سورة البقرة 002 - الدرس (17): تفسير الآية (30 - 30 ) الإنسان خليفة الله في الأرض

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (17): تفسير الآية (30 - 30 ) الإنسان خليفة الله في الأرض

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 17 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 08 - فقدنا الأمل في الدعاء - د. عمر عبدالحفيظ           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - التضامن مع الأسرى           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 389 - سورة المائدة 006 - 006           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 272 - مقبرة باب الرحمة           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 07 - بشرى لمن قصف بيته - الشيخ محمد نور         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - الآية: (30 - 30 ) - الإنسان خليفة الله في الأرض

20/03/2011 17:52:00

سورة البقرة (002)
الدرس (17)
تفسير الآية: (30)
الإنسان خليفة الله في الأرض
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ، مع الدرس السابع عشر من سورة البقرة .
 المعرفة الحسية والمعرفة العقلية :
مع الآية الثلاثين ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
أيها الأخوة الكرام ، بادئ ذي بدء هناك معرفة حسية تتم عن طريق الحواس ، الأشياء المادية تعرفها عن طريق الحواس ، وهناك معرفةٌ عقلية تحتاج إلى آثارٍ مادية يستنبط العقل منها حقائق هذه الأشياء ، هذه هي المعرفةٌ العقلية ، فالشيء إذا ظهرت عينه ، وظهرت آثاره سبيل معرفته الحواسُّ الخمس هذا هو اليقين الحسي ، أما إذا غابت عينه ، ذاته ، وبقيت آثاره سبيل معرفته العقل ، وهذا هو البصير العقلي ، أما إذا كان الشيء مغيَّباً عنا أصلاً ، ولا آثار له فالحواسُّ لا يمكن أن تعرفه ؛ لعدم وجود آثار له ، ولا يمكن أن يعرفه العقل ، لأنه ليس له آثار ، هذا هو اليقين الإخباري ، هذا التمييز دقيق ، الأشياء التي تجسَّدت لها جُرْم ، لها وزن ، لها شكل ، لها لون ، لها رائحة ، لها مَلْمَس ، لها حَيِّز ، لها طول ، لها عرض ، لها ارتفاع ، هذه أشياء حسية ، سبيل معرفتها الحواسُّ الخمس ، أما جدار وراءه دخان ، والعقل يقول : لا دخان بلا نار ، فالعقل رأى آثار النار وهو الدُخان فحكم بوجود النار من آثار النار فقال : لا دخان بلا نار .
إذاً وراء هذا الجدار نار ، الكهرباء لا تُرى بالعين لكن تألُّق المصابيح ، تكبير الصوت ، حركة المراوح تبيِّن أن هناك قوة كهربائية موجودة ، فهذه المعرفة معرفة عقلية ، والمعرفة العقلية لا بدَّ من أن تعتمد على حِسِّيات ، على آثار حِسِّية ، أما إذا لم تكن هناك آثار حسية فلا توجد معرفة عقلية ، لأن العقل يعتمد على الأثر ويحكم منه على المؤثِّر ، أي أنه يرى النظام فيكتشف المنظِّم ، يرى التسيير فيعرف المسَيِّر ، يرى الحكمة فيعرف الحكيم ، يرى آثار العلم فيعرف العليم ، يرى آثار القُدرة فيعرف القدير ، هذا هو العقل .
 المعرفة الإخبارية هي النوع الثالث من أنواع المعارف :
لو تخيَّلت شيئاً غابت عنا ذاته وغابت عنا آثاره ، لا يستطيع العقل أن يعرفه إطلاقاً ، نقول : هذه الأشياء التي غابت عنا ذاتاً وآثاراً لا سبيل إلى معرفتها إلا بالخبر الصادق ، الآن ما الموضوعات التي يمكن أن تكون من المرتبة الثالثة ؟ الماضي السحيق ، قصة خلق الإنسان ، قصة خلق العالم ، المستقبل البعيد ، ماذا بعد الموت ؟ الجنة ، النار ، الحوض ، الصراط كلها خبر صادق ، المستقبل ، الماضي السحيق خبر صادق ، كائنات ليس لها آثار ؛ الجن خبر صادق ، الملائكة خبر صادق ، هذا هو المنهج الإسلامي ، المعرفة حسية أو عقلية أو إخبارية ، قصة خلق الإنسان من النوع الثالث ، لا تستطيع الحواس أن تعرفها ، ولا يستطيع العقل أن يثبتها ، الحواس معطلة والعقل معطَّل ، ليس عندنا إلا الخبر الصادق ، وقيمة هذا الخبر من قيمة قائله ، فالصادق خبره صادق .
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) ﴾ .
( سورة النساء )
دقق في هذه الآية :
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ (13) ﴾ .
( سورة الكهف )
هناك معنى مخالف يستنبط من الآية من يكشفه ؟
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ (13) ﴾ .
( سورة الكهف )
معنى ذلك أن كل قصة وردت مخالفة لبيان القرآن وردَت بالباطل .
 الموضوع الإخباري سبيل معرفته الخبر الصادق :
الذين يقولون : " إن الإنسان أصله قِرْد " ، هم يقصّون نبأ الإنسان الأول بالباطل لماذا ؟ لشيءٍ بديهي لأن الله عزَّ وجل يقول :
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) ﴾ .
( سورة الكهف )
أي إذا جلس إنسان عمره ثمانون سنة في مجلس مع مجموعة من التُجَّار وقال : أنا أخذت محلاً من زمن بعيد بسوق الحميدية وكلَّفني خمسة آلاف ليرة ، فقال له ابنه الذي كان عمره آنذاك اثنتي عشرة سنة : يا أبي هذا الكلام غلط ، فنظر إليه ـ القصة من أربعين سنة ـ قال له : هل كنت وقتها ؟ هل كان لك وجود وقتها عندما أخذت المحل بخمسة آلاف ؟
﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) ﴾ .
من منا شهد بداية العالم ؟ من منا شهد خلق آدم ؟ هذا موضوع إخباري ، لا سبيل إلى معرفته إلا بالخبر الصادق فقط ، وإذا كان الخبر من عند الله عزَّ وجل ، من عند خالق السماوات والأرض ، فأنت تَرْكلُ بقدمك مليون قصة وتؤمن بما قاله الله عزَّ وجل ، هناك نظريات لا تُعَدُّ ولا تحصى عن بداية العالم وعن أصل الإنسان ، بعضهم يقول : كان مخلوقاً وحيد الخلية ، ثم تعقَّدت حياته إلى أن صار إنساناً سوياً ، بعضهم يقول : أصله قرد ، و ارتفع القرد درجة فدرجة فصار إنساناً ، العبرة أن هذا الموضوع إخباري ، سبيل معرفته الخبر الصادق .
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) ﴾ .
( سورة النساء )
 
قصص الله عزَّ وجل لها أهداف كبيرة جداً :
 
إذاً دقق :
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ (13) ﴾ .
( سورة الكهف )
إذاً هناك من يَقُصُّ عليك نبأهم بالباطل ، هناك من يقدِّم لك رواية عن بداية العالم بالباطل ، تكهُّنات ما أنزل الله بها من سلطان ، ليس لها دليل ، تكهُّن ، تخيُّل ، توهُّم ، لكن لا يوجد دليل حسي لأن الشيء غائبٌ عن حواسنا ، ولا يوجد دليل عقلي لأنه ليس له آثار ، ليس له ذات نكشفها بحواسنا ، وليس له آثار نكشفها بعقولنا ، إذاً قصة بداية العالم ، قصة خلق الإنسان لا نأخُذها إلا من الواحد الديان ، وأية روايةٍ ، وأي عرضٍ ، وأي تحليلٍ ، وأي تصورٍ لخلق الإنسان إن خالف القرآن اركله بالأقدام ، وانتهى الأمر ، هذه النقطة الأولى .
الآن لماذا يقص الله علينا القَصَص ؟ الإنسان من عادته أن يقرأ القصة ليمضي الوقت بها ، ليستمتع بها ، يقول لك : لأقتل الوقت بها ، إذا كان مسافراً ، جالساً بمفرده في فندق يأخذ معه قصة ليقرأها ، كل قصص بني آدم لعلها من هذا القبيل ، إلا أن قصص الله عزَّ وجل لها أهداف كبيرة جداً ، قال تعالى :
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ .
 ( سورة يوسف : آية " 111 " )
القصة لها دور تربوي خطير ، يقول الله عزَّ وجل في آية ثانية :
﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) ﴾ .
( سورة هود )
معنى ذلك أن الله عزَّ وجل حينما يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم قصةً ليُثَبِّتَ فؤاده ، لكن من هو أولى بالتثبيت النبي أم نحن ؟ نحن أولى ، لأن يكون التثبيت على قدر الإيمان ، وأعلى إيمان هو إيمان النبي عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك :
﴿ وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ (120) ﴾ .
( سورة هود )
نحن من باب أولى ، معنى ذلك أن القصة لها هدف تربوي كبير .
 قصة سيدنا يونس قصة وقعت والله تعالى جعلها قانوناً حينما عَقَّب عليها :
إذا قرأ الإنسان قوله تعالى عن سيدنا يونس :
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) ﴾ .
( سورة الأنبياء )
هل هناك واحد بالمليار أمل لنجاة إنسان وجد نفسه في بطن الحوت ، وفي أعماق البحر ؟ وفي الليل ؟ كم نسبة الأمل في النجاة ؟ صفر ، إنسان وجد نفسه في بطن حوت في الليل في أعماق البحر ، سيدنا يونس نادى :
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾ .
نجيناه هو :
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ (88) ﴾ .
قصة وقعت ، أما حينما عَقَّب الله عليها جعلها قانوناً ، قال :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾ .
أي أنت أيها المؤمن في أي زمان ، في أي مكان ، في أي ظرف صعب ، مهما بدا لك الظرف حرجاً ، مستحيلاً ، ضيِّقاً ، لا تخف لأن الله عزَّ وجل يتدخل وينقذك ، مهما كان المرض عضالاً ، مهما كان الفقر مدقعاً ، مهما كان العدو شرساً .
 
 القصص في القرآن الكريم هادفة لتثبيت المؤمنين ولإحداث أثر عميق جداً في نفس المؤمن :
أيها الأخوة الكرام ، هناك في القرآن الكريم تطمينات من قبل الله لكن الناس لا ينتبهون إليها .
﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) ﴾ .
( سورة الأنفال )
أي أن كيدهم يضعِفُهُ الله عزَّ وجل إن كنتم أنتم مؤمنين ، إن كنتم مؤمنين فالله سبحانه وتعالى موهن كيد الكافرين .
الشيء الثاني : هذه القصص ، قصة تبيِّن لك أهل الكهف مثلاً ، هؤلاء الفتية الذي فَرّوا بدينهم إلى الكهف ، هذا نموذج متكرر ، ذو القرنين الذي مَكَّنَهُ الله في الأرض فأقام العدل ، هذا نموذج متكرر يجب أن يحتذى ، السيدة مريم حينما أُشيع عنها أنها زانية لكن الله برَّأها هذه قصة ، سيدنا نوح حينما دعا قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً ، هذا النفس الطويل في الدعوة ، كل نبي يمثِّل نموذجاً بشرياً ، سيدنا إبراهيم عانى من أبيه ، والسيدة آسيا عانت من زوجها ، وسيدنا لوط عانى من زوجته ، وسيدنا نوح عانى من ابنه ، وسيدنا يوسف دخل السجن ظلماً ، فكل نبي له قصة يحتاجها كل مسلم ، إذاً القصص في القرآن الكريم هادفة ، هادفة لتثبيت النبي ، وتثبيت المؤمنين ، وهادفة إلى إحداث أثر عميق جداً في نفس المؤمن .
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى (111) ﴾ .
 ( سورة يوسف : آية " 111 " )
 رؤية لقصة سيدنا موسى من عدة زوايا :
أضع بين أيديكم قصة سيدنا موسى ، وهذه القصة وردت في القرآن الكريم سبع عشرة مرة ، هذه القصة من بعض عُروضها :
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (7) ﴾ .
( سورة القصص : آية " 7 " )
أمران : ﴿أَرْضِعِيهِ﴾ ، وإذا خفت عليه ﴿فَأَلْقِيهِ  في اليم ، ونهيان :
﴿ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي (7) ﴾ .
( سورة القصص : آية " 7 " )
وبشارتان :
﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) ﴾ .
 ( سورة القصص : آية " 7 " )
يتوهم الإنسان أن القصة مكررة ، ففي آية ثانية :
﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ (39)﴾ .
 ( سورة طه )
اليم مأمور من قبل الله عزَّ وجل أن يأخذه إلى الساحل ، وعدو الله ، وعدو موسى مجبور على أن يلتقط هذا الغلام :
﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ (39) ﴾ .
( سورة طه : آية " 39 " )
وألقى الله عزَّ وجل على سيدنا موسى محبَّةً :
﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)﴾ .
رأته امرأة فرعون فأحبَّته حباً كثيراً :
﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) ﴾ .
( سورة القصص )
 الآية الثانية ليست تكراراً ، لكنها إغناء لتفصيلات لم ترد في الآية الأولى ، الآية الثالثة :
﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً (8) ﴾ .
( سورة القصص : آية " 8 " )
النتيجة : آية أعطت البدايات ، آية أعطت التفصيلات ، آية أعطت النتائج ، فلا يوجد تكرار ، لكن من عدة زوايا ! يمكن أن تأتي إلى دمشق من طريق درعا ، جبل قاسيون له منظر فأخذنا له صورة ، يمكن أن تأتي دمشق من طريق بيروت جبل قاسيون له منظر أخذنا صورة أخرى له ، يمكن أن تأتي إلى دمشق من طريق حلب جبل قاسيون له زاوية منظر التقطنا صورة ، لو جمعنا هذه الصور الثلاث من الزوايا الثلاث لظهر معنا مجسَّم لقاسيون ، هذه الزوايا إذا تعاونت وتكاملت تعطي شكلاً كاملاً ومجسماً بأبعاده الثلاث .
 
معنى الأمانة :
 
أيها الأخوة ، الله عزَّ وجل يقول :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ (30) ﴾ .
الملائكة مخلوقاتٌ كُلِّفوا أن يكونوا رسلاً بين الله وخلقه ، هناك فعل باللغة اسمه لأَكَ ، أي أرسل ، لأك يألكُ ، أرسل يرسل ، ومنه المَلَك ، فالملائكة مخلوقات ليست مكلَّفة لأنها اختارت القرب من الله عزَّ وجل ، يسبِّحون الله لا يفترون ، هؤلاء لهم مهمَّات كثيرة من أول مهمَّاتهم أنهم رسلٌ بين الله وخلقه .
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
أي أن الله عزَّ وجل خلق الخلق في عالم الذَر ، وعالم الذَر قبل عالم الصوَر ، لم يكن هناك صور للمخلوقات ، مجرَّد مخلوق ، هذا المخلوق صار جبلاً ، هذا المخلوق صار زهرةً ، هذا المخلوق صار حصاناً ، هذا المخلوق صار أَفعى ، هذا المخلوق صار إنساناً ، خلق الخلق في عالم الذَرْ ، وعرض عليهم الأمانة :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ (72) ﴾ .
( سورة الأحزاب : آية " 72 " )
الأمانة أن يَمْلِكوا أنفسهم ويزَكُّوها ، فإن زكوها استحقوا نعيماً أبدياً لا حدود له .
 قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة فصار المخلوق الأول :
قال تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) ﴾ .
أي عرضنا على إنسان أن يقود قطاراً براتب محدود جداً ، وعرضنا عليه أن يقود سيارة كبيرة لنقل الركاب براتب أعلى ، لأن القطار ليس عنده أخطار ، ولا حوادث ، فهناك سكةٌ يمشي عليها ، وعرضنا على إنسان أن يكون طياراً ، هو يحتاج إلى علم عالٍ جداً ويحتاج إلى خبرة عالية جداً ، وإلى صفات نفسية عالية جداً ، وليس له راتب ، معه شيك مفتوح مثلاً ، هناك وظيفة محدودة المسؤولية سهلة العمل لكن دخلها محدود ، ووظيفة أعلى ، ووظيفة أعلى ، فربنا عزَّ وجل عرض عرضاً مغرياً جداً ، عرض على المخلوقات أن يحملوا أمانة أنفسهم فيزَكّوها ، ومعنى يزكوها أي أن هناك نوازع ، وشهواتٍ ، وأهواءً ، وحرية اختيار ، وعقلاً ، وفطرة ، وكَوْناً ، ومنهجاً ، ورُسُلاً ، القضية معقدة .
قال أب لولده : تعال إلى المحل واعمل بطعامك وبمصروفك ، وعرض على ابن آخر : أتحب أن تحمل أعلى شهادة في العالم ؟ أعطيك نصف أملاكي ، هناك بالطبع سفر ، وهناك لغة ، وهناك أخطار ، وهناك جامعات صعبة جداً ، وهناك جهد ثلاثين سنة ، ولكنه إذا قبل هذا العرض ، ونجح فيه فله مكانة عليّة في المجتمع ، هذه الأمثلة تقرِّب معنى الآية :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) ﴾ .
قَبِلَ الإنسان حمل الأمانة فصار المخلوق الأول :
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) ﴾ .
( سورة الإسراء )
 الإنسان حينما قَبِل حمل الأمانة سخَّرَ الله له الكون كله ومنحه قوةً إدراكية وهي العقل :
هذا الإنسان الذي قبل حمل الأمانة ، لأنه قبل حملها :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾ .
( سورة الجاثية )
هذا قرآن :
﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ (13) ﴾ .
( سورة الجاثية )
اطلعت اليوم على موسوعة علمية مترجمة تحوي العدد التقريبي للمجرات ، يحوي العالم اليوم مئة ألف مليون مجرة ، مجرتنا درب التبانة مجرة متوسِّطة فيها مئة ألف مليون كوكب ونجم ، طول هذه المجرة المتوسطة المتواضعة مئة ألف سنة ضوئية ، ما المسافة التي يقطعها الضوء في الثانية ؟ عرض هذه المجرة خمسة وعشرون ألف سنة ضوئية، إذا مثَّلناها على شكل عضلة أو مغزل ، وجئت بقلم ناشف ووضعت نقطة على هذا المغزل ، هذه النقطة هي المجوعة الشمسية ، طول المجموعة الشمسية ثلاث عشرة ساعة ، ولكن طول المجرة مئة ألف سنة ضوئية ، المسافة بين الشمس والأرض ثمانية دقائق ، وبين الأرض والقمر ثانية واحدة ، لكي تعرف ، أرض قمر ثانية ، أرض شمس ثمانية دقائق ، المجموعة الشمسية كلها ثلاث عشرة ساعة ، طول مجرتنا مئة ألف سنة ضوئية وهي مجرة معتدلة صغيرة وهناك مئة ألف مليون مجرة ، يقول تعالى :
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ (13) ﴾ .
( سورة الجاثية )
لأنك أيها الإنسان قَبِلْتَ حمل الأمانة سخَّرَ الله لك الكون كله ، هذه واحدة ، حينما قبل الإنسان حمل الأمانة كرَّمه الله ، وسخَّر له الكون ، منحه قوةً إدراكية وهي العقل الذي يعد أعقد شيءٍ في الكون .
 العقل خُلق لتعرف الله به لكن البعض أساء استخدامه :
مرة قرأت كلمة أنه لو أردنا أن نصنع حاسوباً أو كمبيوتراً يؤدّي وظائف العقل البشري لاحتجنا إلى أضخم شارع في نيويورك ، وكل الأبنية على طرفي الشارع ناطحات سحاب ، تحوي جميع هذه الأبنية مكثِّفات من الداخل ومن الخارج ، حتى يؤدِّي هذا الشارع الضخم بكل أبنيته الشاهقة مهام العقل البشري ، الذي هو أعقد آلة في الكون ، وهذا العقل البشري خُلِقَ لتعرف الله به فاستخدمه الناس لجني المال الحرام ، للسرقة ، لارتكاب الجرائم ، للسيطرة على العالم ، لإيقاع الفتن بين الشعوب ، لجمع الثروات بالباطل ، الكفار أذكياء جداً ، يضعون الخطط المدهشة من أجل استعباد الشعوب ، من أجل نهب ثرواتهم ، يقومون بتمثيليات مذهلة ، كل شيء يفعلونه تمثيلاً من أجل جر الثروات إليهم ، مستخدمين العقل البشري ، مع أن العقل خلق لتعرف الله به .
يمكن أن تستعمل آلة تصوير ملونة لتزوِّر بها العملة ويكون المصير إلى السجن ، ولك أن تستخدمها استخداماً إيجابياً فتصبح غنياً جداً من خلالها ، الآلة واحدة ، إن استخدمتها لغير ما صنعت له بالتزوير فالمصير إلى السجن ، وإن استخدمتها في تصميم الأغلفة ، والتقاويم ، والبطاقات تعش من ورائها حياة كريمة جداً ، والآلة واحدة .
 
معان متعددة لكلمة (خليفة) :
 
أيها الأخوة ، جعل الله عزَّ وجل هذا الإنسان المخلوق الأول ، جعله خليفةً له ، معانٍ كثيرة جداً .
المعنى الأول لكلمة (خليفة) أي يأتي بعضهم وراء بعض ليتعظوا :
أول معنى من معاني خليفة :
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
أي أن سيدنا آدم حينما كان في الجنة لم يخرج منها بسبب أنه أكل التفاحة ، لا ، فسيدنا آدم مخلوق في الأصل للأرض ، والدليل هذه الآية ، لكن الله جعل هذا الدرس البليغ له ولذريته من بعده ، فليس التصميم أنه مخلوق للجنة ، فلما أخطأ نقل للأرض ، لا فالإنسان في الأصل مخلوق للأرض .
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
لكن الله شاءت حكمته أن يعطي سيدنا آدم درساً بليغاً في عداوة الشيطان ، أما مصير الإنسان فهو إلى الأرض ، هذه النقطة الأولى .
النقطة الثانية ، جعله خليفة أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن ، جيلاً بعد جيل ، كما قال الله تعالى :

﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ (165) ﴾ .
( سورة الأنعام : آية " 165 " )
وقال :
﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) ﴾ .
( سورة الزخرف )
وقال :
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ (59) ﴾ .
( سورة الأعراف : آية " 169 " )
توضح هذه الآيات معنى كلمة الخليفة ، وهو الله عزَّ وجل شاءت حكمته أن يأتي الناس إلى الدنيا تِباعاً ، وأن يغادروها تباعاً ليتَّعظ بعضهم ببعض ، هذا معنى من معاني :
 

﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .

المعنى الثاني لكلمة (خليفة) أي لكرامة الإنسان عند الله أعطاه بعض صفاته :
المعنى الثاني : أن الله لكرامة الإنسان عنده أعطاه بعض صفاته ، الله عزَّ وجل فرد ، وجعل الإنسان فرداً ، ليس في الأرض كلها إنسان يشبهُك ، أنت فرد نسيج وحدك ، بلازما الدم تنفرد بها ، رائحة الجلد تنفرد بها ، قزحية العين تنفرد بها ، الزمرة النسيجية تنفرد بها ، نبرة الصوت تنفرد بها ، بصمة اليد تنفرد بها ، لكرامتك عنده جعلك فرداً لا مثيل لك ، ولا مشابه لك ، هكذا شاءت حكمة الله ، لكرامتك عنده سمح لك أن تُشَرِّع ، أعطاك نصوصاً ظنية الدلالة ، ولك أن تجتهد ، لكرامتك عنده سمح لك أن تُبْدِع عن طريق المورِّثات والتهجين ، فالإنسان الآن يبدع في النباتات ، وفي الحيوانات ، وفي الزراعة ، لكرامتك عنده سمح لك أن تحكم ، جعلك خليفةً في الأرض لتقيم العدل ، وتردع الظالم ، وتكافئ المحسن ، مَكَّنَك في الأرض ، في الشخص القوي بيده مصير الأشخاص الآخرين ، هذا خليفة الله في الأرض .
﴿ يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ (26) ﴾ .
(سورة ص)
الأنبياء والأولياء والعُلماء والدعاة هؤلاء خلفاء الله في أرضه ليقيموا أمر الدين ، والملوك والأقوياء خلفاء الله في أرضه ليقيموا أمر الدنيا ، فالله عزَّ وجل أعطى الإنسان قوة ، الإنسان لديه قدرة أن يحرك جيشاً ، يعلن حرباً ، يفجِّر قنبلة مثلاً ، سمح الله للإنسان أن يكون قوياً ، فكلمة جعله خليفته في الأرض ، المعنى الأول : يأتي بعضهم وراء بعض ، والمعنى الثاني : لكرامة الإنسان عند الله أعطاه بعض صفاته ، وهناك حديث يحتاج إلى شرح طويل :
((  خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ على صُورَتِهِ )) .
[ رواه حيى بن جعفر عن أبي هريرة ]
لكرامة الإنسان عند الله عزَّ وجل .
المعنى الثالث لكلمة (خليفة) أي أن الإنسان مُمَكَّن أمره نافذ ومعه سلطة :
إذا كان لك أولاد ، أنت تزوّجت أمهم وأنجبت هؤلاء ، جعل أمرهم بيدك ، طعامهم وشرابهم بيدك ، تربيتهم بيدك ، مستقبلهم بيدك ، توجيهَهُم بيدك ، أنت خليفة الله في أسرتك ، أنت معلِّم أنت خليفة الله في صَفَّك ، مدير مدرسة أنت خليفة الله في هذه المدرسة ، أنت مدير تربية فأنت خليفة الله في هذه المحافظة ، وزير تربية في القطر ، كل إنسان ممكَّن؛ هذا بالتربية ، هذا بالصحة ، هذا بالاقتصاد ، هذا بالأوقاف ، فالإنسان مُمَكَّن معه صلاحية ، أمره نافذ ، معه سلطة ، هذا معنى ثالث .
المعنى الأول : الخليفة أي نأتي إلى الدنيا تباعاً ونغادرها تباعاً .
المعنى الثاني : لكرامتك عند الله منحك شيئاً من صفاته ، أنت فرد ، فرد في أشياء كثيرة ، صُنِعت أقفال الآن لا تُفتح إلا على قزحية العين لأنه لا يوجد إنسان في الأرض يشبهك في قزحية العين فهذا القفل لن يُفتَح إلا من قِبَل صاحبه ، رائحة الجلد ، نبرة الصوت ، بلازما الدم ، الزُمرة النسيجية ، بصمة اليد ، جعلك فرداً ، جعلك مُشَرِّعاً ، جعلك مبدعاً ، جعلك مريداً أعطاك حرِّية الاختيار ، جعلك حاكماً تقيم العدل وتقمع الظلم .
 الإنسان شيء كبير جداً يمكن أن يقوم بأعمال لا تفعلها الجبال :
قال تعالى :
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
من الممكن أن يجعل الله على يدك هداية مليون شخص أو مليار كالنبي عليه الصلاة والسلام ، المسلمون مليار ومئتي مليون في صحيفة واحد ، ويمكن والعياذ بالله أن يكون خمسون مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية بسبب شخص واحد كهتلر ، الإنسان شيء كبير جداً يمكن أن يقوم بأعمال لا تفعلها الجبال ، ويمكن أن يقوم بجرائم لا تفعلها أشرس الوحوش في الأرض ؛ هذا الذي ألقى قنبلة على هيروشيما أباد ثلاثمئة ألف إنسان في ثلاث ثوان ، توجد الآن حروب ؛ حروب كيماوية ، حروب غازية ، حروب جرثومية ، توجد أسلحة فتَّاكة ، توجد قنابل حارقة على بعد دائرة قطرها مئتي متر يصبح فحماً ، النابالم أعطى للإنسان قدرات سمح له أن يخترع البارود ، القنابل ، أن يطير في أعماق السحاب ، أن يغوص في أعماق البحار ، أن يصل إلى القمر ، أعطاه إمكانات مذهلة ، الإنسان معه إمكانات بشكل غير معقول .
 قمَّة الكمال البشري النبوّة وحضيض السقوط البشري الإجرام :
يقول لك : الإنسان أصله قرد ، ماذا فعل القرود ؟ اخترعوا طيارة ؟ أنت تركب طيارة ستمئة وستين راكباً كلَّها طعام وشراب ، وقهوة وشاي ، ومقاعد مريحة على ارتفاع أربعين ألف قدم ، هل نقلوا الصورة والصوت ؟ ما هو موضوع الفاكس ؟ موضوع الأجهزة ، الإنترنت ، شيء لا يُصدق ، هذا كلَّه من إنجاز الإنسان ، جعله خليفته في الأرض ، المشكلة أن هذه الإمكانات الضخمة التي أعطاها الله للإنسان استخدمها في الشر ، هذه الأجهزة المعقَّدة جداً المذهلة جعلها لإفساد الأخلاق ، ماذا في المحطَّات الفضائية ؟ إفساد ، ماذا في هذه الأجهزة المعقَّدة جداً لنقل الصورة ؟ إفساد عقائد ، وإفساد أخلاق ، وإفساد بيئة ، الإنسان لأنه مخيَّر كل شيء فيه حيادي ، قمَّة الكمال البشري النبوّة ، وحضيض السقوط البشري الإجرام ، هناك أشخاص يتلذَّذون بشقاء الآخرين ، يمكن لشعب متقدم عند الناس مزدهر حسب مقاييس البشر وفي عصر العلم أن يقيم رفاهيته على أنقاض شعوب ، ماذا يفعل أعداء الإنسانية ؟ يخلقون مشكلات في العالّم ويبيعون أسلحة ، ويعيشون على أنقاض الشعوب ، هذا الذي يحدث بؤر متوترة في العالم ؛ في آسيا بؤرة ، في الصين بؤرة ، في السودان بؤرة ، في إفريقيا بؤرة ، بؤر متوترة تحتاج إلى أسلحة ، يبيعون أسلحة بعقود إذعان وبأسعار خيالية ويعيشون على أنقاضنا جميعاً ، لغير ما صُنِع له ، أما العقل فهو يجعلك أكبر مؤمن ، يجعلك أكبر مُصْلِح ، يجعلك أكبر إنسان ، استُخدِم العقل البشري لغير ما صُنِع له ، فلذلك :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
خليفة يخلفني ، أي إنسان رحيم والله رحيم ، إنسان عليم ، إنسان عادل ، إنسان لطيف ، إنسان قوي .
 أسماء الله عزَّ وجل كلَّها حسنى وصفاته فُضلى :
قال تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ﴾ .
( سورة الشورى )
إنسان عَفو ـ اذهبوا فأنتم الطلقاء ـ كأن الله عزَّ وجل أراد أن نتخلَّق بكماليات الله عزَّ وجل ؛ بالرحمة ، بالشفقة ، بالإنصاف ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وأيم اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا )) .
[ البخاري عن عائشة ]
عدل ، رحمة ، عفو ، حلم ـ اذهبوا فأنتم الطلقاء ـ لمن هذا الوادي ؟ هو لك . ما معنى خليفته في الأرض ؟ أي إنه اقْتَبَس من كماليات الله ، أسماء الله عزَّ وجل كلَّها حسنى وصفاته فُضلى ، خليفته في الأرض اقتبس منه الرحمة ، والعدل ، والقوة ، والحرص ، والإنصاف ، هذا كلَّه مُقتبس من الله ، هذا معنى :
﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) ﴾ .
قالت الملائكة :
﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
 
خلق الله تعالى الجن قبل الإنس وعليه قاست الملائكة أن الإنسان سيفسُد ويسفك الدماء :
 
طبعاً تردد هذا السؤال مرَّات عديدة ، كيف عرفت الملائكة أن الإنسان سيفسُد وسيسفك الدماء ؟ تجيب الآية عن ذلك :
﴿ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ (27)  ﴾ .
أي من قبل الإنسان :
﴿ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) ﴾ .
 ( سورة الحجر : آية " 27 " )
عالم الجن ارتكبوا الموبقات ، وسفكوا الدماء ، وفسدوا في الأرض ، فالملائكة قاسوا على الجن ، لأن الله عزَّ وجل أعطى الأمانة للإنس والجن معاً :
﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (33) ﴾ .
( سورة الأنعام: آية " 130 " )
وقال :
﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) ﴾ .
( سورة الرحمن )
وقال :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾ .
( سورة الذاريات )
 الكمال في خلق الإنسان أن تأتي الآخرة متوافقة مع الدنيا فقط :
الصنفان اللذان قَبِلا حَملَ الأمانة هما صنف البشر وصنف الجن ، وهما مكلَّفان ، وكل جنس له طبيعة خاصَّة ، فالبشر من طين والجان من نار ، لذلك قالت الملائكة :
﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
أي إذا أنشأنا جامعة ضخمة جداً ، وقسم من طلابها وليكن ربع الجامعة لم يدرسوا ، ولم يتعلموا ، وأهملوا واجباتهم هل نلغي الجامعة ؟ لا ، لأنه يوجد طلاب في المقابل نالوا شهادات عُليا ، وقدَّموا لأمتهم خدمات كبيرة جداً ، فلو فرضنا أنه يوجد قسم فاسد هل نلغي الجامعة ؟ إننا لا نلغيها :
﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
سيكون هناك أنبياء كبار ، وأولياء ، ومؤمنون ، ومجاهدون ، ومجتمعات راقية جداً :
﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
هل الكمال في الجامعة أساساً أن ينجح جميع الطلاَّب كلَّهم بتفوق ؟ لا ، الكمال في الجامعة أن تأتي النتائج وَفْق المقدِّمات ، عندما ينجح المجتهد ويرسب الكسول هذا كمال في الجامعة ، الكمال في خلق الإنسان أن تأتي الآخرة متوافقة مع الدنيا فقط .
 آيات من الذكر الحكيم تبين أن الله لا يتدخَّل لأن الإنسان مخير :
قال تعالى :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا (46) ﴾ .
( سورة فصلت : آية " 46 " )
الله لا يتدخَّل لأن الإنسان مخير :
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) ﴾ .
( سورة الكهف: آية " 29 " )
وقال :
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾ .
( سورة الإنسان )
وقال :
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ (148) ﴾ .
( سورة البقرة : آية " 148 " )
 ليس الكمال أن يكون الناس كلهم مؤمنين بل الكمال أن يُعطى كل ذي حقٍ حقه :
الإنسان مخير ، ولذلك ليس الكمال أن يكون الناس كلهم مؤمنين ، لا ، الكمال أن يُعطى كل ذي حقٍ حقه ، الكمال :
﴿ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) ﴾ .
( سورة طه )
هذا هو الكمال ، افعل ما تشاء كما قال الله عزَّ وجل :
﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ (40) ﴾ .
( سورة فصلت : آية " 40 " )
افعل ما تشاء ولكن لكل شيء ثمن :
(( ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف له ذلك من نيته إلا جعلت الأرض تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه )) .
[ رواه ابن عساكر عن كعب بن مالك ]
الكمال أن تأتي النتائج مطابقةً للمقدِّمات فقط ، قال الله عزَّ وجل :
﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ (40) ﴾ .
( سورة فصلت : آية " 40 " )
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به)) .
[ أخرجه الشيرازي والبيهقي عن سهل بن سعد البيهقي عن جابر ] .
  
الإنسان وحده هو المسؤول ولن يحاسَب أحد عن أحد :
 
تصبح الآية :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
أنا سأخلق مخلوقات ، أعطيها حرية الاختيار ، أعطيها عقلاً ، أسخِّر لها الكون تسخير تعريفٍ وتكريم ، أعطيها شهوات ، أعطيها منهجاً :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا (46) ﴾ .
( سورة فصلت : آية " 46 " )
أنت مسؤول ، هذا الدرس مصيري يحدد مصير الإنسان ، افعل ما تشاء ، الله عزَّ وجل ينبِّهك ، يُسمِعُك الحق ، يضيِّق عليك لكنك في النهاية مخير ، وعملك بسبب اختيارك ، وأنت وحدك المسؤول ، ولن يُحاسب إنسان عن إنسان :
﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (84) ﴾ .
( سورة الإسراء)
وقال :
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (164) ﴾ .
( سورة الأنعام : آية " 164 " )
هذه الآية تبين أنك المخلوق الأول ، والمكرَّم ، والمكلَّف ، وأنت خليفة الله في الأرض ، خليفته على مستوى أب ، خليفته على مستوى معلِّم ، خليفته على مستوى طبيب ، خليفته على مستوى مهندس ، خليفته على مستوى مدير دائرة  ، أنت خليفته في الأرض .
 العبرة أن تأتي النتائج وَفْقَ المقدمات فقط :
جاء في بعض التفاسير :
﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
أي أن الله تعالى يقول :
(( إنني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف ما لا تعلمون مع كل المفاسد التي ذكرتموها ، سأجعل فيهم الأنبياء ، أُرسِل فيهم الرُسل سيكون فيهم الصدّيقون ، والشهداء ، والصالحون ، والعبَّاد ، والزهَّاد ، والأولياء ، والأبرار ، والمقرَّبون ، والعلماء العاملون ، والخاشعون ، والمحبَّون لي ، والمتبعّون لرسلي ، وقد ثبت في الصحيح : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون آتيناهم وهم يصلّون .. فقد ورد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ )) .
 [ البخاري عن أبي هريرة ]
هؤلاء في المسجد هنا ، لماذا أنتم هنا ؟ لا يوجد طعام ولا يوجد شراب ، ولا تكريم ولا رواتب آخر الشهر ، أنتم أتيتم لمعرفة الله ، أتيتم لوجه الله ، إذاً :
﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) ﴾ .
يوجد عباد مؤمنون ، صادقون ، مخلصون ، محبِّون ، ورعون ، مقبلون ، محسنون ، متفوِّقون ، العبرة أن تأتي النتائج وَفْقَ المقدمات فقط :
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) ﴾ .
( سورة الجاثية )
 

والحمد لله رب العالمين

 
 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب