ملذات الدنيا إلى قمة رؤوسهم كانوا خاسرين ، هؤلاء الذين أقبلوا على الدِرهم والدينار ، وعبدوا شهواتهم من دون الله هم الخاسرون ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾
( سورة المطففين )
 
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
سؤال : كَم لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سنين :
        ربنا عزَّ وجل يسأل ، هذا سؤال دقيق جداً ، لو فرضنا سمعت واحداً دخل إلى بيت لكي يسرق ، ثم فوجئ بصاحب البيت ، فنشبت معركة بينهما فقتل صاحب البيت ، فأُخذ للمحاكمة ، وحكم عليه بالإعدام ، أنت تقول: يا ترى ما هو المبلغ الذي سرقه ؟ يقول لك ، والله إنه خمسون ليرة ، فهل من المعقول أن يضحي بحياته كلها من أجل خمسين ليرة ؟ ما أغباه، ومهما كان المبلغ كبيراً فإنه خاسر ، هذه الآخرة الأبدية ، هذه الحياة السرمدية ، هذه السعادة الكبرى ، هذه الجنَّة التي عرضها السماوات والأرض ، ضيعتموها من أجلِ أيامٍ معدوداتٍ في الدنيا :
 
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾
الجواب : يَوْما أَوْ بَعْضَ يومٍ
        اسمعوا هذا الجواب ، عاش ثلاثًا وثمانين سنة :
 
﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
( سورة المؤمنون : آية " 113 " )
        تََمُرُّ الدنيا على الإنسان يوم القيامة وكأنها يومٌ ، كل واحد له عمر ، تقول له : يا أخي كم هو عمرك ؟ يقول : ثلاثة وأربعين ، كيف مضوا ؟ يجيبك : والله البارحة كنت طالباً صغيراً ، الذي في الأربعين من العمر يقول لك : البارحة كنت صغيراً ، والذي في الثلاثين يقول القول نفسه ، والذي في الخمسين كذلك ، في الدنيا تمضي الأيام سريعاً كلمح البصر ، أما في الآخرة كل العُمُر يمضي ، وكأنَّه يومٌ أو بعض يوم :
 
﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
اسأل الملائكة الذين وكِّلوا بِعَدِّ الأيام ، يأتي الجواب :
 
﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً﴾
( سورة المؤمنون : آية " 114 " )
اعقلوها جيدًا : ما لبثتم إلا قليلا
        هذه إن حرف نفي ، أي ما لبثتم إلا قليلاً ، أي أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا ، أي ضَحَّيتم بهذه الآخرة العظيمة من أجل أيامٍ معدودةٍ :
 
﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
        لو أنكم تعلمون حقيقة الدنيا لما استهلكتم الوقت في تُرُّهات الأباطيل، ولا في سفاسف الأمور ، لو كنتم تعلمون حقيقة الدنيا ، والله الذي لا إله إلا هو ، حتى المؤمن إذا واجه الموت فإنه سيندم على ساعةٍ مضت لم يذكر الله فيها ، أثمن شيءٍ هو الوقت ، هذا الوقت رأس مالك .
ما مضى فات والمؤَمَّل غيب     ولك الساعة التي أنت فيها
***
        لذلك احرصوا على الوقت ، استهلكوا الوقت فيما يرضي الله عزَّ وجل :
((اغتنم خمساً قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك)) .
( الجامع الصغير عن ابن عباس بسند صحيح )
        هذه الخمس اغتنمها قبل الخمس .
 
 
﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
الآن السؤال :
 
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾
( سورة المؤمنون : آية " 115 " )
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
        يعني هكذا الدنيا فيها قوي وفيها ضعيف ، هذا القوي أكل مال الضعيف وانتهى الأمر ؟ لا يوجد شيء بعد هذا ؟ لا يوجد حساب ؟ لا يوجد جزاء ؟ لا توجد محاكمة ؟ لا يوجد ثواب ؟ لا يوجد عقاب ؟ لا يوجد يوم آخر ؟ هكذا تنتهي الحياة بالموت ولا شيء بعد الموت ؟ هكذا تظنون ؟
 
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾
        فيكم القوي ولا يُحاسب ؟ وفيكم الضعيف ولا يُعطى حقه من القوي؟ فيكم الغني الذي يبدد أمواله على شهواته ؟ وفيكم الفقير الذي يبحث عن طعامٍ فلا يجده وهكذا ينتهي الأمر ؟ أحد أسباب الإيمان باليوم الآخر أن اسم الحق لا يتحقق إلا بعد الموت تحقُقاً كاملاً :
 
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ
( سورة المؤمنون )
تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا :
        تعالى عن أن يخلق الخلق عبثاً .
        تعالى عن أن يخلقنا بلا حساب .
 
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾
( سورة القيامة )
        لا توجد مسؤولية ؟ وعدتها إن سجلت لك هذا البيت باسمك ألا تطلقها ، فلما سجلته طلَّقتها ، وليس هناك إلهٌ يحاسب ؟
إذا جـار الأمـيـرُ و حـاجـباه     وقاضي الأرضِ أسرفَ بالـقضاءِ
فـويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لقاضــي     لقاضي الأرضِ من قاضي السماءِ
*  *  *
 
 
 
﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ *قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ *فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾
( سورة المؤمنون )
        تعالى عن أن يخلق الخلق عبثاً ، لابدَّ من حساب ، لابدَّ من جزاء ، لابدَّ من دينونة ، لابدَّ أن يقف الناس جميعاً ليحاسبوا عن أعمالهم :
 
 
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
( سورة المؤمنون )
معنى : لا برهان له به :
        هذه ( لا برهان له به  ) سمَّاها علماء البلاغة قيدا توضيحيا ، وليس قيداً احترازياً ، أي لا يمكن أن يكون هناك برهانٌ لإلهٍ آخر ، لكن ومن يدعو مع الله إلهاً آخر فإنه من شأن هذه الدعوى الباطلة أنه لا برهان عليه :
 
﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 117 " )
        أحياناً تحاول أن تفهم حل قضية يقال لك : هذا الموضوع عند فلان، وليس في إمكان أحدٍ أن يَحُلَّه إلا هو ، فهذا الموضوع الحساب عند الله وحده :
 
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
        يعني سوف يأتي الناس رب العالمين ؛ وسوف يحاسبهم على أعمالهم كلِّها ؛ إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، أي :
 
﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
( سورة الغاشية )
 
﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
الكافر لا يُفْلِح مهما قدم وأخر ، مهما علا ، مهما طغى وبغى ، فإنه لا يفلح :
 
﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
اقتران المغفرة بالرحمة :
        يعلِّمنا ربنا سبحانه وتعالى كيف ندعوه :
 
﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ
        المغفرة للسيئات ، والرحمة في التجلِّيات :
 
﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾
 
 
والحمد لله رب العالمين
 
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب