سورة الشعراء (026)
الدرس (8)
تفسير الآيات: (123 – 135)
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الثامن من سورة الشعراء ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ﴾
﴿وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾
كثرة ورود الأمر بالتقوى في سورة الشعراء :
معنى التقوى :
الحقيقة أن الأمر الإلهي بالتقوى ورد في هذه القصة مرات عدة ، ولو نظرنا إلى القرآن الكريم ، وما فيه من كلمات التقوى ومشتقاتها : اتقى ، وقى ، يقي ، قِ ، اتقى ، يتقي ، اتقوا ، كلمة التقوى ومشتقاتها وردت في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمئة مرة ، إذاً شيءٌ يجب أن نفهمه فهماً دقيقاً ، التقوى من فعل وقى ، وفعل وقى من الوقاية إذاً هناك خطر ، تقول اتقِ المرض ، اتقِ الجرثوم ، اتقِ الحفرة ، اتقِ النار ، اتقِ الانزلاق ، اتقِ هذا الخطر ، فكلمة وقى تعني أن هناك خطراً كبيراً يتهدد الإنسان ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾
( سورة الطور : 18 ) .
وقاهم ، إذاً عذاب الجحيم شيءٌ خطير ، يجب أن نتقيه .
﴿ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ﴾
( سورة غافر : 9 ).
السيئات يجب أن تتّقى ، وعذاب الجحيم يجب أن يُتّقى ، وربما كانت السيئات طريقاً لعذاب الجحيم ، هذا الفعل المضارع ، الفعل الأمر .
﴿ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
( سورة البقرة : 201 ).
إذاً هناك وقى ، ويقي ، وقِ ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾
( سورة التحريم : 6 ) .
وللمبني للمجهول :
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾
( سورة التغابن : 16 ) .
إذاً هذا الأمر الإلهي الذي ورد ما يزيد عن ثلاثمئة مرة في القرآن الكريم يجب أن نقف عنده .
إن إمبراطور اليابان هذا الذي بنى النهضة الحديثة أرسل طلاباً سبعة إلى ديار الغرب ليتعلموا ، يبدو أن الإمبراطور علق على تعلمهم آمالاً ضخمة ، علق على تعلمهم آمالاً عريضة ، فإذا عادوا إلى بلادهم ، وقد خبروا ما في الحضارة الغربية ، ربما ساهموا بشكل فعال وإيجابي في النهوض ببلادهم ، يبدو أن هؤلاء الطلاب حينما ذهبوا إلى ديار الغرب ، دهشوا بالحضارة ، ودهشوا بالرفاه والرخاء ، وربما انصرفوا إلى شيء آخر غير الدراسة ، فلما أخفقوا في دراستهم وعادوا إلى بلادهم ، أمر الإمبراطور بإعدامهم ، إعداماً تاماً ، وأرسل سبعة آخرين مكانهم ، هؤلاء السبعة الآخرون في كل حركة وسكنه ، وهم في ديار الغرب ، يتذكرون ما حل بأسلافهم ، فكأنهم يقولون : اتقوا الموت ، ادرس كي تتقي الموت ، تعلم كي تتقي الإعدام ، ذاكر كي تتقي إنهاء الحياة ، لا تضيع الوقت ، اتق الإمبراطور ، اتق عقابه الأليم .
التقوى تعني الحذر المستمر :
كلمة ( اتق ) في معنى الحذر المستمر ، الطائرة مثلاً لها ميزات كبيرة جداً ، ولكن الغلط في تصميمها يودي بحياة الركاب ، لذلك الوقاية من السقوط يقتضي مضاعفة الاحتياطات ، كل جهاز تتوقف عليه سلامة الطائرة ، هناك جهازان يعملان في وقت واحد ، يعني أي شيءٍ يمكن أن يصيبه العطب ، هناك جهاز آخر بديل له ، لأن السقوط سقوط مدمر.
الذي أريد أن أنقله إليكم ، هو أن الإنسان ، أي إنسان ، لأنه إنسان أمامه خطر كبير ، كيف أن هذا الطالب الذي أوفده ملكه إلى بلاد الغرب ليدرس ويتعلم ، ويسهم في بناء أمته ودولته ، هذا الطالب لو عاد إلى بلده ، وقد أحرز العلم الصحيح لكان في قمة المجتمع ، ربما أحد مواطنين اليابان الذين لم يتح لهم ، أو لم يطمحوا إلى أن يدرسوا دراسة علية ، كان في أمنٍ ، وفي طمأنينة ، أما هذا الذي طمح ليكون قمة في مجتمعه ، ليكون عنصراً فعالاً ، وبذلت حكومته من أجله الغالي والرخيص ، هذا إذا فرط في مهمته ، وضيع أمانته ، فسوف يلقى عذاباً شديداً ، أردت من هذا المثل والله سبحانه وتعالى يضرب في كتابه الأمثال ، أردت من هذا المثل أن هذا الطالب في كل لحظة ، في كل ثانية ، في كل حركة ، في كل سكنه ، في كل موقف ، يذكر الذي حل بزملائه السابقين ، فربما تنادوا فيما بينهم ، يا فلان اتق الإعدام ، يا فلان اتق الإمبراطور ، يا فلان اتق المصير المحتوم ، يا فلان اتق العقاب الأليم ، يا فلان ، يا فلان ، كلمة ( اتق ) فيها خطر ، خطر خطير خطر جاثم .
الآن : رُكِّب الملك من عقل بلا شهوة ، المَلَك ليس فيه شهوة ، المَلَك ما عنده أمانة حملها ، ليس أمامه خطر المعصية ، والحيوان ركب من شهوة بلا عقل ، لم يكلف ، لا يحاسب ، ليس مخيراً ، ولكن الإنسان ركب من كليهما ، لذلك الإنسان ليس أمامه حل وسط ، إما أن يكون في أعلى عليين ، وإما أن يكون في أسفل سافلين ، إما أن يكون فوق الملائكة ، وإما أن يكون دون الحيوان ، إما أن يسعد سعادة لا يسعدها أحد في العالمين ، وإما أن يشقى شقاء لا يشقاه أحد في العالمين ، إما أن يكون في قمة المخلوقات ، وإما أن يكون في الحضيض .
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾
( سورة البينة : 6 ـ 7 ) .
إذاً لأنك إنسان ، ما دمت من بني البشر ، فأنت أمام الخطر لذلك جاءت الآيات الكثيرة ، أن أيها الإنسان اتق الله ، يعني اتق عقاب الله ، فيما لو لم تحمل الأمانة ، اتق عقاب الله بطاعة الله ، كيف يتقي هذا الطالب حكم الإعدام في بلاده إذا عاد ؟ بالدراسة ، كيف يتقي خطر الإمبراطور ؟ بطاعته ، يعني أنت أمام خطر ، لأنك حملت الأمانة يعني الأمانة ، كما قال الفقهاء ، الغرم بالغرم ، الإنسان مؤهل ليكون أسعد المخلوقات ، والكون كله سخر من أجله ، لو أنه تقاعس ، أو خان الأمانة لكان أشقى المخلوقات ، يعني أنت إنسان ليس أمامك حل وسط فو الذي نفسه محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ، ونحن الآن في وقت عصيب ، نحن في الدنيا ، وهذه الدنيا دار ابتلاء ، دار امتحان ، كل شيءٍ يحل ما دمت حياً ترزق ، باب التوبة مفتوح ، باب العلم مفتوح ، باب العمل الصالح مفتوح ، باب إصلاح الماضي مفتوح باب تبرئة الذمة من المخلوقات مفتوح ، باب التحلل من المعاصي المتعلقة بحق الآدميين مفتوح .
فيا أيها الإخوة الأكارم ، نحن في خطر ، خطر أن نقع في شر أعمالنا ، خطر أن نعصي الله ، نحن في خطر أن نغفل عن اليوم الآخر نحن في خطر أن نغفل عن يوم الحساب ، فلذلك وردت كلمة اتقوا الله في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمئة مرة . مثلاً الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى ﴾
( سورة البقرة : 189 ) .
العلماء قالوا : التقوى نهاية العمل ، هناك أعمال في الدنيا لا تعد ولا تحصى ، أعمال لكسب الرزق ، أعمال ترفيهية ، أعمال تجميلية ، أعمال تزينية ، أعمال علمية ، أعمال لإحياء التراث الماضي ، أعمال لا جدوى منها ، أعمال لها جدوى ، الإنسان يتحرك في الحياة ، يستيقظ منذ الصباح ، يبحث عن عمل ، إما عمل مشروع ، أو غير مشروع ، عمل جاد ، أو غير جاد ، عمل هادف أو غير هادف ، عمل سامٍ أو عمل منحط ، عمل نظيف ، أو عمل قذر .
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى*وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى*وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى*إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾
( سورة الليل : 1 ـ 4 ) .
أعلى درجة في العمل ، أن تتقي الله ، أنت جئت إلى الدنيا من أجل أن تطيعه ، ومن أجل أن تكون الطاعة ثمناً لسعادة أبدية لا توصف لذلك :
﴿ وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾
( سورة العصر : 1 ـ 3 ) .
فكلمة ( اتق ) تعني أنك تسير بسرعة ، أودع الله فيك الشهوات هذه الشهوات أودعها الله فيك لترقى إلى رب الأرض والسماوات ، لو أنك تحب المرأة لا تدخل الجنة ، لأن هذه الشهوة بها تخالف نفسك .
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى﴾
( سورة النازعات : 40 ) .
لولا أن الله زرع في نفسك الهوى ، كيف تدفع ثمن الجنة ، الله سبحانه وتعالى أعطاك ثمن الجنة ، أعطاك هذه الشهوات ، إما أن ترقى بها إلى الله صابراً ، وإما أن ترقى بها إلى الله شاكراً .
صور تطبيقية للتقوى :
فيا أيها الإنسان اتق الله في شهوتك ، يعني اتق السقوط ، اتق أن تنفذ هذه الشهوة بطريقة نهى الله عنها ، اتق أن تمارس هذه الشهوة بطريقة محرمة ، أودعها الله فيك ، ولكن الله جل جلاله جعل لكل شهوة أودعها في الإنسان قناة نظيفة لتصريفها ، ليس في الإسلام حرمان ، أودع فيك حب النساء ، وشرع لك الزواج ، الزواج عمل نظيف ، زوجة وأولاد ، بيت إسلامي ، تسعد بها ، وتسعد بك ، وتسعد بأولادك ويسعدون بك ، وهناك الزنى ، طريق آخر لإرواء هذه الشهوة ، فنقول نحن اتق الله في شهوتك ، يعني اسلك في شهوتك الطريقة التي رسمها الله لك ، هذه الشهوة كأنها بنزين ، كأنها وقود سائل ، خطر ، إذا وضعت في مستودعاتها النظامية ، وإذا سارت في الأنابيب المحكمة ، من المستودع إلى مقدمة السيارة ، وإذا انتقلت من هذا الأنبوب إلى جهاز التنظيم ، ومن جهاز التنظيم إلى جهاز الاحتراق ، فانفجرت في غرفة الاحتراق ، حينما انفجرت دفعت المكابس ، ودفع هذه المكابس ولد حركة دائرية ، نقلت بها نفسك وأهلك وأولادك من جهة إلى جهة ، أو نقلت بضاعتك ، الانفجار لأنه في مكانه الصحيح ، لأنه في الطريق الصحيح ، هذا الوقود الخطر ، هذا الوقود المتفجر ، لأنه في المكان الصحيح ، وفي الطريق الصحيح ، وفي الأسلوب الصحيح ، ولد حركة ولو أن هذا الوقود السائل ألقي على السيارة ، وجاءته شراره ، لأحرق السيارة ، فالشهوة إما أن تكون قوة محركة ، وإما أن تكون قوة مدمرة .
فيا أيها الإنسان اتق الله في شهوتك ، فانظر إلى هذه الشهوة التي أودعها الله فيك كيف سمح لك أن تنفذها ؟ كيف سمح لك أن ترويها من خلال الزواج ، الإنسان يحب المال ، اتق الله في المال يعني يجب أن تكسبه بطريقة يرضاها الله عز وجل ، من طريق مشروع ، من طريق المعاوضة ، بالبيع والشراء ، لا من طريق الربا لا من طريق الاحتكار ، لا من طريق الاستغلال ، لا من طريق الكذب لا من طريق التدليس ، من طريق العمل المشروع .
أيها الإنسان اتق الله في كسب المال ، أيْ اتق عذاب الله إذا كسبت المال بطريقة غير مشروعة ، ويا أيها الإنسان اتق الله في إنفاق المال ، يعني اتق عذاب الله فيما لو أنفقت المال بطريقة غير مشروعة هي معنى اتق ، اتق شهوة المرأة ، وشهوة المال ، وشهوة العلوّ في الأرض ، هذه شهوة مدمرة ، اتق الله فيها ، اجعل علوك في الأرض من طريق العلم والعمل والخلق ، لا من طريق التعدي والجناية والتسلط، اجعل علوك في الأرض علواً عفوياً ، كن محسناً ، يحبك الناس ، يرفعوك ، ولا تجعل علوك في الأرض عن طريق الغصب والقهر والعدوان ، فكلمة اتق الله يعني ابحث عن الطريق المشروعة التي رسمها الله عز وجل لإرواء هذه الشهوات ، التي بها ترقى إلى رب الأرض والسماوات .
اتق الله في المرأة واليتيم ، فهذه الزوجة التي ملكك الله إياها اتق الله بها ، يعني عاملها كما أمر الله .
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾
(سورة النساء : 19 ).
واصبر عليها ، لا تكن ظالماً لها ، لا تكلفها ما لا تطيق ، لا تحمل عليها ، لا تكرهها ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ ، أَوْ قَالَ : غَيْرَهُ )) .
[ أخرجه مسلم ] .
اتق الله في زوجتك ، عاملها كما يريد الله عز وجل أن تعامل ، عاملها بالإحسان ، أكرموا النساء فوا الله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ، ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً ، لا أن أكون لئيماً غالباً ، هذا معنى اتق الله ، فهذه الشهوات التي أودعها الله بك يجب أن تؤمن ، وأن تتيقن من أنه ما أودعها فيك إلا لترقى إليه ، لو أنك لا تحب المال ، كيف تتقرب إلى ذي العزة والجلال ؟ كيف ؟ أما إذا كنت تحب المال ، وأنفقت هذا المبلغ لوجه ، الله ولم يدرِ به أحد ، لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك ، أعطيت هذا المال على حبه ، أطعمت الطعام على حبه ، قدمت المال على حبه لا تبتغي ثناءً ولا شكوراً ، إذاً أنت اتقيت الله في المال .
كلمة ( تقوى ) رائعة جداً ، المال معناه خطر المال ، المال قنبلة ، إذا أحسنت استخدامها ، كنت خبيراً بها ، قتلت بها عدوك في الحرب أما إذا كنت جاهلاً بها قتلت بها نفسك ، فاتق الله في هذه القنبلة ، يعني تعلم كيف تستخدم ، مثلاً ، فكلمة اتق الله ؛ أي تعلم الطريقة التي رسمها الله لهذا النشاط ، لهذا الموقف ، هذه واحدة .
هذا الكون الذي خلق الله عز وجل ، هل اتقيت الله فيه ؟ لماذا خلقه ؟ لماذا خلق السماوات والأرض ؟ لماذا خلق هذه المجرات ؟ لماذا خلق هذه المذنبات ؟ لماذا خلق هذه الأجرام ؟ لماذا خلق هذه المسافات ؟ التي لا يعلمها إلا الله ، من أجل أن تعرفه ، فإذا لم تفكر في الكون فقد عطلت الحكمة من خلقه ، وكان الإنسان الذي لا يفكر في مستوى الحيوان ، يأكل ، ويشرب ، يعيش ليأكل ، فالكون يحتاج إلى تفكر ، إذا فكرت بالكون ، وعرفت رب الكون ، فقد اتقيت الله بالكون .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ*يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾
( سورة الحج : 1 ـ 2 ) .
شيءٌ آخر ، إذاً الكون مسخر من أجل الإنسان ، مسخر كما قلنا من قبل تسخير تعريفٍ ، وتسخير تكريم ، إذاً لا بد أن أؤمن بالله من خلال الكون ، فإذا عطلت فكري عن النظر في خلق السماوات والأرض ربما كان هذا ندامة وبيلة ، وخسارة فادحة يوم القيامة ، فاتق الله في الكون ، يعني أمرك أن تفكر في الكون ، فكر به فاتق الله في الكون .
هذه الحرية التي منحها الله لنا ، حرية الإرادة ، هذه إما أن تستخدم بالعدوان على الناس ، وإما أن تستخدم بالعمل الصالح ، فإذا أحسنت استخدام هذه الحرية التي منحك الله إياها ، والتي كرمك بها على المخلوقات كلها ، فقد اتقيت الله في هذه الحرية ، الإيمان قيد الفتك ، ولا يفتك مؤمن ، أنت مقيد ، مقيد بالشرع ، فإذا كنت مخيراً وإذا كنت ذا إرادة حرة ، هذا ينبغي أن يكون مقيداً بالشرع ، من أجل أن تثمن أعمالك وترقى بها إلى أعلى عليين ، كيف يثمن العمل ؟ إذا كان صاحبه مختاراً فإذا ألغي الاختيار ، ألغي الثواب ، وألغي العقاب ، وألغي التكليف ، فحينما تكون مختاراً يجب أن تحسن الاختيار وبهذا تتقي الله ، بعض الآيات التي تتحدث عن التقوى ، الآيات كثير جداً .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾
( سورة الأنفال : 29 ).
حُكْم الله في هذا الموضوع معروف ، أنت مأمور أن تغض بصرك ، هذا حكم الله ، فإن غضضت بصرك يجعل الله لك فرقاناً كيف ؟ كيف العلاقة بين غض البصر مثلا ، وبين الفرقان الذي وعد الله به المؤمن ، إنك إن غضضت بصرك عن محارم الله ، وكنت عبداً لله في هذا الأمر ، وأطعته تشعر أنك من الله قريب ، هذا القرب الإلهي يورثك نوراً يلقى في قلبك ، ثمن طاعة الله عز وجل نورٌ يقذفه الله في القلب ، وهذا النور الذي يقذفه في قلبك تكشف به الحقائق تكشف به الخير من الشر ، تكشف به الحق من الباطل ، تكشف به ما يصح ، وما لا يصح ، وحينما أطعت الله عز وجل كان ثمن هذه الطاعة أن ألقى الله في قلبك نوراً ، أسعدك هذا النور ، وجعل قلبك مبصراً ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
( سورة الحج : 46 ) .
﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ أيْ إن تتقوا عذابه بطاعته يعني أدق معنى للتقوى ، تتقي عذابه بطاعته .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ أيْ اتقوا عذاب ربكم ، لأنه عذاب بالعدل ، وبالحق .
﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ﴾ أي اتقوا عذاب ربكم عن طريق اتباع منهجه ، لا ملجأ من الله إلا إليه .
ثمة أم رحيمة ، ولكنها شديدة في الوقت نفسه ، فابنها لا يتقي غضبها وعقابها إلا بطاعتها ، وهذا معنى حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ )) .
(أخرجه البخاري)
قال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
( سورة البقرة : 21 ) .
العبادة طريق النجاة :
﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ يعني لا تتقون عذاب النار ، لا تتقون عذاب الخزي والعار ، لا تتقون السيئات في الدنيا ، لا تتقون المصائب ، لا تتقون سخط الله ، إلا بطاعته ، فيا أيها الناس :
﴿ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فالعبادة طريق التقوى ، والتقوى هي النجاة ، والتقوى من الوقاية .
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
( سورة البقرة : 179 ) .
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ ، في العقاب ، في العقاب حياة للنفس :
أولا : إذا عاقبنا المذنب ردعنا بقية الناس عن الوقوع في هذا الذنب فكأنهم في حياة ، إذاً إذا عاقبتم المذنب فهذا وقاية للمجتمع ،
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
وقال سبحانه :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
( سورة البقرة : 183 ) .
إذا صامت جوارحكم عن المعاصي ، وصمتم عن الطعام والشراب ، تقربنا إلى الله عز وجل ، لعل هذا العمل يكسبكم هذا الإقبال على عز وجل ، وفي هذا الإقبال تحصل النجاة من عذابه ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
وقال عزوجل :
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾
( سورة الطلاق : 2 ) .
من يتقِ الله في تجارته ، يجعل الله له مخرجاً من الأزمات التي تطحن التجار أحياناً ، هؤلاء الذين يخالفون أوامر الشرع في البيع والشراء ، وفي العلاقة بالناس ، هؤلاء يقعون في شر أعمالهم ، لكن الذي يتقي الله في تجارته يجعل الله مخرجاً من كل ضيق في عمله .
والذي يتقي الله في زواجه فيختار المرأة الصالحة ، لا الحسناء في المنبت السوء ، يختار المرأة الصالحة ، ولو كانت أقل حسن من امرأة أخرى في منبت سوء ، هذا الذي اتقى الله في زواجه ، سيقيه الله من الحالات المدمرة التي تلاحق الأزواج غير المؤمنين الذين أرادوا من الزواج المتعة فقط ، ولم يعبؤوا بشرع الله ، ولا بحلاله ، ولا بحرامه .
إذا :
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾
فالتقوى أن تتقي عذاب الله بطاعته ، والطاعة درجات ، هذا الذي ترك الكبائر هي درجة هذا الذي لا يسرق ، ولا يزني ، ولا يشرب الخمر ، هذه درجة ، هناك إنسان يترك الكبائر والصغائر ، هناك إنسان يترك الكبائر والصغائر والخواطر ، هناك إنسان يتقي الكبائر والصغائر والخواطر وما سوى الله فالتقوى درجات والدليل قول الله عز وجل :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
( سورة آل عمران : 102 ) .
كلما ارتفع مستواك في الإيمان ، يرتفع مستواك في التقوى ، والتقوى هي طاعة الله في حركاتك وسكناتك ، في تحركاتك ، في نزهاتك ، في أوقات لهوك ، في عملك ، كلما ارتفع مستوى المؤمن دقت الجزئيات التي يتقي الله فيها ، لذلك قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ربما كانت هذه عند زيد حسنة ، وعند عبيد سيئة ، الأوامر لها مستويات .
كيف يطيع الإنسان ربَّه ؟
شيء آخر متعلق بالتقوى ، وهو الشيء المهم جداً ، كيف يطيع الإنسان ربه ؟ هذا كلام دقيق ، وسؤال خطير ، لماذا زيد يطيع وعبيد لا يطيع ؟ قد يجتمع رجلان في مجلس ، ويتلى على أسماعهم أمر الله ، يتلى أمر الله في موضوع ما ، لماذا يطيع فلان ولا يطيع فلان ؟
الجواب : إنك لن تطيع إلا إذا عرفت من هو الآمر ، أنت في الخدمة الإلزامية ، ومقدم على عيد ، وتطمح بإجازة ، لتمضي العيد بين أهلك جاءتك ورقة مكتوب عليها : لا تغادر الثكنة ، ابقَ في الثكنة ، التوقيع صديقك فلان ، لا تعبأ بهذا الأمر ، لو أن الموقع فلان متقدم عليك في الدورة ، وله سلطة صار الأمر مهماً ، كلما ارتفع مستوى الآمر عظم عندك الأمر ، فإذا رأيت ورقة كتب عليها لا تغادر الثكنة ، التوقيع قائد الوحدة ، وتعلم علم اليقين أن في المغادرة سجن وتأخير في إنهاء الدورة … إلخ ، عندئذ تنفذ الأمر ، إنك لن تنفذ الأمر إلا إذا عرفت من هو الآمر ، وما حجم هذا الآمر ، وما عنده من عقاب وما عنده من ثواب ، إذا عرفت بالضبط من الآمر ، وما حجمه وما رتبته ، وما العقاب الذي بإمكانه أن يوقعه بك ، وما الثواب الذي بإمكانه أن ينقله إليك ، عندئذ تطيعه ، لذلك لماذا لا يطيع الناس ربهم ؟ لأنهم لا يعرفونه، والله لو عرفوك يا رب لأطاعوك ، لكنهم ما عرفوك يا رب ، ما عرفوا ماذا يعني مخالفة أمرك ، ما عرفوا ماذا تعني طاعتك تعني طاعتك سعادة الدنيا والآخرة ، تعني طاعتك التوفيق في كل شيء تعني طاعتك ، يا رب أن يسعد هذا الإنسان بها ، سعادة لا توصف يعني يجب أن تقول ، إذا كنت مطيعاً لله حقاً ، واللهِ ليس في الأرض من هو أسعد مني ، في أي ظرف ، في أي مكان ، في أي زمان ، لأن الخير كله في طاعة الله ، والشر كله في معصيته ، ولو رأيت إنساناً واحداً يعصي الله وهو سعيد ـ حقيقة لا شكلاً ـ فهذه الآية ليست من كتاب الله ، وحاش لله ،
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾
( سورة طه : 124 ).
و:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
( سورة النحل : 97 ) .
إذاً : الشيء المهم أنك لن تطيع الله إلا إذا عرفته ، ولن تطيعه أيضاً إلا إذا عرفت أمره ، إذاً من أجل أن تطيعه ، من أجل أن تتقي الله أي أن تتقي عقابه بطاعته ، يجب أن تعرفه أولاً ، ويجب أن تعرف أمره ثانياً ، ربما تعرفه إذا فكرت في خلق السماوات والأرض ، أو تعلمت من أولي العلم عنه الشيء الكثير ، إما أن تفكر ، وإما أن تستمع ، إما أن تدرس ، وإما أن تتأمل ، لا بد من أن تلقي السمع ، ولا بد أن تعقل .
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾
( سورة ق : 37 ) .
فلذلك أيها الإخوة الأكارم ... موضوع معرفة الله شيء مصيري ، ما لنا خيار فيه ، يعني فلان يحمل دكتوراه مثلا ، متى أخذها؟ أخذها ، وهو نائم ، أخذها بالتمني ، أخذها بالطموح ، أما أخذها بالكد والعمل ، أخذها في سنوات سبع ، هذا سؤال خطير ، أنت مؤمن يقول لك : نعم والحمد لله ، تقول له متى آمنت ؟ أي وقت خصصته كي تؤمن ، متى عرفت الله ؟ كم كتابًا قرأت ؟ كم مجلس علم حضرت ؟ كم عالمًا التقيت ؟ متى عرفت الله عز وجل ؟ لا يمكن أن تأخذ شهادة من أهل الأرض إلا بجهد جهيد ، وبعرق شديد ، وبوقت مديد، أما أن تعرف الله بلا جهد ، وبلا وقت وبلا تعب ، وبلا نصب ، وبلا جلوس على ركبتيك في المساجد ، وبلا قراءة طويلة ، وبلا سؤال عريض ، لا تعرف الله ، إذا لم تكن تعرفه فلا تطيعه ، لا تعبأ بأمره ، يقول لك حط بالخرج ، لا تدقق ، من هون ليوم الله يفرجها الله ، مثل الناس يا أخي أنا ، حط رأسك بين الروس ، وقول يا قطاع الروس ، هذا كلام العوام هذا ، كلام الجهل ، كلام فاضح ، أنت الآن في الحياة الدنيا، أمامك موت ، وهذا الموت شيء مخيف من كل شيءٍ إلى لا شيء .
" كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذي العزة والجبروت " ، " الليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر " ، " العمر مهما طال فلا بد من نزول القبـر " .
واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا .
قلت مرة : هذا الطالب الذي أحرز الدرجة الأولى على القطر في الثانوية العامة ، لماذا أحرز هذه الدرجة ؟ لأن الامتحان ، وصورة الامتحان ، وشبح الامتحان ، ووقت الامتحان ، وخطورة الامتحان ، وما وبعد الامتحان ، ما غادر ذهنه ولا دقيقة ، طوال العام الدراسي كلما هم أن يضيع وقتاً تذكر الامتحان ، كلما هم أن يمضي وقتاً مع أصدقائه تذكر الامتحان ، كلما همّ أن يقرأ قصة لا قيمة لها تذكر الامتحان ، كلما هم أن يخرج من البيت تذكر الامتحان ، والذي ينجو من الموت هو الذي يفكر في الموت ، لذلك عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ :
(( كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ : أَحْسَنُهُ خُلُقًا ، قَالَ : فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ، قَالَ : أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا ، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ )) .
(أخرجه ابن ماجة)
لكن هذا الذي يعد العدة للقاء الله عز وجل سوف يكون الموت في حقه عرساً ، الإنسان له عرس في الدنيا ، يقول لك شهر عسل ، قد يكون شهر بصل ، هذا العرس تأتي بعده المتاعب ، ولكن عرس المؤمن لا تعب بعده إطلاقاً ، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبة ، لا كرب على أبيك بعد الموت ، لا يوجد كرب أبداً ، " اتقوا الله " يعني اتق عذابه بطاعته ، اتق النار بالهروب من أسبابها ، اتق الله بطاعته ، لا ملجأ منه إلا إليه .
من طرق معرفة الله :
1 - التفكر في الكون :
شيءٌ آخر ، الآن لابد من أن تعرفه ، لابد أن تفكر في الكون من أجل أن تعرف من هو الله عز وجل ، من هذا الذي يأمرك أن تغض بصرك عن محارمه ، من هذا الذي ينهاك ، هو الله رب العالمين ، مجرات ، سماوات ، أرضين ، شمس ، قمر ، خلق دقيق خلق عظيم ، خلق مبدع ، خلق متناه في العظمة ، هذا الذي خلقك يأمرك، وهذا خلقك ينهاك ، لذلك لا تنظر إلى صغر الذنب ، ولكن انظر على من اجترأت .
2 – معرفة أمر الله :
المرحلة الثانية : لابد من أن تعرف أمره ، بالبيع والشراء ، اسأل: هذه الطريقة بالبيع صحيحة أم غلط ؟ يقرها الشرع أم لا يقرها ؟ ترضي الله أم لا ترضي الله ؟ هذه الطريقة في الشراء ، وهذه الطريقة في البيع ، وهذه الطريقة في التعامل ، في بيعك وشرائك ، في وظيفتك ، في عملك في صنعتك ، بدكانك ، في وظيفتك ، في معملك ، وراء مكتبك ، مع أهلك ، مع أولادك ، ما حكم الله ، طرق الباب جاءت امرأة أنظر إليها أم لا أنظر ، أدخلها أم لا أدخلها ، ما حكم الله في هذا الأمر ، يجب أن تعرف الحلال والحرام ، في كل مناحي الحياة ، لذلك طلب الفقه كما قال عليه الصلاة والسلام : حتم واجب على كل مسلم ، عرفت الله يجب أن تعرف أمره ، لابد من معرفته أولاً ، ولابد من معرفة أمره ثانياً ، من أجل أن تطيعه ، فتتقي عذابه ، من أجل أن تكون من المتقين، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
( سورة المائدة : 112 ) .
من علامة إيمانكم طاعتكم لله عز وجل ، فهذا الذي لا يطيع الله لا يعرفه أبداً ، ليس مؤمناً به ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله )) .
( ورد في الأثر )
خشيتك لله علامة معرفتك له ، ولا يمكن أن أصدق أن إنساناً يعصي الله قصداً ، ويقول : أنا أعرفه .
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال بديـع
لـو كان حبك صادقا لأطعته إن المـحب لمـن يحب يطيع
* * *
إذاً :
﴿ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
( سورة المائدة : 112 ) .
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
( سورة المائدة : 96 ) .
المصير عنده ، وجودك في الدنيا مؤقت ، أنت ضيف ، والدليل اقرأ النعايا كلها ، كتب عليها وسيشيع إلى مثواه الأخير ،البيت مثوى موقت ، لا يعرف الواحد يبقى فيه أم ينتقل إلى غيره ، يموت فيه أم بغيره أن بغسل بالبيت لا يعرف ؟ بالحمام بالمطبخ ، هذا البيت موقت والمثوى الأخير هو القبر ، إذاً ماذا يوجد في القبر ؟ يقول ربنا : عبدي رجعوا ، وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأنا الحي الذي لا يموت .
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
( سورة المائدة : 96 ).
المصير عنده ، تذهب إلى أمريكا ، تذهب إلى اليابان ، تذهب إلى أفريقيا ، تصعد إلى القمر ، تغوص بالبحر ، إليه تحشر ، بالنهاية لعنده أينما ذهبت .
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به )) .
( الطبراني في الأوسط عن سهل بن سعد بسند حسن )
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
( سورة الحجرات : 10 ) .
ملخص الدرس :
كملخص دقيق للدرس : أن كلمة التقوى ومشتقاتها وردت في القرآن كم قلت قبل قليل أكثر من ثلاثمئة مرة ، وكلمة التقوى توحي أن هناك خطراً خطيراً ، يتهدد الإنسان ، لأن الإنسان حمل الأمانة ، وهو معد ليكون أكرم المخلوقات وأسعدها ، لكن إذا خالف الأمانة ولم يحملها حق حملها ، وخانها ، سوف يكون أشقى المخلوقات ، من هنا جاءت كلمة التقوى ، اتق عذاب الله بطاعته ، التقوى تعني أن تطيع الله ، لذلك قالوا نهاية العمل التقوى ، نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى .
﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
( سورة الأحزاب : 71 ) .
ليكن همك الأول أن تطيع الله في كل شيء ، في علاقاتك الشخصية ، في علاقاتك التجارية ، في علاقاتك مع من هم فوقك ، مع من هم دونك ، في كل شأن من شؤون حياتك ، إذا أطعت الله فقد اتقيته ، وربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾
( سورة التوبة : 4 ) .
إذا أردت أن يحبك الله عز وجل فثمن محبة الله أن تكون تقياً ، والآية الثانية :
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾
( سورة ص : 28 ).
هل يُعقل ، وهل تقبل على الله عز وجل ، أن يعامل المتقي كالفاجر ؟ هذا الذي يتقي غضب الله ، يتقي سخطه ، يتقي معصيته يتقي عذابه ، كإنسان فاجر ، لا يبالي ، إذاً كلمة التقوى حيث ما وردت قد ترد في حق الناس عامة ، والدليل :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾
وقد ترد في حق المؤمنين :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾
وقد ترد في حق المؤمنين في درجات متفاوتة :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
وأيضاً :
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِِ ﴾
( سورة الحج : 78 ) .
ارفع مستوى الطاعة إلى أعلى درجة ، وربنا سبحانه وتعالى يطمئن المتقين بأنهم سوف ينجون من عذاب الله بقوله تعالى :
﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
( سورة الزمر : 61 ) .
فإذاً كلمة ( تقوى ) معناها أن هناك خطراً ، بالدنيا والآخرة ، إتلاف المال ، دليل أن صاحبه لم يتقِ الله ، لم يتقِ الله في كسبه فأتلف الله له ماله ، الشقي في بيته ، هذا ما اتقى الله في زواجه فصار في بيته شقياً ، إن لكل سيئة عقاباً ، ملخص الملخص ما من مشكلة على وجه الأرض في المجتمع البشري إلا بسبب خروج عن منهج الله عز وجل ، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل والله سبحانه وتعالى خلق الكون ، ونوره بالقرآن :
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
( سورة النور : 35 ) .
هناك إشارات ، وتوضيح ، أنت خلقت لكذا وكذا إن فعلت هذا نجوت ، إن فعلت هذا هلكت ، طاعة الله في كذا وكذا ، ومعصيته في كذا وكذا ، فربنا عز وجل أعطاك هذا الكتاب هذا الكتاب منهج دقيق ، أفعل ولا تفعل ، فهو لنشرة تعليمات ، تعليمات الصانع هذا الدفتر ، أنت من صنعك ؟ الله عز وجل :
﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾
( سورة النمل : 88 ) .
أنت صنعك الله عز وجل ، وهذا الكتاب تعليمات الصانع ، فإذا أطعت الله في تعليماته ، نجوت من عذابه ، تكون متقياً ، وإذا خالفته في تعليماته وقعت في شر عملك ، وإذا كنت تحب نفسك وذاتك ، إذا كنت تحب وجودك ، وتحب استمرار وجودك ، وتحب سلامة وجودك وتحب كمال وجودك ، فاتقِ الله ، أي اتقِ عذابه بطاعته .
والحمد لله رب العالمين