سورة الفرقان (025)
الدرس (7)
تفسير الآيات: (21 ـ 31 )
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس السابع من سورة الفُرقان .
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن :
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
الحقيقة إذا كان هناك من فرقٍ أساسي بين المؤمن وبين غير المؤمن هو أن المؤمن يرجو الله واليوم الآخر ، وأن الكافر لا يرجو الله ولا يرجو اليوم الآخر ، ما معنى لا يرجو ؟ أي لا يخاف ، ما معنى لا يرجو ؟ أي لا يأمُل ولا يخاف ولا يطمع ولا يريد ، أيْ أنَّ الآخرةَ كلَّها خارج الحساب ، الدنيا أكبر همِّه ومبلغ علمه :
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(7)﴾
( سورة الروم )
الدين له حقيقة وله شكل ، شكله أن تصلِّي ، شكله أن تصوم ، ولكن حقيقة الدين أن تنتقل اهتماماتك من الدنيا إلى الآخرة ، أن تنتقل آمالك من الدنيا إلى الآخرة ، أن تنتقل مخاوفك من الدنيا إلى الآخرة ، فالمؤمن يطمع أن يكون في مقعد صدقٍ عند مَليكٍ مقتدر ، وربَّما لا يطمع في الدنيا ، يكفيه من الدنيا القليل ، يكفيه من الدنيا ما أوصله إلى هدفه ، المال عنده وسيلة ، المؤمن يريد من الدنيا ما يُعينه على التقرُّب إلى الله عزَّ وجل ، يجعل من المال وسيلةً للتقرُّب إلى الله عزَّ وجل ، إذا كان قوياً فيجعل قوَّته في سبيل مرضاة الله عزَّ وجل ، إذاً المؤمن يأخذ من الدنيا بقدر ما يعينه على طاعة الله عزَّ وجل ، بقدر ما يعينه على التقرُّب منه ، لذلك فالدنيا عند المؤمن في يديه لا في قلبه ، وهي وسيلة وليست غاية ، لكنّ رجاءه فيما عند الله ، لكنَّ رجاءه في مرضاة الله ، في القرب من الله ، رجاءه في الجنَّة وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل ، يحبُّ الله ، ويحب مَن يحبّه ، ويحبُّ كل عملٍ يقرِّبه إلى حبِّه ، هذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن .
الرجاء متعلِّق بالمعرفة فكلَّما عرفت الله رجوته :
ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
لا يعلِّق أهميّةً على هذا اللقاء ، لا يفكِّرُ فيه ، لا يخاف ذلك الموقف العصيب ، لا يرجو أن يكون عند الله رَضِيَّاً :
﴿ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
لماذا لا يرجون ؟ أَهُم من بنيةٍ خاصَّة ؟ أهم من جِبِلَّةٍ خاصَّة ؟ لا والله جبلَّة البشر واحدة ، ما الذي جعلنا نرجو وجعل الكفَّار لا يرجون ؟ هو العلم ، عَلِمَ أن ما عند الله شيءٌ ثمين ، وأن عذابه عظيم ، وأن القُرب منه سعادة لذلك رجا ما عنده ، فهذا الرجاء ليس اعتباطيًّا ، وليس الرجاء غير منضبطٍ بقاعدة ، الرجاء منضبطٌ بالمعرفة ؛ فإذا عرفت ما عند الله رجوته ، وإذا جهلت ما عنده فلا ترجوه .
أنت في حياتك اليوميَّة ترجو أناساً ولا ترجو آخرين ، هؤلاء الذين ترجوهم تعرف حجمهم الحقيقي ، وتعرف مقدار تأثيرهم في حياتك إذاً ترجوهم ، لكنَّ أُناساً في نظرك تافهين لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون ، أو تجهل قيمتهم ، أو تجهل حجمهم لا ترجوهم ، فالرجاء متعلِّق بالمعرفة ، فكلَّما عرفته رجوته ، كلَّما عرفته خِفْتَ منه ، كلَّما عرفته طَمِعْتَ فيما عنده، كلَّما عرفته سعيت إليه .
من إكرام الله سبحانه وتعالى أنه جعل لنا أبواباً واسعة للخير :
ربنا عزَّ وجل جعل الرجاء في القرآن مرتبطاً أشدَّ الارتباط بالعمل ، قال :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا(110)﴾
( سورة الكهف )
باب الله مفتوح على مصاريعه لكلِّ الخلق ، فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ ، وهذه تجربة توضَع بين يديك ، اعمل عملاً خالصاً لوجه الله لا تبتغي به سمعةً ، ولا ثناءً ، ولا مديحاً ، لا تبتغي به أن يُشار إليك بالبنان ، اعمل عملاً صالحاً لا تبتغي به إلا وجه الله عزَّ وجل ، وانظر كيف أن الله يتجلَّى عليك ، وانظر كيف تقول : أنا أسعد الناس ، هذا شيءٌ ملموس :
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا(110)﴾
( سورة الكهف )
وما أكثر الأبواب المُفَتَّحة للأعمال الصالحة ، ما أكثر الأعمال الصالحة ؛ تبسُّمك في وجه أخيك صدقة ، أن تميط الأذى عن الطريق هو لك صدقة ، أن تحسن إلى والديك هو لك صدقة ، أن تضع اللقمة في فم زوجتك هو لك صدقة ، أن تُقَدِّم خبرتك ، وقتك ، علمك ، مالك ، هو لك صدقة ، فأبواب الخير مفتَّحةٌ على مصاريعها ، والله سبحانه وتعالى من إكرامه لنا أنه جعل لنا أبواباً واسعة للخير .
جعل فيك الإحساس بالجوع ، أنت بهذا الإحساس تأكل فتشكر ، وتُطْعِم فترقى ، إذا أطعمت الجائع فقد ارتقيت إلى الله عزَّ وجل ، جعل الإنسان يولد عارياً ، فإذا ألبست إنساناً ثياباً فقد تقرَّبت إلى الله عزَّ وجل ، فالذي يؤثِّر في النفس أنّ هذا الذي لا يرجو الله لماذا لا يرجوه ؟ لأنه جهله .
إذا لم تعرف الله بالقواعد المعجزة فلن تعرفه بخرق القواعد :
إذاً ما هو أعدى أعداء الإنسان ؟ إنه الجهل ، أعدى أعداء الإنسان أن يجهل الإنسان ربَّه ، وقديماً قالوا : الجاهل عدوُّ نفسه :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
هؤلاء استكبروا ، يريدون أن تأتيهم الملائكة لتقول لهم : هذا رسول الله ، مع أن الملائكة لا يستطيع الإنسان أن يراها إلا عند الموت ، تُرحِّب به ؛ أو تدفعه إلى مقامه في النار ، المَلَك لا يُرى إلا عند الموت ، لأن الإنسان إذا جاءه الموت تأتيه الملائكة بصُوَرِ أحبِّ الناس إليه ؛ بإخوانه ، بأحبائه ، بأقربائه ، بأصدقائه ، بمن هو عزيزٌ عليه ، يأتي مَلَك الموت في صورة إنسانٍ عزيز عليك يبشِّرك بالجنَّة ، عندئذٍ يقول المؤمن : لم أرَ سوءًا قط ، لأنه يرى النتيجة فينسى كل متاعب الحياة ، وقد تأتي الملائكة على شكل زبانية يسوقون الإنسان إلى القبر وكأنَّه حفرةٌ من حفر النيران ، فالملائكة لا نراهم في الدنيا ، ولن نراهم إلا عند الغرغرة سـاعة الاحتضار ، هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا يقولون :
﴿ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ (21) ﴾
(سورة الفرقان)
الملائكة لو أُنْزِلَت وقالت : هذا رسول الله ، أتكتفي بهذه المعجزة ؟ القرآن معجزة ، عندما خرجت الناقة من الجبل فهل اكتفى بها قوم صالح ؟ هل آمنوا بعد رؤيتها ؟ لم يؤمنوا بها ، لمَّا أصبح البحر طريقاً يبساً ، هل اكتفى به بنو إسرائيل ؟ لمَّا رأوا عجلاً جسداً له خوار قالوا : هذا إلهنا ، وقوم إبراهيم لما رأوا النار أصبحت برداً وسلاماً ، هل آمنوا ؟ ما آمنوا ، فإذا أنت لم تؤمن بالمعجزة الأساسيّة وهي الكون في وضعه الراهن لن تؤمن بخرق قوانينه ، هذا الكون هو نفسه معجزة ، فإذا لم تفكِّر فيه ، ولم تنتقل من الكون إلى المكوَّنِ ، ومن النظام إلى المنظَّم ، ومن الصنعة إلى الصانع ، ومن الخلق إلى الخالق ، ومن التسيير إلى المُسَيِّر ، إذا لم تنتقل بما هو قائمٌ بالشكل الطبيعي فلن تعرف الله بخرق القواعد ، إذا لم تعرفه بالقواعد المعجزة فلن تعرفه بخرق القواعد ، وهذه حقيقةٌ ثابتة .
القرآن بنظمه وبيانه ، بإعجازه وأحكامه معجزة ، فآمن به من دون خرقٍ للعادات :
أنت لا تطلب من الله خرق العوائد ، لا تتعرَّف إلى الناس بأن تقول : يا أخي هذا وليّ ، كيف عرفت أنه وليّ ؟ رأيته يمشي على وجه الماء ، لا ، بل استمع إلى كلامه ، إذا كان كلامه صحيحاً مأخوذاً عن كتاب الله ، فهو إذاً معه دليل وهذه أكبر كرامة ، كرامة العلم أعظم كرامة ، لا تبنِ حياتك على خرق القوانين ، مُعظم العوام ، معظم ضعاف العقول لا ينقادون إلا بخرق القواعد ، لا يعتقدون بالأشخاص إلا إذا خُرِقَت لهم العادات ، لكنَّ هذا القرآن بنظمه وبيانه ، بإعجازه وأحكامه ، بحلاله وحرامه ، بصياغته ، بأخباره هو نفسه معجزة ، فآمن به من دون خرقٍ للعادات :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ (21) ﴾
(سورة الفرقان)
لولا ، هذه حرف تحضيض أو حرف امتناعٍ لوجود :
﴿ أَوْ نَرَى رَبَّنَا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
ربنا عزَّ وجل لا يمكن أن نراه :
﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا (143)﴾
( سورة الأعراف )
ربنا عزَّ وجل تجلَّى على الجبل فجعله دكَّاً ، فمن أنت حتى تستطيع أن ترى الله عزَّ وجل ؟ في الدنيا لا نستطيع أن نرى الله .
رؤية المؤمن لله عز وجل يوم القيامة بنص الأحاديث الصحيحة :
الأحاديث الصحيحة تؤكِّد أن المؤمن يوم القيامة يرى الله ، ويرى الله رؤيةً كما تروي بعض الأحاديث تجعله يغيب خمسين ألف عام من نشوة النظرة :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)﴾
( سورة القيامة )
هذا الذي نرجوه ، أن نستطيع أن نرى وجه الله ، فهؤلاء الكفَّار يريدون أن يروا الملائكة ليخبروهم أن هذا الرجل رسول الله ، أو أن يروا الله سبحانه وتعالى رأي العَيْن فيقول لهم : هذا رسولي :
﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
الكِبْرَ يتناقض مع العبوديَّة :
هذه مطالب تعجيزيَّة ، هذه مطالب القصد منها الاستكبار ، والامتناع ، والعلو :
﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ (21) ﴾
(سورة الفرقان)
النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)) .
[ صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود ]
لماذا ؟ لأنَّ الكِبْرَ يتناقض مع العبوديَّة :
((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)) .
لذلك تَمتحن الإنسان وتعرف ما إذا كان قريباً من الله أو كان بعيداً عنه تعرف ذلك من حيث الكِبْر ، فهو إما أن يتطاول كبراً فهو الجاهل ، وإما أن يتطامَنْ فهو العالِم ، الإمام الشافعي يقول :
" كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " .
قال تعالى :
﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ (21) ﴾
(سورة الفرقان)
الكفار استكبروا وتجاوزوا الحدّ المعقول وأصروا على كفرهم :
المؤمن يرى نفسه صغيراً ويراه الناس كبيراً ، الكافر يرى نفسه كبيراً ويراه الناس صغيراً ، والدعاء النبوي الشريف :
((اللهم اجعلني في عيني صغيراً وفي أعين الناس كبيراً)) .
[رواه البزار عن بريدة بن الحصيب]
هذا هو الدعاء النبوي الشريف :
﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
عتوا أيْ اسـتكبروا ، وتجاوزوا الحدَّ المعقول ، وأصرَّوا على كفرهم :
﴿ عُتُوًّا كَبِيرًا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
على من تستكبر ؟ على الذي خلقك من ترابٍ ثمَّ من نطفةٍ ثم سوَّاك رجلاً ؟ على من بيده كل أجهزتك ؟ لو أنه عطَّل أحد الأجهزة لأصبحت الحياة جحيماً ، على من تستكبر ؟ على من لو أنه جَمَّد في عروق دماغك نقطةً من دم لأصبح الإنسان مجنوناً ، أو لأصبح مشلولاً ، أو لأصبح أعمى ، على مَن تستكبر ؟ فأنت إذا استيقظت يوماً ما معافى في جسمك أيْ أنَّ آلاف الأجهزة تعمل بانتظام ، ولو أنّ أحدها اختلَّ اختلالاً طفيفاً لانقلبت الحياة إلى جحيم ، على من تستكبر ؟ هل تملك سـمعك ؟ هل تملك بصرك ؟ هل تملك عقلك ؟ هل تملك أوردتك ، أوْعِيتك ، أعصابك ، عضلاتك ، قوَّتك ، هل تملك محاكمتك ؟ هل تملك توازنك ؟
لابدَّ للمتكبر أن يصيبهُ الله سبحانه وتعالى بمشكلةٍ تكشفُ ضعفه وزَيْفَهُ :
جهاز صغير جداً في الأذن الوسطى ـ جهاز التوازن ـ لو أنه التهب لا تستطيع أن تسير على قدميك ، يختل التوازن ، سمعتُ أن إنساناً كان مولعاً بالسيْر في الطرُقات العامَّة المزدحمة بالنساء ليمتِّع نظره بمرأى الحسناوات ، أصيب بمرضٍ اسمه ارتخاءٌ في الجفون ، هذا الشيء قد لا يخطر على بال ، هذا الجفن وهو مرتفع هذا بيدك أمره ؟ لو أن الله عزَّ وجل جعله يرتخي ويغلق العين ، ولا تستطيع أن ترى إلا إذا رفعت جفنك بيديك فماذا تملك ؟ حركة المستقيم التي بها تفرغ ما في أمعائك بيدِ من ؟ لو أنها تعطَّلت لصرت في حالٍ لا يحتمل ، تصبح الحياة عبئاً لا يُطاق ، لو أن العضلات القابضة للمثانة انحلَّت ، مَن يحتملك في البيت ؟ مَن يخدمك ؟ كيف تقعُدُ بين الناس ؟ عندئذٍ يحتاج الإنسان إلى فُوَط ، على من تستكبر ؟ على الذي خلقك من ترابٍ ثمَّ من نطفةٍ ؟ خرجت من عورةٍ ودخلت في عورةٍ ثم خرجت مـن عورة ، من ماءٍ مهين ، تستحي بهذا الماء ، على من تستكبر ؟ لذلك : طوبى لمن تواضعَ عن رفعةٍ ، وأنفق عن غُنيةٍ " .
نِعْمَ العبدُ عبدٌ عرف المبتدى والمنتهى :
﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) ﴾
(سورة الفرقان)
والمتكبِّر لابدَّ أن يظهر على حقيقته ، ولابدَّ أن يصيبهُ الله سبحانه وتعالى بمشكلةٍ تكشفُ ضعفه ، وتكشف زَيْفَهُ .
﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ (22) ﴾
(سورة الفرقان)
الملائكة تُرى عند الموت لتبشِّر المؤمنين بالجنِّة أو لتنذر المجرمين بالعذاب :
طبعاً إنَّ الكفَّار يرون الملائكة ولكن عند الموت ، هؤلاء الملائكة لا يبشِّرون الكافرين بل ينذرونهم عذاب يومٍ أليم :
﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) ﴾
(سورة الفرقان)
أيْ يحجزونهم عن أن يتطلَّعوا إلى الجنَّة وما فيها ، أنتم هنا مكانكم ، الملائكة تُرى عند الموت ، ولكن لتبشِّر المؤمنين بجنِّةٍ عرضها السماوات والأرض ، أو لتنذر المجرمين عذاب يومٍ أليم ، وتسوقهم إلى البرزخ ، وما فيه من عذابٍ أليم .
سبحان الله هذه الآية :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
هناك أعمال ضخمة بالحياة ، يُقال لك : هذا أطول جسـر في العالَم ، وهذا إنجاز حضاري كبير ، هذه أعلى بناية في العالَم ، هذه أكبر مركبة في العالَم ، هذه أكبر ناقلة نفط في العالَم ، هناك أبنية مشادة تعد إنجازاً حضارياً كبيراً ، وكذلك هناك معامل ضخمة في العالم ، وترع حُفِرَت ، وجسور أُقيمت ، وأراضٍ استصلحت ، ناهيك عن السدود التي أُقيمت ، هذه كلها أعمال ضخمة ، لكن عندما لا يكون هدف الإنسان إرضاء الله عزَّ وجل فإن ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ (23) ﴾
(سورة الفرقان)
فالحروب الضخمة التي جرت في العالَم وذهب ضحيَّتها عشرات الملايين ، هؤلاء الذين تربَّعوا على عرش النصر ، هذا العمل ماذا فعلوا به ؟ فكل عملٍ لا يكون قصده إرضاء الله عزَّ وجل ، فالله سبحانه قال عنه :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
الله رب النوايا والنيَّة أساس العمل :
الهباء هي أوراق الأشجار اليابسة ، الهباء التُراب الناعم ، الهباء ذرات الماء المتطاير ، الهباء الحجارة الصغيرة ، الهباء ذرَّات الـهباب ـ ذرات الفحم ـ شيءٌ تافه لا قيمة له إطلاقاً :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
الإنسان أحياناً يعمِّر بيتاً ، يعتني به عناية بالغة ، يقول لك : أربع سنوات وأنا أكسوه ، وربما لا يُتاح له أن يسكنه ، إذا خرجَ منه إلى القبر ، فماذا استفاد من هذا البيت ؟ هذا :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
وبعض الناس أحياناً يعمل عملاً له ضجيج كبير لكن عند الله ليس له وزن ، العمل الصالح هو الذي يعمله الإنسان ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل وفيه نفعٌ للناس فيه نفع كبير ، قال تعالى :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
هناك أعمال تلفت النظر ، في الدنيا أعمال تُمْتِع ، فيها أعمال فنيَّة تضحك ، تطالعك أعمالٌ مسرحيَّة ، وأعمال قصصيَّة ، وأعمال في التأليف ، وأعمال في البناء ، وأعمال كالمعارض ، وجسور معلقة رائعة التصميم ، وأشياء كثيرة جداً غيرها ، فإذا الإنسان ابتغى من إقامة مُنشأة خدمة المسلمين والتخفيف عنهم فهذا عمل عظيم ، وإذا عمل عملاًً هدفه نفع البشريَّة ، ويبتغي وجه الله تعالى فهذا عمل عظيم كذلك ، لأن الله رب النوايا ، النيَّة أساس العمل .
(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) .
[ صحيح البخاري عن عمر بن الخطَّاب ]
كل عملٍ ترضي به الله عزَّ وجل وتقصد به وجهه الكريم يمتدُ أثره إلى الآخرة :
الإنسان بشكل عام يتزوَّج بنيَّة أن يحصن نفسه ، وبنيَّة أن يهدي زوجته ، وأن ينجب ذريَّةً صالحة ، فهذا عمل عظيم لأن أثره يستمر إلى الآخرة ، أيّ عملٍ ترضي به الله عزَّ وجل ، أو تقصد به وجه الله عزَّ وجل يمتدُ أثره إلى الآخرة ، لكنْ أيُ عمل تستهدف الاستمتاع فيه ، المتعةَ الرخيصةَ مهما كان فهو هباء ، فهناك صالات قِمـار ـ مثلاً ـ يقول لك : الصالة كلَّفت أربعين مليوناً ، صالة قِمار ، هذا العمل يوم القيامة يُسْأل عنه : ماذا فعلت يا عبدي ؟ فيقول : والله أنشأت صالة قمار ليس لها مثيل :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
بعض الأعمال أساسها إثارة الشهوات ، فهناك معامل ضخمة تصدِّر أفلاماً معيَّنة تثير شهوات الشباب أحياناً وغرائزهم ، وهناك أعمال معيَّنة غايتها منكرة كذلك ، فما كل عمل يرضى عنه الله عزَّ وجل ؛ بل العمل الذي تبتغي به وجه الله أولاً ، وتبتغي به نفع المسلمين ثانياً ، هذا العمل الذي يمتدُّ أثره إلى ما بعد الموت ، هذا العمل الذي يأتي كالجبال ، حتى النبي عليه الصلاة والسلام قال : الإنسان حينما يطعم لقمةً في سبيل الله يراها يوم القيامة كجبل أحد .
حينما صعد بعضهم إلى القمر ، وكلَّفت هذه الرحلة أربعة وعشرين ألف مليون من العملات الصعبة ، فهذا عمل وصفه بعضهم بأنه عمل دعائي ، ماذا فعلت للبشريَّة ؟ هل خفَّفت من آلامها ؟ هل بحثت عن دواءٍ للأمراض المستعصية ؟ هل أمَّنت سكناً لهؤلاء الناس؟ العمل الصالح هو الذي ينفع الناس ويرضي الله سبحانه .
كل عمل لا يبتغي به صاحبه رضوان الله عزَّ وجل فهو عمل ضلالة وسفاهةٍ :
لو فرضنا واحداً عنده أسرة بحاجة لدخلِهِ ، فأنفق دخله على زينته الشخصيَّة ، فهذا العمل لا يرضي الله عزَّ وجل :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
القصد أن هؤلاء الأجانب الكفَّار حينما يقدِّمون إنجازاً ضخماً لا يبتغون به نفع البشريَّة ؛ بل يبتغون ابتزاز أموالها ، ونقل الثروات من هذه الدول الفقيرة إلى الدول الغنيَّة ، هذه الأعمال ولو بدا أنها إنجاز عظيم ، فمثلاً ممكن بمشروع ضخم أن يعطي القمر الصناعي كل محطَّات العالم في التلفزيون ، وكلها برامج تسيء إلى أخلاق الشباب ، فما هذا العمل العظيم ؟ إذا استطعنا أن ننقل كل المحطَّات في العالَم والنوادي الليلية إلى بيوتنا ، ما هذا العمل العظيم ؟ فكل عمل ولو بدا أنه عظيم جداً ما دام هدفه ليس نفعَ المسلمين ، وليس يبتغي به صاحبه رضوان الله عزَّ وجل فهو عمل ضلالة وسفاهةٍ ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) ﴾
(سورة الفرقان)
لا قيمة له ، شخص ما مثلاً لو كان معه شيك بمبلغ ضخم وهو معتز فيه ، فلمَّا قدَّمه ليصرفه ظهر أنه مزوَّر ، فكيف يحس بالإحباط ؟ كان لديه عملة وكانت مزيفة باطلة فمهما كثرت لا قيمة لها ، فربنا عزَّ وجل يوم القيامة ، إزاءً هذا الذي ظنَّه الكافر إنجازاً ضخماً :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) ﴾
(سورة الفرقان)
البطولة أن تكون آخر من يضحك لا أن تكون أول من يضحك :
الحقيقة فإنّ البطولة في هذه الساعة أنّ الغنى والفقر يعرفان حقاً بعد العرض على الله ، البطولة أن تكون آخر من يضحك لا أن تكون أول من يضحك ، هناك من يحقق شيئاً في الحياة الدنيا فيفرح ، هذا الفرح لا قيمة له :
﴿ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا ﴾
( سورة القصص )
فالذي يفرح بالدنيا هذا محدود التفكير ، لأنه مَن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عُقبى ، قل لي ما الذي يفرحك أقل لك مَن أنت ، هل يفرحك المال ؟ إذاً أنت عبد المال ، هل يفرحك الطعام والشراب ؟ فأنت عبد البطن ، هل تفرحك الثياب الأنيقة ؟ فأنت عبد الخميصة ، هل يُفرحك اقتناص الشهوات ؟ إذاً أنت عبد الفرج ، هل يفرحك أن تكون قريباً من الله عزَّ وجل ؟ فأنت عبد الله ، ما الذي يفرحك ؟ وما الذي يحزنك ؟
﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا (24) ﴾
(سورة الفرقان)
أيْ استقرّوا في سعادةٍ أبديَّة ، استقروا في الجنَّة :
﴿ وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) ﴾
(سورة الفرقان)
أي منزلاً ، المقيل مكان القيلولة ، مكان الراحة .
الملائكة تتنزَّل يوم القيامة لتحاسب الناس على أعمالهم فهي موكَّلةً بحساب الناس :
قال تعالى :
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ(54)فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(55)﴾
( سورة القمر )
وقال :
﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) ﴾
(سورة الفرقان)
من علامات قيام الساعة ومن علامات اليوم الآخر أن السماء تنشق عن غمامٍ ، عن سحابٍ لطيف ، والملائكة تتنزَّل لتحاسب الناس على أعمالهم فهي موكَّلةً بحساب الناس :
﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ (26) ﴾
(سورة الفرقان)
بهذه الآية إشارة دقيقة جداً ، لو كنت تملك بيتاً أغلى أنواع الملكيَّة ، ملك حر ، معك أوراق رسميَّة للملكية ، ليس عليه أية مشكلة ، ليس معرضاً لِتنظيم ، يقع في موقع ممتاز ، تحس أن هذا البيت ملكك ، لكن هذا ليس ملكاً حقيقياً ، لأن الإنسان لابدَّ أن يتركه ، ربنا عزَّ وجل وصف المُلك الحقيقي الذي لا يزول :
﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ (26) ﴾
(سورة الفرقان)
الملك الحقيقي هو ما كان ثابتاً مستقراً أما المُلك الذي يزول ليس ملكاً :
إذاً كل أملاك البشر أملاكٌ وهميَّة ، ما دام هذا القلب ينبض فهذا البيت لك ، ما دام هذا القلب ينبض فهذه المركبة لك ، ما دام هذا القلب ينبض فهذه المزرعة لك ، حسب سجلات الطابو ، لكن إذا توقَّف القلب فليست لك ، فالملك الحقيقي هو ما كان ثابتاً مستقرَّاً ، أما المُلك الذي يزول ليس ملكاً ، والنبي عليه الصلاة والسلام سمَّى الدنيا عاريةٌ مستردَّة ، دار انقطاع ، والانقطاع مفاجئ ، البناء الذي هو تدريجي في سن العاشرة كذا ، وفي السنة الخامسة عشرة كذا ، وبالعشرين ، بالخامسة والعشرين كذا ، وبالثلاثين ملك بيتاً ، بالخامسة والثلاثين ملك مركبة ، وبالسابعة والثلاثين تزوج ، بكذا سنة من عمره اشترى مزرعة ، بالسنة الفلانيَّة أسَّس معملاً ، غيَّرتَ المفروشات في سنة كذا ، الدنيا تتراكم بين منزل ، بين أثاث ، بين مفروشات ، بين معمل ، بين سيارة ، بين مزرعة ، بين متنزَّه ، أمورك انتظمت، تتراكم ، لكن يأتي الموت ليأخذها دفعةً واحدة بثانية واحدة ، فهذه المشكلة :
﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) ﴾
(سورة الفرقان)
يوم عسير ، في الدنيا تواجهك أيامٌ عسيرة ، إذا كان الإنسان مخالفاً لبعض الأنظمة وضُبِطَ متلبِّساً بهذه المخالفة ، والعقوبة سنوات طويلة في السجن ، وجئت لتُحَاسب أمام القاضي ، إذا حاسبك ربَّما شعرت بالدوار ، فكيف إذا حاسبك الواحد الديَّان ؟! حين لا واسطة ، ولا سند كفالة ، ولا محامٍ بارع له صلة مع القاضي ليدبرك :
﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) ﴾
(سورة الفرقان)
يا ليتني أثمن ما سـيقوله الظالم عما تركه في الدنيا :
ليس من شفيع يشفع لك ، ولا مانع يمنعه ، ولا مادَّة تفسَّر تفسيراً آخر لمصلحتك، ولا اجتهاد بمحكمة النقض لمصلحتك :
﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ (27) ﴾
(سورة الفرقان)
يعضُّ ندماً ، يكاد الندم يأكل قلبه :
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي (27) ﴾
(سورة الفرقان)
يكون الإنسان مسافراً في بلد ثم يعود إلى بلده ، قد يقول بعد عودته : يا ليتني اشتريت كذا وكذا ، فهذا الذي قال عنه : يا ليتني هو أثمن ما في ذاك البلد ، الإنسـان كان في الدنيا ، ماذا يقول الظالم ؟ يقول : يا ليتني ، إذاً يا ليتني أثمن ما سـيقوله الظالم عما تركه في الدنيا .
الأحداث والقرآن والكون سُبُل واسعة جداً لمعرفة الله :
أما يوم القيامة :
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) ﴾
(سورة الفرقان)
أي السبيل إلى الله ، الله عزَّ وجل له سُبُل ، سبيل الصدقة طريقٌ مفتوحٌ إلى الله ، الاستقامة على أمر الله طريق إلى الله ، بِرُّ الوالدين طريق إلى الله ، الإنصاف مع الزوجة طريقٌ إلى الله ، تربية الأولاد تربيةً حسنة طريقٌ إلى الله ، أن تنصح المسلمين في بضائعهم طريقٌ إلى الله عزَّ وجل ، فالطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، وهناك طريق إلى الله واسع جداً هو أن تتعرَّف إليه من خلال الكون ، وأن تتعرَّف إليه من خلال القرآن ، وأن تتعرَّف إليه من خلال الأحداث ؛ الأحداث والقرآن والكون سُبُل واسعة جداً لمعرفة الله ، لكن في هذه الآية لا بدَّ لك من رفيقٍ على هذا الدَرْب ، لا بدَّ لك من إنسانٍ يقودك إلى الطريق الصحيح ، من هنا شُرِّعَ أن يلزم الإنسان مجالس العلم ، الإنسان وحده قد يضل ، وقد يزل ، وربما لا يهتدي ، وقد يقع في المبالغات ، وربما لا يعرف للأشياء حجمها الحقيقي .
تقديم الرسول على السبيل تقديم الأهمِّ على المهم :
لذلك :
﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) ﴾
(سورة الفرقان)
تقديم كلمة " الرسول " على كلمة " السبيل " تقديم الأهم على المهم ، فالمدرسة مهمَّة لكن الأهمَّ منها المُعَلِّم ، الجامعة مهمَّة لكن الأهمَّ منها الأستاذ في الجامعة ، الجامع مهم لكن الأهم منه الدعوة إلى الله فيه ، بناؤه شيء والدعوة إلى الله فيه شيءٌ آخر ، لذلك من أنواع عمارة المساجد ؛ عمارتها بالبنيان ، وعمارتها بالعبادات ، وعمارتها بالعلم ، فتقديم الرسول على السبيل تقديم الأهمِّ على المهم :
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى (28) ﴾
(سورة الفرقان)
يدعو الكافر بهلاكه :
﴿ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) ﴾
(سورة الفرقان)
الإنسان لا يخلو من صاحب سيِّئ ؛ ينصحه بالمعصية ، ينصحه بالبخل ، بإمساك ماله ، ينصحه بهذه السهرة المُختلطة ، ينصحه بهذه النزهة الجماعيَّة ، ينصحه بهذه الصفقة ولو كان فيها شبهة ، يقول لك : لا تدقِّق ، ينصحه بهذه الزوجة ولو كانت فاجرة ، اخترها زوجةً لك ، ينصحه بهذا البيت ولو كان مُغْتَصَباً ، ينصحه بهذا الصديق ولو كان آثماً، فالكافر من شأنه أنه يدلّك على الشر :
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا(27)﴾
( سورة النساء )
يصبح بين الأزواج والأولاد يوم القيامة عداوة مآل وليست عداوة حال :
قال :
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى ﴾
(سورة الفرقان)
يا هلاكي :
﴿ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) ﴾
(سورة الفرقان)
لذلك من بعض معاني الآية الكريمة :
﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ(14)﴾
( سورة التغابن )
عداوة مآل وليست عداوة حال ، من شأن الزوج أن يحبَّ زوجته ، ومن شأن الأب أن يحبَّ ابنه ، لكن لو أن أباً أطاع ابنه وعصى ربَّه ، لو أن زوجاً أحبَّ زوجته وعصى من أجلها ربَّه ، يرى يوم القيامة أن هذا الولد وهذه الزوجة هما سبب شقائه ، وهما سبب حرمانه ، لذلك تنشأ عنده عداوةٌ تجاه هذه الزوجة وتجاه هذا الولد ، ولذلك يوم القيامة يقول :
﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ (29) ﴾
(سورة الفرقان)
الذكر هو القرآن الكريم ، أضلَّني عنه .
احذر عند اختيار أصحابك وإياك أن تختار صاحباً بعيداً عن الله عزَّ وجل :
يا أخي لا تدقِّق هذا الكتاب ليس لهذا الزمان ، غداً حينما تبلُغ الثمانين تتوب إلى الله عزَّ وجل ، غداً حينما تذهب للحج تُلقي بذنوبك هناك ، الآن استغل حياتك ، استغل شبابك ، أنت عندك أولاد ، عندك صغار ، عليك أن تأخذ المال من أي طريقٍ كان ، هذا صاحب السوء ، لذلك قل لي من تصاحب أقل لك من أنت ، لا تختر صاحباً بعيداً عن الله عزَّ وجل :
﴿ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)﴾
( سورة الكهف )
لا تطعه ، هو متفلت ، تائه ، أموره كلها خاسرة ، وَلا تُطِعْ :
﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ(15)﴾
( سورة لقمان )
خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا .
الإنسان بيده الحل الأمثل فهو مخيَّر :
قال تعالى :
﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ (29) ﴾
(سورة الفرقان)
وهو القرآن :
﴿ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي (29) ﴾
(سورة الفرقان)
يا أخي ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ(30)﴾
( سورة النور )
بينما قرين السوء يقول : لكن يا أخي هذه الآية ليست لهذا الزمان ، هذا الزمان صعب ، والله صحيح إن هذا الزمان صعب إذاً نمتع أبصارنا بمطاردة النساء :
﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي (29) ﴾
(سورة الفرقان)
هذه العلاقة فيها ربا ، يقول لك : يا أخي الآن الربا عام معمول به في كل بلد ومكان ، هذا بلاء عام ، عموم البلوى يعفيك من أسباب تخوفك :
﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي (29) ﴾
(سورة الفرقان)
أخي هذه الحالة غير شرعيَّة ، فيجيبك : ماذا نفعل ما بيدنا حيلة ؟ كلُّه كلام ليـس له معنى ، لا ، إنَّ بيدك الحل الأمثل ، فأنت مخيَّر :
﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) ﴾
(سورة الفرقان)
تخلي الشيطان عن الإنسان عندما يقع :
عندما يقع الإنسان يتخلَّى عنه الشيطان :
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي
فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ(22) ﴾
( سورة إبراهيم )
وقال :
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ (30) ﴾
(سورة الفرقان)
النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) ﴾
(سورة الفرقان)
تركوه ، بعضهم قال : " هذا قول النبي في الحياة الدنيا حينما رأى معارضة قومه له " .
وبعضهم قالوا : " هذا قول النبي في الآخرة " .
أن تهجر القرآن ليس معنى هذا ألا تقرأه بل له معانٍ أخرى كثيرة :
على كلٍ :
﴿ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) ﴾
(سورة الفرقان)
أن تهجر القرآن ليس معنى هذا ألا تقرأه ، فمن معانيه ألا تقرأه ، ومن معانيه أيضاً ألا تحاول فهمه ، من معانيه ألاّ تعمل به ، ومن معانيه ألا يدخل هذا الكتاب في حياتك اليوميَّة ، هو داخل عند الموت فقط ، عند التعازي ، في أمسيات التعزية يتلى القرآن ، ممكن أن يقدِّمه أحدٌ هديَّة ، تقبله كهديَّة ليوضع في مكان بارز في المكتبة ، ومن الممكن وضعه في مركبتك في المقدِّمة ليراه الآخرون ، ممكن أن تجعل في محلِّك التجاري بعض آياته ، لكنك لا تتعاملُ معه تعاملاً حقيقياً ، أنت لا تحلُّ حلاله ولا تحرِّم حرامه ، ولا تأخذ بوعده ولا بوعيده ، ولست مصدِّقاً ما فيه ، فلو أن إنساناً جاءه خطيب لابنته ليـس ديِّناً إطلاقاً ، لكنْ له مال ومكانة ، فإنه يزوَّجه ابنته ، فإن هذا الإنسان لو كان يقرأ كل يوم ختمة فرضاً ، أو كل ثلاثة أيام ختمة لما أفاد شيئاً ، فهو حينما قرأ قوله تعالى :
﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ(221)﴾
( سورة البقرة )
فإن لم يصدق كلام الله تعالى ، ولا أخذ به ، ولا اهتمَّ به ، ولا عاشه ، ولا دخل هذا القرآن في حياته اليوميَّة ، جعله للتبرُّك ، بقي القرآن للمناسبات ، فهذا معنى الآية :
﴿ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) ﴾
(سورة الفرقان)
أدلة من الكتاب والسنة على ضرورة العمل بأحكام القرآن وفهم مضمونه :
هجره في تعامله اليومي ، في زواجه ، في علاقته بزوجته ، في علاقته بأولاده ، في علاقته بمجتمعه ، وعلاقته بجيرانه ، في علاقته بآخرته ، علاقته بربِّه ، علاقته بنفسه ، ما أخذ به ، جعله كتاباً من التراث ، قرأه تبرُّكاً ، واتخذه زينةً ، ولكن ما عمل بمضمونه ، فإذا رأى شخص بلاغاً على الحائط بمنع التجوُّل وفيه : " تحت طائلة إطلاق الرصاص " فانتبه للورق ، انتبه للحَرف ، للطباعة ، انتبه للتوقيـع ، انتبه للخاتم ، انتبه للصياغة ، انتبه ، لكن ما انتبه للمضمون ، ما فهم مضمون البلاغ ، أليس قد ضلَّ ضلالاً بعيداً ، فجاءته رصاصةٌ فأنهته ، أنت عليك أن تنتبه للمضمون ، لعبارة ممنوع التجوُّل ، ادخل إلى البيت فوراً هذا أقل شيء عليك فعله .
فأن تهجره ، أيْ ألا تعمل بأحكامه ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( ربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه)) .
[ ورد في الأثر]
وقال :
(( اقرأ القرآن ما نهاك ، فإن لم ينهك فلست تقرؤه )) .
[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]
وقال :
(( مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ)) .
[ سنن الترمذي عن صهيب ]
هناك قانون عام أن لكل نبيٍّ عدواً من المجرمين :
قال تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) ﴾
(سورة الفرقان)
يهديك إلى سواء السبيل وينصرك ، وكأنَّ هناك قانوناً عاماً أن لكل نبيٍّ عدواً من المجرمين ، سيدنا موسى في المناجاة قال : " يا رب لا تبقي لي عدواً " فقال الله عزَّ وجل : " يا موسى هذه لم تكن لي " ، أي أن هذه ما صارت لله ، بمعنى أن هناك أعداءٌ لله كُثُر ، فإذا أنت على حق وهناك من يعاديك فهذا شيءٌ طبيعي جداً ، إذا كنت :
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)﴾
( سورة النمل )
إذا كنت على الحقِّ المبين وكان لك خصوم مناوئون ، معارضون ، شامتون ، حاسدون لا تهتم بذلك ، لأن الله عزَّ وجل كفى به هادياً لك إليه ونصيراً لك على خصومك :
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) ﴾
(سورة الفرقان)
والحمد لله رب العالمين