سورة البقرة 002 - الدرس (8): تفسير الآيات (17 - 20) أصناف المنافقين

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (8): تفسير الآيات (17 - 20) أصناف المنافقين

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - (الآيات: (17 - 20) - أصناف المنافقين

20/03/2011 17:42:00

سورة البقرة (002)
الدرس (8)
تفسير الآيات: (17-20)
أصناف المنافقين
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثامن من دروس سورة البقرة ، ومع الآية السابعة عشرة .
 
ملخص ما جاء في الدروس السابقة :
 
لا زلنا مع الآيات التي تصف المنافقين ، الآيات التي تصف المؤمنين خمسُ آيات ، والآيات التي تصف الكافرين آيتان ، بينما الآيات التي تصف المنافقين ثلاث عشرةَ آية ، هؤلاء المنافقون الذين يقولون :
﴿ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾ .
هؤلاء المفسدون في الأرض .
﴿ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾ .
هؤلاء الذين  :
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) ﴾ .
هؤلاء الذين يستهزئون بالمؤمنين :
﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)  ﴾ .
هناك في الأصل علاقةٌ تجارية ، تدفع شيئاً وتقبض شيئاً ، فالمؤمن ربحت تجارته مع الله ؛ بينما المنافق خسرت تجارته مع الله ، شُرِحَت هذه الآيات في درسين سابقين .
 
طريقة المثال أحد أساليب القرآن الكريم الرائعة في توضيح الحقائق وتَجْلِيَة الأمور : 
نصل الآن إلى قوله تعالى :
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) ﴾ .
أما كلمة ﴿ مَثَلُهُم ﴾ ، أراد الله جلَّ جلاله أن يضرب لنا مثلاً للمنافقين ، والمثل صورة حسية واضحة جداً تنطبق على حقيقةٍ معنوية مُعَقَّدة ، فالمثل طريقةٌ في التعبير رائعة ، وطريقةٌ في التعبير واضحة ، وطريقةٌ في التعبير قريبة ، وطريقةٌ في التعبير صادقة ، وطريقة المثال أحد أساليب القرآن الكريم الرائعة في توضيح الحقائق وتَجْلِيَة الأمور .
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً (5) ﴾ .
(سورة الجمعة)
ضع على ظهر الحمار كُتُباً قيمة ، وسر به مسافةٌ طويلة ، ثم اسأله عن بعض الحقائق التي في الكتب ، لا يزيد عن أن ينهق ، لأنه لم يفقه شيئاً ، فعلاقة هؤلاء الذين أوتوا الكتاب ، ولم يفهموا مضمون هذا الكتاب ، ولم يعملوا به كعلاقة هذه الدَّابة البهيمة بكتابٍ حُمِّل على ظهرها .
﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ (176) ﴾ .
(سورة الأعراف )
يلهث على اختلاف أحواله إن كان جائعاً ، أو مرتاحاً ، أو مُتْعَباً ، فهو يلهث ، هذا مثل آخر ضربه الله عزَّ وجل ، ومن اللطيف جداً أن نرجع إلى القرآن الكريم لنرى هذه الأمثال الرائعة التي ضربها الله تعالى توضيحاً لبعض الحقائق .
 
استخدم النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أسلوب المثل : 
استخدم النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أسلوب المثل ، فَشَبَّه الجماعة بأنهم رُكَّاب سفينة واقتسموا أماكنهم ، أراد بعضٌ هؤلاء الركاب أن يخرق مكانه ليأخذ الماء سريعاً ، قال :
(( فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعاً ، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً )) .
[أخرجه البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير ]
 إذا أخذوا على يده نجا ونجوا وإن تركوه هلك وهلكوا ، مثل رائع في المسؤولية الجماعية ، نحن في قاربٍ واحد فإذا أراد بعضنا أن يخرق المساحة التي له من هذا القارب يُهْلكنا جميعاً ، فإذا أخذنا على يده نجونا جميعاً وإن تركناه هلكنا جميعاً ، هذا من أمثلة النبي عليه الصلاة والسلام .
(( الصلاة عماد الدين )) .
[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر ]
خيمة فيها عمودٌ يبرز كيانها ، فإذا أُزيح العماد أصبحت الخيمة قماشاً ملقى على الأرض ، لا يظهر كيان هذه الخيمة إلا بالعماد الذي في وسطها .
(( الصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين )) .
[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر ]
آياتٌ كثيرة فيها أمثلةٌ صارخة ، وأحاديث كثيرة فيها أمثلة صادقة ، يستخدم الدعاة أحياناً طريقة المثل ، وهي من أروع الطرق في توضيح الحقائق .
 
المنافقون ليس لهم في الآخرة رصيد كل رصيدهم في الدنيا :
 
أيها الأخوة ، إن أردت أن تُعَلِّم ، أو أردت أن توضِّح ، أو أردت أن تلقي الحقيقة فاستخدم المثل ، لأن المثل أسلوبٌ قرآني ، وأسلوبٌ نبوي ، وليس هناك من عملٍ أعظم من أن تُشابه أسلوب القرآن ، والأسلوب النبوي ، هؤلاء منافقون لأنَّهم أحبوا الدنيا فقط ، ولأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، أحبوا الدنيا ، وجعلوها نهاية آمالهم ومَحَطَّ رحالهم ، وبذلوا جهداً جهيداً من أجلها ، فأسسوا وبنوا ومكَّنوا أنفسهم في الأرض ، فلما أرادوا أن يقطفوا ثمار هذا الجهد الطويل ، هذا الجهد الجهيد ، هذا الجهد الذي استغرق من حياتهم مثلاً أربعين عاماً ، أو ستين عاماً فاجأهُم الموت ، وأخذ منهم كل شيء في ثانيةٍ واحدة .
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً (17) ﴾ .
استوقد وزن استفعل في اللغة وزنٌ يعني الطَلَب ؛ طلب النار ، طلب النار لتضيء له حياته ، أي طلب المال ، طلب العز ، طلب المكانة العلّية ، طلب الجمال ، طلب البيت المريح ، طلب المركبة ، هذه طلباته .
﴿ اسْتَوْقَدَ نَاراً (17) ﴾ .
من أجل أن تنير له ، فبعد جهدٍ جهيد ، وعمرٍ مديد ، وعملٍ مضنٍ ، تألقت النار وأضاءت له ما حوله ، جاء ملك الموت فجأةً وأخذ منه كل هذا الجهد ، وكل هذه المكتسبات ، هذا حال المنافقين ، ليس لهم في الآخرة رصيد ، كل رصيدهم في الدنيا ، كل البيض في سلةٍ واحدة ، فإذا أُخذت منه هذه السلة فقد كل شيء ، ليس للمنافق مستقبل أبداً ، له حاضر قد يكون رائعاً جداً .
 أمثلة عن أناس فاجأهم الموت وهم في أوج تألقهم :
قال تعالى :
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ (4) ﴾ .
(سورة المنافقون )
ماله وفير ، مكانته عَلِيَّة ، ولكن ليس له مستقبل ، كل ما عنده من مال ، كل ما عنده من وجاهة ، كل ما عنده من مكانة ، كل ما عنده من أساليب يستمتع بها بمباهج الحياة الدنيا منوطةٌ بقطرِ شريانه التاجي ، منوطةٌ بسيولة دمه ، منوطةٌ بنمو خلاياه فإذا اضطرب نمو خلاياه فقد كل شيء وإذا ضاق شريانه التاجي فقد كل شيء ، وإذا تَجَمَّد دمه في مكانٍ ما فقد كل شيء .
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً (17) ﴾ .
يسعى ويعمل ويسهر ويُسافر ويؤسس ولا ينام الليل ويخاصم من أجل الدنيا فقط ، من أجل المال ، من أجل المكانة ، فإذا أضاءت ما حوله ، أي بدأ يقطف ثمار عمله فاجأه الموت في أحرج الأوقات ، بل في أوج تألُّقه ، في أوج استمتاعه بالدنيا ، فاجأه الموت بعد أن انتهى من إنشاء العمارة ، بعد أن انتهى من تحصيل هذه الشهادة ، بعد أيامٍ من زواجه ، بعد سنواتٍ من تألُّقِه ، وهناك آلاف الأمثلة ، سعى إنسان في بناء بيتٍ سنواتٍ طويلة ، فلما انتهى البيت فاجأه الموت بعد أيام .
حدثني أخٌ كريم عن إنسان اشترى بيتاً في مكان جميل ، واعتنى بكسوته عناية تفوق حد الخيال ، وجاء بأمتعته ليستقر بهذا البيت ، وجاء بالوجبة الثانية ، وبالوجبة الثالثة ، وبقي جهازٌ ينبغي أن يركب في بيته ، رُكِّب الجهاز ، ولما حان موعد المجيء النهائي ، والاستقرار في هذا البيت ، وافته المنيَّة في اليوم نفسه الذي أزمع فيه أن يسكن هذا البيت .
 
 المنافق إنسان بلا هدف أُخروي وبلا مستقبل :
هذا كلام عام ، يسعى الإنسان إلى الدنيا بكل جهده ، بكل وقته ، بكل ماله ، بكل تعبه، بكل كده ، بكل عرقه ، فإذا امتلك منها شيئاً أضاءت ما حوله ، أي صارت له مكانة ، له دخل ثابت ، يسكن بيتاً مريحاً ، له مركبة مريحة ، أمره نافذ ، اتصالاته جيِّدة ، معارفُهُ كُثُر ، أتباعه كثيرون ، يأتيه ملك الموت وهو في هذه اللحظة من النشوة ليأخذ منه كل شيء في ثانيةٍ واحدة ، المنافق إنسان بلا هدف أُخروي ، وإنسان بلا مستقبل ، وأوضحُ مثلٍ هذا المثلُ .
﴿ اسْتَوْقَدَ (17) ﴾ .
بذل الجهد المضني إلى أن أضاءت ما حوله ، استمتاعه بها لسنوات معدودة ، وهذه الدنيا أمامكم ، من دون مفاجآت ، حتى يصل الإنسان إلى الحد المعقول يحتاج إلى أربعين عاماً من حياته ، ماذا بقي له من حياته حسب متوسط العمر في الدنيا ؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين )).
[الحكيم عن أبي هريرة]
كل سنة يعيشها بعد الستين مَكْسَب ، عندما يبلغ عمره الستين عاماً يشعر بأنه قد يفاجأ بالموت في كل لحظة ، وقد يموت وعمره خمسون عاماً ، ففي أحسن الاحتمالات بعد الستين ، أصبح احتمال الموت بعد الستين قائماً في كل لحظة ، ماذا استمتع من حياته ؟ عشرون سنة . ضيَّع الأبد بعشرين عاماً مشحونة بالمتاعب والخصومات والدعاوى ، انظر إلى قصر العدل عشرات بل مئات الألوف من الدعاوى ، هناك دعاوى بين الناس وهناك خلافات أسرية ، وخلافات تجارية ، وعلل بصحته ، وهو يطلب الدنيا بكل ما يملك ، هذا حال المنافق .
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ (17) ﴾ .
 
