سورة الشعراء (026)
الدرس (16)
تفسير الآيات: (214 – 216)
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا ، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً ، وارْزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطِلاً ، وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه ، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس السادس عشر من سورة الشُّعراء ، في الدرس الماضي وصلنا إلى قوله تعالى :
﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ * فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
الأقربون أولى بالمعروف :
النبي عليه الصلاة والسلام أُمِرَ في هذه الآيات أن يُنْذِرَ عشيرته الأقربين ، والأقربون أولى بالمعروف ، الأقربون إليك أولى بِتَوجيهك ، الأقربون أولى بِعِنايتِك ، الأقربون نسبًا ، والأقربون مكانًا ، والأقربون في العمل ، المؤمن يبدأ بِمَن حوله ، يبدأ بأهله وأولاده ، ويبدأ بِإخوته ، وأخواته ، ويبدأ بِعَشيرته ، ويبدأ بأبناء حَيِّه ، وبِزُملائِهِ بالعمل ويبدأ بِجيرانِهِ ، هكذا كان توجيه الله تعالى لِنَبيِّه صلى الله عليه وسلّم ، قال تعالى :
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
وهناك أُناسٌ يَدَعون بلدهم ، ويبحثون عن عملٍ صالح في مكان آخر ، لكنَّ بلدهم أوْلى بهم ، وهذا هو الأصل ، وأقْرباؤُهم أولى بهم ، وعشيرتهم أولى بهم ، البلد الذي احْتضنهم أولى بهم ، قال تعالى :
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
ما مِن علاقة أوْقَعُ في النَّفس من علاقة الإيمان بين الأقارب ، فإذا كان إخوانك وأخواتك مؤمنين ، وكان أولادك على الطريق الصحيح فهذه سعادة ما بعدها سعادة ، وهذا يُستنبط من قوله تعالى :
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
ثم الآية التي تليها :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
أمْرُ اللهِ نبيَّه عليه الصلاة والسلام بخفض الجناح والتواضع :
بادئ ذي بدْء ، هذا تَوْجيه من الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام في الطريقة التي ينبغي أن يُعامِلَ بها أصحابهُ ، هذا توجيه ، أو تربيَةٌ ، أو تأديب ، حينما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الأدب الرفيع الذي يتحلَّى به فما زاد أنْ قال :
(( أدَّبني ربِّي فأحسن تأديبي)) .
( الجامع الصغير عن ابن مسعود بسند ضعيف )
وهذه الآية مِن تأديب الله سبحانه وتعالى واخْفض جناحك لِمَن اتَّبَعَك من المؤمنين .
معنى خفض الجناح :
خفْض الجناح كِنايةً ، والكناية هي التَّعبير عن الشيء بِبَعْض لوازِمِه ، إذا أردْت أن تُعَبِّر عن كرم الإنسان قد تستخْدمُ أُسلوبًا غير مباشر ، فالكريم من لوازمهِ أنَّ بابه لا يُغْلَق ، دائمًا الضُّيوف يدخلون منه ، فإذا عبَّرْتَ عن الكرم بِطريقةٍ مباشرة تقول : فلان كريم ، هذا الأسلوب اسمُهُ الأسلوب المباشر ، أما إذا أردْتَ أن تعبِّرَ عن كرم هذا الإنسان بِطَريقةٍ غير مباشرة تسْتخدم الكناية ، وتقول : فلان بابهُ لا يُغْلَقُ ، أي هو كريم ، وإذا أردْتَ أن تُعَبِر أنَّ هذا الإنسان قد نَدِمَ ، وقلتَ فلان نَدِم ، فأنت اسْخدمْت الأُسلوب المباشر ، أما إذا أردْت أن تستخدم الكناية تقول : فلان عضَّ على أصبعه ! قال تعالى :
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾
( سورة الفرقان )
هذا كنايةٌ عن النَّدَم الشديد ، وخفضُ الجناح كِنايةٌ عن التواضع ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا ، وَلا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ )) .
( رواه ابن ماجة )
والله سبحانه وتعالى يُوَجِّه النبي عليه الصلاة والسلام ، أو يؤدِّبُهُ أو يُرَبِّيه كي يكون متواضِعًا مع أصحابه ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
فوائد خفض الجناح :
يبْدو أنَّ خفْض الجناح يؤلّف القلوب ، وخفْض الجناح يُعين على المحبَّة ، والمحبّة أساس في الدَّعوة إلى الله .
أحدُ المُعلِّمين القدامى الذين جاؤوا في العصور الساحِقَة ، في التاريخ القديم وهو أفلاطون اسْتَدعى ولِيًّا من أولياء تلاميذه ، وقال له : خُذْ ابنَكَ عنِّي ، فإنَّه لا يُحِبُّني !
التَّعليم أساسه المحبّة ، والتَّعليم بالقهْر وبالإلزام لا يُجدي ، كما قال أحد العلماء : " يا بني ، نحن إلى أدبك أحْرص مِنَا إلى عِلْمك " ! فهذا الأدَب ، وذاك العطف ، وذاك التواضع من المعلِّم يجعل قلوب المتعلِّمين تميل إليه ، لذلك قال ربنا عز وجل :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
( سورة آل عمران )
وقبلها يقول عزَّ وجل :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين﴾
( سورة آل عمران : 159)
هذه الرحمة التي اسْتكنَّتْ في قلبك كان من آثارها هذا اللِين ؛ لينُ الجانب قال تعالى :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
( سورة آل عمران )
من صفا الداعية المسلم خفضُ الجناح :
نحن أمام آية من آيات تربيَة الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام ، يجبُ علينا أن نأخَذ بها نحن ، وعلى كلّ من دعا إلى الله ، وتصدَّى إلى هِداية الناس ، وكلّ مَن نصَّبَ نفسهُ إمامًا أو داعِيَةً ، لا بدَّ من أن يتخلَّق بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام ، وإلا تأتي دعوته جَوفاء لا جَدوى منها . قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾
( سورة الشعراء )
خفْضُ الجناح كِناية عن التواضع ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
هذه الآية وردَتْ في صيغةٍ أخرى في مكان آخر من هذا الكتاب الكريم :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
قاطبةً ، أيْ أنت أيّها الأخ إذا دَعَوْت إلى الله فلا ينبغي أن تزدري مؤمنًا ليس من جماعتك ، هذا ضيقُ أُفُق ، وهذه نظرةٌ ضيِّقَة ، وهذه تُثير مشاعر العِداء ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
هذه مطلقة ، ولو لم يتَّبعوك ، والمؤمن الصادق لا يغمط الناس حقَّهم والمؤمن الصادق يعرف لكلّّ ذي حقّ حقَّه ، والمؤمن الصادق ليس ضيِّق الأُفق ، ولا محدود النَّظرة ، وليس يَعنيه إلا مَن حولهُ ، لا ، ثم لا ، والله للجميع ، وفوق الجميع ، وبابهُ مفتوح للجميع ، ورحمته لكلّ الناس ، وهذا الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
(( اللهمّ ارْحمني ومحمَّدًا ، ولا ترحم معنا أحدًا ، فقال عليه الصلاة والسلام : لقد حجَّرْتَ واسعًا )) .
( الترمذي عن أبي هريرة )
رحمة الله واسعة ! فالفرْق بين الآيتين ، الآية الأولى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
والآية الثانية :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة الحجر )
في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام كان بعض المؤمنين في مكّة كانوا عَيْن النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان إيمانهم في قلوبهم ، والنبي يعرف ذلك ، لذلك هؤلاء الذين آمنوا بِقُلوبهم ، واقْتَضَتْ المصْلحة ألا يظْهروا مَشْمولون بهذه الآية :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة الحجر )
سواء كان إيمانه ظاهرًا أم غير ظاهر ، وسواء كان معك أو ليس معك ، المؤمن الصادق لا يغمط الناس حقَّهم ، ولا يزْدري الناس إن لم يكونوا من جماعته ، وهذه نظْرةٌ ضيِّقة محدودة لا تصلح إطلاقًا ، قال تعالى :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة الحجر )
صور من تواضع النبي عليه الصلاة والسلام :
الشيء الآخر ، ومما يؤكد تمسك النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الأدب العظيم ، ومِمَّا يؤكِّد اسْتجابته لهذا التَّوجيه الكريم ، ومِمَّا يؤكِّد حِرْصه على التمسك بهذا التَّأديب مِن قِبَل الله عز وجل ، كان عليه الصلاة والسلام إذا اجْتَمَع بأصْحابه كأنَّه كأحدهم ، والدليل : إذا دخل عليهم رجل يُريدهُ ، والنبي عليه الصلاة والسلام معهم ، ولا يعرفُهُ فيقول: أيُّكم محمَّد ؟! ماذا نستنبط من هذا ؟ أنَّه كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أصحابه فهو كأحدهم تمامًا ، وإذا سار مع أصحابه كان كأحدهم أيْضًا ، وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يعطي لِنَفسه امْتِيازًا أبدًا، والقصّة المشهورة حينما كان النبي مع أصحابه الكرام قال :
(( وأنا عليَّ جمع الحطب )) .
(ورد في الأثر)
هذا هو خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام ، والقصَّة التي تعرفونها كذلك ، وأتلوها على مسامعكم دائمًا يوم بدر
(( ... وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة ....)) .
( شرح السنة عن ابن مسعود)
قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
إذا أردت أن يُحِبَّك الناس فتواضَعْ لهم ، وإذا أردْت أن تكون طريقهم إلى الله فاخْفِض جناحك لهم ، وهذا وصْفٌ ، وفي هذه الآية جاء توجيهٌ يُسَمِّيه علماء التفسير تربية الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام ، وقد يأتي وصْفٌ ، وقد تكون هذه التربيَة تعليمًا لنا ، فكلّ من دعا إلى الله عز وجل لا بدَّ من أن يتواضع للمدعو ، إذا أردْت أن تدعو صديقك الذي في العمل إلى الله فاخْفِض جناحك له ، واجْلِس معه ، ولا تسْتعلِ عليه ، ولا تقل له : أنا أعلم ، وأنت لا تعلم ، فهذا يُنَفِّر قلبهُ منك ، دع الحديث عن نفسك كليًّا ، حدِّثْهُ عن الله عز وجل ، وعن رسول الله واكْتَفِ بهذا ، ودع نفْسَكَ في الظَّل ، بعيدًا عن الأضواء حتى يُحِبَّك الناس .
النبي عليه الصلاة والسلام تَطبيقًا لهذا التَّوْجيه الإلهيّ العظيم كان يخْصفُ نعْلَهُ بيده ، ويخيطُ ثَوْبهُ ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم ، بل كان يكْنسُ بيتهُ ، ويحلبُ شاته ، ويخْدم نفسهُ ، إذا كانت الزَّوجة نائمة فاخْدِمْ نفْسَكَ ، وكان يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إنّما أنا عبْد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد )) .
( الجامع الصغير عن عائشة بسند صحيح )
وفي معظم وقتِهِ كما وصفه العلماء كان في مهْنة أهله ، أيْ في خدمة أهله ، فإذا حضَرَت الصَّلاة خرج إلى الصلاة ، وكانت الأمَة أي الجارية الصغيرة تأخذ بيَدِهِ فتنطلقُ به حيث تشاء ، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلّم ، وكان عليه الصلاة والسلام تَطْبيقًا لهذا التوجيه الإلهي يمرّ بالصِّبْيان فَيُسَلِّم عليهم ، ولو لم يعرف أسماءهم ، يقول : السلام عليكم يا صِبْيان .
ومن هذا التَّوجيه الكريم كان إذا أكَلَ لعَقَ أصابعه الثلاث ، وهذا مِن السنَّة ، ومن تَوجيه الله الكريم أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ما رُئِيَ مادًّا رجْليْه قطّ ، سيّد الخلق ، وحبيب الحقّ ، وما عابَ طعامًا قطّ ، من تواضعه صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن ينتَقِمُ لِنَفْسِهِ قطّ ، إنَّما يغضَب إذا انْتُهِكَت حُرْمةٌ من حرمات الله تعالى ، وكان عليه الصلاة والسلام يأكل مع الخادم ويُجالس المِسكين ، ويمْشي مع الأرملة والمسكين ، وكان يبدأ من لَقِيَهُ بالسَّلام ، ويُجيبُ دَعْوةَ من دعاه ، ولو إلى أيْسَر شيء ، قال مرَّةً :
(( لو دُعيتُ إلى ذِراعٍ أو كراعٍ لأجَبْتُ ، ولو أهْدِيَ إليّ ذِراعٌ أو كُراعٌ لأجَبْتُ )).
( الجامع الصغير عن أبي هريرة بسند صحيح )
هذه أخلاقه صلى الله عليه وسلّم ، وكان يعود المريض ، ويشْهد الجنازة ، ويرْكب الدابة ، طبعاً ففي وقْته أن ترْكب حِصانًا غاليَ الثَّمَن شيءٌ يدْعو إلى الشُّعور بالتَّفَوّق ، أما أن تركب دابَّة قميئة فهذا شيء لا يفعلهُ إلا أواسط الناس ، كان عليه الصلاة والسلام يركبُ دابَّة مِمَّا يرْكبهُ عامَّة الناس .
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلّم أنَّ امرأة كانت تخدمُ المسجد ، ولا يعرفها أحد ، بل لا أحدٌ يعرف أحدٌ اسمها ، وكانت تخدم المسجد ، ولما تُوُفِّيَتْ بدا لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ورأَوا أنَّها أقلّ شأنًا من أن يذْكروا للنبي أنّها ماتَتْ ! ماتَتْ ودَفَنوها ، فلمَّا سأل عنها النبي عليه الصلاة والسلام ، وأجابوه أنَّها ماتَتْ ، ودُفِنَتْ تألَّمَ ألمًا شديدًا ، وقال : (( هلاَّ آذنتموني )) ؟!
( متفق عليه)
فتوجَّه إلى قبرها ، واسْتغفر لها .
هذه أخلاقه ، وإذا كنت من المؤمنين الصادقين فهذه أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
وبعض علماء السيرة جمعوا بعض شمائله في نصِّ متَّصل ، من المناسب أن أقرأهُ لكم في مناسبة هذه الآية ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
(سورة الشعراء )
من شمائله عليه الصلاة والسلام :
فقد كان عليه الصلاة والسلام جمَّ التواضع ، وافر الأدب ، يبدأ الناس بالسَّلام ، وينصرِفُ بِكُلِه إلى مُحدِّثِهِ صغيرًا كان أم كبيرًا ، أحيانا يحدِّثك ابنك مرَّةً ، ومرَّتين ، وثالثة ، ثمَّ تقول له : ماذا قلْتَ لي ؟ النبي عليه الصلاة والسلام مِن أدبِهِ الرَّفيع أنَّه ينْصرفُ بِكُلّه إلى محدِّثه ، صغيرًا كان أم كبيرًا ، ويكون آخر من يسْحب يدهُ إذا صافحَ ، وإذا تصدَّق وضَعَ الصَّدَقة بِيَدِهِ في يد المسكين ، لا يلْقيها له إلْقاءً ، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلّم ، وإذا جلس جلسَ حيث ينتهي به المجلس ، ولم يُرَ مادًّا رِجْليْه قطّ ، ولم يكن يأْنفُ من أي عمل لِقَضاء حاجاته ، من حمَلَ حاجته بيَدِهِ برؤ من الكِبْر ، أو حاجة صاحبٍ أو جار، وكان يذهب إلى السوق ، ويحملُ بِضاعته ويقول : أنا أولى بِحَمْلها ، قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
وكان يُجيب دعْوة الحرّ والعبْد والمِسكين ، وكان يقْبلُ عُذْر المعْتذر ، وكان يرْفو ثوْبهُ ، ويخصف نعلهُ ، ويخدم نفسهُ ، ويَعْقِلُ بعيره ، ويكنسُ داره وكان في مهنة أهله ، وكان يأكل مع الخادم ، ويقضي حاجة الضَّعيف والبائس ، وكان يمشي هَوْنًا خافض الطَّرف ، متواصل الأحزان دائمَ الفِكرة ، ولا ينطق إلا لِحاجة ، طويل السُّكون ، إذا تكلَّم تكلَّم بِجَوامع الكلِم ، وكان دَمِثًا أي لطيفًا ، ليس بالجاِفِ ولا المُهين يُعظِّمُ النِّعَم وإن دقَّتْ ، فلو أنَّه شرب كأس ماء قال : الحمد لله رب العالمين الذي جعل هذا الماء مسْتساغًا ، وجعل طريقه سالكًا ، لا يذمّ من هذه النِّعَم شيئًا فهناك من يكشّر حينما يأكل ، وكأنَّه قد اشْمأزّ منها ، ولا تُغْضِبُهُ الدنيا ، ولا ما كان منها ، ولا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غضَّ بصرهُ ، وكان يؤلِّفُ ولا يُفَرِّق ، يقرِّب ولا يُبَعِد ، يُكَرِّم كريم كلّ قوم ، ويولِّيه عليهم ، ويتفقَّد أصحابه ، ويسأل الناس عمَّا في الناس ، كيف حالكم ؟ كيف أعمالكم ؟ كيف أهلكم ؟ هل أنتم مرْتاحون ؟ يسأل الناس عما في الناس ، يُحَسِّنُ الحسَنَ ويُصَوِّبُهُ ، ويُقَبِحُ القبيح ويوهِّنُهُ ، لا يُقَصِّر عن حقّ ولا يُجاوِزُهُ ، ولا يحْسب جليسهُ أنَّ أحدًا أكرم عليه منه ، من سأل حاجةً لم يردّه إلا بها ، أو ما يسرّه من القول ، وكان دائِمَ البِشْر ، سَهل الخُلُق ، ليِّن الجانب ، ليْس بِفظ ولا غليظ ، ولا صخَّاب ولا فحَّاش ، ولا عيَّابٍ ولا مزَّاحٍ ، يتغافل عمَّا لا يشتهي ، ولا يُخَيِّبُ فيه مؤمِّلاً ، وكان لا يذمّ أحدًا ولا يُعَيِّرُهُ ، ولا يطلبُ عَوْرتُه ، ولا يتكلَّم إلا فيما يُرْجى ثوابُهُ ، يضْحك مِمَّا يضحك منه أصحابه ، ويتعجَّب مِمَّا يتعجَّبون ، ويصبر على الغريب وعلى جَفْوَته في مسألته ، ومنطقِهِ ، ولا يقْطعُ على أحدٍ حديثاً حتى يجوزهُ ، والحديث عن شمائلِهِ صلى الله عليه وسلّم لا تتَّسِع له المجلَّدات ، فإذا شخص قرأ كتاب الجامع الصغير يجد في آخره أكثر من مئة حديث عن شمائله صلى الله عليه وسلّم وكان جلّ ضَحِكِه التَّبسّم ، وكان كذا وكذا ، وكان يأكل كذا وكذا ، وكان إذا دخل بيْتهُ لفَّ ثوْبهُ ، وهذه شمائلهُ صلى الله عليه وسلّم إذا اطَّلَعَ الإنسان عليها ينبغي أن يجعلها طريقًا له في حياته .
الآن الشيء الذي يعْنينا هو أنَ الله سبحانه وتعالى وجَهَ النبي عليه الصلاة والسلام ، أو أدَّبَهُ أو ربَّاه بِهذه الآية : قال تعالى :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
هل في القرآن الكريم آياتٌ توجيهية أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام ؟
والخلاصة أن علينا أن نحسن الاقتداء به عليه الصلاة والسلام ، وهناك سؤال يفرض تنفسه هو : هل في القرآن الكريم آياتٌ أخرى تؤدِّب النبي عليه الصلاة والسلام ؟ وتكون هذه الآيات أيضًا منهجًا لنا في معاملة الناس ؟ الحقيقة في القرآن الكريم ما يزيد على سبْع عشرة آية تخْتصّ بِتَأديب النبي عليه الصلاة والسلام من هذه الآيات ، قوله تعالى :
﴿ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ﴾
( سورة التوبة )
أيْ يستمِعُ إلى الناس ، ويُصْدرُ أحكامهُ ارْتجالاً من دون بحْثٍ أو تدقيق ، ويستمع إلى كلام الآخرين ، ويتصرّف من دون دِرايةٍ ، هكذا يتَّهِمُهُ أعداؤُهُ ، والله سبحانه وتعالى علَّمه أن يُجيبهم عن هذا النَّقْد الجارح إجابةً لطيفةً هادئة ، قال تعالى :
﴿ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُل أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ﴾
( سورة التوبة )
أنا أسْتَمِعُ لِقَضاياكم ولمُشكلاتكم ، ولا أتِّخِذُ قرارًا من دون تحقيق أو بحْثٍ أو تبصّر ، والله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ يَا أََيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
( سورة الحجرات )
حتى النَّقْد الجارح ، وحتى النَّقْد القاسي ، إذا نُقِد به النبي عليه الصلاة والسلام علَّمهُ الله سبحانه وتعالى أن يُجيب عليه إجابة هادئةً لطيفةً لا تجْريح فيها ، قال تعالى :
﴿ وَيَقُوُلون هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ ﴾
( سورة التوبة )
أستمع لكم لأنْفعَكُم ، وأسْتَمِعُ لآخُذَ بيَدِكم ، ولا أُبادِرُ إلى عمل من دون تدقيق أو بحثٍ أو دراسة أو متابعةٍ .
شيءٌ آخر ، الله سبحانه وتعالى وجَّهَ النبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى :
﴿ وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
( سورة المائدة )
هذا موقف دقيق ، فأحيانًا تتمنَّى أن تتساهل مع زيْدٍ من الناس ، لعلّه يأتي إلى المسجد ، ولعلّه يصبحُ من إخوانك لعله يستقيم ، إذا تساهلْت معه في الباطل ، وإذا أفْتَيْتَ له فتيا لا ترضي الله ، وترضيهِ هو ، فهذا لا يصحّ في الدَّعوة إلى الله عز وجل :
﴿ وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
( سورة المائدة )
أي لا تتَّبع أهواءهم رجاء أن يؤمنوا ، قال تعالى :
﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾
( سورة فصلت )
من صفات الدَعوة إلى الله أن تردّ على الإساءة بالإحْسان ، فأنت فوق مستوى الانتقام ، وأنت فوق أن تردّ على السيّئة بسَيِّئة مثلها ، ولأنَّك مثلٌ أعلى للناس ، قال تعالى :
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾
( سورة فصلت )
من توْجيه الله عزَّ وجل للنبي عليه الصلاة والسلام :
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
( سورة فصلت )
هذا توجيه للنبي وتعليم لنا ، فالله سبحانه سميع لاسْتِعاذتك ، ولكن كلمة عليم تعني أنَّ الاستعاذة باللِّسان لا تكفي ، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم لا تكفي باللسان أبدًا ، لا بدّ أن تكون في القلب أيضًا ، لابدَّ أن تتَّجِه النَفس كلّها لِرَبِّها ملتجِئَةً إليه حتى تُقْبَلَ استعاذتها، لذا نسمعُ قِصَصًا كثيرة عن أناس يحسّون كوابيس في الليل ، أو تعاوُنٍ بين الإنس والجنّ فأقول له :
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
( سورة فصلت )
فيجيبني : اسْتَعَذْت ، ولم يحدث شيء ! وإليك الجواب ؛ لم يحدث شيء لأنَّك اسْتَعَذْت بِلِسانك فقط ، ولكن يجب أن تتَّجه النَّفس بِكُلِّيَتها ، وبِكُلّ مشاعرها ، وبكلّ طاقاتها إلى الله عز وجل مستعيذةً به ، حتى يحْمِيَكَ الله من نزْغ الشيطان ، قال تعالى :
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
( سورة فصلت )
إنه سميع عليم لما في قلبك .
تَوْجيهٌ آخر من الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى :
﴿ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾
( سورة الحجر )
ما هو الصَّفْحُ الجميل ؟ هو الصَّفْح الذي لا غضب فيه ، ولا تدمّر ، ولا كِبْر .
فهذه توجيهات الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام ، إنَّها توجيهات وتعليم لنا في الدرجة الأولى ، وتوجيه آخر من هذه التوجيهات ، وهذه التوجيهات كلّها على شاكلة :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة الشعراء )
قال تعالى :
﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
( سورة طه )
يعني لا تَطْمع بما عند الناس ، أو لا تتمنَّ ما أعطى الله بعض الناس من متاع أهل الدنيا ، وهذا شأن من دعا إلى الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
( سورة طه )
سيّدنا عمر دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقد استلْقى على الحصير ، وقد أثَّر الحصير على خدِّه الشريف ، فقال سيدنا عمر : رسول الله ينام على الحصير ، وكِسْرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟! فقال عليه الصلاة والسلام : أَوَ في شكٍّ أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلَت لهم طيِّباتهم في حياتهم الدنيا ، وإنَّما هي نبوّة وليس ملكًا ! قال تعالى :
﴿ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
( سورة طه )
قال تعالى :
﴿ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾
( سورة المدثر )
وهذا توْجيهٌ آخر ، أيْ لا تستكثر الناس بِعَطائك ، ولا تُعَلِّق أمَلاً على أنَّ هذا العطاء يجعل الناس يلتفتوا إليك ويُحِبُّوك ، أعْطِهم لله دون أن تنتظر منهم ولاءً ولا إقبالاً ولا التِفاتًا ، ولا تمْنُن تسْتَكْثر بِمَنِّكَ هذا الناس حولك قال تعالى :
﴿ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ*وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾
( سورة المدثر )
ولْيَكُن صبْرُك لله عز وجل ، لا لِجِهة أخرى ، قال تعالى :
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ﴾
( سورة النحل )
قال تعالى :
﴿ خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾
( سورة الأعراف )
وهذا توجيه آخر من توجيهات الله عزَّ وجل للنبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا الذي يدْعو إلى الله لا بدّ أن يتَّسِمَ بالعَدل ، والصَّفْح لأنَّ الصِّفَة التي تُخالف هذه الصِّفة لا تليق بِمَن دعا إلى الله سبحانه وتعالى .
توجيهٌ آخر ، وما أكثر التَّوجيهات ، قال تعالى :
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾
(سورة آل عمران )
النبي عليه الصلاة والسلام شاوَرَ أصحابه قُبَيل معركة بدر ، وشاورَهم قُبيل معركة أحد ، وشاورهم قبل معركة الخندق ، وكان يُشاورُهم مُشاورَةً حقيقيَّة ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى أمرهُ أن يُشاورَهم ، ومن اسْتَشار الرِّجال اسْتعار عُقولهم ، وشيءٌ آخر من توجيهات الله عز وجل ، كما في قوله تعالى :
﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ ﴾
( سورة الأحزاب )
كان حياؤُه صلى الله عليه وسلّم يغْلب عليه ، وكان يسْتحي أن يُواجِهَ أحدا بما يكْره ، وكان يستحي أن يُنبِهَ أحدًا إلى عملٍ يؤذي النبي ، يحْتَمِلُ الأذى ، ويخشى أن يُكَلِّمَهُ كلمةً تؤذيه ، قال تعالى :
﴿ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ ﴾
( سورة الأحزاب )
الله عز وجل تولَّى عنه تنبيه أصحابه بِبَعض ما كان يؤذيه فيسْتحي من أصحابه ، فهذه الآيات التي وجَّه بها النبي عليه الصلاة والسلام أنْ شاورْهم في الأمر ، وتحدَث عن حيائِه وعن أمْرهِ ، وعن الإعراض عن الجاهلين ، وأمرهُ أن يصبر لله عز وجل ، وأن لا يمدنَّ عينيه ، وأمره أنْ يصْفح الصَّفْح الجميل ، وأمرهُ أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لسانًا وقلبًا ، وأمرهُ أن يدْفعَ بالتي هي أحْسن ، وأمره ألا يحْزنَ عليهم ، وأن يترفَّعَ عن عطاياهم ، وأن يحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا يتَّبع أهواءهم ، هذه التوجيهات يجب أن يأخذ بها كلّ إنسان إذا أراد أن يُحدِّث الناس عن الله عز وجل ، ويدعو إليه ، وعلى كُلٍّ ذكرْتُ هذه التوجيهات اسْتدراكًا للتوجيه الذي ورد في هذه الآية :
﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾
(سورة الشعراء )
وفي الدرس القادم إن شاء الله سيكون مركز الثِّقل في هذه الآيات بحْث التَّوَكّل ، ومتى يكون صحيحًا ؟ ومتى يكون التوكل تواكلاً ؟ ومتى يُذمّ الإنسان على تواكله ؟ ومتى يُمْدح على توكله ؟ بحثٌ دقيقٌ إن شاء الله نجعلهُ موضوع الدرسِ القادمِ ، وهو حول الآية الكريمة :
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾
( سورة الشعراء )
والحمد لله رب العالمين