سورة النَّمل 027 - الدرس (5): تفسير الأيات (027 – 040)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة النَّمل 027 - الدرس (5): تفسير الأيات (027 – 040)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة النّمل

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة النَّمـل - (الآيات: 027 - 040)

20/11/2011 15:55:00

سورة النمل (027)
 
الدّرس (5)
 
تفسير الآيات: (27 ـ 40)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس الخامس من سورة النمل ، وصلنا في قصَّة سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى :
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)  ﴾ .
 ( سورة النمل ) .
 
مقصَد القصة مغزاها :
 
وقد أخبرتكم في الدرس الماضي أن هذه القصَّة ليست مقصودةً لذاتها ، القصَّة في القرآن الكريم مقصودةٌ لمغزاها ، مقصودةٌ للعبرة منها ، مقصودةٌ للدروس الثمينة التي تسْتَخْلَصُ منها ، وقد بيَّنت أيضاً أن هذه القصَّة كأن الله سبحانه وتعالى ذكرها لمن آتاه الله القوَّة ، كيف أن القوَّة في أعلى مستوياتها ، وهو المُلك يمكن أن يوظّف في سبيل الحق ، وفي سبيل الخير ، لذلك قارون حينما قيل له :
﴿  وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ  ﴾ .
(سورة القصص: من الآية 77)
 
قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
 
1 – استعمال العلم ابتغاء الآخرة : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
آتاك الله علماً ، ابتغِ به الدار الآخرة ، آتاك الله مالاً ابتغِ به الدار الآخرة ، آتاك الله مُلْكَاً فابتغِ به الدار الآخرة ، آتاك الله ذكاءً فابتغِ به الدار الآخرة ، فأي شيءٍ آتاك الله إيَّاه ، كالحظوظ مثلاً التي وزَّعها الله بين الخلق وزَّعها بينهم لتكون مِعْوَاناً لهم إلى إحقاق الحق ، فحينما تستخدم القوَّة ، أو الذكاء ، أو المال ، أو الجمال ، أو الصحَّة ، أو العلم من أجل دُنيا ، من أجل شيءٍ من الدنيا زائل فهذه هي الخسارة بعينها ، أعطوك درهماً لتأخذ بدله مائة ألف أو مليوناً فأنفقته في شيءٍ تافه ، استهلكته استهلاكاً رخيصاً ..
]وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [ .
2 – الأصل التحقُّق في الأمورِ لإقامة العدل :
فحتَّى هؤلاء الذين آتاهم الله المُلك يمكن أن يرقى بهم الملك إلى أعلى درجات الجنَّة ، وقد يهوي بهم إلى أسفل سافلين ، سيدنا سليمان آتاه الله الملك ، وها هو ذا يوظِّف هذه القوَّة التي أنعم الله بها عليه في سبيل خدمة الحق ، فمن صفات القادة التحقيق ..
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)  ﴾ .
لأن العدل أساس المُلك ، على مستوى مُعَلِّم ابتدائي ، إذا اشتكى لك طالب فحقِّق في الأمر ، فإذا سحقت طفلاً صغيراً ظلماً فكأن عرش الله سبحانه وتعالى يهتز ، وكذلك إذا قتلت حيواناً ظلماً ، هذا الصياد الذي يقتل عصفوراً لغير مأكلة ، يأتي هذا العصفور يوم القيامة وله دويٌ تحت العرش كدوي النحل ، يقول هذا العصفور : " يا رب سَلْهُ لِمَ قتلني ؟ " إذاً :
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)  ﴾ .
أنت بصفتك أباً ، أنتِ أيتها الأم ، أنتَ أيها المعلِّم ، أنتَ أيها الموظَّف ، يا من وكَّلك الله على عشرة لابدَّ مِن التحقُّق ، لابدّ من أن تبني موقفك على معلومات صحيحة ، لابدَّ من تقصّي الحقائق ، لابدَّ من أن تقف الموقف العلمي ، لابدَّ من أن تكون مع الحق ولست مع نزواتك ولا شهواتك .
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)  ﴾ .
 
اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
 
كيف الدليل لمعرفة صدقه مِن كذبه ؟ قال :
﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) ﴾ .
كيف يكون ردُّهم ؟ كيف يكون الردُّ على هذا الكتاب ؟ كيف يتَّخذون الموقف المُناسب ؟ يبدو أن الهدهد ألقى في قصر الملكة بلقيس هذا الكتاب من دون أن يشعرَ به أحد ، فلمَّا وجدوا كتاباً أعطوه للملكة ، فقالت :
﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ (29) ﴾ .
 
موقفُ بلقيس من مضمون كتاب سليمان :
 
1 – مبدأ الاستشارة :
الآن هي تستشير عَلِيَّةَ القوم ، بالمناسبة من استشار الرجال فقد استعار عقولهم ، أنت يمكن أن تأخذ كُلَّ هذا العلم ، وكل هذه الخبرة ، وكل هذا الإحكام بسؤالٍ ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((ما خاب مَن استشار ولا ندمَ مَن استخار )) .
[ الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال كبير ]
الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين ، والاستخارة لله عزَّ وجل ، فمن استشار الرجال فقد استعار عقولهم ، كيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام وهو النبي ، وهو الرسول ، وهو الذي يُوحَى إليه ، وهو المعصوم أمره الله سبحانه وتعالى أن يشاور أصحابه فقال :
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ  ﴾ .
(سورة آل عمران : من الآية 9 15)
وكيف لا ، واللهُ سبحانه وتعالى وصف المؤمنين الصادقين فقال :
﴿  وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ  ﴾ .
 (سورة الشورى : من الآية 38 )
وما اعتدَّ أحدٌ برأيه إلا هَلَك ،  ﴿  وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ   .
2 – ذكاء الملكة بلقيس :
يبدو أن هذه الملكة كانت على مستوى كبير من الذكاء ، ماذا يمنع أن تسأل عَلِيَّةَ القوم ، أن تسأل الملأ من حولها ، أن تسأل كبراء قومها ، أن تسأل أولي الخبرة ، أولي العلم ، أولي الحكمة ..
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ (29) ﴾ .
 
قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ
 
من كلمة أُلْقِيَ ، هذا الفعل المبني للمجهول يتضِّح أنها لم تعرف من ألقاه ، لأن سيدنا سليمان هكذا أمر الهدهد ، قال :
﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ (29) ﴾ .
 
يا أيها القوم ، يبدو أن حولها أناساً تثق بعلمهم ، وبخبرتهم ، وبقيادتهم ، وبمشورتهم فشاورتْهم ، وما استبدَّ أحدٌ برأيه إلا هلك ، والنبي عليه الصلاة والسلام سيِّد الخلق وحبيب الحق ، نبيٌّ ، رسولٌ ، يُوحى إليه ، معصوم ومع ذلك قال له الله سبحانه وتعالى :
﴿  وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159) [ .
(  سورة آل عمران )
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) ﴾ .
 
كِتَابٌ كَرِيمٌ
 
كيف عَرَفَتْ أنه كريم ، ونحن حتى الآن ما عرفنا الكتاب ؟ قال بعضهم : عرفت أنه كريم لأنه من سليمان العظيم ، ويبدو أن هذا الملك العظيم كانت له سمعة طارت في الآفاق ، فالَمِلك يعرف مَنْ حوله من الملوك ، وإذا كان من حوله ملكاً عظيماًفيبدو أن سمعة هذا الملك قد وصلت إليه ، هذا أول احتمال ، إما لأنه من سليمان ، قالت إنه :
﴿ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) ﴾ .
كتابٌ عالي الهدف ، مضموناً وأسلوباً وهدفاً ، في مضمونه كريم ، وفي أسلوبه كريم ، وفي هدفه كريم ، عرفت أنه كريم لأنه من عند الكريم ..
﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ (30) ﴾ .
 
إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ
 
وعرفت أنه كريم على رأيٍآخر لأنه  .
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) ﴾ .
 
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
من عند خالق الكون الرحمن الرحيم ، إذاً : هو كريم  ..
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) ﴾ .
فكأنَّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية فسَّر هو ماذا تعني البسملة ، فسليمان لا يتكلَّم بسمه ، بل باسم الله ، يتكلَّم نيابةً عن الله عزَّ وجل ، إنه رسوله ، لكن يقولون : إذا أردت أن تشرب فقلت : بسم الله الرحمن الرحيم .
1 – معنى : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ما معنى باسم الله الرحمن الرحيم ؟ أن هذه النعمة التي بين يديك هي من عند الله الرحمن الرحيم ، وأن هذا العمل الذي سوف تقوم به يجب أن يكون وَفْقَ كلام الله الرحمن الرحيم ، البسملة قبل فعل الأشياء تعني شيئين ، تعني أن تذكر نعمة المُنْعِم وأمر المُنعم ، نعمته وأمره في الوقت نفسه ..
﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) ﴾ .
 
 
2 – معنى : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
واسم الله الرحمن من أسماء الله الجامعة ، والدليل  :
﴿  قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ  ﴾ .
(سورة الإسراء : من الآية 110)
لطيفٌ لأنه رحمن ، لطيفٌ ، وقديرٌ ، وغنيٌ ، وواسعٌ ، يعطي ويمنع ، يُعلي ويخفض ، يعزُّ ويذل لأنه رحمن ..
﴿  قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ  ﴾ .
(سورة الإسراء : من الآية 110)
بعضهم قال : " الله " : اسم الله الأعظم ، أو " الرحمن " : اسم الله الأعظم ، على كلٍبسم الله ، كلمة بسم الله ، الله تعني اسم العَلَمِ على الذات الواجبة الوجود ، اسم العلم علمٌ على واجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى ، الأسماء الحسنى كلُّها مجتمعة بكلمة الله ، الله رحمنٌ رحيم ، رحمنٌ في ذاته رحيمٌ في أفعاله ، وهذا الكتاب من عند رسوله ، إذاً إنه كتابٌ كريم ..
﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) ﴾ .
 
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
 
البلاغة في الإيجاز ، أي يا أيتها المَلكة لا تستعلي عليّ ، فأنتِ ومن معكِ ، وأنتِ وجيشك وشعبكِ بادروا إليَّ مسرعين مسلمين ..
﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) ﴾ .
كلامٌ مختصرٌ مفيد ، لأنني أتكلَّم باسم الله الرحمن الرحيم ..
﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) ﴾ .
 
الكلام الموجز كلامٌ موحٍ ، يوحي بأشياء كثيرة ..
﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي (32) ﴾ .
 
قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي
 
هي امرأة ، ولأنها امرأة لها طبيعةٌ خاصَّة ، هي أميلُ إلى المُلاينة منها إلى المُخاشنة ، أميل إلى الصلح منها إلى الحرب ، أميلُ إلى المهادنة منها إلى المخاصمة ، طبيعتها الأنثويَّة تقتضي ذلك ..
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي (32) ﴾ .
 
ماذا أفعل ؟ أأستجيب لهذا الكتاب ؟ أتخلى عن مُلكي من أجله ؟ أخضع له ؟ أحاربه ؟ ماذا أفعل ؟ .
﴿ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) ﴾ .
 
مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ
 
فهي لا تقود أمَّتها إلا من خلال خبرةِ مَن حولها ، طبعاً هؤلاء الملأ الذين من حولها لهم موقفٌ ثابت معروف ، يطمئنونها بأنهم أولو قوَّةٍ وأولو بأسٍ شديد ، لا تجزعي ، لا تخافي، نحن معكِ ، عندنا قوة عاتية نقاوم بها أي تهديد ، بإمكاننا أن نقاوم سليمان ، أن نخذله، أن نحاربه ، هذا كلامُ مَنْ حولَ الملكة دائماً ..
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ (33) ﴾ .
 
قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ
 
يَرْوون أن سيدنا معاوية بن أبي سفيان جاءه كتابٌ من إنسان ، قال فيه : " أما بعدُ ؛ فيا معاوية إن رجالك قد دخلوا أرضي ، فانْههم عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأنٌ والسلام " ، من هذا الإنسان الذي يخاطب أمير المؤمنين ؟ يخاطب الخليفة ؟ إنسان في الدرجة الدنيا من المجتمع يخاطب أعلى مستوى فيقول : " فيا معاوية ، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأنٌ والسلام " ، هذا تهديد ، من هذا الذي يهدِّد ؟ قيل : إن سيدنا معاوية ، وكان ابنه يزيد إلى جانبه فقال : " ما رأيكَ يا يزيد ؟ " . فأجاب ، كما قال هؤلاء :
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ (33) ﴾ .
قال : " أرى أن تُرْسِلَ له جيشاً أوله عنده في المدينة وآخره عندك ليأتوك برأسه " ، لكن معاوية تبسَّم ، وقال : " غير ذلك أفضل " ، ثم كتب كتاباً قال فيه : " أما بعد ؛ فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله " ، هذا الذي أرسل الكتاب هو عبد الله بن الزبير ، وأبوه الزبير شهد له النبي عليه الصلاة والسلام أنه من حواريي هذه الأمَّة ، قال : " أما بعد ؛ فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله أطال الله بقاءه ، ولقد ساءني ما ساءه ، والدنيا كلُّها هيِّنةٌ جَنْبَ رضاه ، لقد نزلت له عن الأرض وما فيها " ،  فجاء الجواب : من عبد الله بن الزبير .
أذكركم بكتابه الأول قبل نقل نص الكتاب الجديد : " أما بعدُ ؛ فيا معاوية ، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك ، وإلا كان لي ولك شأنٌ والسلام " ، هذا كتابه الأول ، بعد أن أجابه بهذه الحكمة والذكاء ، وهذه المُلاينة والمُلاطفة ، وهذه السياسة الحكيمة ، أجابه عبد الله بن الزبير فقال : " أما بعدُ فيا أمير المؤمنين .. كان معاوية في الكتاب الأول .. أطال الله بقاءه ، ولا أعدمه الرأي الذي أحلَّه من قومه هذا المحل" ، كان ابنه إلى جانبه فقال : " انظر يا يزيد ، يا بني من عفا ساد ، ومن حَلُمَ عَظُم ، ومن تجاوز استمال إليه القلوب " ..
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) ﴾ .
 
كتاب تهديد ..
﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) ﴾ .
 
كتاب تهديد ووعيد ، خضوع ، ماذا أفعل ؟ ..
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ (33) ﴾ .
 