 معان متعددة لآية (استوقد ناراً) :
1ـ المعنى الأول أن المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته ليكون سعيداً :
أراد المنافق من النار ضوءها طبعاً ، قد تُريد النار من أجل الدفء ، وقد تُريدها من أجل طهو الطعام ، وقد تُريدها من أجل النور . هنا أراد الله عزَّ وجل أن يبيِّن لنا أن المنافق يريد من النار أن تضيء له حياته ، أن تكون حياته سعيدة ، فيها بهجة ، فيها عِز ، فيها فخامة ، فيها رفاه ، وكم من بيتٍ فخمٍ لم يسكنه صاحبه ، وكم من مركبةٍ فارهةٍ ركبها أياماً معدودة ، ثم فاجأه ملك الموت ، هذا الذي يجعل كل مكتسباته محصورة في الدنيا ، يقامر ويغامر .
المؤمن له مستقبل ، والمؤمن يأتيه ملك الموت ، ولكن يأتيه ملك الموت وله عند الله رصيدٌ كبير ، قدَّم ماله أمامه فسهُل عليه اللحاق به ، رصيده عند الله كبير ، استقامته ، وطلبه للعلم ، وعمله الصالح ، ونفعه للمسلمين ، صدقه ، وأمانته ، وتربية أولاده ، هذه كلها أرصدة هائلة مودَعَةٌ له في الآخرة ، فإذا فاجأه الموت يقول له : مرحباً ، الموت تحفة المؤمن ، الموت عرس المؤمن ، لا تكن أيها الأخ الكريم كالذي وضع كل إمكاناته في الدنيا ، هذه الإمكانات العالية في الدنيا تُنهيها جلطة ، تنهيها سكتةٌ قلبيةٌ مفاجئة ، تنهيها خثرةٌ دماغية ، ينهيها نمو الخلايا العشوائي ، أما الذي له عند الله رصيدٌ كبير من العمل الصالح ، ومن الانضباط الشرعي ، ومن الدعوة إلى الله ، لو جاءه الموت ، الموت تحفته ، الموت عُرسه .
2ـ المعنى الثاني رفض المنافقين لدعوة النبي التي كانت ستوصلهم للسعادة في الدنيا والآخرة :
المعنى الثاني في هذه الآية أن اليهود كانوا يتحدَّوْنَ المنافقين قبل مجيء الرسالة النبوية بقولهم : آن أوان مجيء نبيٍ نؤمن به ، فالمنافقون كان عليهم أن يؤمنوا بهذا النبي ليتحدّوا اليهود الذين بشروهم بهذا النبي ، فلما جاء النبي الذي كانوا ينتظرونه ، وكانوا يبحثون عنه ، كي يردوا على كيد اليهود ، وكي يقفوا أمامهم نداً لند ، كذَّبوا به ، فهم استوقدوا ناراً ، فلما أضاءت ما حولهم أذهب الله نورهم الذي كان من الممكن أن يُرْشِدهم إلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة برفضهم لدعوة هذا النبي .
3ـ المعنى الثالث أنهم كفار حقيقة لكن مصالحهم تعلقت بالمؤمنين فأظهروا ما لا يبطنون :
هناك معنى ثالث : أن هؤلاء المنافقين هم في الحقيقة كُفَّار ، ولكن مصالحهم تعلَّقت بالمؤمنين ، فأعلنوا إسلامهم ، وأخفوا كفرهم ، وهم أرادوا الدنيا فقط ، هؤلاء انتفعوا بكفرهم ، ولكنهم يختلفون عن الكافرين بأن لهم مصالح مع المؤمنين ، فأظهروا ما لا يُبطنون ، وأعلنوا ما لا يُسِرُّون ، والدليل على ذلك :
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) ﴾ .
هذه منافذ الإيمان .
 
الاستماع الذي أراده الله هو الذي يعقبه تطبيق :
 
صممٌ أَصَم لا يسمع .
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) ﴾ .
 (سورة ق)
الإنسان إذا أصغى :
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (4) ﴾ .
(سورة التحريم )
 المؤمن يصغي إلى الحق لكن المنافق لا يصغي ، قد يجلس في مجلس علم ، لأنه على موعد مع شخص ، قال له : نلتقي في الجامع ، يجلس ، ويستمع إلى الدرس كُلِّه ، ولا يفقه منه شيئاً ، لأنه ليس هناك ، هو في واد والدرس في واد آخر ، ﴿ صُمٌّ ، وقد تجلس وتحدِّثه عن الله يتثاءب ، ويتشاغل ، ذهنه في أسعار العملات ، في الصفقات ، في الدرهم والدينار ، في النساء ، فإذا حدَّثته حديثاً مصيرياً وخطيراً فأنت في واد وهو في وادٍ آخر ، ﴿ صُمٌّ ، لذلك أهل النار يوم القيامة يقولون :
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) ﴾ .
(سورة الملك)
لا يرى القرآن الكريم أن الاستماع هو أن تُعْطي أذنك للقائل ، الاستماع الذي أراده الله هو الذي يعقبه تطبيق .
  صفات المنافقين :
 
قال تعالى :
﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) ﴾ .
(سورة الأنفال )
مصيبةٌ كبيرة أن يأتي الإنسان إلى درس علم وأن يسمع كلاماً خطيراً مُتَعَلِّقاً بمصيره وأن لا يأبه له ، هو لم يسمع شيئاً هذه علامة الأصّم .
﴿ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) ﴾ .
(سورة فصلت)
المنافق أصم .
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ (18) ﴾ .
لا يسأل ، لأن الأمر لا يعنيه إطلاقاً ، ولا ينطق بالحق ، هو لا ينطق بالحق من باب أولى ، وهو لا يسأل ، لأن لسانه لا يستخدمه إلا للدنيا ، للغيبة والنميمة ، للحديث عن النساء ، للحديث عن مظاهر الدنيا .
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (18) ﴾ .
لا يرى الحقائق ، لا يرى الآيات الدالة على عظمة الله ، لا يرى أفعال الله عزَّ وجل التي تهتز لها القلوب .
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) ﴾ .
كيف يرجعون وهم على ما هم عليه من الصمم ، من الخَرَس ، من العَمَى ؟!!
 
 يأتي الموت في وقت غير مناسب أبداً وغير متوقَّع وهذا من حكمة الله عزَّ وجل :
 
أول معنى في هذه الآية : أن المنافق يبحث عن الدنيا ، ولا يعنيه إلا الدنيا ، لا يعنيه من الدنيا إلا الدِرهم والدينار ، جَمَعَ الدرهم والدينار ، اشترى البيت الفخم ، والمركبة ، ورَفَّه نفسه رفاهاً عالياً جداً ، ثم يفاجأ أن كل هذا التَعَب ذهب أدراج الرياح .
قال لي طالب : لي خال عنده دار سينما ـ القصة قديمة جداً والقصة بالستينات على ما أظن ـ قال لي : جمع خمسة ملايين بالستينات ـ أي ما يعادل تقريباً خمسمئة مليون حالياً ـ من أجل أن يعيش خريف عمره في بحبوحةٍ كبيرة ويستمتع بالدنيا ، جاءه مرضٌ خبيث وهو في سن مبكر فصار يبكي وهو على فراش الموت ، قال لابن أخته وهو طالبٌ عندي : جمعت هذا المال من طريق غير مشروع لأستمتع به فلم يتح لي أن أستمتع به . هذه قصةٌ متكررة .
أيها الأخوة الكرام ، المنافق يسعى للدنيا :
(( حُبُّك الشيء يُعمي ويصم )).
[أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء]
الدنيا تغرٌ وتضّرُّ وتمر ، سأروي قصة رمزية ذكرتها لكم كثيراً ، أن إنساناً أراد أن ينتحر جاءه ملك الموت ودلَّه على طريقةٍ يغتني بها ، أصبح هذا الرجل غنياً جداً ، ثم أُتيح له أن يتزوَّج ابنة الملك وأصبح صهر الملك ، فاجأه ملك الموت وهو في يوم عُرْسه ، قال له : تأخذني الآن !! ليتك أخذتني من قبل ، يوم كنت مزمعاً أن أنتحر من أجل الدِرهم والدينار ، يأتي الموت في وقت غير مناسب أبداً ، في وقت غير متوقَّع ، وهذا من حكمة الله عزَّ وجل ، المؤمن مستعد للقاء الله عزَّ وجل ، أهلاً وسهلاً ، أناسٌ كثيرون من أهل الإيمان يأتيهم ملك الموت ، وهم في أحلى حالاتهم ، وهم على شوقٍ له .
﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)  ﴾ .
كيف يرجعون ؟ أدوات الرجوع مُعَطَّلة ، أداة السمع الأذن صمَّاء ، أداة رؤية الآيات عليها غشاوة ، أداة طلب العلم مُعَطَّلة ، هذا الصنف من المنافقين كفار .
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)  ﴾ .
 
 الصنف الآخر من ضعاف النفوس الذين تحدث عنهم القرآن :
 
أما الصنف الثاني الذين ضَعُفَت نفوسهم أو اشتبهت عليهم الأمور هؤلاء منهم خير .
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ (19)
هذا الدين كهذا السحاب كُلُّه خير ، يقول لك : سحابة تحمل ثلاثمئة مليون طن من الماء سوف تنزل على الأرض ، سوف تصبح الأرض عُشباً أخضر ، محاصيل ، أشجار مثمرة ، ينابيع فوَّارة ، الماء هو أساس الرزق .
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ (19) 
لكن هذا السحاب يَحْجُب أشعة الشمس ، أيام الشتاء غائمة ، وقد يسمع الإنسان صوت رعدٍ فينخلع قلبه ، وقد يرى ضوء برقٍ فيخطف بصره ، ما رأى المنافقون ما في هذه السحابة من الخير ، أزعجهم الغيم الذي حجب أشعة الشمس ، أزعجهم صوت الرعد ، أزعجهم وميض البرق ، هذه أزعجتهم فرفضوا هذه السحابة ، هناك في الإسلام غض بصر ، فيه دفع زكاة ، فيه ضبط لسان ، فيه قواعد ، فيه صلوات ، فيه صيام ، فيه انضباط ، أزعجتهم هذه التكاليف فرفضوا كُلَّ الدين .
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
 
ضعاف النفوس يريدون من الإسلام مكاسبه لا متاعبه :
 
الذي يُمَيِّزُهم عن الأولين هو قوله تعالى :
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ﴾ .
هؤلاء يريدون من الإسلام مكاسبه لا متاعبه ، يريدون المغانم لا المغارم ، يريدون أن يعتزّوا بالإسلام ، أن يقطفوا ثماره دون أن يدفعوا الثمن ، هؤلاء حالهم مع الإسلام :
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ  (19) ﴾ .
الإسلام فيه تكاليف ، لذلك تخفف الفِرَق الضالة دائماً التكاليف ، هذه قاعدة ، تؤلِّه الفرق الضالة الأشخاص ، تعتمد النصوص الموضوعة والضعيفة ، ذات نزعة عدوانية .
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ (19) ﴾ .
 
 الفرق بين المؤمنين وبين ضعاف النفوس :
 
المؤمن يُصلي الفجر حاضراً ، يقرأ القرآن ، يضبط لسانه ، ينفق من ماله ، يُرَبِّي أولاده ، يجهد ، ولكن هناك نموذجاً آخر هو نموذج مستمتع بالحياة ، هناك إنسان يُعطي وإنسان يأخذ ، إنسان يسترخي وإنسان يجهد .
﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (19) ﴾ .
 ينخلع قلبه لذكر الموت ، هناك أُناسٌ يكرهون القرآن ، لماذا ؟ لأنه يُتلى في مناسبات الحُزن ، كأن القرآن يذكِّرهم بالموت ، هناك أناسٌ يكرهون بعض النباتات لأنها توضع على القبور ، يكرهون كل شيءٍ يذكِّرهم بالآخرة من شدة تعلُّقهم بالدنيا ، حتى أنك لا ترى في بعض البلدان جنازة إطلاقاً ، من المستشفى بسيارة إسعاف إلى المقبرة لا ترى فيها نعياً على الجدران ، بلادٌ كثيرة إسلامية النعي فيها ممنوع ، الجنائز ممنوعة ، لا ترى الموت على الإطلاق ، ترى حياة ، لكننا نحن نستمع أحياناً إلى إعلام في المئذنة يذكرنا بالموت ، نقرأ النعي كل يوم ، نرى جنازة أمامنا ، فالإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام :
 (( أكثروا من ذكر هادم اللذات ـ مفرق الأحباب ـ مشتت الجماعات )) .
[أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة ]
 (( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به)) .
[ أخرجه الشيرازي عن سهل بن سعد و البيهقي عن جابر ]
هذا الذي يريد من الإسلام المغانم ، إذا كان هناك احتفال ، أو نزهة ، أو توزيع شيء هو أول شخص يأتي ، إذا كان هناك تكليف هو ليس هنا ، يريد المكاسب لا المتاعب ، المغانم لا المغارم ، يريد قطف الثمار لا بذل الجهد .
﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ .
 
  ضعاف النفوس ليس عندهم قيود أبداً فهم ضد الضبط وضد المَنْهَجِّية لأنهم لا يحتملونها :
 يحتاج الإسلام أحياناً إلى جهد ، وإلى قوة إرادة ، وإلى ضغط ، لا يعجبه الجهد المبذول ، ولا الضغط الشديد ، بل يعجبه التفَلُّت ، يجلس المنافق مع من يشاء ، أنثى أو ذكر ، متزوجة أم غير متزوجة ، تحل له أو لا تحل له ، ليس عنده مشكلة إطلاقاً ، ينظر إلى أي شيء ولا فرق عنده بين شيء يجوز أن يراه وشيء لا يجوز ، يقول لك : نتعلم ، يُطلق بصره في كل شيء ، يتكلَّم أي شيء ، لا يوجد عنده قيود أبداً ، هو ضد الضبط ، ضد الإرادة القوية ، ضد المَنْهَجِّية لأنه لا يحتملها .
﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ (19) ﴾ .
 يحب ألا يسمع الكلام الذي يُزعجه ، يضع إصبعه في أُذنه ، وهذا واقع ، تتحدث حديثاً عن الآخرة تجده يتثاءب ، اعتذر لأن عنده موعد ، اجعل الحديث عن الدنيا تجده جلس معك حتى الساعة الواحدة ، ولم يقل لك : عندي موعد ، ما دام الحديث عن الدنيا هو مصغٍ إليه ، كتلة نشاط وحيوية ، حدثه عن الآخرة تجده تململ وتثاءب وتأفف واعتذر .
﴿ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ (19) ﴾ .
يظنون إذا تجاهلوا ذكر الموت ، وإذا تجاهلوا الدار الآخرة ، أنهم لا تصيبهم الآخرة ولا يموتون ؟
﴿ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) ﴾ .
 
 هناك قوانين واقعةٌ عليك وإن لم تؤمن بها :
 
هذه نقطة مهمة جداً ، توجد قوانين هي واقعةٌ عليك وإن لم تؤمن بها ، مطبقةٌ عليك شئت أم أبيت ، وأقرب مثل : قانون السقوط ، السقوطُ الحرّ له قانون ، مظلة الطائرة مبنية على هذا القانون ، فإذا سخر الإنسان من هذا القانون ، واحتقر هذا القانون ، ولم يعبأ بهذا القانون وكذَّب هذا القانون ، وألقى بنفسه من الطائرة ، القانون لا يُطَبَّقُ عليه ؟ إذا كذَّب بقانون السقوط هل ينزل سليماً بلا مظلة ؟ ينزل ميتاً ، يعني سيَّان أن تؤمن أو لا تؤمن ، أن تعترف أو لا تعترف ، أن تصدق أو لا تصدق ، القانون مُطَبَق . هو لا يحتمل سماع الحق ، لا يحتمل التذكير بالآخرة ، لا يحتمل ذكر الموت ، يجعل أُصبعه في أُذنيه لئلا يصل إليه الحق لكن الله محيطٌ به ، إذاً فهو غبيُّ جداً ، كالنعامة إذا غَمَسَت رأسها في الرمل ، ظنَّت أن الخطر لن يقترب منها ، مع أنها أصبحت لقمةً سائغة لعدوها ، حينما غمست رأسها في الرمل غاب عنها منظر عدوها ، فتوهمت أن عدوها اختفى ، هي أخفت رؤيته عن ذاتها ، فكانت لقمةً سائغة لعدوها ، هذا الحال دقيق جداً :
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ (20) ﴾ .
ذكر الجنة ـ الحور العين ـ يقول لك : الله يطعمنا إياها ، الحور العين تعجبه :
﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ .
 (سورة التحريم : آية "8" )
تُعجبه :
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ (160) ﴾ .
(سورة آل عمران )
تعجبه ، إذاً ادفع الثمن .
 
وصف دقيق للإنسان غير المتوازن كما ورد في القرآن الكريم :
 
قال تعالى :
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا (20) ﴾ .
تكون تجارته أحياناً رائجة تماماً ، صار يحب الدين ، ويحب العلم ، والمشايخ ، والدروس لأن تجارته رائجة ، عندما تتوقف تجد أن وضعه اختلف ، تضعضعت صلاته ، ضعفت ثقته بالله ، تلاشى أمله الكبير ، فهذا الذي يسير كلَّما أضاء له البرق ، وإذا أظلم عليه لم يسر ، فهذا إنسان غير متوازن ، وهذا وصفٌ دقيقٌ لهذا الإنسان :
﴿ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا (20) ﴾ .
المنافق :
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) ﴾ .
(سورة الحج)
 
 المنافق يميل مع مصالحه و المؤمن لا يبدل ولا يغير :
 
 المؤمن لا يُغيِّر :
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ﴾ .
 (سورة الأحزاب)
المؤمن ما بدَّل ولا غيّر ، ولكن المنافق يميل مع مصالحه ، تجده حيثما تكون مصالحه جيدة ، الآن حتى في أمور الخلافيَّات مثلاً يملك هذا المنافق بيتاً ، هذا البيت لا يخرج منه المستأجر بحكم القانون ، فالطريق مسدود لأن المستأجر محميٌّ ، يلجأ للمشايخ ، ويقول : أنا أريد الشرع ، يريد حُكْمَ الله فقط ، لأنه شعر بالحاسة السادسة أن القانون ليس معه ، بحكم القانون مستحيل أن يخرج المستأجر ، تراه يتَّخذ تديّن المستأجر نقطة ضعف ، فهو يريد حكم الله ، بالأسبوع نفسه موضوع ثانٍ وجد أن الطريق مسدود بالدين صار له مصلحة بالقانون ، يوكّل محامياً ، يقول لك : نحن في دولة فيها نظام وقانون ، اختلف النغم ، قبل يومين كان يريد الشرع والآن يريد القانون ، إنه يلحق مصالحه ، ويوجد عنده قدرة لمعرفة أين تتحقق مصلحته ، إذا كانت مصلحته تتحقق بالشرع فإنه يُحكِّم المشايخ ، وإذا كانت مصلحته لا تتحقق عن طريق الدين فإنه يحكِّم المحامين والقضاة ، فهو يميل مع الهواء أينما مال .
﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا (20) ﴾ .
 
 الفرق بين المنافقين وبين ضعاف النفوس :
 
إذا نجح ابنه بتفوق فإنه يحب الجامع الذي فيه ابنه ، وشيخ ابنه ، ويقول له : يا بني خذ أخاك معك إلى الجامع ، وإذا رسب ابنه عزا كل أخطاء ابنه للشيخ والجامع ، الجامع ليس له علاقة بالموضوع ، ابنك هو المقصِّر ، لا يوجد عنده حل موضوعي ، إنه يميل مع مصالحه .
﴿ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ (20) ﴾ .
هم بقية خير ، لذلك منافقون كُثُر في عهد النبي حَسُن إيمانهم ، هناك نموذج كافر ينتفع بكفره ، لكن مصلحته مع المؤمنين فيظهر ما لا يُبطن هذا أول قسم :
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) ﴾ .
يوجد صنف ثانٍ : ضعفت نفسه أمام شهواته ، واختلط الأمر عليه ، فمال مع شهواته وله ثقةٌ بالمؤمنين فهو لا مع هؤلاء ولا مَعَ هؤلاء ، إذا وجدت مع المؤمنين ميزات تهمُّه مشى ، وإذا حدثت متاعب اختفى ، يعني أيّ خطر يلغي كل تديّنه ، قد يدعُ الصلاة إذا كان شعر أن هناك خطر من هذا الاتجاه الذي هو فيه ، أما المؤمن لا يغير :
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ﴾ .
(سورة الأحزاب)
 
 آية المنافق ثلاث :
 
أيها الأخوة آية المنافق ثلاث :
(( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .
[البخاري عن أبي هريرةرضي الله عنه ]
(( إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ )) .
إذا تاب عن الكذب أُزيلت منه إحدى صفات النفاق .
(( وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ )) .
إذا تاب عن إخلاف الوعد أُزيحت عنه إحدى صفات النفاق .
(( وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .
إذا تاب عن خيانة الأمانة أُزيحت عنه صفةٌ ثالثة ، لا يوجد شيء ثابت ، طبعاً أول قسم من المنافقين مُخيف ، أول قسم كافر ، أما القسم الثاني فيه أمل كبير فإذا كان فيه خطأ أو تقصير ، فيه ازدواجية ، فيه سر وجهر يُصَلَّح هذا ويُبَدَّل . لذلك كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله وهم على ما هم عليه من مرتبةٍ عالية كان أحدهم يتهم نفسه بالنفاق ، واتهام النفس بالنفاق حالةٌ صحيةٌ طيبة ، لأن المنافق يعيش أربعين عاماً في حالٍ واحد ، بينما المؤمن يطرأ عليه في اليوم الواحد أربعون حالاً . يكون أحياناً مرتاحاً ومطمئناً ، ويكون أحياناً قلقاً ، أحياناً خائفاً ، تَعْتريُه هذه الأحوال ، دليل إيمانه ، ودليل صدق إيمانه ، ودليل حرصه على رضوان الله عزّ وجل .
أيها الأخوة الكرام ، مطلع هذه السورة مهمٌ جداً لأن الناس رجلان ؛ مؤمن وكافر ، أما الثالث فمحيِّر ، تظنه مؤمناً ، وهو ليس كذلك ، وهذا الصنف الثالث بعضهم منتمون إلى الكُفَّار قطعاً ، وبعضهم يمكن أن يصلح حالهم ، وأن يعودوا إلى صف المؤمنين ، ولا أدَلَّ على ذلك من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفضح المنافقين ، بل سترهم ، لكنه أعطى أسماءهم لسيدنا حذيفة رضي الله عنه ، والشيء الذي لا يصدَّق أن سيدنا عمر عملاق الإسلام قال له : يا حذيفة بربك هل اسمي مع المنافقين ؟ من شدة خوفه من الله ومن شدة حرصه على رضوان الله .
 
و الحمد لله رب العالمين
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب