سورة البقرة (002)
الدرس (17)
تفسير الآية: (30)
الإنسان خليفة الله في الأرض
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السابع عشر من سورة البقرة .
المعرفة الحسية والمعرفة العقلية :
مع الآية الثلاثين ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
أيها الأخوة الكرام ، بادئ ذي بدء هناك معرفة حسية تتم عن طريق الحواس ، الأشياء المادية تعرفها عن طريق الحواس ، وهناك معرفةٌ عقلية تحتاج إلى آثارٍ مادية يستنبط العقل منها حقائق هذه الأشياء ، هذه هي المعرفةٌ العقلية ، فالشيء إذا ظهرت عينه ، وظهرت آثاره سبيل معرفته الحواسُّ الخمس هذا هو اليقين الحسي ، أما إذا غابت عينه ، ذاته ، وبقيت آثاره سبيل معرفته العقل ، وهذا هو البصير العقلي ، أما إذا كان الشيء مغيَّباً عنا أصلاً ، ولا آثار له فالحواسُّ لا يمكن أن تعرفه ؛ لعدم وجود آثار له ، ولا يمكن أن يعرفه العقل ، لأنه ليس له آثار ، هذا هو اليقين الإخباري ، هذا التمييز دقيق ، الأشياء التي تجسَّدت لها جُرْم ، لها وزن ، لها شكل ، لها لون ، لها رائحة ، لها مَلْمَس ، لها حَيِّز ، لها طول ، لها عرض ، لها ارتفاع ، هذه أشياء حسية ، سبيل معرفتها الحواسُّ الخمس ، أما جدار وراءه دخان ، والعقل يقول : لا دخان بلا نار ، فالعقل رأى آثار النار وهو الدُخان فحكم بوجود النار من آثار النار فقال : لا دخان بلا نار .
إذاً وراء هذا الجدار نار ، الكهرباء لا تُرى بالعين لكن تألُّق المصابيح ، تكبير الصوت ، حركة المراوح تبيِّن أن هناك قوة كهربائية موجودة ، فهذه المعرفة معرفة عقلية ، والمعرفة العقلية لا بدَّ من أن تعتمد على حِسِّيات ، على آثار حِسِّية ، أما إذا لم تكن هناك آثار حسية فلا توجد معرفة عقلية ، لأن العقل يعتمد على الأثر ويحكم منه على المؤثِّر ، أي أنه يرى النظام فيكتشف المنظِّم ، يرى التسيير فيعرف المسَيِّر ، يرى الحكمة فيعرف الحكيم ، يرى آثار العلم فيعرف العليم ، يرى آثار القُدرة فيعرف القدير ، هذا هو العقل .
المعرفة الإخبارية هي النوع الثالث من أنواع المعارف :
لو تخيَّلت شيئاً غابت عنا ذاته وغابت عنا آثاره ، لا يستطيع العقل أن يعرفه إطلاقاً ، نقول : هذه الأشياء التي غابت عنا ذاتاً وآثاراً لا سبيل إلى معرفتها إلا بالخبر الصادق ، الآن ما الموضوعات التي يمكن أن تكون من المرتبة الثالثة ؟ الماضي السحيق ، قصة خلق الإنسان ، قصة خلق العالم ، المستقبل البعيد ، ماذا بعد الموت ؟ الجنة ، النار ، الحوض ، الصراط كلها خبر صادق ، المستقبل ، الماضي السحيق خبر صادق ، كائنات ليس لها آثار ؛ الجن خبر صادق ، الملائكة خبر صادق ، هذا هو المنهج الإسلامي ، المعرفة حسية أو عقلية أو إخبارية ، قصة خلق الإنسان من النوع الثالث ، لا تستطيع الحواس أن تعرفها ، ولا يستطيع العقل أن يثبتها ، الحواس معطلة والعقل معطَّل ، ليس عندنا إلا الخبر الصادق ، وقيمة هذا الخبر من قيمة قائله ، فالصادق خبره صادق .
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) ﴾ .
( سورة النساء )
دقق في هذه الآية :
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ (13) ﴾ .
( سورة الكهف )
هناك معنى مخالف يستنبط من الآية من يكشفه ؟
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ (13) ﴾ .
( سورة الكهف )
معنى ذلك أن كل قصة وردت مخالفة لبيان القرآن وردَت بالباطل .
الموضوع الإخباري سبيل معرفته الخبر الصادق :
الذين يقولون : " إن الإنسان أصله قِرْد " ، هم يقصّون نبأ الإنسان الأول بالباطل لماذا ؟ لشيءٍ بديهي لأن الله عزَّ وجل يقول :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) ﴾ .
( سورة الكهف )
أي إذا جلس إنسان عمره ثمانون سنة في مجلس مع مجموعة من التُجَّار وقال : أنا أخذت محلاً من زمن بعيد بسوق الحميدية وكلَّفني خمسة آلاف ليرة ، فقال له ابنه الذي كان عمره آنذاك اثنتي عشرة سنة : يا أبي هذا الكلام غلط ، فنظر إليه ـ القصة من أربعين سنة ـ قال له : هل كنت وقتها ؟ هل كان لك وجود وقتها عندما أخذت المحل بخمسة آلاف ؟
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) ﴾ .
من منا شهد بداية العالم ؟ من منا شهد خلق آدم ؟ هذا موضوع إخباري ، لا سبيل إلى معرفته إلا بالخبر الصادق فقط ، وإذا كان الخبر من عند الله عزَّ وجل ، من عند خالق السماوات والأرض ، فأنت تَرْكلُ بقدمك مليون قصة وتؤمن بما قاله الله عزَّ وجل ، هناك نظريات لا تُعَدُّ ولا تحصى عن بداية العالم وعن أصل الإنسان ، بعضهم يقول : كان مخلوقاً وحيد الخلية ، ثم تعقَّدت حياته إلى أن صار إنساناً سوياً ، بعضهم يقول : أصله قرد ، و ارتفع القرد درجة فدرجة فصار إنساناً ، العبرة أن هذا الموضوع إخباري ، سبيل معرفته الخبر الصادق .
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) ﴾ .
( سورة النساء )
قصص الله عزَّ وجل لها أهداف كبيرة جداً :
إذاً دقق :
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ (13) ﴾ .
( سورة الكهف )
إذاً هناك من يَقُصُّ عليك نبأهم بالباطل ، هناك من يقدِّم لك رواية عن بداية العالم بالباطل ، تكهُّنات ما أنزل الله بها من سلطان ، ليس لها دليل ، تكهُّن ، تخيُّل ، توهُّم ، لكن لا يوجد دليل حسي لأن الشيء غائبٌ عن حواسنا ، ولا يوجد دليل عقلي لأنه ليس له آثار ، ليس له ذات نكشفها بحواسنا ، وليس له آثار نكشفها بعقولنا ، إذاً قصة بداية العالم ، قصة خلق الإنسان لا نأخُذها إلا من الواحد الديان ، وأية روايةٍ ، وأي عرضٍ ، وأي تحليلٍ ، وأي تصورٍ لخلق الإنسان إن خالف القرآن اركله بالأقدام ، وانتهى الأمر ، هذه النقطة الأولى .
الآن لماذا يقص الله علينا القَصَص ؟ الإنسان من عادته أن يقرأ القصة ليمضي الوقت بها ، ليستمتع بها ، يقول لك : لأقتل الوقت بها ، إذا كان مسافراً ، جالساً بمفرده في فندق يأخذ معه قصة ليقرأها ، كل قصص بني آدم لعلها من هذا القبيل ، إلا أن قصص الله عزَّ وجل لها أهداف كبيرة جداً ، قال تعالى :
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ .
( سورة يوسف : آية " 111 " )
القصة لها دور تربوي خطير ، يقول الله عزَّ وجل في آية ثانية :
﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) ﴾ .
( سورة هود )
معنى ذلك أن الله عزَّ وجل حينما يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم قصةً ليُثَبِّتَ فؤاده ، لكن من هو أولى بالتثبيت النبي أم نحن ؟ نحن أولى ، لأن يكون التثبيت على قدر الإيمان ، وأعلى إيمان هو إيمان النبي عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك :
﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120) ﴾ .
( سورة هود )
نحن من باب أولى ، معنى ذلك أن القصة لها هدف تربوي كبير .
قصة سيدنا يونس قصة وقعت والله تعالى جعلها قانوناً حينما عَقَّب عليها :
إذا قرأ الإنسان قوله تعالى عن سيدنا يونس :
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) ﴾ .
( سورة الأنبياء )
هل هناك واحد بالمليار أمل لنجاة إنسان وجد نفسه في بطن الحوت ، وفي أعماق البحر ؟ وفي الليل ؟ كم نسبة الأمل في النجاة ؟ صفر ، إنسان وجد نفسه في بطن حوت في الليل في أعماق البحر ، سيدنا يونس نادى :
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾ .
نجيناه هو :
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ (88) ﴾ .
قصة وقعت ، أما حينما عَقَّب الله عليها جعلها قانوناً ، قال :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾ .
أي أنت أيها المؤمن في أي زمان ، في أي مكان ، في أي ظرف صعب ، مهما بدا لك الظرف حرجاً ، مستحيلاً ، ضيِّقاً ، لا تخف لأن الله عزَّ وجل يتدخل وينقذك ، مهما كان المرض عضالاً ، مهما كان الفقر مدقعاً ، مهما كان العدو شرساً .
القصص في القرآن الكريم هادفة لتثبيت المؤمنين ولإحداث أثر عميق جداً في نفس المؤمن :
أيها الأخوة الكرام ، هناك في القرآن الكريم تطمينات من قبل الله لكن الناس لا ينتبهون إليها .
﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) ﴾ .
( سورة الأنفال )
أي أن كيدهم يضعِفُهُ الله عزَّ وجل إن كنتم أنتم مؤمنين ، إن كنتم مؤمنين فالله سبحانه وتعالى موهن كيد الكافرين .
الشيء الثاني : هذه القصص ، قصة تبيِّن لك أهل الكهف مثلاً ، هؤلاء الفتية الذي فَرّوا بدينهم إلى الكهف ، هذا نموذج متكرر ، ذو القرنين الذي مَكَّنَهُ الله في الأرض فأقام العدل ، هذا نموذج متكرر يجب أن يحتذى ، السيدة مريم حينما أُشيع عنها أنها زانية لكن الله برَّأها هذه قصة ، سيدنا نوح حينما دعا قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً ، هذا النفس الطويل في الدعوة ، كل نبي يمثِّل نموذجاً بشرياً ، سيدنا إبراهيم عانى من أبيه ، والسيدة آسيا عانت من زوجها ، وسيدنا لوط عانى من زوجته ، وسيدنا نوح عانى من ابنه ، وسيدنا يوسف دخل السجن ظلماً ، فكل نبي له قصة يحتاجها كل مسلم ، إذاً القصص في القرآن الكريم هادفة ، هادفة لتثبيت النبي ، وتثبيت المؤمنين ، وهادفة إلى إحداث أثر عميق جداً في نفس المؤمن .
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى (111) ﴾ .
( سورة يوسف : آية " 111 " )
رؤية لقصة سيدنا موسى من عدة زوايا :
أضع بين أيديكم قصة سيدنا موسى ، وهذه القصة وردت في القرآن الكريم سبع عشرة مرة ، هذه القصة من بعض عُروضها :
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (7) ﴾ .
( سورة القصص : آية " 7 " )
أمران : ﴿أَرْضِعِيهِ﴾ ، وإذا خفت عليه ﴿فَأَلْقِيهِ﴾ في اليم ، ونهيان :
﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي (7) ﴾ .
( سورة القصص : آية " 7 " )
وبشارتان :
﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) ﴾ .
( سورة القصص : آية " 7 " )
يتوهم الإنسان أن القصة مكررة ، ففي آية ثانية :
﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ (39)﴾ .
( سورة طه )
اليم مأمور من قبل الله عزَّ وجل أن يأخذه إلى الساحل ، وعدو الله ، وعدو موسى مجبور على أن يلتقط هذا الغلام :
﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ (39) ﴾ .
( سورة طه : آية " 39 " )
وألقى الله عزَّ وجل على سيدنا موسى محبَّةً :
﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾ .
رأته امرأة فرعون فأحبَّته حباً كثيراً :
﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾ .
( سورة القصص )
الآية الثانية ليست تكراراً ، لكنها إغناء لتفصيلات لم ترد في الآية الأولى ، الآية الثالثة :
﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً (8) ﴾ .
( سورة القصص : آية " 8 " )
النتيجة : آية أعطت البدايات ، آية أعطت التفصيلات ، آية أعطت النتائج ، فلا يوجد تكرار ، لكن من عدة زوايا ! يمكن أن تأتي إلى دمشق من طريق درعا ، جبل قاسيون له منظر فأخذنا له صورة ، يمكن أن تأتي دمشق من طريق بيروت جبل قاسيون له منظر أخذنا صورة أخرى له ، يمكن أن تأتي إلى دمشق من طريق حلب جبل قاسيون له زاوية منظر التقطنا صورة ، لو جمعنا هذه الصور الثلاث من الزوايا الثلاث لظهر معنا مجسَّم لقاسيون ، هذه الزوايا إذا تعاونت وتكاملت تعطي شكلاً كاملاً ومجسماً بأبعاده الثلاث .
معنى الأمانة :
أيها الأخوة ، الله عزَّ وجل يقول :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ (30) ﴾ .
الملائكة مخلوقاتٌ كُلِّفوا أن يكونوا رسلاً بين الله وخلقه ، هناك فعل باللغة اسمه لأَكَ ، أي أرسل ، لأك يألكُ ، أرسل يرسل ، ومنه المَلَك ، فالملائكة مخلوقات ليست مكلَّفة لأنها اختارت القرب من الله عزَّ وجل ، يسبِّحون الله لا يفترون ، هؤلاء لهم مهمَّات كثيرة من أول مهمَّاتهم أنهم رسلٌ بين الله وخلقه .
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
أي أن الله عزَّ وجل خلق الخلق في عالم الذَر ، وعالم الذَر قبل عالم الصوَر ، لم يكن هناك صور للمخلوقات ، مجرَّد مخلوق ، هذا المخلوق صار جبلاً ، هذا المخلوق صار زهرةً ، هذا المخلوق صار حصاناً ، هذا المخلوق صار أَفعى ، هذا المخلوق صار إنساناً ، خلق الخلق في عالم الذَرْ ، وعرض عليهم الأمانة :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ (72) ﴾ .
( سورة الأحزاب : آية " 72 " )
الأمانة أن يَمْلِكوا أنفسهم ويزَكُّوها ، فإن زكوها استحقوا نعيماً أبدياً لا حدود له .
قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة فصار المخلوق الأول :
قال تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) ﴾ .
أي عرضنا على إنسان أن يقود قطاراً براتب محدود جداً ، وعرضنا عليه أن يقود سيارة كبيرة لنقل الركاب براتب أعلى ، لأن القطار ليس عنده أخطار ، ولا حوادث ، فهناك سكةٌ يمشي عليها ، وعرضنا على إنسان أن يكون طياراً ، هو يحتاج إلى علم عالٍ جداً ويحتاج إلى خبرة عالية جداً ، وإلى صفات نفسية عالية جداً ، وليس له راتب ، معه شيك مفتوح مثلاً ، هناك وظيفة محدودة المسؤولية سهلة العمل لكن دخلها محدود ، ووظيفة أعلى ، ووظيفة أعلى ، فربنا عزَّ وجل عرض عرضاً مغرياً جداً ، عرض على المخلوقات أن يحملوا أمانة أنفسهم فيزَكّوها ، ومعنى يزكوها أي أن هناك نوازع ، وشهواتٍ ، وأهواءً ، وحرية اختيار ، وعقلاً ، وفطرة ، وكَوْناً ، ومنهجاً ، ورُسُلاً ، القضية معقدة .
قال أب لولده : تعال إلى المحل واعمل بطعامك وبمصروفك ، وعرض على ابن آخر : أتحب أن تحمل أعلى شهادة في العالم ؟ أعطيك نصف أملاكي ، هناك بالطبع سفر ، وهناك لغة ، وهناك أخطار ، وهناك جامعات صعبة جداً ، وهناك جهد ثلاثين سنة ، ولكنه إذا قبل هذا العرض ، ونجح فيه فله مكانة عليّة في المجتمع ، هذه الأمثلة تقرِّب معنى الآية :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) ﴾ .
قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة فصار المخلوق الأول :
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) ﴾ .
( سورة الإسراء )
الإنسان حينما قَبِل حمل الأمانة سخَّرَ الله له الكون كله ومنحه قوةً إدراكية وهي العقل :
هذا الإنسان الذي قبل حمل الأمانة ، لأنه قبل حملها :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾ .
( سورة الجاثية )
هذا قرآن :
﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ (13) ﴾ .
( سورة الجاثية )
اطلعت اليوم على موسوعة علمية مترجمة تحوي العدد التقريبي للمجرات ، يحوي العالم اليوم مئة ألف مليون مجرة ، مجرتنا درب التبانة مجرة متوسِّطة فيها مئة ألف مليون كوكب ونجم ، طول هذه المجرة المتوسطة المتواضعة مئة ألف سنة ضوئية ، ما المسافة التي يقطعها الضوء في الثانية ؟ عرض هذه المجرة خمسة وعشرون ألف سنة ضوئية، إذا مثَّلناها على شكل عضلة أو مغزل ، وجئت بقلم ناشف ووضعت نقطة على هذا المغزل ، هذه النقطة هي المجوعة الشمسية ، طول المجموعة الشمسية ثلاث عشرة ساعة ، ولكن طول المجرة مئة ألف سنة ضوئية ، المسافة بين الشمس والأرض ثمانية دقائق ، وبين الأرض والقمر ثانية واحدة ، لكي تعرف ، أرض قمر ثانية ، أرض شمس ثمانية دقائق ، المجموعة الشمسية كلها ثلاث عشرة ساعة ، طول مجرتنا مئة ألف سنة ضوئية وهي مجرة معتدلة صغيرة وهناك مئة ألف مليون مجرة ، يقول تعالى :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ (13) ﴾ .
( سورة الجاثية )
لأنك أيها الإنسان قَبِلْتَ حمل الأمانة سخَّرَ الله لك الكون كله ، هذه واحدة ، حينما قبل الإنسان حمل الأمانة كرَّمه الله ، وسخَّر له الكون ، منحه قوةً إدراكية وهي العقل الذي يعد أعقد شيءٍ في الكون .
العقل خُلق لتعرف الله به لكن البعض أساء استخدامه :
مرة قرأت كلمة أنه لو أردنا أن نصنع حاسوباً أو كمبيوتراً يؤدّي وظائف العقل البشري لاحتجنا إلى أضخم شارع في نيويورك ، وكل الأبنية على طرفي الشارع ناطحات سحاب ، تحوي جميع هذه الأبنية مكثِّفات من الداخل ومن الخارج ، حتى يؤدِّي هذا الشارع الضخم بكل أبنيته الشاهقة مهام العقل البشري ، الذي هو أعقد آلة في الكون ، وهذا العقل البشري خُلِقَ لتعرف الله به فاستخدمه الناس لجني المال الحرام ، للسرقة ، لارتكاب الجرائم ، للسيطرة على العالم ، لإيقاع الفتن بين الشعوب ، لجمع الثروات بالباطل ، الكفار أذكياء جداً ، يضعون الخطط المدهشة من أجل استعباد الشعوب ، من أجل نهب ثرواتهم ، يقومون بتمثيليات مذهلة ، كل شيء يفعلونه تمثيلاً من أجل جر الثروات إليهم ، مستخدمين العقل البشري ، مع أن العقل خلق لتعرف الله به .
يمكن أن تستعمل آلة تصوير ملونة لتزوِّر بها العملة ويكون المصير إلى السجن ، ولك أن تستخدمها استخداماً إيجابياً فتصبح غنياً جداً من خلالها ، الآلة واحدة ، إن استخدمتها لغير ما صنعت له بالتزوير فالمصير إلى السجن ، وإن استخدمتها في تصميم الأغلفة ، والتقاويم ، والبطاقات تعش من ورائها حياة كريمة جداً ، والآلة واحدة .
معان متعددة لكلمة (خليفة) :
أيها الأخوة ، جعل الله عزَّ وجل هذا الإنسان المخلوق الأول ، جعله خليفةً له ، معانٍ كثيرة جداً .
1ـ المعنى الأول لكلمة (خليفة) أي يأتي بعضهم وراء بعض ليتعظوا :
أول معنى من معاني خليفة :
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
أي أن سيدنا آدم حينما كان في الجنة لم يخرج منها بسبب أنه أكل التفاحة ، لا ، فسيدنا آدم مخلوق في الأصل للأرض ، والدليل هذه الآية ، لكن الله جعل هذا الدرس البليغ له ولذريته من بعده ، فليس التصميم أنه مخلوق للجنة ، فلما أخطأ نقل للأرض ، لا فالإنسان في الأصل مخلوق للأرض .
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
لكن الله شاءت حكمته أن يعطي سيدنا آدم درساً بليغاً في عداوة الشيطان ، أما مصير الإنسان فهو إلى الأرض ، هذه النقطة الأولى .
النقطة الثانية ، جعله خليفة أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن ، جيلاً بعد جيل ، كما قال الله تعالى :