 أربع كلماتٍ مُهلكات : أنا ونحن ولي وعندي :
 
بالمناسبة : أربع كلماتٍ مُهْلِكات : أنا ونحن ولي وعندي ، ( أنا ) قالها إبليس فأهلكه الله عزَّ وجل ..
﴿  قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12) ﴾ .
(سورة الأعراف)
و( نحن ) ..
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ (33) ﴾ .
وانتهى أمرهم .
وأما( عندي ) فقد قالها قارون :
﴿  قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ .
(سورة القصص : من الآية 78)
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ﴾ .
(سورة القصص : من الآية 81)
وأما( لي ) فقالها فرعون :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ .
(سورة الزخرف : من الآية 51)
فأغرقه الله عزَّ وجل ، لذلك أربع كلماتٍ مُهْلِكات ، أنا ولي ونحن وعندي ، لا تقل : أنا ؛ بل قل : الله تفضَّل علي ، قل : الله أسبغ عليً هذه النعمة ، أكرمني بها ، خصَّني بها ، هذا من فضل الله علي ، لو تتبعتم أقوال الأنبياء العِظام ما رأيتم واحداً منهم يعزو نعمةٌ إلى ذاته ..
﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ .
(سورة النمل)
لا تقل : أنا ، ولا تقولوا : نحن ، قالها أصحاب النبي في حنين رضي الله عنهم ، قالوا : " لن نُغْلَبَ اليوم من قلَّة " ، كنَّا في بدر ثلاثمائة فغلبنا قريشاً ، الآن نحن عشرة آلاف مقاتل أحطْنا بمكَّة وفتحناها ، وانضمَّ إلينا آلاف مؤلَّفة ، من يغلبنا ؟ ..
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾ .
(سورة التوبة)
لا تقل : أنا ، ولا تقولوا : نحن ، ولا تقل : أنا لي ولا عندي ..
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ (33) ﴾ .
 
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
 
نحن تابعون إليكِ ، الأمر أمركِ ، والرأي رأيكِ ، والقرار قراركِ ..
﴿ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ (34) ﴾ .
 
إن الملكة يقول لسان حالها للملأ من قومها : عندنا قضيَّة ، هذا الكتاب فيه تأكيد على أن مُرسله نبي ورسول ، لكن بلقيس تردد وتساؤل ، فإذا كان سليمان نبياً ورسولاً فلها موقف ، وإن كان ملكاًفلها موقفٌ آخر ، لأن ..
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا (34)  ﴾ .
 
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا
 
القرية هنا المدينة الكبيرة ..
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا (34)  ﴾ .
 
عَطَّلوا مرافقها ، دمَّروا بيوتها ، انتهكوا حرماتها ..
﴿ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً (34)  ﴾ .
 
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً
 
هكذا العادة ، فبلقيس في حيرة من أمرها ، يا ترى هذا الكتاب من نبي أم من مَلِك ؟ إذا كان نبياً فلها موقف ، وإن كان ملكاً فلها موقف ..
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ (34)  ﴾ .
 
من عادة الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها ، عطَّلوا ما فيها ، نهبوا ما فيها ..
﴿ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً (34)  ﴾ .
 
الكُبَرَاء ، النبي الكريم علَّمنا ، فقال :
((  أكرموا عزيز قومٍ ذل .. أكرموه .. وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين الجُهَّال ))
[ ورد في الأثر ]
هؤلاء الثلاثة من حقِّهم عليكَ أن تكرمهم .. ((  أكرموا عزيز قومٍ ذل .. أكرموه .. وغنياً افتقر ، وعالماً ضاع بين الجُهَّال )) .
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)  ﴾ .
     
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
 
يفعلون بنا ، فإذا سلَّمنا لهم بلادنا يأتون إليها ، ويجعلون أعزَّة أهلها أذلَّة ، ويفسدون هذه البلاد ، هكذا العادة ، يبدو أنها ذكيَّةٌ جداً ، الآن هي أمام مشكلة يجب أن تعرف ما إذا كان هذا الكتاب من عند نبيٍّ أم من عند مَلِك ، فالنبي له علامة والمَلك له علامة .
يُروى أن سيدنا عمر رضي الله عنه وهو عملاق الإسلام ، دخل على النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان النبي مضطَّجعاً على حصير وقد أثَّر الحصر في خدِّه الشريف ، فبكى عمر ، قال : (( يا عمر ، لمَ تبكي ؟ )) ، قال عمر : " رسول الله ينام على الحصير ، وكسرى ملك الفرس .. هذا الذي يعبد النار .. ينام على الحرير ؟! " ، الأمر لم يتوازن عنده ، ما درى له جواباً ، هذا النبي العظيم سيِّد الخلق وحبيب الحق ، سيِّد ولدِ آدم الذي يوحى إليه ، مبعوث العناية الإلهيَّة ينام على حصير ؟!
كان إذا صلَّى قيام الليل نقلت السيدة عائشة رجليها من مكانها ، لأن غرفته الصغيرة لا تتسع لصلاته ونومها ، وهو نبيُّ هذه الأمَّة ، فكيف يستقيم عند عمر أن ينام هذا النبي على حصير ، وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير ؟ فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام إجابةً تأخذ بالألباب ، قال : (( يا عمر ، إنما هي نبوَّةٌ وليست ملكاً )) .. أنا لست بملك .. إنما هي نبوَّةٌ ، وليست مُلكاً ، جاءه جبريل وقال :  " يا محمَّد ، أتحبُّ أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ " قال : " بل نبيَّاً عبداً ، أجوع يوماً فأذكره ، وأشبع يوماً فأشكره " .
سيدنا علي يقول : << فلينظر ناظرٌ بعقله أن الله أكرم محمَّداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ، فإن قال أهانه فقد كذب ، وإن قال أكرمه ، فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا >>.
يقول سيدنا علي أيضاً : << يا بني ما خيرٌ بعده النار بخير ، وما شرٌ بعده الجنة بشر ، وكل نعيمٌ دون الجنَّة محقور ، وكل بلاءٍ دون النار عافية >>  .
كل ما تملك من الدنيا لك بشرط أن يدقَّ هذا القلب ، فإذا توقَّف القلب انتهى كل شيء ، وصار لغيرك ، أين البناية ؟ أين الشأن ؟ أين المكانة ؟ أين ما يتمتَّع به هذا الميِّت ؟ أين شأنه العظيم ؟ أين بيته الواسع ؟ أين زوجته ؟ أين أولاده ؟ أين مركبته ؟ أين محلُّه التجاري ؟ .. ما خيرٌ بعده النار بخير ، وما شرٌ بعده الجنة بشر ، وكل نعيمٌ دون الجنَّة محقور ، وكل بلاءٍ دون النار عافية .. لذلك الإمام الغزالي في الإحياء يقول : " إنَّ أدنى درجات الفقه أن تعلم أن الآخرة خيرٌ من الأولى " ، والدليل أن تسعى لها ..
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ .
(سورة الإسراء : من الآية 19)
أن تعلم أن الآخرة خيرٌ من الأولى فتسعى لها..
﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) ﴾.
والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي :
(( أنا ملك الملوك ، ومالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسُخط والنِقمة ، فلا تشغلوا
 
أنفسكم بسبِّ الملوك وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم )) .
[ رواه الطبراني عن أبي الدرداء ] .
 
﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)  ﴾ .
بنا ، لذلك يبدو أنها ذكيّةٌ كما قلت قبل قليل ، أرادت أن تكتشف هل سليمان نبيٌ حقَّاً أم ملك ؟ قال بعضهم : " إذا أردت أن تعرف نفسك من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ، فإنْ دخل عليكَ رجلان واحدٌ منها طلب منك والآخر أعطاك ، فإذا كنت قد فرحت بالذي أخذته فأنتمن أهل الدنيا ، أما إذا كان فرحك بالذي أعطيته فأنت من أهل الآخرة " ، هذا مقياس دقيق جداً ، رجلان دخلا إلى محلَّك ، واحد منهما قال لك : ادفع لي ، والآخر قال لك : خُذ مني ، فأنت بمن فرحت ؟ وبماذا فرحت ؟ فرحت بالذي أخذ منك فأنت من أهل الآخرة ، فرحت بالذي أعطاك فأنت من أهل الدنيا ، قالت :
﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) ﴾ .
 
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
 
1 – أصحابُ المبادئ لا يُشتَرَون بالأموال :
لأن المال ثمين عند أهل الدنيا ، فإذا كانت هذه الهديَّة ثمينةٌ جداً وأرضتهم ، أُعجِبوا بها ، انتهى الأمر ، فهم أُناس طلاب دنيا ، ليس نبياً عندئذٍ ، أما أصحاب الرسالات ، (( والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته حتَّى يظهره الله أو أهلك دونه )) .
[ السيرة النبوية ]
هكذا أصحاب المبادئ ، عرضوا عليه بأن يزوِّجوه بأجمل فتاةٍ في مكَّة ، عرضوا عليه أن يجعلوه أغنى فتيان مكَّة ، عرضوا عليه أن يكون أمير مكَّة على أن يدع هذه الدعوة فقال : " والله لا أفعل " ، المساومة على المبادئ لا تكون ، المؤمن لو أعطيته ملء الغرفة ذهباً على أن يفعل شيئاً نهي الله عنه ، يقول : لا أفعل ، افعل ما تشاء ، يقولها بملء فيه لمن أراد أن ينال من دينه..
جاء النبيَّ خُبيبٌ رضي الله عنه ، وكانوا يعذِّبونه في مكَّة ، بعد تعذيبه تعذيباً شديداً ، قال له أبو سفيان : " يا خبيب ، أتحبُّ أن يكون محمَّدٌ مكانك وأنت في أهلك ؟ " ، قال خُبيب : " والله ما أحبَّ أن أكون في أهلي وولدي .. في أهلي ، في بيتي مع أولادي ، مع زوجتي .. وعندي عافية الدنيا ونعيمُها .. كل حاجاتي مؤمَّنة مع الكماليَّات .. ويصاب رسول الله بشوكة " .
لا مساومات في الإيمان ، عند أهل الإيمان المليون مثل الليرة ، تحت قدمك ، أي مبلغٍ إذا كان الثمن معصية الله عزَّ وجل ، تحت قدمك ، أي شيءٍ في الدنيا إذا كان الثمن أن تقول كلمة الباطل ، أن تقول ما لم يأمرك الله به ، لذلك قاضيان إلى النار وقاضٍ إلى الجنَّة ، هذا الذي عرف الحق فحكم به إلى الجنَّة ، الذي لم يعرف وحكم بالجهل فهو إلى النار ، الذي عرف الحقَّ ، وحاد عنه ، وحكم بالباطل ، يدخل النار أيضاً ، القضيَّة قضيَّة خطيرة ، قضيَّة سعادة أبديَّة أو شقاء أبدي .
2 – اختبار بلقيس لحقيقة سليمان :
هي بهذه الهدية تكشف ما إذا كان هذاالكتاب الذي ألقاه الهدد من عند نبيٍّ أم من عند ملك ، إذا كان نبي فالقضية سهلة ، فيه رحمة ، بسم الله الرحمن الرحيم ، ليس معها مشكلة ،  ولا خوف فيما إذا دخلوا قرية ، فإنهم لن يفسدوها ، ولن يجعلوا أعزَّة أهلها أذلَّة ، ما من شيء من هذا أبداً .
﴿ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) ﴾ .
بالعدل والإنصاف ، " ما عرف التاريخ فاتحاً أرحمَ من العرب " .. هذه الكلمة قالها غوستاف لوبون ، مؤرِّخ وفيلسوف فرنسي .. ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ، ولا أعدل من العرب ، أحد الصحابة الكرام في بعض المعارك وضع سيفه ليجهزَ على كافر ، أصحابه رأوه قد ابتعد عنه فجأةً ، لماذا ؟ بصق هذا الكافر في وجهه ، فقال هذا الصحابي : " الآن إذا قتلته قتلتُه ثأراً لنفسي ، والله لا أقتله في هذه الساعة " ، ما هذه الأخلاق ؟ هذه الأخلاق أين نجدُها ؟ يجب أن يكون العمل خالصاً لوجه الله عزَّ وجل .
فإذا كان نبياً فهذه الهديَّة لا تغريه ، بل يردُّها ، أما إذا كان ملكاً انتهى الأمر ، ساومته ، وانتهى الأمر .
لو فرضنا أنَّ طبيباً قيل له : قل إن هذه الوفاة طبيعيَّة ، وهي في الواقع وفاة جرميَّة ، قل : طبيعيَّة وهذا بيت ، وهذه سيَّارة ، قد يكون هذا الطبيب ناشئاً لا يملك شيئاً من حُطام الدنيا ، أما إذا كان مؤمناً والله لو عرضوا عليه أموال الأرض لا يكتب إلا الحق ، هذا المؤمن ، أما غير المؤمن فيبيعُ دينه بعَرَضٍ من الدنيا قليل ..
﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ (36) ﴾ .
 
فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ
 
هذا استفهام توبيخي ..
﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ (36) ﴾ .
آتاه الله العِلْمَ والحكمة ، ما هذا المال ؟ ما قيمة المال ؟ ما قيمة  الملك ؟
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطلُ     وكـل نـعيمٍ لا مـحالة زائـلُ
﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ (36) ﴾ .
 
فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم
 
آتاه الله العلم والحكمة ، إن الله يعطي الملك لمن يحب ، ولمن لا يحب ، أعطاه لسليمان ، وأعطاه لفرعون ، ويعطي المال لمن يحب ، ولمن لا يحب ، أعطاه لسيدنا عبد الرحمن بن عوف ، وكان من أغنى الصحابة ، وأعطاه لقارون ، ولكن العلم والحكمة لا يعطيهما الله إلا لمن يحب ، فإذا كان عطاء أحدنا من نوع العِلم والحكمة فهذا عطاءٌ عظيم جداً ..
﴿ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)ارْجِعْ إِلَيْهِمْ (37) ﴾ .
 
بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ*ارْجِعْ إِلَيْهِمْ
 
1 – بماذا تفرحُ أيها المؤمن ؟!
الآن سؤال دقيق : ما الذي يفرحك ؟ أنا أقول لكم : قل لي ماذا يفرحك أقل لك من أنت ، هل تفرح برضوان الله عزَّ وجل ؟ فأنت مؤمنٌ وربِّ الكعبة ، هل تفرح إذا صليت صلاةً خاشعة ؟ هل تفرح إذا قدَّر الله على يديك عملاً صالحاً ؟ هل تفرح إذا تمَّت هداية إنسان على يديك ؟ هل تفرح بهذا ؟ ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ .
(سورة يونس : من الآية 58)
فهنا مكان الفرح ، أم نفرح بالدنيا ؟ ..
﴿ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ﴾ .
 
2 – بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
هو يفرح بنشر الحق ، سيدنا سليمان يفرح بأن يظهر الحق على الباطل ، بأن يهتدي الناس إلى ربِّهم ، بأن يسعد الناس بمعرفة ربِّهم وطاعتهم له ، هذا الذي يفرحه ..
﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا (37) ﴾ .
 
تهديدٌ ووعيد ..
﴿ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
 
ردُّ سليمان عليه السلام : فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
 
كان الرد حاسماً وقاسياً وسريعاً ، يبدو أنها عرفت لمجرَّد أنه ردَّ الهديَّة ، وأنه لم يعبأ بها ، وما اكترث لها إذاً هو نبي ، أصحاب الدعوات ، أصحاب الرسالات لا تثنيهم الدُنيا عن أداء رسالاتهم ، اتضح لها أنه نبي ، طبعاً القرآن فيه فجوات ، هذه يسمونها فجوة فنيَّة ، فالذي لم يذكره الله عزَّ وجل عٌرِفَ بالسياق ..
﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) ﴾ .
 
قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
 
سيدنا سليمان عَلِمَ أنها في طريقها إليه ، جاءته مذعنةً لدعوته ، لذلك أراد أن يريها من عظمة المُلك ما يجعل إذعانها قلباً وقالباً ، شكلاً ومضموناً ..
﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) ﴾ .
  1 – سليمان يطلب إحضارَ عرش بلقيس :
طبعاً عرشها في صنعاء ، أو في اليمن ، وهو في بيت المقدس ، وبين اليمن والقُدس مسافاتٌ شاسعة تحتاج الطائرة الآن إلى قطعها لأربع ساعاتٍ أو أكثر ، أمّا أن يأتي العرش بأكمله فهذه معجزة ؟ ماذا قال الهدهد ؟
﴿ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ﴾ .
عرش وهو عظيم ، فالمَلِكُ بعرشه ، طبعاً لا أدري ما تفصيلاته ولكن عرشٌ عظيم ، فأذكر أنه حينما أنشئوا سد أسوان على نهر النيل فالبحيرة التي ستنشأ عن هذا السد ستغمر بعض آثار الفراعنة ، والذي أذكره أن مئة دولةٍ تعاونت على نقل تمثالٍ ضخم من مكان البحيرة التي نشأت عن سدِّ النيل إلى مكانٍ آخر ، نقل تمثال ضخم شيء يحتاج إلى خبرات ، وإلى مُعِدَّات ، وإلى تكنولوجيا ، وإلى رافعات ، وإلى خبرات هندسيَّة ، وقد قرأت عن هذا الموضوع الشيء الكثير ، أما أن يأتي عرش الملكة بلقيس من صنعاء إلى القُدس بلمح البصر !! فالله على كل شيءٍ قدير ، قد يكون هذا ممتنعاً عادةً ، ولكنَّه ليس ممتنعاً عقلاً ، لأن الله يقول : كن فيكون ، زل فيزول ..
﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ (39) ﴾ .
 
الاقتراحُ الأول من الجن :
 
1 – قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ
الآن أنت جالس ، الإنسان يجلس ساعة أو نصف ساعة ثمَّ يقوم من مقامه لقضاء حاجة ، لتناول طعام ، قال عفريت لسليمان : ما دمت جالساً إلى فأن تقوم يكون العرشُ عندك، يبدو أن سيدنا سليمان ما أعجبه ذلك ، رآه وقتاً طويلاً ومديداً ، وتابع العفريت كلامه فقال :
﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) ﴾ .
 
2 – القوة والأمانة من صفات الملوك والحكام : وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ :
وكلمة قوي أمين فيها إشارة دقيقة إلى ما ينبغي أن يتمتَّع به من توكِلُ إليه أمر ، إذا أوكلت إلى إنسانٍ أمراً يجب أن يكون قوياً أميناً ، القوة تشير إلى القُدْرَة ، والأمانة تشير إلى الإخلاص ، بالتعبير الحديث الكفاءة والإخلاص .
سيدنا عمر أرسل كتاباً عيَّن بموجبه والياً فقال : << أما بعدُ ؛ فخذ عهدك ، وانصرف إلى عملك ، واعلم أنك مصروفٌ رأس سنتك .. سنة واحدة تجريبية .. وأنك تصير إلى أربع خلال فاختر لنفسك ؛ إن وجدناك أميناً ضعيفاً .. أمين ولكنك ضعيف ، لست حازماً ، طبعاً الأمين الضعيف لا يصلح ، أنت أمين لكنَّك ضعيف فنعزلك فقط .. إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك ، وسلَّمتك من معرَّتنا أمانتك ، وإن وجدناك خائناً قوياً ، استهنا بقوَّتك ، وأوجعنا ظهرك وأحسنا أدبك .. وإن جمعت الجرمين .. الضعف والخيانة .. جمعنا عليك المضرَّتين .. العزل والتأديب .. وإن وجدناك أميناً قوياً .. هنا الشاهد .. زدناك في قوَّتك ورفعنا لك ذِكْرَك ، وأوطأنا لك عقبك >> ، وكل هذا أخذاً من قوله تعالى :
﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(26)﴾ .
(سورة القصص)
أنت بحاجة إلى إنسان عنده كفاءةٌ عالية ، وعنده إخلاصٌ شديد ، إخلاصٌللمبدأ وكفاءةٌ فنيَّةٌ عالية في كل الأعمال ، حتى الزوج يجب أن يكون قوياً أميناً ..
﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(26)﴾ .
(سورة القصص)
﴿ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ (40) ﴾ .
 
الاقتراح الثاني للجن : قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ
 
أي آتيك به بأقل من لمح البصر ..
﴿  قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ (40) ﴾ .
لا نعلم نحن من هو ؟ قال بعضهم : سيدنا جبريل ، قال بعضهم : سليمان نفسه ، وهذا مستبعد ، قال بعضهم : رجل آتاه الله اسمه الأعظم ، قال بعضهم : مؤمن خصَّه الله بشيءٍ يفوق به أقرانه ، نحن يعنينا أن هذا العرش جاء بلمح البصر ..
﴿  قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ (40) ﴾ .
انتهت برمش بعينه ، قال :
﴿ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (40) ﴾ .
 
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي
 
1 – يجب أن تنسب الفضل إلى الله وحده :
عندما رآه ماذا قال ؟ هل قال : أنا ؟ لا . بل قال :
﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (40) ﴾ .
إذا كان إنسان معه اختصاص نادر يدرُّ عليه أموالاً طائلة يجب أن يقول دائماً : هذا من فضل ربي ، إذا إنسان آتاه الله منزلاً فأَوى إليه ، هذا من فضل ربي ، قال :
﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) ﴾ .
لابدَّ من وقفةٍ سريعة عند قوله تعالى :
﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (40) ﴾ .
 
وقفةٌ مع قوله تعالى : هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي
 
أي شيءٍ تتمتَّع به إنْ في قوَّتك الجسميَّة ، وإنْ في سلامة حواسِّك ، وإنْ في إدراكك السليم ، وإنْ في هذه الحِرْفَة التي أنعم الله بها عليك ، وإن في بيتك وزوجتك وأولادك ، وأيّ شيءٍ تتمتَّع به هو في الحقيقة مَحْضُ فضلٍ من الله عزَّ وجل ، لمجرَّد أن تعزو هذا الفضل إلى الله فأنت أحد الشاكرين ، فإذا عزوته لغير الله فهذا أحد أنواع الكُفر ، الشكر في حدِّه الأدنى أن تعزو النعمة إلى الله ، وفي حدِّه الأعلى أن تقابل هذه النعمة بعملٍ طيِّب ، لقوله تعالى :
﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ .
(سورة سبأ : من الآية 13)
قال : يا رب ، كيف أشكرك ؟ فقال الله عزَّ وجل : إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني " .
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ .
(سورة البقرة : من الآية 153)
أياذكروني لعبادي أذكركم برحمتي ، فلذلك الفرق بين المؤمن والكافر أن المؤمن شاكر؛ والكافر جاحد ، بمعنى أن هذه النعم التي أنعم الله بها علينا إنما أنعم الله بها علينا ليبتلينا هل نشكر أم نكفر ، هل نعتدَّ بجاهنا ، هل نعتزُّ بقوَّتنا ، هل نتيه بعلمنا ، هل نتيه بشكلنا ، هل نتيه بمالنا ؟ أم نقول هذا من فضل الله علينا ونرجو الله أن يكون موظَّفاً للحق ؟ لذلك :
﴿ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي (40) ﴾ .
مِن تعني هذا بعض فضل ربي ..
﴿ لِيَبْلُوَنِي (40) ﴾ .
 
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
 
ليمتحنني ..
﴿ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ (40) ﴾ .
لذلك قالوا : المال ليس نعمةً ، إنما هو ابتلاء ، فإذا أنفقته في طاعة الله انقلب إلى نعمة ، الصحَّة ليست نعمةً ، هناك كفَّار أصحَّاء لكن هذه الصحَّة والقوة إذا وظَّفتها في طاعة الله انقلبت إلى نعمة ، المنصب ليس نعمةً ، أما إذا سخَّرت قوَّتك في هذا المنصب لخدمة الحق انقلب هذا المنصب إلى نعمة ، وأي شـيءٍ في الدنيا لا يسـمَّى نِعْمَة ، بل هو نَعْمَة ـ  بفتح النون ـ  لا يسمى نِعْمة إلا إذا استخدمته في طاعة الله عزَّ وجل ، فإذا استخدمته لحظوظ الدنيا انقلب إلى نِقمة أو إلى نَعْمَة ..
﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27)﴾ .
(سورة الدخلان)
﴿ لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ (40) ﴾ .
 
وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ
 
الله عزَّ وجل غني عن العالمين ، فكل شيءٍ تفعله لك ..
﴿ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ(44)﴾ .
(سورة الروم)
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(46)﴾ .
(سورة فصلت)
يقول الله عزَّ وجل للميِّت حينما يوضع في قبره :
"عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو بقوا معك ما نفعوك ، ولم يبقَ معك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت " .
فإذا فعلت صالحاً فلهذه اللحظة العصيبة ، لهذه الحفرة الموحشة ، لهذا اللقاء المُخيف ، أما إن كنت مؤمناً :
﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89)﴾ .
(سورة الواقعة)
غداً نلقى الأحبَّة    محمَّـداً وصحبه
***
إذاً : قال :
﴿ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) ﴾ .
 
وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ
 
غنيٌ ولكنَّه كريم ، لو استغنيت عنه ..
"لي عليك فريضة ، ولك عليَّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلِّطنَّ عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البريَّة ، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ، وكنت عندي مذموماً " .
إذاً : نضرع إلىأن الله يجعلنا من الشاكرين المؤمنين .
في درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى نتابع القصَّة من عند قوله تعالى :
 
﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) ﴾ .
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب